الجمعة أكتوبر 18, 2024
الجمعة, أكتوبر 18, 2024

من أوكرانيا إلى فلسطين.. تحديات الأممية المتسقة

دول العالممن أوكرانيا إلى فلسطين.. تحديات الأممية المتسقة

✍🏾 بلانكا ميسي

ستنشر نسخة من هذه المقالة في مجلة “كاتارسي” باللغة الكاتالونية

خلال السنتين الأخيرتين، اهتز العالم إثر تقاطع العديد من النضالات، المتمثلة بكل من المقاومة الأوكرانية البطولية للغزو الروسي، والانتفاضة من أجل حرية المرأة في إيران، وتجدد والنضال المستمر من أجل تحرير فلسطين، والمقاومة الشعبية ضد الحرب في السودان، والاحتجاجات الجديدة ضد نظام الأسد في سوريا. كل من هذه الحراكات كانت لها ديناميكياتها وإيقاعها الخاص. وإن التعامل مع هذه الحراكات المتميزة من منظور مشترك وعلى نطاق أممي يطرح أسئلة خطيرة على اليسار: هل من الممكن دعم كل هذه النضالات في وقت واحد، رغم خصائصها وتناقضاتها المتميزة؟ وهل يمكن بناء جسر تضامني بين مختلف هذه النضالات؟
العديد من النشطاء يدركون نظريا أن هذه الحراكات تواجه نفس الرأسمالية العالمية المنحطة ونظامها الإمبريالي. ومع ذلك، فإن السياسة الدولية والإقليمية التي تحدد تشكل هذه النضالات المقاومة، تجعل من الصعب عليها الاتحاد ضد العدو المشترك، الأمر الذي يتطلب تحقيقه إدراك أن سبب القمع ليس “الحكومات السيئة”، بل هي الرأسمالية –  نظام اجتماعي واقتصادي تحكمه الحاجة إلى مراكمة رأس المال باستمرار وزيادة الأرباح في كل مكان بأي ثمن. وهذا النظام هو ما يولد الأزمات الاقتصادية، وسياسات التقشف، والمنافسة الجيوسياسية، والحروب، والنهب الاستعماري الجديد، والديون، وتدمير البيئة.
إننا في مواجهة تحدي صياغة سياسة قادرة على تحليل الخصم المنهجي لتوحيد هذه النضالات من الداخل، وكذلك توحيد حملات التضامن معها. وكما تقول آشلي سميث، فإن بناء “التضامن الدولي من الأسفل بين الدول المضطهدة مثل فلسطين وأوكرانيا وتايوان، وكذلك العمال المستغلين في كل من الولايات المتحدة والصين وفي كافة أنحاء العالم، مسألة أكثر إلحاحا من أي وقت مضى”. نحن نعيش في فترة حرب وإبادة جماعية متأججة (أوكرانيا وفلسطين والسودان). لكن صياغة هذا النوع من التضامن هي أيضا مهمة بالغة التعقيد في ظل أنظمة دول تعاني من التنافس الإمبراطوري بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، إلى جانب الصراع المتزايد بين تلك الدول.
هذه الصراعات تؤثر سلبا على نضالات العمال الديمقراطية، ما يؤدي أحيانا إلى معارضة بعضها البعض. على سبيل المثال، غالبا ما يتم اعتبار دعم الحركات الديمقراطية في سورية وإيران على أنه تحد للحكومات “المناهضة للإمبريالية” المفترضة، والتي تشكل ما يسمى “محور المقاومة” المعارض لمشروع الإبادة الصهيوني. وبالمثل، هناك من يرى أن دعم حق الشعب الأوكراني في الدفاع عن النفس ضد غزو بوتين الإمبريالي يأتي على حساب تعزيز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، الداعمين الرئيسيين لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها اسرائيل على فلسطين.
من أجل تجنب التحول إلى أمميين انتقائيين في مناهضة الإمبريالية – أي الذين يكون دعمهم لجميع حركات التحرير غير مشروط “نظريا”، ولكنه عمليا يعتمد على الموقف القومي، أو أولئك الذين ينشئون تسلسلا هرميا وجوديا أو تاريخيا بين الحراكات – ينبغي على اليسار تطوير تحليل طبقي مستقل عن مصالح الحكومات، بحيث يشمل مجموع النضالات والدول والحروب على المستوى الأممي. كما يجب أن يوضح هذا التحليل الروابط بين حركات التحرير المتباينة، والفرص المتاحة لإقامة روابط مباشرة للتضامن بين مختلف قطاعات المستغلين والمضطهدين – أي إمكانيات توحيد هذه الحركات من القاعدة.

لا للتضامن الانتقائي

لبناء الأممية المتسقة لابد من التخلى عن رؤية التحرير على مراحل، التي تؤدي إلى هزيمة الذات، والتي تزعم أن بعض النضالات المناهضة للإمبريالية يجب أن “تنتظر”، بل وصل الأمر بهذه الرؤية إلى ما هو أسوأ من ذلك، إذ تعتبر أن بعض النضالات تشكل عقبة أمام نضالات أخرى. ما يقود أجزاء من اليسار، على سبيل المثال، إلى الزعم بأن الاحتياجات المباشرة للشباب الإيراني أو المقاومة الأوكرانية لابد وأن “توضع جانبا” إلى أجل غير مسمى، من أجل هزيمة مشروع الإبادة الجماعية الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، أو مشروع حلف شمال الأطلسي. وفي المقابل يستخف آخرون بمعارضة الإبادة الجماعية التي تقترفها إسرائيل لكسب ود الولايات المتحدة، وضمان دعمها لأوكرانيا ضد روسيا. هذا المنطق يجعل بعض النضالات الديمقراطية خاضعة لمصالح نضالات أخرى يفترض أنها “أكثر أهمية”؛ وفي هذه العملية يتم تدمير الأساس لأي تضامن أممي متماسك.
في الواقع، هذه الرؤية “المرحلية” للتحرير تتعامل مع بعض الإمبرياليات باعتبارها “أهون الشرور” التي لا تنبغي مواجهتها بفاعلية. وفي بعض الحالات، تفتح الباب أمام الدعم الضمني لها. وهذا النهج يعرض أي معاداة مبدئية للإمبريالية للخطر. بل ويقوض الآلية الحقيقية للتحرير الجماعي، والتي يجب أن تتحدى المنطق الإمبريالي (الذي يصنف بدوره هذه النضالات ويضعها في إطار المنافسة) ليحل محله المنطق البروليتاري (الذي يسعى إلى تحالف كل المستغلين والمضطهدين ضد القوى التي تفرقهم). ولابد أن تحتضن الأممية المتسقة كافة النضالات الحقيقية من الأسفل، وتوجهها إلى صيرورة ثورة دائمة ــ أي عملية نضال متواصل ضد التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، حتى يتحقق التحرير الكامل في كل أنحاء العالم.
كما قال تروتسكي، فإن الهدف هو “ثورة لا تساوم على الإطلاق مع أي شكل من أشكال الحكم الطبقي، ولا تتوقف عند المرحلة الديمقراطية، بل تنتقل إلى التدابير الاشتراكية، والحرب ضد التدخل الخارجي: أي ثورة تكون كل مرحلة فيها متجذرة في المرحلة السابقة لها، ولا يمكن أن تنتهي إلا بالقضاء الكامل على المجتمع الطبقي. باختصار، يجب أن يكون للثورة الدائمة أفق عمالي أممي لكافة النضالات منذ البداية.

دروس من الحرب الإيطالية – الإثيوبية الثانية

منهجية التحليل الماركسي التي طورها تروتسكي (وآخرون) مفيدة بشكل خاص لفهم الديناميكيات المعقدة للحروب في الزمن الإمبريالي، إذ تطرح إطارا قيما لتفسير الصراعات الحالية. إن الوضع العالمي الراهن، الذي يتسم بالتنافس بين القوى الإمبريالية المتمثلة بكتلتين بقيادة الولايات المتحدة والصين من جهة، وبالنضالات الشرسة من أجل الديمقراطية وحق تقرير المصير من جهة أخرى، يتشابه، في كثير من النواحي، مع الأزمة التي كان يعيشها النظام العالمي قبل أن تؤدي إلى الحرب العالمية الثانية.
تحليلات تروتسكي الأممية للحرب الإيطالية – الإثيوبية الثانية (1935-1936)، والثورة الإسبانية (1936-1939)، والحرب الصينية – اليابانية الثانية (1937-1945)، تزودنا بمنهجية مفيدة لتوجيه اليسار في معارضة كل الامبرياليات، ودعم كافة نضالات التحرر الوطني التي نشهدها اليوم، فبالنسبة لتروتسكي، كان من الضرورة تحليل الديناميكيات الإمبريالية والطبقية المتعددة والفاعلة في كل من تلك الصراعات. وبالتالي، قام بتحليل الحرب الإيطالية الإثيوبية الثانية كجزء من مجمل الصراعات الإمبريالية والنضالات الوطنية والتناقضات الطبقية على نطاق أممي، إذ شن موسوليني، في تشرين الأول عام 1935، غزوه لإثيوبيا في سياق صعود الفاشية، والمنافسة الاقتصادية المتزايدة لإيطاليا مع فرنسا وبريطانيا، للحصول على موارد جديدة. وكانت إيطاليا قد خسرت حربها الاستعمارية السابقة مع إثيوبيا عام 1896، وكانت تتطلع إلى تأمين مستعمرة رابعة في أفريقيا من أجل تغذية مشروعها القومي العنصري لحرف الاضطرابات الطبقية المتزايدة.
لقد أسفر هذا الغزو عن حرب استمرت سبعة أشهر، ووفقا لتحليل الاشتراكيين الثوريين فإن هذه الحرب كانت مدفوعة بتناقضين: التناقض الأول، أو الصراع، كان نضال إثيوبيا لتأمين السيادة الوطنية باعتبارها دولة مستقلة ضد العدوان الإيطالي الإمبريالي الفاشي، فقد كانت إثيوبيا إحدى الأراضي القليلة غير المستعمرة في أفريقيا؛ وفي الوقت نفسه، كانت التنافسات الإمبريالية المؤقتة الناشئة آنذاك، والتي أدت إلى الحرب العالمية الثانية، آخذة بالتطور. وقد كان هذا الصراع الثاني بين فرنسا وبريطانيا (اللتين انضم إليهما في النهاية الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة) من جهة، وبين وإيطاليا وألمانيا (مع إضافة اليابان لاحقا)، ليندلع حريق عالمي بين دول المحور والقوى المتحالفة.
كانت الحرب الإيطالية الإثيوبية الثانية تدور في ظل فترة وصفها تروتسكي بأنها عهد “أزمة جارية وصناعية وزراعية ومالية كارثية، يتسم بانقطاع العلاقات الاقتصادية الدولية، وتدهور القوى الإنتاجية للبشرية، وتفاقم التناقضات الطبقية والدولية بشكل هائل”. لفهم كل تطور وطني، كان لا بد من مراعاة “العوامل المتعددة وتشابك القوى المتضاربة”.
لقد دفع هذا تروتسكي إلى القول إن “الحرب المحتملة بين إثيوبيا وإيطاليا ترتبط بحرب عالمية جديدة، بنفس العلاقة التي كانت تربط حرب البلقان في عام 1912 بالحرب العالمية في الفترة من عام 1914 إلى عام 1918. فقبل أن تندلع أي حرب كبيرة جديدة، لابد وأن تعلن القوى عن نفسها، وفي هذا الصدد سوف تحدد الحرب الإثيوبية الإيطالية المواقف والتحالفات”. في الواقع سبقت الحربين العالميتين في القرن العشرين صراعات وطنية أصغر حجما، إذ قامت القوى الإمبريالية المتنافسة بقياس قوتها، واختبار التحالفات المحتملة، قبل أن تتواجه مع بعضها البعض بشكل مباشر.
المهمة الرئيسية للثوريين في ظل مثل هذه الصراعات هي اتخاذ موقف مبدئي يتمثل بالتضامن الملموس مع نضالات المضطهدين، دون تقديم أي دعم للقوى الإمبريالية التي تحاول اختطافهم لتحقيق أغراضها الخاصة.
الحرب الإيطالية الإثيوبية الثانية اتسمت قبل أي شيء آخر بالنضال ضد الاستعمار. وبالتالي، دعا تروتسكي الثوار إلى اتخاذ موقف عسكري حازم لصالح إثيوبيا: “نحن مع هزيمة إيطاليا وانتصار إثيوبيا، وبالتالي علينا بذل كل ما في وسعنا لعرقلة دعم القوى الإمبريالية الأخرى للإمبريالية الإيطالية، بكل الوسائل المتاحة، وفي نفس الوقت تسهيل تسليم السلاح والدعم المادي إلى إثيوبيا بكل ما أوتينا”. ما كان على المحك بالنسبة للأمميين الثوريين هو الالتزام بدعم حق الأمة المضطهدة في تقرير المصير ماديا وعسكريا. وقد رفض تروتسكي التأطير الليبرالي للصراع على أنه صراع بين “الديمقراطيات البرجوازية” و “الفاشية”. في ذلك الوقت، كانت إثيوبيا تحكمها دولة إقطاعية، وكانت العديد من دول الحلفاء تحكم المستعمرات بالنار والحديد.
في سياق مضي القوى الإمبريالية بإعادة تسليح نفسها، وتفاقم الصراع الاقتصادي، كان لا بد من معارضة العقوبات التي فرضها الحلفاء على إيطاليا، والتي بررتها كذبا بدعم الشعب الإثيوبي. كانت هذه العقوبات مجرد محاولة من جانب كتلة إمبريالية واحدة لإضعاف الكتلة الأخرى، وتأجيج حربها الاقتصادية.
كما كانت معارضة كل الميزانيات العسكرية والتنديد بقوة بإعادة التسليح مسألة ملحة للغاية. وكما قال تروتسكي:”كان لا بد أن نكشف بعناية، ليس فقط الميزانية العسكرية المفتوحة، بل أيضا كافة الأشكال العسكرية المقنعة، وليس ترك مناورات الحرب والتجهيزات العسكرية والأوامر وما إلى ذلك دون احتجاج”. كان على أية سياسة اشتراكية أن تعالج الطبيعة المزدوجة للحرب، وأن تتعامل مع هاتين الديناميكيتين المتناقضتين في وقت واحد وبشكل جدلي، بدلا من عزلهما أو التعامل معهما على “مراحل”. أي أنه بينما يدعم الثوار النضال السائد من أجل التحرير الوطني، كان عليهم الالتزام بمعارضة الصراع الإمبريالي وإعاقة تقدمه نحو نهايته الكارثية في الحرب العالمية الثانية.
هذا التضامن الأممي تجسد، خلال الحرب الإيطالية – الإثيوبية الثانية، في المظاهرات الموحدة التي نظمتها القوى العمالية والشبابية والمهاجرون السود، والتي كانت مستقلة عن الحكومات الرأسمالية. وقد قامت هذه القوى بإرسال مساعدات مادية مباشرة للشعب الإثيوبي، وبإطلاق مبادرات لفرض عقوبات عمالية على إيطاليا بشكل مباشر، فعلى سبيل المثال تم تعطيل حركة الشحن في عام 1935، كما نظم أبناء الشتات السود في لندن جمعية الأصدقاء الأفارقة الدوليين لإثيوبيا، بزعامة إيمي أشوود جارفي، وسي. إل. آر. جيمس، وجورج بادمور. وقد عقدت هذه الجمعية اجتماعات ونظمت مظاهرات تضامنية جماهيرية. وبالمثل، في الولايات المتحدة، نظم النشطاء السود مظاهرات تضامن مع القضية الإثيوبية في هارلم، حيث قام أ. فيليب راندولف، زعيم أخوية حمالي عربات النوم، التي أصبحت أول نقابة عمالية يقودها السود في الاتحاد الأمريكي للعمل، بجمع مساعدات مادية لإرسالها مباشرة لدعم المقاومة الإثيوبية.
كانت العقوبات العمالية على إيطاليا بمثابة مقابل للعقوبات الحكومية، إذ منحت العمال الإطار السياسي للتعبير عن موقفهم المستقل، الرافض للعدوان الإيطالي وكذلك لتصعيد حكوماتهم العسكري، فعلى سبيل المثال، في بريطانيا، أصدر حزب العمل المستقل منشورات تحث النقابات على تشكيل “لجنة عمل عمالية شاملة” تضامنا مع الشعب الإثيوبي. وقد حرض سي. إل. آر جيمس، أثناء قيادته لجهود التضامن في حزب العمل المستقل، العمال الذين كانوا “حريصين على مساعدة الشعب الإثيوبي”، على “تنظيم أنفسهم بشكل مستقل، وفرض عقوباتهم الخاصة، واستخدام قوتهم لمساعدة الشعب الإثيوبي… دعونا نقاتل ليس ضد الإمبريالية الإيطالية فحسب، بل أيضا ضد اللصوص والمضطهدين الآخرين، كالإمبرياليتين الفرنسية والبريطانية”. وفي الولايات المتحدة، دعم حزب العمال أيضا “العقوبات المستقلة للطبقة العاملة، ومقاطعاتها الخاصة، والإضرابات، وحملات جمع التبرعات، والمظاهرات الجماهيرية التي يمكنها حقا أن تساعد في معارك الشعب الإثيوبي، على عكس عقوبات رأس المال المالي ودوله.

نضالات التحرير الوطني في ظل التنافس الإمبريالي اليوم

هذه المنهجية مفيدة للغاية لبناء حالة التضامن الأممي مع نضالات التحرير الوطني في ظل النظام الإمبريالي اليوم. لنبدأ بأوكرانيا، حيث أعقب نظام بوتين استيلائه على شبه جزيرة القرم وأجزاء من دونباس، في عام 2014، بمحاولة غزو واحتلال كامل النطاق لأوكرانيا في شباط 2022. وزعم أن المسألة كانت حربا “دفاعية” لوقف توسع الناتو. كان مبرر بوتين كذبة بالطبع، فالدافع الرئيسي للإمبريالية الروسية هو إعادة تأكيد سيطرتها على أوكرانيا، ومواردها الطبيعية، والاستثمارات داخل كل من تلك الدولة وغيرها من الدول المجاورة، مثل بيلاروس، وكازاخستان، وجورجيا. وكما أوضحت هانا بيريكودا، يهدف بوتن إلى بناء إمبراطورية روسيا، وإثارة نعرات القومية الروسية (ولا سيما هوسها القديم “بتحويل الأوكرانيين إلى روس”)، وقمع الحركات المحلية التي تناضل من أجل الحقوق الديمقراطية وتحسين الظروف المعيشية.
بالطبع، مثل الحرب الإيطالية  – الإثيوبية، فإن هناك تناقضين فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا: تناقض رئيسي (أي حرب أوكرانيا من أجل التحرر من العدوان الإمبريالي لبوتين) وتناقض ثانوي (أي التنافس الإمبريالي بين روسيا وكتلة الناتو التابعة لواشنطن من أجل الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على أوكرانيا وأوروبا الشرقية). وهذا التناقض الثانوي، رغم بقائه في خلفية المشهد، يغذي الصراع بفاعلية.
تطورات الحرب فقط هي ما ستحدد ما إذا كان هذا التناقض الثانوي سوف يصبح هو التناقض المهيمن. أما في الوقت الراهن، فإن السمة الأساسية لهذه الحرب هي أنها حرب تحرير وطني. ورغم أن حلف شمال الأطلسي وروسيا ليسا في حالة حرب مباشرة، إلا أن هذا قد يتغير. على سبيل المثال، إذا تولى حلف الناتو السيطرة المباشرة على الجيش الأوكراني، أو نشر قواته الخاصة في صراع مباشر مع الجيش الروسي، فإن طابع الحرب سوف يتغير نوعيا إلى حرب إمبريالية مباشرة.
كما أن النضال الحالي من أجل تحرير فلسطين يشتمل أيضا على تناقضين مرتبطين ببعضهما البعض في علاقة هرمية. فهو في المقام الأول نضال الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وأنصاره في الكتلة الإمبريالية الغربية (وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي). وفي الوقت نفسه، يتضمن هذا الصراع أيضا، وإن كان بشكل غير مباشر، نزاعا مؤقتا بين الولايات المتحدة وروسيا، إلي جانب الصين، حول الهيمنة في الشرق الأوسط.
الإمبريالية الروسية حاليا تلعب على الحبلين في المنطقة. فهي تدعم إيران باعتبارها حليفا استراتيجيا عسكريا وسياسيا، وتحافظ في ذات الوقت على علاقاتها مع إسرائيل (رغم الانتقادات الموجهة لمشروعها الإبادي)، وتستمر في بيع النفط إلى تل أبيب، ودعم اتفاقيات إبراهام والمضي في التطبيع.
من جانبها، تلعب الصين أيضا على كلا الحبلين. فقد لجأت إلى الدبلوماسية للتوسط من أجل توحيد المقاومة الفلسطينية ودعم ما يسمى بحل الدولتين، بينما تضغط اليوم على إيران (التي وقعت معها اتفاقية تعاون اقتصادي في عام 2021) للحيلولة دون الدخول في حرب مباشرة مع إسرائيل. وخلال التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل في نيسان، دعت الصين “الأطراف المعنية إلى الهدوء وضبط النفس لمنع المزيد من التصعيد”. وفي الوقت نفسه، وسعت الصين بشكل كبير تجارتها مع إسرائيل نتنياهو. وزادت استثماراتها لتصبح ثاني أكبر مستثمر في إسرائيل بعد الولايات المتحدة. ومعظم تلك الاستثمارات كانت في موانئ إسرائيل، والاتصالات، والطاقة، والتكنولوجيا – وخاصة أنظمة المراقبة التي نشرتها بكين ضد سكانها بالكامل، ولا سيما الأويغور المسلمين في شينجيانغ. ونتيجة لهذه التجارة والاستثمار، أصبحت الصين الآن ثاني أكبر مستورد للسلع الإسرائيلية، وأكبر مصدر للدولة الصهيونية. كما تمتلك الصين استثمارات ضخمة في الدول المحيطة، بما فيها المملكة العربية السعودية، التي انضمت إلى مبادرة الحزام والطريق، والتي تبلغ قيمتها تريليون دولار.
هدف الإمبريالية الصينية في المنطقة ليس تحرير فلسطين، بل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، وقدرتها على الوصول إلى الوقود الأحفوري، وحماية استثماراتها الضخمة في مبادرة الحزام والطريق. وهذا يعني أن هدف الصين هو حماية الموارد الرئيسية التي تساعدها في التنافس مع ندها الإمبريالي المتمثل بالولايات المتحدة.

مواجهة “التوليفات الإمبريالية”

المهمة الرئيسية للثوريين في مواجهة مثل هذه الصراعات هي اتخاذ موقف تضامن مبدئي مع نضالات المضطهدين، دون تقديم أي دعم للقوى الإمبريالية التي تحاول اختطافهم لتحقيق أغراضها الخاصة. في ثلاثينيات القرن العشرين، سوقت بريطانيا وفرنسا لسياستهما في فرض العقوبات على إيطاليا عبر “دعم” القضية الإثيوبية، في حين أرسلت الولايات المتحدة مساعدات مادية انتقائية إلى الصين لإضعاف اليابان. لقد حاولت الامبرياليات “الصديقة” بسرعة استقطاب قيادات حروب التحرير تلك، متظاهرة بأنها “حليفة” بينما كانت تحاول في الواقع مجرد تقويض منافسيها، وكسب الشرعية للنهب.
أطلق تروتسكي على هذه المناورات الإمبريالية الخادعة التي يتم إسقاطها وصف “التوليفات الإمبريالية”، التي يتم السعي عبرها إلى التلاعب بحركات التحرير الوطني لتحقيق مصالح الرأسمالية، وإرباك حركة الطبقة العاملة وتقسيمها، وبالتالي الحيلولة دون تحقيق التضامن الأممي المستقل والفعال. وبالمثل، تتظاهر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اليوم بالدفاع عن حق أوكرانيا في تقرير المصير ضد الغزو الروسي من خلال فرض عقوبات على موسكو، وإرسال الأسلحة إلى أوكرانيا على دفعات، وفي الوقت نفسه، تتظاهر روسيا والصين بأنهما حليفتان للشعب الفلسطيني من خلال تسليح إيران، كل ذلك مع الحفاظ على علاقاتهما الرأسمالية مع إسرائيل بكل نفاق.
مثل هذه التوليفات الإمبريالية تشكل تحديا كبيرا لتعزيز التضامن الأممي من منظور الطبقة العاملة، ويهدف إلى إلحاق الهزيمة بها. لذا، يتعين على القوى المناهضة للإمبريالية والأممية تبني سياسة مبدئية تعبر عن الدعم الملموس والمادي غير المشروط لجميع الحركات المناضلة من أجل الديمقراطية والتحرر، وفي الوقت نفسه معارضة كل الدول الإمبريالية – بما فيها تلك التي تتظاهر بلعب أدوار “تقدمية” – والتحذير من النفوذ الذي تحاول مثل هذه الدول تطويره في أوساط هذه الحركات.
في مواجهة هذا الابتزاز القذر، يجب على الاشتراكيين رفض أي ميزانية عسكرية تخدم المصالح الإمبريالية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتوقع أوكرانيا في فخ الديون الاستعمارية الجديدة. يجب علينا بدلا من ذلك اقتراح بدائل مستقلة للتضامن مع الطبقة العاملة، فضلا عن توضيح وإبراز روابط التضامن المتبادل بين النضالات التقدمية المتميزة، التي تسعى الإمبرياليات المتنافسة إلى تقسيمها ومواجهتها. لهذا السبب كان من المهم، على سبيل المثال، أن يظهر أنصار أوكرانيا تضامنهم مع النضال الفلسطيني.
الولايات المتحدة تعد اليوم المثال الأكثر وضوحا على هذه التوليفات الإمبريالية. ولا شك أن انتصار المقاومة الأوكرانية من شأنه أن يمنح الثقة للشعوب الأخرى المضطهدة من قبل نظام بوتين، في جورجيا وبيلاروس وكازاخستان وفي مختلف أنحاء الإمبراطورية الروسية السابقة. وسوف يشجع هذا الانتصار الشعوب المضطهدة في روسيا والعمال الروس ككل على الدفاع عن حقوقهم الديمقراطية ومطالبهم بالمساواة الاجتماعية.
لكن توليفة بايدن وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وزيلينسكي تزرع أملا وهميا بأنه يمكن للطبقة العاملة الأوكرانية الاعتماد على الإمبريالية الغربية لهزيمة الإمبريالية الروسية. وهذه المناورة خادعة وخطيرة في الوقت نفسه: فهي تشوش الوعي الطبقي وتحجب المسار الحقيقي لتقرير المصير وتحقيق الاستقلال الفعلي للشعب الأوكراني.
الرسالة الموجهة إلى الولايات المتحدة وسكان العالم هي أن دعم جهود التحرير الوطني في أوكرانيا يأتي بثمن ثلاثي الأبعاد: أولا، إعادة إمداد جيش الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بالمعدات العسكرية على نطاق واسع، مع تسريع عسكرة الاتحاد الأوروبي؛ ثانيا، زيادة تمويل الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني؛ وثالثا، مساعدة الولايات المتحدة في الاستعداد لحرب عالمية ثالثة قادمة مع الصين.
هذه “المساعدات” الغربية كان لها تأثيرها الذي قيد الشعب الأوكراني، فتحت ضغط الدائنين الغربيين ونظام ديونهم، أقرت حكومة زيلينسكي إصلاحات خصخصة نيوليبرالية منذ وصولها إلى السلطة، وهي تبيع البلاد حاليا للاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي عبر قمم السلام وإعادة الإعمار المتعاقبة. علاوة على ذلك، تفرض الحكومة تدابير معادية للعمال، وتخفيضات في الحقوق الاجتماعية، في خضم الحرب الحالية. للتخلص من الاحتلال الروسي الدموي، يطلب زيلينسكي من الشعب الأوكراني تسليم ثرواته للرأسمالية الغربية المفترسة، ما يرهن مستقبل سيادته الوطنية.
في مواجهة هذا الابتزاز القذر، يتعين على الاشتراكيين رفض أي ميزانية عسكرية تخدم المصالح الإمبريالية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتوقع أوكرانيا في فخ الديون الاستعمارية الجديدة. وبدلا من ذلك، يتعين علينا اقتراح بدائل مستقلة لتحقيق التضامن في أوساط الطبقة العاملة، فضلا عن توضيح وإبراز روابط التضامن المتبادل بين النضالات التقدمية المتميزة التي تسعى الامبرياليات المتنافسة إلى تقسيمها ومواجهتها.
لهذا السبب كان من المهم، على سبيل المثال، أن يظهر أنصار أوكرانيا تضامنهم مع النضال الفلسطيني. لقد كان تشكيل مجموعة التضامن مع أوكرانيا وفلسطين، التي ميزت نفسها عن حكومة زيلينسكي النيوليبرالية والمؤيدة للإمبريالية، مسألة مهمة على نحو خاص. وفي “رسالة التضامن مع الشعب الفلسطيني”، رفضت المجموعة “تصريحات الحكومة الأوكرانية التي تعبر عن الدعم غير المشروط للأعمال العسكرية الإسرائيلية، ويعد هذا الموقف تراجعا عن دعم الحقوق الفلسطينية وإدانة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما اتبعته أوكرانيا لعقود من الزمن”.
كما فككت المنصة المستقلة من أجل “سلام الشعب وليس السلام الإمبريالي” المعادلة الزائفة بين المساعدات المقدمة لأوكرانيا ودعم نمو حلف شمال الأطلسي. وتعلن المنصة أن:
“الدعم العسكري الفعال لأوكرانيا لا يتطلب موجة جديدة من الأسلحة. إننا نعارض برامج إعادة التسلح التي ينفذها حلف شمال الأطلسي، وكذلك تصدير الأسلحة إلى دول ثالثة. وبدلا من ذلك، يتعين على بلدان أوروبا وأميركا الشمالية توفير الأسلحة من ترساناتها الضخمة الحالية التي من شأنها مساعدة أوكرانيا على الدفاع عن نفسها بشكل فعال. وبهذا المعنى، نطالب بأن لا تخدم صناعة الأسلحة مصالح رأس المال الربحية ــ بل على العكس من ذلك، نريد أن نعمل من أجل الاستيلاء الاجتماعي على صناعة الأسلحة. وينبغي لهذه الصناعة أن تخدم المصالح المباشرة لأوكرانيا. وفي الوقت نفسه، ولأسباب اجتماعية وبيئية ملحة، نؤكد على ضرورة تحويل صناعة الأسلحة ديمقراطيا إلى إنتاج مفيد اجتماعيا على نطاق عالمي”.
في مواجهة مناورات وتشوهات الامبرياليات المتنافسة، يجب على كافة حركات التحرر الوطني والنضالات الديمقراطية أن تحافظ على استقلالها السياسي عن الدول الرأسمالية وحلفائها الإمبرياليين.  علينا الدفاع دون قيد أو شرط عن حق الدفاع عن النفس لكل الشعوب المضطهدة، والذي يتضمن حقها في طلب وقبول كل المساعدات المادية والعسكرية من أي مصدر لتحقيق تحررها.
لكن هذا لا يعفي الأمميين من التحذير من أن كل المساعدات الإمبريالية تأتي مع قيود وشروط، ومن تسليط الضوء على الآثار الخطيرة لهذا الأمر. وللتعامل مع كل هذه التناقضات، يتعين على اليسار أن يدافع عن الاستراتيجية السياسية الفعالة الوحيدة: بناء مسار طبقي مستقل من أجل صياغة التضامن بين المستغلين والمضطهدين داخل وخارج كل بلد.
إن مهمة الثوار في هذه الحقبة الإمبريالية تتلخص على وجه التحديد في فك رموز الصراعات التي لا حصر لها، وتحديد الديناميكيات الطبقية الداخلية لكل صراع، والدفع بمبادرات ومنصات النضال المشترك القادرة على تحدي وهزيمة التوليفات الإمبريالية. فقط عبر هذا النهج الأممي المتسق يمكن بناء التضامن الطبقي على نطاق أممي عمليا، وتحقيق تحررنا الجماعي.

ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس بيان شمس

Check out our other content

Check out other tags:

Most Popular Articles