هزيمة في الإنتصار ج4
كان تروتسكي، المصر على موقفه، يبدي استياءه. وفي بداية كانون الأول/ ديسمبر، خلال جلسة مغلقة للتسيکتران، عاد لمهاجمة النقابويين الذين أظهروا في الماضي، حسب رأيه، قدرة على قيادة إضرابات، لكنهم كانوا يسيئون فهم حاجات اقتصاد اشتراكي. وقد دافع عن طريقته بإبداء الحزم تجاههم، ورفض مطالبتهم بانتخابات في النقابات وندد بأولئك الذين كانوا يعلنون أن بيروقراطية جديدة تتولى احياء طرائق الحكم القيصري. قال: «ليست البيروقراطية اكتشافا للقيصرية. لقد مثلت حقبة كاملة في تطور البشرية»، حقبة لم تنته بعد. إن لإدارة مدنية مؤهلة ومنظمة هرمياً حسناتها، وروسيا لم تكن تعاني من تجاوزات بيروقراطية فعالة، بل من غياب تلك البيروقراطية. وقد دعم وجهة النظر تلك مراراً، مؤكدا باسم الفعالية أن ثمة ضرورة لمنح البيروقراطية بعض الامتيازات المحدودة. كان يجعل هكذا من نفسه ناطقاً بلسان الدوائر الحاكمة، وهو ما سمح فيما بعد لستالين بأن يمنحه لقب «بطريرك البيروقراطيين». وابدی تروتسكي ثقته بأن تحصل سياسته على الدعم الشعبي؛ لكن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لم تترك مجالا لتطبيق تدابير إضفاء الديمقراطية التي كانت تتقدم ببطء مثير لليأس، بسبب المستوى الثقافي والسياسي الضعيف للجماهير الروسية. «إن ما يدعى القيادة والعمل بواسطة مرشحين معينين، يتناسب عكساً مع تطور الجماهير، ومستواها الثقافي ووعيها السياسي وقوة جهازنا الإداري».
ومرة أخرى، وقفت اللجنة المركزية في وجه تروتسكي. فغضب هذا وذكر لينين واعضاء اللجنة الآخرين بأنهم غالبا ما دفعوه سرا، هو «مثير الفوضى»، كي يتصرف بصرامة، ودون الاهتمام بمبادئ الديمقراطية. وأكد أنه ليس شريفاً، من جانبهم، أن يلعبوا في العلن دور المدافعين في وجهه عن المبادئ الديمقراطية.
إن السوء الذي كان يعاني منه، بشكل اكثر عمقا، مجمل نظام الحكم، والذي لم يكن هذا النزاع الأخير غیر علامة من علاماته، كان ناجما عن تخييب الآمال التي استثارتها الثورة لدى الشعب. فللمرة الأولى منذ ۱۹۱۷، وقفت أغلبية الطبقة العاملة، لكي لا نتحدث عن الفلاحين، في وجه البلاشفة دون أدنى شك. كان شعور بالعزلة قد بدأ يقلق الفريق الحاكم. ومن المؤكد أن الطبقة العاملة لم تتوصل للتأسف لقيام الثورة، بل بقيت ترى فيها نفسها، وتقابل بعداوة شديدة كل تحريض معادٍ للثورة بشكل مکشوف. في «اوكتوبر» وسم الوعي الشعبي بعمق عميق لدرجة أنه كان على المناشفة والاشتراكيين الثوريين أن يوردوا قبل انتقاداتهم للحكومة اعترافا واضحا بـ «منجزات اكتوبر». إلا أن ذلك لم يحل دون أن تكون معارضة السياسة البلشفية الحالية عنيفة بقدر ما هي واسعة. فالمناشفة والاشتراكيون الثوريون الذين كانوا مكسوفين كليا منذ ثلاث سنوات، وكانوا يكادون لا يتجرأون على رفع رأسهم، كانوا يستعيدون الآن بعض الحظوة الشعبية. وكان الناس يصغون بتعاطف اکثر أيضا إلى المحرضين الفوضويين المنددين بعنف بالنظام البلشفي. ولو سمح البلاشفة آنذاك بانتخابات حرة الى السوفييتات لتم عزلهم من السلطة بصورة شبه مؤكدة.
كان البلاشفة عاقدين العزم على عدم ترك الأمور تصل إلى هذه النقطة الحرجة. ومن الخطأ القول إنهم يتعلقون بالسلطة لكونهم يتذوقون السلطة. فالحزب كان لا يزال، بمجمله، مفعما بتلك المثالية الثورية التي اعطى عنها براهین باهرة خلال نضاله السري وإبان الحرب الأهلية. كان يتمسك بالسلطة لأنه كان يماثل بين مصير الجمهورية ومصيره، ويرى في ذاته القوة الوحيدة القادرة على حماية الثورة. وكان من حظ الثورة – ومن سوء حظها أيضا – أن رأي البلاشفة كان له مبرراته العميقة – فالثورة كان يصعب أن تعيش من دون حزب متعصب لها تعصب الحزب البلشفي. كان يمكن أن يوجد حزب آخر، متعلق بالثورة التعلق نفسه وقادر على العمل بالقوة نفسها، يتمكن عبر الانتخابات من أن يحل محل حزب لينين دون التسبب باختلال في الدولة الشابة، لكن هذا الحزب لم يوجد. أما عودة المناشفة والاشتراكيين الثوريين فكانت أدت الى دمار ثورة اوكتوبر. كانت شجعت، على الأقل، الحراس البيض على أن يجربوا، مرة أخرى، حظهم ويحملوا السلاح من جديد. كانت غريزة البقاء البسيطة، وأسباب اخرى اكثر خطورة، تمنع البلاشفة من تصور احتمال من هذا النوع. ما كان بوسعهم أن يسمحوا به كمطلب ديمقراطي لأن انسحابهم كان سيعني إلقاء البلاد في أتون مرحلة جديدة من الحروب الاهلية.
وكان كذلك من غير المرجح أن تخرج انتخابات حرة إلى السوفييتات بأكثرية واضحة. فالذين دعموا كیر نسکي، عام ۱۹۱۷، لم يكونوا خرجوا بعد حقا من کسوفهم، وكان يبدو أن الفوضويين والفوضويين – النقابيين، الذين كانوا ينادون بـ «ثورة ثالثة» اكثر شعبية بكثير داخل الطبقة العاملة، لكنهم لم يكونوا يشكلون قاعدة فعالة للمعارضة، وفي كل حال لم يكونوا مرشحين لاستلام السلطة. وإذا كانوا متحمسين للنقد، فلم يكن لديهم أي برنامج سياسي ايجابي، ولا تنظیم جدي على الصعيد القومي، أو حتى على الصعيد المحلي، ولا الرغبة الحقيقية في حكم بلاد واسعة. وكان يتجاور في صفوفهم ثوريون أصیلون، وأشخاص طريفون، ومحض لصوص. لم يكن يمكن أن يحل محل النظام البلشفي غير فوضى كلية، تليها ثورة مضادة مكشوفة. وكان حزب لينين يرفض السماح لبلد جائع، يعيش حالة اضطراب کامل، بأن يزيحه من السلطة عبر الاقتراع ويغرق هو ذاته في فوضى دامية.
كان البلاشفة مهيئين تهيئة سيئة جدا من الناحية الفكرية والمعنوية لتلك الآثار الغريبة المترتبة على انتصارهم. كانوا قد سئموا ضمناً، ودائما، بأن اكثرية الطبقة العاملة، التي ساندتهم خلال الثورة، سوف تواصل دعمهم بقوة إلى أن ينجزوا البرنامج الاشتراكي. وكانت تلك القناعة الساذجة ناجمة عن الفكرة القائلة أن الاشتراكية هي الفكرة البروليتارية بامتياز، وانه مذ تتوحد البروليتاريا معها لا تعود تتخلى عنها. وكانت هذه الفكرة تلتقي مع استدلال كل المدارس الأوروبية للفكر الاشتراكي. وفي الأدب السياسي الغزير الذي أنتجته هذه المدارس، لم تنطرح إلا لماما للدرس مسألة معرفة ما يمكن أن يفعله الاشتراكيون في السلطة، إذا فقدوا ثقة الشغيلة. لم يحصل للماركسيين أن تساءلوا إذا كان ممكنا أو مقبولاً السعي لإرساء الاشتراكية دون أخذ إرادة الطبقة العاملة بالحسبان. كانوا يعتبرون ببساطة أن هذه الإرادة أمر مفروغ منه، وللسبب نفسه، بدا بديهياً للبلاشفة أن ديكتاتورية البروليتاريا والديمقراطية البروليتارية (أو السوفياتية) ليستا غير وجهين مكملين للشيء ذاته وغير منفصلين عنه: كانت الديكتاتورية هناك للتغلب على مقاومة الطبقات المالكة، وكانت تستمد قوتها وشرعيتها التاريخية من التعبير الحر والديمقراطي عن ارادة الطبقات الكادحة. لكن كان يولد الآن نزاع بين وجهي النظام السوفياتي. من جهة اخرى، لو ألغت الديكتاتورية الديمقراطية البروليتارية صراحة، لحرمت نفسها، حتى في نظر نفسها، من شرعيتها التاريخية، ولتوقفت عن أن تكون ديمقراطية بروليتارية بالمعنى الصحيح للكلمة. إن الاحتفاظ بهذه الصفة يعني مذاك التأكيد بأنها تواصل سياسة ينبغي للطبقة العاملة أن تتماثل معها، طوعا أو كرها، وذلك لمصلحتها الخاصة بها، لكن هذه الطبقة لم تكن بدأت بعد تتماثل معها. كانت الديكتاتورية تمثل إذاك، في أفضل الأحوال، فكرة الطبقة لا الطبقة بالذات.
كانت الثورة قد بلغت الآن مفترق الطرق هذا، الذي يعرفه ماكيافيلي تماما، حيث يصبح صعباً بالنسبة إليها، إن لم يكن مستحيلا، تثبيت الناس في قناعاتهم الثورية، وتضطر «إلى اتخاذ تدابير يمكن معها دفعهم إلى الاقتناع قسراً إذا لم يعودوا مقتنعين تلقائيا». وبالنسبة للحزب البلشفي، كان ذلك يفترض نزاع ولاءات أعمق، من بعض النواحي، من كل تلك التي عرفها حتى ذلك الحين، نزاعا يحمل في أعماقه المجادلات العنيفة والتطهيرات القائمة العقود اللاحقة.
عند مفترق الطرق هذا، كانت البلشفية تعاني من أزمة أخلاقية يصعب علينا أن نجد مثيلا لها في تاريخ حركات أقل عنفا وأقل حماساً. أشار لينين فيما بعد الى «الحمى» و«المرض المميت» اللذين كانا يقرضان الحزب في شتاء ۱۹۲۰ – ۱۹۲۱، في فترة النقاش الصاخب حول دور النقابات في الدولة. وكانت تلك مسألة مهمة، ومع ذلك ثانوية. لم يكن بالامكان الاجابة عنها قبل حل المشكلة الأساسية المتعلقة بطبيعة الدولة بالذات. وكان الحزب يغوص كليا في نقاش المسألة الثانوية، لأنه لم يكن يعي بوضوح المشكلة الجوهرية ولأنه كان يخشى أن يوضحها لنفسه بصراحة. لكن خلال مواصلة النقاش، اصطدم القادة الرئيسيون في كل لحظة بتلك المسألة الكبرى التي بقيت دون صياغة، واضطروا لتحديد موقفهم.
من غير المجدي أن ندخل هنا في تفاصيل الجدال المعقد، والتقني إلى حد ما، بصدد النقابات، إلا أن واقع کون دراما الثورة برزت بمناسبة نقاش اقتصادي جاف في الظاهر بالدرجة نفسها، إنما هو مميز كفاية لروح الحقبة. ولنكتف بالقول إنه تبلورت إجمالا ثلاثة مواقف. كان الذي قاده تروتسكي (ثم تروتسكي وبوخارين فيما بعد) يريد أن تحرم النقابات من استقلالها الذاتي ويمتصها جهاز الحكم، وتلك كانت الخلاصة التي استمدها تروتسكي من نزاعاته مع النقابات. ووفقا للتنظيم الجديد، كان على القادة النقابيين، الذين أصبحوا خداماً للدولة، أن يدافعوا عن الدولة في وجه العمال، لا عن العمال في وجه الدولة. عليهم أن يضغطوا لزيادة المردود ولحفظ الانضباط في العمل، وأن يدربوا العمال على تسيير الصناعة، كما عليهم في الأخير أن يشاركوا في قيادة الاقتصاد القومي.
في الطرف الآخر، كانت المعارضة العمالية، بقيادة شليابنيكوف وكولونتاي، تقف ضد وصاية الحكومة والحزب على النقابات، وتتهم تروتسكي ولينين بمناصرة عسكرة العمل وتشجيع اللامساواة. وكانت تطالب، بطريقة شبه – نقابية، بأن تضطلع النقابات ولجان المصنع ومؤتمر قومي للمنتجين بالإشراف على كل الاقتصاد. وبينما كان تروتسکی يؤكد أنه، وفقا للمنطق، لا يمكن للنقابات أن تدافع عن الشغيلة ضد دولة الشغيلة، كان شليابنيكوف وكولونتاي بدأا ينددان بدولة السوفييتات كمعقل لبيروقراطية جديدة ذات امتیازات.
وبين هذين الطرفين، كان لينين وزينوفييف وكامينيف، يتكلمون باسم أكثرية البلاشفة، ويسعون وراء حل تسووي. هم ايضا كانوا يلحون على واجب النقابات تلطیف غلواء الشغيلة وبث روح المسؤولية لديهم تجاه الدولة والاقتصاد المؤمم. وكانوا يلحون على واجب الحزب الاشراف على النقابات، لكنهم كانوا يتمنون كذلك حماية طابعها كمنظمات جماهيرية مستقلة، قادرة على ممارسة ضغط على الحكومة، وعلى إدارة الصناعة.
كانت تلك المواقف تستتبع، مفاهيم متباينة حول الدولة والمجتمع. وكانت المعارضة العمالية وأولئك الذين تطلق عليهم تسمية الديسيميين (مجموعة المركزية – الديمقراطية) المدافعين المستبسلين عن «الديمقراطية البروليتارية» في وجه الديكتاتورية. كانوا أوائل المنشقين البلاشفة المعترضين على طريقة الحكم المعدة لـ «إجبار الناس على الاقتناع»، وكانوا يناشدون الحزب ان «يوكل أمره»، للطبقة الكادحة التي حملته إلى السلطة. وكانت اللغة التي يستخدمونها هي تلك التي استخدمها الحزب بأسره في عام ۱۹۱۷. وكانوا المساواتيين الحقيقيين في تلك الثورة، ومثالييها، وحالميها الطوباويين. ولم يكن يستطيع الحزب الإصغاء إليهم، إلا إذا كان مستعدا لانتحار نبيل لكن لا يغتفر. لم يكن يستطيع أن يسلم مصيره ومصير الجمهورية لطبقة عاملة مهزولة، ومنهكة، وفاقدة للمعنويات، بنتيجة الحرب الأهلية والمجاعة والسوق السوداء كانت الروح الدونکیشوتية للمعارضة العمالية تظهر في مطالبها الاقتصادية، فقد طالبت بالارضاء الفوري لحاجات الشغيلة، وبأجور وعلاوات متساوية للجميع، وبالتأمين المجاني للغذاء واللباس والمساكن للعمال، وبالإسعاف الصحي المجاني، وبإمكانية نقل مجاني وتعليم مجاني. لم يكونوا يرغبون في أقل من رؤية التحقيق الكامل للبرنامج الكامل للشيوعية، الذي صيغ نظرياً لاقتصاد وفرة كبرى. ولم يحاولوا أن يقولوا حتى كيف كان يمكن لحكومة تلك الفترة أن تستجيب لمطالبهم. وكانوا يحثون الحزب على أن يضع الصناعة، أو ما بقي منها، مرة أخرى تحت رقابة لجان المصنع تلك التي أظهرت فور قيام ثورة اوکتوبر أنها قادرة بالضبط على تبديد ثروة الأمة وتبذيرها. لقد كان طالع سوء أن يكون أناس ضائعون في ضباب خيالهم الوحيدين الذين دافعوا عن إعادة كاملة للديمقراطية البروليتارية.
لمراجعة الفصل السابق يرجى الدخول من خلال الرابط أدناه:
https://litci.org/arab/archives/4420?fbclid=IwAR2CiMF38SwXVjlRBVdzv3m3yomJhM9f0dYd5hlTmOZhW9ALt1xNQ6HSfWY