الأحد ديسمبر 22, 2024
الأحد, ديسمبر 22, 2024

النبي المسلّح: الفصل الرابع عشر (105)

النظرية الماركسيةالنبي المسلّح: الفصل الرابع عشر (105)

هزيمة في الإنتصار ج6



في 5 آذار/ مارس، وصل تروتسكي إلى بتروغراد وأمر العصاة بالاستسلام من دون شروط. وقد أعلن: «يمكن فقط للذين يستسلمون أن يعتمدوا على رأفة جمهورية السوفييتات. وفي الوقت بالذات الذي أوجه فيه هذا الانذار، أعطي الأوامر كي يكون كل شيء جاهزة لسحق العصيان بالقوة المسلحة … هذا هو الإنذار الأخير». وإنها لسخرية اخرى من سخريات التاريخ أن يكون تروتسكي هو الذي توجه بتلك العبارات إلى البحارة. لأنه كانت تلك کرونشتادت، کرونشتادت التي دعاها «شرف الثورة ومجدها». كم من المرار تكلم في القاعدة البحرية، خلال أيام ۱۹۱۷ المحمومة! كم من المرار رفعه البحارة على التفاهم ليهللوا له بجنون كصديقهم، وقائدهم! بأي اخلاص لحقوا به إلى قصر توريد، إلى زنزانته في سجن کریستي، حتى أسوار کازان، على الفولغا، سائلينه المشورة دائما، منفذين أوامره من دون نقاش معظم الأحيان. كم من الهموم تقاسموها، كم من الأخطار تحدوها معا! وفي الحقيقة أنه لم يكن باقياً من القدامی على قيد الحياة غير القليلين؛ وأقل منهم ايضا كانوا آنذاك في کرونشتادت. كان رجال الأورورا، و بتروبافلوفسك، وسفن حربية شهيرة أخرى يتألفون الآن من مجندين جدد، أخذوا من بين فلاحي أوكرانيا. وقد قال تروتسكي بالذات إنه كانت تنقصهم الروح الثورية المنزهة التي كانت تميز القدامى. كان هذا الملمح بالذات كرمز للوضع الذي كانت تعيشه الثورة آنذاك. فالرجال والنساء الذين قاموا بها لم يعودوا ما كانوا ولا حيث كانوا. أفضلهم ماتوا، وآخرون امتصتهم الإدارة؛ وآخرون أيضا تفرقوا وسيطرت عليهم المرارة والإحباط. وما كان يطالب به عصاة كرونشتادت لم يكن شيئا، غير ما وعد به تروتسكي أسلافهم، ما كان يعجز هو وحزبه عن إعطائه. ومرة أخرى، كانت شفاه الآخرين ترسل إليه، كما بعد بریست – لیتوفسك، شيئا يشبه صدی مُرّاً وحاقداً لصوته هو. ومرة أخرى أيضا كان عليه أن يخنقه.

تجاهل العصاة هذا التحذير، فقد كانوا يأملون كسب الوقت. كان ذلك منتصف شهر آذار/ مارس، وكان خلیج فنلندا لا يزال مسدوداً بقطع الجليد. إلا أنه كان يمكن أن يبدأ الذوبان بعد أيام قليلة. تصبح عند ذلك القلعة، المشكوكة بالمدافع، والتي يدافع عنها كل الأسطول الأحمر في البلطيق، وتتموّن من فنلندا أو بلدان بلطيقية اخرى، تصبح منيعة، ولا تقهر تقريبا، في الوقت ذاته، كان الشيوعيون بالذات ينضمون إلى التمرد، معلنين أنهم تخلوا عن «حزب الجلاد تروتسكي». وقد قرر تروتسكي (أو توخاتشيفسكي؟) أنه يجب الاستيلاء إذا على القلعة قبل أن يحول ذوبان الثلوج دون الوصول إليها. وللحال توجهت فيالق من نخبة القوات وفرق صدام إلى بتروغراد لتعزيز الحامية. وحين وصل نبأ العصيان إلى المؤتمر العاشر أثار قلقا شديدا، وغضبا أشد، بحيث غادر معظم المندوبين الأشداء قاعة المؤتمرات في الكرملين ليقودوا بأنفسهم الفرق الصدامية التي كانت ستهاجم القلعة عبر خليج فنلندا. حتى قادة المعارضة العمالية و الدسيميون، الذين قدموا للمؤتمر مطالب لا تختلف كثيرا عن مطالب العصاة، ألقوا بأنفسهم في المعركة. هم أيضا كانوا يؤكدون أنه ليس من حق البحارة ان يفرضوا بقوة السلاح حتى أكثر المطالب شرعية.

تقدمت القوات البلشفية، بقيادة توخاتشيفسكي عبر الخليج، وعلى بزاتها أغطية بيضاء، فاستقبلهم إعصار من نار تفجر من معاقل کرونشتادت. كان الجليد يغوص تحت أقدامهم؛ وموجة بعد موجة، كان المهاجمون المتلفعون بأكفانهم البيضاء يغيبون في حجرة الخلود الجليدية تلك. كانت مسيرة الموت تتواصل؛ ومن ثلاث جهات مختلفة، كانت أرتال جديدة تتقدم بصعوبة، زالقة وزاحفة على السطح الجليدي لتختفي بدورها في النار والجليد والماء. وفي حين كانت ارتال المهاجمين تغرق واحدة بعد الأخر، بدا لرجال کرونشتادت أن الثورة البلشفية الضالة تغرق معها، وان انتصار ثورتهم الخاصة بهم، النقية والأصيلة، كان يقترب. هكذا كان على أولئك المتمردين، الذين أدانوا قسوة البلاشفة والذين كان هدفهم الوحيد السماح للثورة بأن ترضع حليب الحنان البشري، كان عليهم لأجل البقاء أن يخوضوا معركة أقسى من كل معارك الحرب الأهلية. كان غضب المهاجمين وعنفهم يزداد حدة، وفي ۱۷ آذار/ مارس، بعد ليلة من المسير وسط عاصفة من الثلج، نجح البلاشفة أخيرا في تخطي المتاريس. وحين تدفقوا في داخل القلعة انقضوا على المدافعين عنها كإلهات الانتقام.


تکلم تروتسكي في 13 نيسان/ أبريل، اثناء استعراض المنتصرين، فقال: «لقد انتظرنا، طالما يمكن الانتظار، أن يكتشف رفاقنا البحارة، الذين عميت أبصارهم فترة من الزمن، إلى أين يقودهم عصيانهم. لكن كان علينا أن نواجه خطر ذوبان الثلوج، فاضطررنا لبدء الهجوم». وبالحديث عن العصاة المقتولین کـ «رفاق»، كان يوحي من دون إرادته بأنه يحتفل، اخلاقيا، بانتصار على طريقة بيروس(*). والشيوعيون الأجانب الذين أتوا إلى موسكو بعد أشهر من ذلك التاريخ، وهم يعتقدون ان کرونشتادت لم تكن غير حلقة من حلقات الحرب الأهلية «فوجئوا و اضطربوا»، حين اكتشفوا أن القادة البلاشفة كانوا يتكلمون على العصاة، من دون الغضب والحقد اللذين كانوا يعربون عنها تجاه الحراس البيض وجماعة التدخل الأجنبي. كانوا يتحدثون عنهم بـ «تكتم مفعم بالتعاطف»، وبتلميحات كئيبة وملغزة بدت للزائر علامة الضمير المضطرب للحزب.

لم يكن التمرد انهزم بعد حين قدم لينين، في ۱۰ آذار/ مارس، السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب ) في المؤتمر العاشر، الذي تبناها دون مناقشة تقريبا. كانت البلشفية تتخلى، بصمت وكآبة، عن حلمها بشيوعية الحرب. كانت تخطو خطوة إلى الوراء، حسبما قال لينين، ليتسنى لها وضع أفضل للتقدم. انطفأ على الفور الجدال حول النقابات وكل ما كان يستتبعه، فقصف المدافع في خليج فنلندا واضرابات بتروغراد وأماكن أخرى كانت كافية لاثبات قلة واقعية أفكار تروتسكي: لم يعد هنالك مكان، في كل حال، لعسكرة العمل في السياسة الملطفة للسنوات اللاحقة، القائمة على نظام الاقتصاد المختلط.

إلا أن المجادلة لم تكن محض ضجيج وغضب، فمعناها بالنسبة للمستقبل كان أهم مما افترض القادة الرئيسيون بالذات. وبعد عشر سنوات، سوف يستعيد ستالين لحسابه الخاص كل افكار تروتسكي، دون تسميتها باسمها، ستالين الذي دعم في ۱۹۲۰ – ۱۹۲۱ سياسة لينين «الليبرالية». زد على ذلك أنه لا ستالين ولا تروتسكي، ولا انصار هذا، أو ذاك، اعترفوا آنذاك بهذا الواقع. فالأول أحجم عن ذلك لأنه لم يكن يستطيع الاعتراف بأنه تخلى عن خط لينين لصالح خط تروتسكي، والثاني لأن أفكاره الخاصة به كانت تجعله يرتجف هولاً حين يراها وقد وضعها عدوه في الممارسة ببرود. ربما لم يكن هنالك بند واحد من برنامج تروتسکی (۱۹۲۰-۱۹۲۱) لم يستخدمه ستالين خلال الثورة الصناعية في الثلاثينات. لقد أحدث التجنيد للعمل وإدارة العمل، وفرض على النقابات تبني «سياسة إنتاج» بدل الدفاع عن مصالح الشغيلة الاستهلاكية؛ وحرم النقابات من الآثار الاخيرة لاستقلالها وجعلها أدوات في يد الدولة. وحمى مجموعات «مدراء الأعمال» الذين منحهم امتيازات لم يحلم بها حتى تروتسكي. وأطلق «المنافسة الاشتراكية» في المصانع والمناجم، وبتعابير استعارها ببساطة من تروتسكي. وضع قيد الممارسة نسخته الفظة الخاصة به عن تلك «التايلرية السوفياتية» التي دافع عنها تروتسكي. وفي الأخير، انتقل من حجج تروتسكي الايديولوجية والتاريخية التي كانت تبرر بصورة ملتبسة العمل الإجباري إلى تطبيقه الكثيف.

كنا نحدد في الفصل السابق السيرورة التاريخية، غير الواعية التي قادت من محاولات لينين المترددة والخجول للـ «ثورة عن طريق الفتح» إلى الثورات التي فرضها ستالين الفاتح. ثمة رابط واحد دقيق يربط سياسة تروتسكي الداخلية لتلك الفترة بتلك التي مارسها خصمه فيما بعد. ويبدو تروتسكي ولينين، كل بطريقة مختلفة، كالملهمين غير الاراديين لستالين. فالاثنان دفعت بها ظروف مستقلة عن ارادتهما، وأوهامهما الخاصة بهما، إلى الاضطلاع ببعض المواقف التي ما كانت الأحداث ولا وساوسها الشخصية تسمح لهما بالدفاع عنها زمنا طويلا – مواقف قبل أوانها، تختلف مع الذهنية البلشفية الشائعة، لا بل مع الأفكار الكبرى التي ألهمت حياتيهما.

لم يطلق تروتسكي فكرة إشراف الدولة المطلق على الطبقات الكادحة، إلا تحت التهديد بانحلال كامل للثورة وللجسم السياسي الروسي. فكذهن حي وقلق، يتذوق الاختبار، كان يبحث بجرأة، وفي الاتجاه الأكثر تناقضاً، عن وسيلة للخروج من ذلك الخطر. وكان يذهب في كل اتجاه إلى نهايته، بينما كان الرأي العام البلشفي، بمعظمه، يراوح في المكان. اقترح النيب، في حين كان الحزب لا يزال منخرطا بحزم في شيوعية الحرب، فانخرط فكره عندئذ في اتجاه معاكس، واستكشفه حتى أقصاه ووصل إلى الخلاصة الأخرى: العلاج الوحيد لكل مساوئ شيوعية الحرب هو نظام صارم للعمل. إلا أن الرأي البلشفي توجه ببطء نحو النيب، التي أجبر تروتسكي على التخلي عنها. كان منطق تروتسكي الواضح، والمتسق والسريع – منطق الإداري الذي يغضبه الخلل والعمل سيء الانجاز – هو الذي ضيعه. كان يتقدم حاني الرأس في النقاش، وذهنه مثبت على هدفه، فيقدم الكثير من الحجج وينطلق في التعميمات، غير مهتم بحركات الرأي، حتى الوقت الذي يمضي فيه بعيداً جدا، متسبباً بالاثارة والغيظ. كان الإداري الواثق من نفسه يتغلب لديه على المفكر السياسي المرهف ويخفي عنه ما تستتبعه مخططاته. وما لم يكن غير مظهر من المظاهر المتعددة لفكر تروتسكي التجريبي سوف يصبح ألف ستالين وياءه.

كان تروتسكي يبقى، حتى في اخطائه، شريفاً من الناحية الفكرية، شرفا كان يصل أحيانا إلى السذاجة. لم يحاول تمويه سياسته، وكان يسمي الأشياء بأسمها، غير مهتم إذا كان في ذلك ما يزعج. فلما كان معتاداً التأثير على الناس بقوة الحجج وبتحكيم العقل، بقي يحتكم إلى العقل لدعم القضية الأكثر ابتعاداً عن العقل. دافع علنا عن نظام الحكم بطريق القسر، هذا النظام الذي لا يمكن أبدا الدفاع عنه علنا والذي لا يمارسه المرء إلا بصمت. كان يأمل إقناع الناس بأنهم لا يحتاجون إلى أن يساسوا بالإقناع. كان يقول لهم أن لدولة الشغيلة الحق في تطبيق العمل القسري؛ وقد كان صادقا في خيبة أمله حين لم يهرع الناس لينخرطوا في معسكرات العمل. كان يتصرف بتلك الطريقة العبثية، لأنه لم يكن يمكن، في ظنه، أن يتعلق الأمر بآلة قسر تنطلق ببطء، وتطحن موادها البشرية دون شفقة، بل بمنظورات عظيمة لا تزال غامضة لـ «سبارطة بروليتارية» تشكل صرامتها القاسية جزءا من مغامرة رواد الاشتراكية. حتى عبثية سلوكه كانت تحمل في ذاتها علاج ذاتها؛ وفي سذاجته، كان يحذر الناس بإسهاب من الخطر الذي يهددهم، فقد كان يوضح الحدود التي يستعد للوصول اليها، ويعرض سياسته على الرقابة العامة ، وقد فعل كل ما في وسعه لاستثارة المعارضة التي أدت به إلى الإخفاق. كان تروتسكي بحاجة لوضوح النهار ليبقى حيّاً من الناحية السياسية، بينما لزم طابع عصفور الليل الذي تميز به ستالين لوضع أفكاره في التطبيق.

كان الحزب البلشفي يدافع كذلك عن مبدأ الديمقراطية البروليتارية ضد تروتسكي، لكنه استمر في الابتعاد عن هذا المبدأ على صعيد الممارسة.
_____________

(*) ہیروس هو ملك ايبير، Epire من ۲۹۰ إلى ۲۱۲ ق.م. حاز نصرا كاملا في هيراكل، لكن دامية للغاية ضد الفيالق الرومانية التي أرعبتها فيلته. (م).

لمراجعة الفصل السابق يرجى الدخول من خلال الرابط أدناه:

https://litci.org/arab/archives/4455?fbclid=IwAR37XPcIrAeoR6T8jLdh17WKNSsY5JjEMWlN2xZ4m0XKKgnj4BWzFu0GELA

Check out our other content

Check out other tags:

Most Popular Articles