بقلم صبحي حديدي
«لا تجوز على الميت سوى الرحمة»؟
لامرئ أن يستقرّ على هذه التوصية، الأخلاقية الصرفة مع ذلك لأنها لا ترقى إلى مستوى القاعدة بالنظر إلى أن الميت قد يستحق اللعن أكثر بكثير من أيّ استرحام؛ كما هي حال غالبية من أبناء سوريا كلما ذُكر حافظ الأسد. ليست هذه حال الغالبية الساحقة من القيادات الفلسطينية، سواء في مختلف مناصب سلطتَيْ رام الله وغزّة، أو على مستوى قيادات الفصائل والمنظمات، بصدد رحيل أحمد جبريل الأمين العام لـّ»لجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة». الأمر هنا، غالباً بالطبع، لا صلة له بالخُلُق والأخلاق بقدر ما يعكس (بصدد هذا الميت تحديداً!) سلسلة مفارقات تخصّ طبائع العلاقة بين المعزّين وفصائلهم ومنظماتهم ومؤسساتهم، من جهة أولى؛ ونظام «الحركة التصحيحية» كما دشّنه الأسد الأب وتابعه وريثه الأسد الابن، من جهة ثانية.
الأطرف ليس محمود عباس، لأنه كبيرهم الذي لم يعد يعلّم سحراً أو مناورة أو تكتيكاً؛ وليس حسين الشيخ، عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» والذي لا يُفضّ له فوه في التفلسف لصالح سلطة رام الله (من تجميل التنسيق مع الاحتلال إلى إبرام صفقات اللقاحات منتهية الصلاحية)؛ ولا حسام بدران، عضو المكتب السياسي لحركة «حماس» ورئيس مكتب العلاقات الوطنية، الذي قال إن وفاة «القائد أبو جهاد جاءت بعد مسيرة حافلة بالبذل والعطاء لوطنه ولشعبه ولقضيته على مدار سنين طويلة»؛ ولا «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي رأت أن رحيل جبريل «خسارة لشعبنا ولحركته الوطنية ولعموم المناضلين والمقاومين في منطقتنا ولمحور المقاومة الذي حرص الراحل على تأصيله وتعميمه كخيار نقيض لمحور التبعية والاستسلام والتطبيع في المنطقة، ومن أجل مراكمة وتوحيد طاقات شعوب أمتنا وقواها»؛ ولا المكتب السياسي لـ«الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين» الذي نعى «شخصية قيادية وطنية فلسطينية، سخرت كل طاقاتها في خدمة القضية الوطنية» و«قدّم نموذجاً للقائد الوطني الذي يجمع بين القول والفعل وبقي في عهده حتى اللحظات الأخيرة من حياته»؛ ولا سليم البرديني، الأمين العام لـ«الجبهة العربية الفلسطينية» الذي اعتبر أنّ جبريل «رحل عنا بجسده فإنه سيبقى في قلوبنا وعقولنا وذاكرتنا ذلك المناضل الذي لم تنل منه كل العذابات والآلام، والفدائي الذي لا يهاب في الحق لومة لائم، المتمسك بالثوابت التي آمن بها شعبنا وقضى من أجلها الأكرمين الأفضلين شهداء أبرار على درب الحرية والاستقلال»…
الأطرف، في تقدير هذه السطور، يمكن أن تكون تعزية صالح رأفت، الأمين العام لـ«الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني» التي أرسلها «باسمه شخصياً، وباسم المكتب السياسي واللجنة المركزية، وباسم جميع الرفيقات والرفاق في أقاليم الحزب وهيئاته ومنظماته القطاعية في الوطن وبلدان المهجر والشتات؛ إذْ يظنّ القارئ أنّ «فدا» هذه هي أمّ المنظمات والفصائل والأحزاب والجماعات الفلسطينية. ليس أقلّ طرافة ما أعلنه مصطفى البرغوثي، الأمين العام لـ«المبادرة الوطنية الفلسطينية» باسمه شخصياً غنيّ عن القول، ولكن أيضاً بالنيابة عن قيادة المبادرة وأعضائها، حول رحيل «القائد الوطني البارز، الذي كرّس حياته وكلّ طاقاته للنضال الوطني من أجل حرية فلسطين وشعب فلسطين» ولهذا «ستبقى ذكرى القائد الوطني أبو جهاد خالدة في نضال وانجازات شعبنا الفلسطيني».
وأن تغضّ هذه القيادات الطرف عن جرائم جبريل وجبهته بحقّ أبناء الشعب السوري خلال عقود، ولكن بعد الانتفاضة الشعبية في آذار (مارس) 2011 بصفة أشدّ بشاعة وإجراماً؛ أمر يختلف في الجوهر، وفي اعتبارات عديدة، عن التعامي المتعمد إزاء أفاعيل لا تقلّ قبحاً بحقّ أبناء الشعب الفلسطيني أنفسهم. هل تذكّر أيّ من هؤلاء مخيم اليرموك في دمشق ومخيم الرمل الجنوبي في اللاذقية، وأدوار جبريل وجبهته في الدماء الفلسطينية التي أُريقت هناك؟ هل تذكّروا، في تواريخ أبعد تسبق الانتفاضة الشعبية السورية، مشاركة جبريل وجبهته في حرب المخيمات الأولى والثانية في لبنان، تل الزعتر وجسر الباشا وشاتيلا وبرج البراجنة، والقتال ضمن صفوف «أمل» وميليشيات نبيه بري ضدّ أبناء الشعب الفلسطيني، بالنيابة عن أجندة الأسد الأب في القبض التامّ على الورقة اللبنانية والوجود الفلسطيني في لبنان، واستخدامها في التفاوض السرّي مع الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي؟ هل تناسوا، إذْ كيف يمكن لهم نسيان، حقيقة اشتغال الاستخبارات السورية، عبر ضابط غير متفرغ في فرع فلسطين يُدعى أحمد جبريل، على تأسيس «جبهة تحرير فلسطين» في سنة 1965، وتنصيب الأخير زعيماً لها، كي تكون حصان طروادة في قلب «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي كان جورج حبش يخطط لتأسيسها؟
إلى هذا، وسواه كثير، ثمة تلك الواقعة المشهودة التي جرت في شهر أيار (مايو) 1966، ورُويت في أكثر من مصدر، حين حاولت المخابرات العسكرية السورية اغتيال ياسر عرفات أثناء وجوده في اجتماع مع رجل النظام داخل المقاومة الفلسطينية، أحمد جبريل دون سواه، داخل أحد البيوت السرية في دمشق. يومذاك فشلت المحاولة ليس لأنّ طالع عرفات اقتضى نجاته من ميتات عديدة، بل ببساطة لأنه تعمّد التغيّب عن الاجتماع بعد أن «خان» أحد المكلفين بترتيبات الاغتيال، وأبلغ عرفات بالتفاصيل. قبل هذه الواقعة، في كانون الأول (ديسمبر) 1964، كانت مفرزة تابعة للمخابرات العسكرية ذاتها قد اعتقلت عرفات بتهمة «التحضير لأعمال تخريبية» وذلك بعد تفتيش صندوق سيارته والعثور فيها على أصابع ديناميت. وقد أطلق سراحه بعد 18 ساعة، لكن الحادثة بدت غريبة، لأن عرفات كان ينقل الديناميت بعلم وتسهيل القيادة السورية، وسبق له أن حصل على الموافقة بنقل أسلحة مختلفة إلى معسكرات تدريب «فتح» في سوريا؛ وكان اللواء أحمد سويداني، رئيس الأركان آنذاك، هو الذي أعلم عرفات شخصياً، بعد مفاوضات بين الرجلين بدأت منذ ربيع ذلك العام.
وفي التفاصيل، كان أمر الاعتقال قد صدر عن العقيد محمد أوركي، رئيس شعبة فلسطين التابعة للمخابرات العسكرية؛ غير أن الآمر الحقيقي كان الرجل القوي في الجيش، صاحب النفوذ الواسع في مختلف أجهزة الاستخبارات، وقائد القوى الجوية، اللواء… حافظ الأسد! كان اللواء سويداني يمثّل طموح حزب البعث الحاكم إلى احتكار القضية الفلسطينية سياسياً وعقائدياً، ولهذا أقنع القيادة بالسماح لـ«فتح» بحرّية الحركة والتدريب على الأراضي السورية؛ وكان الأسد يمثّل طموحات شخصية للسيطرة على مقاليد الأمور والتمهيد لاستلام السلطة، ولهذا فقد ذكّر عرفات بأنه صاحب القرار الأقوى، وأنه المرجعية العليا التي يتوجب على «فتح» أن تعود إليها. جبريل كان رجل الاستخبارات العسكرية، وكان بالتالي مأموراً لدى الأسد، وهكذا بقي على مدى العقود التي مكث خلالها في سوريا، وعبر المهامّ العديدة العسكرية والأمنية التي كلّفه بها سيده.
يبقى أنه، في الحصيلة، ليس نسيج وحده في الاستزلام لـ«الحركة التصحيحية» حتى قبل أن يقوم بها الأسد الأب عبر انقلاب تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، وحتى بعد رحيله وتوريث خليفته في حزيران (يونيو) 2000؛ وغالبية الذين أطنبوا في رثاء جبريل، في صفوف القيادات الفلسطينية، كانوا في الآن ذاته يمارسون ما يشبه التذكير بأنهم على شاكلته في كثير أو قليل، الآن أو في ماض بعيد أو قريب. ارتباطاتهم بالنظام السوري، على مستوى أجهزة الأمن والجيش والسلطة والفساد، لا تعلو على أيّ واجب تجاه أبناء شعبهم الفلسطيني تحت الاحتلال أو في الشتات، فحسب؛ بل يحدث مراراً أنها تستوجب رثاء الخيانة ومديح الاستزلام.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
ننوّه إلى أن الآراء الواردة في المواد المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن آراء ومواقف “الرابطة الأممية للعمال – الأممية الرابعة”