العديد من الأحزاب الفلسطينية كافحت من أجل تحرير فلسطين، لذا لا بد من مناقشة تاريخ المقاومة الفلسطينية لفهم دور كل منظمة.
✍🏾 فابيو بوسكو
الحزب الفلسطيني الرئيسي هو حركة فتح، التي تأسست عام 1958 على يد مجموعة من الشبان الفلسطينيين، بمن فيهم ياسر عرفات. لقد ناضلت الحركة من أجل تحرير كامل التراب الفلسطيني عبر الكفاح المسلح، مستوحية رؤيتها من الثورة الجزائرية ضد الإمبريالية الفرنسية. وكانت معركة الكرامة في الأردن ضد الجيش الإسرائيلي عام 1968 قد أفضت إلى زيادة شعبية الحركة، إذ انضم آلاف الفلسطينيين والعرب وحتى الأجانب إلى صفوفها للنضال من أجل تحرير فلسطين. وبعد سنة، تولى ياسر عرفات قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي باتت الممثل الشرعي لكل الشعب الفلسطيني. ومنذ ذلك الحين، أصبح تاريخ فتح متشابكا مع تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية، بل والنضال الفلسطيني.
كان منظور فتح السياسي ـ تحرير كل فلسطين عبر الكفاح المسلح ـ يرتكز على المصالحة الطبقية، وإعطاء الأولوية لمصالح البرجوازية الفلسطينية على حساب مصالح ملايين اللاجئين الفلسطينيين المنتشرين في مختلف أنحاء العالم العربي. وبالإضافة إلى المصالحة الطبقية، تضمن مشروع الحركة سياسة “عدم التدخل” في سياسات البلدان الأخرى، ما عزز في الواقع مقاربة التحالف مع الأنظمة البرجوازية العربية الرجعية على حساب العمال الفلسطينيين والعرب في تلك البلاد.
عام 1967، تم تشكيل الحزب اليساري الرئيسي، وهو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وقد أدركت الجبهة أن النضال ضد الإمبريالية يفترض أن تقوده الطبقات العاملة في فلسطين وسائر الدول العربية. كما رفضت سياسة المصالحة الطبقية، وكذلك المصالحة مع الأنظمة العربية. وكان شعارها “الطريق إلى القدس يبدأ من القاهرة وعمان ودمشق”، مستوحية رؤيتها من الثورة الكوبية، وقد دافعت أيضا عن منظور الكفاح المسلح، واشتهرت باختطاف الطائرات. وبعد ذلك بسنة، تم تشكيل الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، عبر انشقاق راديكالي عن الجبهة الشعبية.
كلتا المنظمتين ادعيتا أنهما ماركسيتين، وقد أجريتا تقييما سلبيا للدعم السياسي والعسكري الذي قدمه ستالين والحزب الشيوعي الفلسطيني لتشكيل دولة إسرائيل، الأمر الذي يعد خيانة لا تزال حتى يومنا هذا تلقي بظلالها على كاهل الحزب الشيوعي، حتى تحت مسماه الجديد: حزب الشعب.
في أيلول عام 1970، ارتكب الملك حسين في الأردن، بدعم من إسرائيل والولايات المتحدة، مذبحة بحق الفلسطينيين – الذين كانوا يشكلون آنذاك 70% من السكان المحليين – وقام بطرد منظمة التحرير والأحزاب الفلسطينية إلى لبنان. ومن الجدير بالذكر أن قائد القوات الجوية السورية آنذاك، حافظ الأسد، قام بانقلاب عسكري بهدف منع وصول المساعدات إلى الفلسطينيين. ثم أسس سلالة الأسد، التي تعد إحدى أسوأ الديكتاتوريات في المنطقة بأسرها، كما أنها عدو لدود لياسر عرفات ولمنظمة التحرير الفلسطينية.
مشاركة الدول العربية في الحرب ضد إسرائيل في معركة تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1973، أمدّت تلك الأنظمة والاتحاد السوفييتي بسبل الصغط على منظمة التحرير الفلسطينية للتخلي عن النضال من أجل تحرير فلسطين، مقابل تشكيل دويلة فلسطينية في الأراضي التي تم احتلالها عام 1967، وهي: الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية – نحو 22% من إجمالي الأراضي الفلسطينية. وقد كانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أول منظمة مقاومة فلسطينية أيّدت هذه السياسة بشكل علني. لاحقا، ألقى ياسر عرفات خطابا تاريخياً في الجلسة العامة للأمم المتحدة عام 1974، قائلاً فيه أنه يحمل مدفعاً رشاشاً في يد وغصن زيتون في اليد الأخرى، حيث قدم نوعاً من “التسوية التاريخية” لدولة إسرائيل المجرمة. لكن الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل لم ترغبا في التوصل إلى حل وسط، بل كانتا تسعيان إلى فرص شروط الاستسلام.
عام 1975، بدأت البرجوازية المسيحية المارونية اللبنانية حربا أهلية للحيلولة دون إجراء الإصلاحات الديمقراطية التي طالبت بها الحركة الوطنية اللبنانية، بقيادة البرجوازي الدرزي كمال جنبلاط، وبالتحالف مع الأحزاب القومية العربية واليسارية. وقد تحالفت الحركة الوطنية اللبنانية مع منظمة التحرير الفلسطينية، القوة العسكرية الرئيسية في البلاد آنذاك، وهو التحالف الذي ألحق بالقوى اليمينية المارونية المتطرفة سلسلة من الهزائم. ولكن، بعد مرور عام، قامت القوات السورية بغزو البلاد بناء على طلب وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر لمنع هزيمة تلك القوى المتطرفة. وقد كان لهذا الغزو دور فعال في اقتراف مذبحة اللاجئين الفلسطينيين في مخيم تل الزعتر عام 1976.
وفي عام 1982، أفضى العمل المشترك بين الجيش الإسرائيلي والميليشيات المارونية اليمينية المتطرفة إلى طرد عرفات وقوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وإلى ارتكاب مذبحتين في مخيمي صبرا وشاتيلا، حيث تم إعدام نحو 3000 فلسطيني بدم بارد على يد رجال الميليشيات المارونية، بدعم لوجستي من القوات الإسرائيلية. وقد أثارت هاتان المذبحتان انتفاضة شعبية طردت القوات الإسرائيلية من بيروت، ومن من كل أنحاء لبنان.
نشأة حماس
عام 1987، أطلق الفلسطينيون الانتفاضة (انتفاضة شعبية) في غزة والضفة الغربية. وقد تعرضت جماعة الإخوان المسلمين لضغوط شعبية هائلة للعب دور نشط في المقاومة الفلسطينية، على غرار حركة فتح والأحزاب اليسارية، أو حتى حركة الجهاد الإسلامي – وهو حزب سياسي ديني تشكل بعد الثورة الإيرانية، مدافعا عن فكرة إنشاء نظام على الطراز الإيراني في فلسطين. وقد أدى هذا الضغط إلى تشكيل حركة حماس كحزب سياسي إسلامي.
حماس تتبنى العديد من قيم الإخوان المسلمين: السوق الحرة، والملكية الخاصة، والتوفيق بين الطبقات، والمساعدة الاجتماعية للفقراء، وأسلمة التعليم. ولكن على النقيض من الإخوان المسلمين، تدافع حماس عن فكرة التحرير الوطني لكل الأراضي الفلسطينية بكل الوسائل، بما في ذلك المقاومة المسلحة. وقد دعا بيانهم الأول إلى إنشاء دولة فلسطين الإسلامية.
في وقت لاحق قامت الحركة بتعديل برنامجها السياسي. فمن جهة، في بدايات العام 1993، أيد زعيمهم التاريخي الشيخ أحمد ياسين إجراء هدنة لمدة 10 أو 20 سنة مع إسرائيل، ما يعني في نهاية المطاف الاعتراف بـ “دولة إسرائيل”. وقد تم التعبير عن هذا المضمون نفسه في برنامجهم الانتخابي لعام 2006، والذي لم يتضمن أي إشارة إلى النضال من أجل إنهاء “دولة إسرائيل”.
من ناحية أخرى، فقد تخلت الحركة عن موقفها الداعم لبناء فلسطين الإسلامية في بيانها الجديد لعام 2017، دون توضيح نموذج الدولة الذي تريده. وفي غزة، التي تحاصرها “إسرائيل” منذ 17 عاماً، هناك قيود على الحريات الديمقراطية. ومع ذلك، فإن حماس هي أحد الأحزاب الفلسطينية القليلة التي تجري انتخابات داخلية لقياداتها كل أربع سنوات، ما له تأثير حقيقي على سياسات المنظمة.
جانب آخر مهم هو ما يتعلق بسياستها الخارجية. فدور حماس يقتصر على الدفاع عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير. وهي لا تريد التدخل في سياسة الدول الأخرى، وتسمح بإقامة علاقات سياسية مع أنظمة مختلفة، مثل النظام السعودي، والإيراني، والتركي، والقطري.
الانتفاضة الفلسطينية ضغطت على الإمبريالية الأمريكية و”إسرائيل” لتبني اتفاقيات أوسلو عام 1993، والتي حولت فتح إلى وكيل للاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد أدت تلك الاتفاقيات إلى مزيد من الاستعمار للأراضي الفلسطينية، ومأسسة نظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، واستمرار التطهير العرقي الذي بدأ قبل 75 سنة بالنكبة.
الأحزاب اليسارية الفلسطينية نددت باتفاقات أوسلو، لكنها استسلمت فيما بعد لحركة فتح وتكيفت معها. علاوة على ذلك، فقد تخلت عن استقلالها عن الأنظمة العربية والنظام الإيراني. لذا، لم تلعب أي دور يذكر خلال موجة الثورات العربية التي اندلعت في كانون الأول 2010 في تونس. وقد باتت حاليا مؤيدة لما يسمى بـ “محور المقاومة” الذي يقوده النظام الإيراني، بمشاركة الديكتاتورية السورية، و”حزب الله” اللبناني وغيره. المنشّقون من بين هذه المنظمات مثل المسار البديل (المعروف بشبكة التضامن مع الأسرى الفلسطينيين “صامدون”) كذلك في نفس الوضع. ويعارض المسار البديل، بقيادة القيادي السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خالد بركات، السلطة الفلسطينية الفاسدة، ويتعرض للاضطهاد الشديد في الدول الإمبريالية مثل ألمانيا. لكن، شأنه شأن الجبهة الشعبية، التزم “المسار” الصمت التام أمام اعتقال النشطاء الفلسطينيين في سورية، وأيضا فيما يتعلق بالمجازر التي راح ضحيتها نصف مليون سوري على يد نظام الأسد بدعم من النظام الإيراني، وحزب الله، والجيش الروسي.
من جهتها، حافظت حماس على معارضتها لأوسلو، وانتهى بها الأمر إلى أن تصبح المنظمة الرئيسية للمقاومة الفلسطينية، هادفة إلى أن تحل محل حركة فتح كقوة رائدة في الحركة الوطنية الفلسطينية.
في أوساط الشبيبة الفلسطينية، تظهر بانتظام منظمات جديدة لمواجهة عنف الاستعمار الصهيوني، ففي عام 2022، تسلّح شباب فلسطينيون من تنظيمات مختلفة للدفاع عن الذات في المدن الفلسطينية ومخيمات اللاجئين خارج توجيهات أحزابهم. المجموعة الأكثر شهرة هي عرين الأسود، والتي تأسست في البلدة القديمة في نابلس، كما أصبح مخيم جنين للاجئين هو المركز الرئيسي لهذه المقاومة الفلسطينية الجديدة.
الحزب الثوري والأممية الرابعة
النضال من أجل بناء دولة فلسطين العلمانية الديمقراطية ستخوضه الطبقة العاملة حتى النهاية، إلى جانب الفلاحين والشباب المحرومين في فلسطين والدول العربية، في اشتباك ضد الإمبريالية ودولة إسرائيل والأنظمة العربية، وكذلك ضد الإمبريالية بل والبرجوازية الفلسطينية نفسها. وبالتالي فإن ديناميات هذا النضال من أجل التحرر الوطني هي أممية مناهضة للرأسمالية. ولتنفيذ هذا البرنامج، لا بد من بناء حزب فلسطيني جديد، اشتراكي وثوري، بحيث يكون جزء من منظمة أممية.
الأممية الرابعة، عند تأسيسها عام 1938، قامت بتشجيع مجموعة صغيرة في فلسطين، التي كانت في ذلك الوقت تحت الانتداب البريطاني، تسمى الرابطة الشيوعية الثورية، وقد تم تأسيسها في ظل الأحداث الكبرى التي كان يشهدها المسرح العالمي.
عام 1932، طبقت الأممية الشيوعية (الكومنترن) سياسة يسارية متطرفة في ألمانيا، هي “الفاشية الاجتماعية”، ما سهل صعود النازية. وقد كتب ليون تروتسكي بإسهاب عن هذه المسألة، وجادل ضد موقف الكومنترن، وجذب مجموعتين صغيرتين نحو المواقف الثورية: مجموعة صغيرة من الشباب في فلسطين بقيادة توني كليف (تدعى ييغيل جلوكستين)، والتي انشقت عن منظمة “عمال صهيون” (وهي منظمة صهيونية “يسارية”)، وزوجته تشاني التي انفصلت عن منظمة “هشومير هتسعير” “اليسارية”. وقد انضم إليهما مناضلون ألمان انفصلوا عن الحزب الشيوعي الألماني (المعارض)، المنشق عن الحزب الشيوعي الألماني الذي كان يقوده هاينريش براندلر، والذين التزموا بالمواقف التروتسكية، ومن بينهم العامل جاكوب توت.
خيانة كبرى أخرى اقترفها “الكومنترن”، وهي حلف العام 1939 بين هتلر وستالين، ما أدى إلى وصول كوادر عربية قيادية من الحزب الشيوعي الفلسطيني إلى الرابطة الشيوعية الثورية: الأول كان الفلسطيني جبرا نقولا، الذي كان آنذاك عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني ورئيس تحرير مجلة النور النقابية، وفي وقت لاحق انضم إليه الأمين العام لرابطة التحرير الوطني (التي تشكلت بعد انقسام الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1943، إذا بات الحزب يتألف حصرا من مناضلين من أصل يهودي، فيما تألفت الرابطة الشيوعية حصرا من مناضلين عرب)؛ لاحقا، إثر إضراب السكك الحديدية عام 1944، انضم إليها زعيم نقابي مهم.
كان التوجه السياسي للرابطة الشيوعية الثورية، على حد تعبير توني كليف، يتلخص بشعار: “يجب على العمال العرب محاربة الصهيونية والإمبريالية والانفصال عن القيادة العربية الرجعية؛ كما يتوجب على العمال اليهود الانضمام إلى الجماهير العربية في النضال”.
لم يكن لدى الرابطة الشيوعية الثورية أية أوهام بشأن الاستعمار الصهيوني، بل على العكس، عارضت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، لأنها وضعت اللاجئين اليهود الأوروبيين في خدمة آلة الاستعمار الصهيوني ضد السكان الفلسطينيين. وعوضا عن تشجيع الهجرة إلى فلسطين، اقترحت الرابطة فتح حدود المملكة المتحدة والولايات المتحدة أمام الهجرة اليهودية، وهي الوجهات المفضلة للاجئين اليهود. ومن تجربتها الخاصة، كانت على دراية بالمنظمات الصهيونية “اليسارية” والكيبوتس (المزارع الجماعية للمستوطنين اليهود)، إذ أدركت أن تلك المنظمات لا تمثل أي نوع من التجربة الاشتراكية، بل على العكس، كانت رأس الحربة لاستعمار الأراضي العربية وطرد السكان الفلسطينيين.
اتساقا مع هذا الموقف، عارضت الرابطة الشيوعية الثورية تقسيم فلسطين عام 1947 وتشكيل دولة إسرائيل عام 1948، على عكس الحزب الشيوعي الذي دعم، تبعا لموقف ستالين، قرار تقسيم وتشكيل إسرائيل، الأمران اللذان يعدان ركيزتي النكبة الفلسطينية.
لكن رغم موقفها المبدئي المناهض للصهيونية، أجرت الرابطة الشيوعية تقييما خاطئاً لدور الطبقات الاجتماعية في النضال من أجل تحرير فلسطين والمشرق العربي بأكمله، فقد دعت إلى تحالف الطبقة العاملة الفلسطينية والطبقة العاملة اليهودية لمواجهة الإمبريالية والصهيونية والنخب العربية الرجعية. بيد أن مثل هذا التحالف أمرا مستحيلا، بسبب الطبيعة الاستعمارية الإقصائية للمشروع الصهيوني، الذي يسمى اليوم بالاستعمار الاستيطاني.
توني كليف نفسه اعترف بهذه المشكلة في سيرته الذاتية:
“بالطبع كان هناك صراع طبقي داخل المجتمع اليهودي في فلسطين. لقد ناضل العمال والرأسماليون حول الأجور وظروف العمل. لكن التوسع الاستعماري الصهيوني أضعف الصراع الطبقي، ومنعه التبلور سياسيا لمعارضة الصهيونية والإمبريالية، والتضامن مع العرب المستغلين والمضطهدين”.
كما حلل الثوري الماركسي الفلسطيني غسان كنفاني العلاقة بين الصراع الطبقي والاستعمار:
“وهكذا اختلط الصراع الطبقي، وبدقة غير عادية، بالمصلحة الوطنية والمشاعر الدينية، وانفجر هذا الخليط في إطار الأزمة الموضوعية والذاتية التي يعيشها المجتمع العربي في فلسطين. ولهذا السبب بقي المجتمع العربي الفلسطيني أسيرا للقيادات الإقطاعية الدينية. ونظرا للقمع الاجتماعي والاقتصادي الذي كان يعاني منه فقراء العرب الفلسطينيين في المدن والقرى، كان من المحتم أن تتخذ الحركة القومية أشكالا نضالية تقدمية، وتتبنى الشعارات الطبقية، وتتبع مسار العمل على أساس المفاهيم الطبقية.. وكذلك في مواجهة التحالف الثابت واليومي في أوساط المجتمع الغازي الذي بناه المستوطنون اليهود في فلسطين والاستعمار البريطاني، كان من المستحيل أن ننسى الطابع القومي الأساسي لذلك النضال. ونظرا للحماس الديني الرهيب الذي قام عليه الغزو الصهيوني لفلسطين، والذي تجلى في كل مظاهره، كان من المستحيل أن لا يمارس الريف الفلسطيني المتخلف الأصولية الدينية كمظهر من مظاهر العداء للتوغل الاستعماري الصهيوني” .
إثر عدم الفهم الكامل للاضطهاد القومي بكل تداعياته على الصراع الطبقي، ونتيجة لتواجدها بشكل رئيسي في أوساط الطبقة العاملة اليهودية، واجهت الرابطة الشيوعية الثورية العديد من التحديات في تطورها. وعلى الرغم من نشرها لمجلة باللغة العربية، وأخرى باللغة العبرية، بالإضافة إلى منشورات باللغة الإنجليزية للقوات البريطانية، كان لدى الرابطة نحو 30 مناضلا في عام 1946، من بينهم سبعة فقط من العرب.
لا تزال هناك، حتى اليوم، منظمات اشتراكية مثل الجناح التروتسكي (بقيادة حزب العمال الاشتراكي الأرجنتيني) البعيدة تماما عن فهم واقع فلسطين المحتلة، والتي تقلل من أهمية الاضطهاد الوطني، وتدافع عن وحدة الطبقتين العاملتين ضد برجوازياتهما (الفلسطينية واليهودية). وتعتقد مثل هذه المنظمات أن الوقوف من أجل فلسطين علمانية وديمقراطية من النهر إلى البحر هو موقف مرحلي (أي المفهوم الإصلاحي للثورة على مرحلتين). لكن أي مراقب متمعن يعرف واقع فلسطين المحتلة يدرك أن الطبقة العاملة اليهودية الإسرائيلية هي جزء من الاستعمار الصهيوني الذي يضمن لها مكانة مادية واجتماعية مميزة بالنسبة للفلسطينيين. ولهذا السبب تحظى الإبادة الجماعية الإسرائيلية الحالية في غزة بدعم ساحق من الطبقة العاملة اليهودية الإسرائيلية. في فلسطين المحتلة، هناك قطاع صغير من اليهود المناهضين للصهيونية والذين، بعد انفصالهم عن الصهيونية، أصبحوا حلفاء حقيقيين في مسيرة تحرير فلسطين.
هل تملك القوميات المستبدة حق تقرير المصير؟
هناك جدل آخر هام حول حق تقرير المصير في فلسطين. لقد دافع التروتسكي الفلسطيني جبرا نقولا عن وحدة الثورة العربية ضمن منظور الثورة الدائمة. كما أدرك أنه في العالم العربي، على عكس أوروبا، لم تتطور طبقة برجوازية متمايزة عن طبقة ملاك الأراضي، وبالتالي لم تكن هناك إمكانية تاريخية للبرجوازية للعب أي دور تقدمي ضد الإقطاعيين. من ناحية أخرى، قسمت الإمبريالية الشرق العربي بشكل مصطنع، وباتت مسألة إعادة توحيده مهمة الثورة الاشتراكية والطبقة العاملة. وبهذا المعنى، كانت أفكار جبرا نقولا متأصلة في التراث الثوري الذي سبق الانحطاط الستاليني.
رغم هذا، فقد قال إن حق تقرير المصير للسكان اليهود الإسرائيليين يجب أن تضمنه قوى الثورة الاشتراكية الإقليمية بعد تدمير الدولة الصهيونية. النظرية الماركسية تدعو إلى حق تقرير المصير للقوميات المضطهدة فقط، وليس للقوميات المستبدة على الإطلاق. ولهذا السبب لم يدافع الثوار قط عن حق تقرير المصير للبيض في جنوب أفريقيا، أو للمستوطنين الفرنسيين في الجزائر، أو حتى للبروتستانت في أيرلندا الشمالية. بالطبع هناك مجال في الحفاوة والكَرَم الفلسطيني لكل الإسرائيليين الذين يقبلون العيش بسلام مع الفلسطينيين في فلسطين الحرة. وهذا يختلف عن حق تقرير المصير الذي يضمن في نهاية المطاف لليهود الإسرائيليين حق الانفصال، أي إجراء تقسيم جديد للأراضي الفلسطينية.
إن هذه المناقشات بين التروتسكيين دليل حي على التحديات الكبيرة التي يواجهها الثوار فيما يتعلق بالقضية الوطنية الفلسطينية. إن الاستجابة الهادفة لهذه التحديات سترسي الأسس لبناء حزب ثوري فلسطيني يقود الطبقة العاملة الفلسطينية والعربية في نضالها من أجل التحرر..
ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس بيان شمس