د. ثريا مصلح*
في الوقت الذي تمضي فيه دولة إسرائيل الإرهابية في اقتراف الإبادة الجماعية في غزة، والتطهير العرقي في الضفة الغربية، تقوم بتسويق نفسها مناخيا للتغطية على الجرائم التي تقترفها ضد الإنسانية عبر “الغسل الأخضر”، فقد شاركت في مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ، وأعلنت رسميا على موقعها الإلكتروني أن مشاركتها تهدف إلى “عرض الابتكار المناخي الإسرائيلي، باعتبار أن أكبر مساهمة لإسرائيل، فيما يتعلّق بأزمة المناخ العالمية، تتمثل في توفير التقنيات والحلول العملية”.
هذا الفعل الفاضح لم يمر دون عقاب، فقد نظم النشطاء المتضامنون مع الشعب الفلسطيني احتجاجات خلال انعقاد المؤتمر، مطالبين بوقف فوري لإطلاق النار، وإنهاء الفصل العنصري والاستعمار الصهيوني. كما قرأوا خلال المظاهرات أسماء ضحايا الإبادة الجماعية، ونددوا بتلوث المياه في غزة.
خلال فترة قصيرة من الإمعان في القتل، تم ذبح أكثر من 21 ألف فلسطيني على مدى الأيام الستين الماضية، من بينهم نحو 11 ألف طفل.
علاوة على ذلك، بات على الشعب الفلسطيني أن يتعايش مع الضرر الذي ألحقته إسرائيل ببيئته، بل وحتى بجسده، إذ أن تسمم الأرض والتلوث الناجم عن التفجيرات القاتلة سيتركان أثرا من الدمار من شأنه الاستمرار لسنوات عديدة قادمة، حتى أنه سيؤدي إلى مقتل العديد من الفلسطينيين الذين تمكنوا من النجاة خلال الإبادة الجماعية المباشرة التي نشهدها حاليا.
التطبيع البيئي
في ظل تجسيده لمرحلة جديدة من النكبة المستمرة، يعد الحضور الرسمي الصهيوني تتويجا للعار الذي يسم هذا المؤتمر، والذي أطلق عليه بالمناسبة لقب “مؤتمر النفط”، إذ يترأسه قطب النفط جابر سلطان العبد الله، الرئيس التنفيذي لشركة “أدنوك”، وهي شركة النفط الحكومية في دولة الإمارات العربية المتحدة، التي استضافت الحدث في عاصمتها دبي.
الإساءة تتجاوز حدود هذا النفاق الفاضح، فقد لعبت دولة الإمارات دورا رئيسيا فيما يتعلق بصيرورة تطبيع الدول العربية مع إسرائيل، عبر ما يسمى بـ “اتفاقيات إبراهيم”. وقد تم التوقيع على تلك الاتفاقيات في أيلول 2020، برعاية الامبريالية الأمريكية. وتشمل هذه الاتفاقيات سلسلة من مذكرات التفاهم الهادفة إلى تحقيق مشاريع مشتركة في مجالات الطاقة المتجددة، والأعمال التجارية، والزراعية، والمياه.
التطبيع البيئي يعزز “الغسل الأخضر” الذي تستغله إسرائيل كآلة لتحقيق المكاسب المالية لشركاتها، في الوقت الذي يقوض فيه الحقوق الديمقراطية الفلسطينية المتعلقة بالطاقة والسيادة الغذائية، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بالنضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير.
هذه المسألة بادية أيضا في مقالات لمجموعة من الباحثين والنشطاء، منهم الفلسطينية منال شقير، والجزائري حمزة حموشان، والصحفية التونسية حفاوة ربحي. كما تجدر الإشارة إلى أنه تم اكتشاف الغاز الطبيعي في سواحل البحر الأبيض المتوسط، والذي يقع أيضا في ساحل غزة، وقد منح رئيس الوزراء الصهيوني الذي يقترف الإبادة الجماعية، بنيامين نتنياهو، في 30 تشرين الأول/ أكتوبر، أي في خضم القصف على غزة، 12 رخصة للتنقيب عن الغاز الطبيعي في القطاع إلى ست شركات، من بينها شركة بريتيش بتروليوم وإيني الإيطالية.
المفاوضات الأحفورية
قد يكون للحضور الصهيوني في الدورة الثامنة والعشرين للمؤتمر المناخي هدف خفي، وهو التفاوض مع شركات النفط، ولكنه أيضا جزء من “التطبيع البيئي”، كما أورد دعاة حماية البيئة الفلسطينيون الذين رفضوا المشاركة في هذا المؤتمر. وفي مقابلة لها مع موقع ميدل إيست آي، قالت عبير بطمة: “كيف يمكن أن نطالب بالعدالة البيئية والعالم صامت عما يحدث؟”.
كما تحدثت بطمة إلى موقع ميدل إيست آي عن الشركات الناشئة الإسرائيلية الحاضرة في هذا المؤتمر، والذي استمر حتى 12 كانون الأول: “سيتم الترويج لتلك الشركات باعتبارها شركات محترفة في إعادة التدوير، والطاقة النظيفة، وإدارة المياه، بالإضافة إلى الزراعة المستدامة والمباني الخضراء. ولكن، لقول الحقيقة… تعالوا وانظروا ما يحدث في فلسطين”.
الجريمة البيئية والتطهير العرقي
إبادة مستقبل غزة، التي يشكل النساء والأطفال غالبية الضحايا فيها، يعمق الأزمة الإنسانية المأساوية التي يواجهها الفلسطينيون في هذا القطاع المحاصر من قبل الاحتلال الصهيوني الإجرامي منذ أكثر من 15 سنة.
الاعتراف بهذا السيناريو المأساوي لسكان القطاع البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة، ورد في إعلان الأمم المتحدة عام 2015، والذي أفاد بأن غزة ستصبح غير صالحة للسكن في غضون خمس سنوات. وقد كاانت إسرائيل تعمل بالفعل على تسميم الأراضي الزراعية الفلسطينية، والتي كانت 96٪ من مياهها تعد، حتى أوائل شهر تشرين الأول من هذا العام، غير صالحة للاستهلاك البشري.
أكثر من نصف سكان غزة، ومعظمهم من نسل اللاجئين الذين نزحوا إثر نكبة العام 1948، تقل أعمارهم عن 18 عاما، وكانوا قد عانوا بالفعل خلال خمس فترات أخرى من التفجيرات المريعة عبر السنوات الخمس عشرة الماضية، إضافة إلى المزيد من التفجيرات المتفرقة المتكررة، ولاسيما خلال العام 2023، أي قبل بداية شهر تشرين الأول.
“الحل النهائي” والتدمير البيئي
الآن، وبعد أن شعرت إسرائيل بحرية التحرك نحو “الحل النهائي”، باتت أزمة المياه أكثر خطورة. إذ يشرب سكان غزة المياه الملوثة بمياه الصرف الصحي منذ بدء هذه الإبادة الجماعية في السابع من تشرين الأول.
مهما كان المصير السياسي الذي يخبئه المستقبل لغزة، فإن “العواقب طويلة المدى على البيئة في القطاع باتت واضحة للعيان: فالتلوث الناجم عن الحرب، كشظايا القنابل التي تطلقها الطائرات المقاتلة والدبابات، ستستمر لسنوات، وربما إلى الأبد”، هذا ما أورده تقرير لصحيفة العربي الجديد الصادر بتاريخ 5 كانون الأول.
كما نشرت وكالة الأنباء التركية في 20 تشرين الثاني تحذيراً المختصين من العواقب البيئية التي سيواجهها الفلسطينيون في غزة عندما تتوقف القنابل الصهيونية عن السقوط على رؤوسهم.
لقد سلط الإعلام الضوء على كيفية استخدام الذخائر والمتفجرات بشكل مستمر ضد غزة، والذي أدى إلى إطلاق جزيئات سامة تخللت الهواء والماء، ما يرجح احتمال تسميم سكان القطاع على مدى سنوات، أو حتى عقود، إضافة إلى التسبب في الإصابة بالسرطان وأمراض الجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية، وغيرها من الأمراض.
المباني السكنية، والمدارس، والمساجد، بل وحتى المستشفيات، تحولت إلى خليط من الغبار والمعادن الممزقة. ويتابع التقرير الوارد في وكالة الأنباء التركية: “بالنسبة لمئات الآلاف من النازحين داخليا، أصبح الهواء غير قابل للتنفس، والمياه ملوثة، إضافة إلى شح في الغذاء، ما يعرض السكان لمختلف الأمراض”.
عمليات القصف العشوائي، التي تقوم بها إسرائيل، تطلق كميات هائلة من الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي. ويواصل التقرير بالتأكيد على أن “التقديرات المستندة إلى المعلومات المتاحة تظهر انبعاثات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون، ما يشكل مخاطر صحية خطيرة”.
الأسلحة الكيميائية التي ألقتها إسرائيل
فوق كل هذا، قامت إسرائيل أيضا بإلقاء أسلحة كيميائية على الفلسطينيين في غزة، مثل الفوسفور الأبيض، الذي، وفقا لمقالة نشرت أيضا في “تي آر تي وورد”، “يحترق في درجات حرارة عالية للغاية، فور تعرضه للغلاف الجوي، وتلك الحرارة كافية لصهر المعادن والعظام، وغالبا ما تسبب الحرائق”.
كما يكشف ذلك التقرير أن “الوكالة الأمريكية لتسجيل المواد السامة والأمراض تشير إلى أن الفوسفور الأبيض يمكن أن يتراكم ببطء في أجسام الأسماك التي تعيش في البحيرات أو الجداول المائية”. وبعبارة أخرى، إذا لم يكن الصيادون في غزة قادرين على ضمان سبل عيشهم من قبل لأن إسرائيل كانت تقلص أميال الصيد الخاصة بهم بشكل متزايد، فبعد وقف إطلاق النار، لن يكون لديهم حتى الأسماك لإطعام أسرهم.
لقد أدت التأثيرات البيئية إلى تعميق الكارثة التي باتت ملموسة بالفعل، فقد عانى الفلسطينيون من الأمراض، وكان هناك بالفعل انتشار لالتهاب الكبد الوبائي في مدرسة يقيم فيها اللاجئون. وقد نزح 80% من فلسطينيي غزة، البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة، خلال الأيام الستين الماضية.
النكبة البيئية التي تعززها الصهيونية
الكارثة البيئية لا تقتصر على غزة، ففي الضفة الغربية، حيث يتواصل التطهير العرقي الذي قامت عبره إسرائيل بقتل أكثر من 260 فلسطينيا وجرح نحو 3000 آخرين فقط خلال الستين يوما الماضية، تمارس الدولة الصهيونية فصلا عنصريا بيئيا ضد الشعب الفلسطيني، إذ لقد نقلت الصناعات الأكثر تلويثا إلى تلك الأراضي، وأقامت مكبّات النفايات فوق طبقات المياه الجوفية التي تغذي الأسر الفلسطينية.
كما اغتصبت الموارد الطبيعية، ودمرت منذ عام 1967 أكثر من 800 ألف بستان زيتون، ما أثر على سبل عيش آلاف الأسر.
الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، وتصاعد عمليات التطهير العرقي في الضفة الغربية، تشكل مرحلة جديدة في النكبة المستمرة، والتي كانت على مدى أكثر من 75 عاما تشتمل أيضا على عنصر بيئي.
إحدى المنظمات المؤسسة للمشروع الاستعماري الصهيوني، وهو الصندوق القومي اليهودي، زعم توليه مسؤولية تحويل المشهد المحلي إلى ما يحاكي المشهد الأوروبي. بيد أن النتيجة كانت قطع آلاف الأشجار، وتدمير الغابات المحلية، والبحيرات، والأنهار، بينما زعمت تلك المنظمة، بسخرية، أنها جعلت “الصحراء تزدهر”، في واحدة من الأساطير الصهيونية التي تم تصديرها للعالم خلال التطهير العرقي عام 1948.
مثلما أكدت الناشطة غريتا ثونبرغ، وهي إحدى الأصوات المنددة بالمذبحة المستمرة الحالية ضد الشعب الفلسطيني، أنه “لا توجد عدالة مناخية في الاحتلال”، فإنه لا توجد عدالة مناخية في الإبادة الجماعية.
* د. ثريا مصلح برازيلية من أصول فلسطينية، باحثة في مجال الإعلام. عضو “حزب العمال الإشتراكي الموحّد في البرازيل – PSTU”. عضو في “الرابطة الأممية للعمال – الأممية الرابعة”
______________________
ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس بيان شمس