الفصل التعسفي نموذجاً
فاطمة رمضان
شهدت الفترة ما بعد 30 يونيو الكثير من الاعتداءات علي العمال وحقوقهم، كما شهدت بشكل واضح تقنين هذا الاعتداء. فيوماً بعد يوم تصدر القوانين التي تعتدي علي العمال وحقوقهم. فتم تعديل قانون الاستثمار عشية المؤتمر الاقتصادي في مارس الماضي، والذي أعطي الكثير من الحوافز للمستثمرين، كما أنه أغلق الباب أمام حق العمال في الطعن علي عقود البيع الفاسدة لشركات القطاع العام.
في نفس التوقيت فجأة وبدون أي حوار اجتماعي حوله، صدر قانون الخدمة المدنية 18 لسنة 2015، كبديل لقانون العاملين المدنيين بالدولة 47 لسنة 1978. وقد انتقص قانون الخدمة المدنية حقوق العاملين لدي الحكومة والتي كانت مستقرة لهم. وأبرز مساوئ القانون هو حرمان العاملين من الحماية التي كانت ممنوحة لهم بموجب القانون القديم ضد الفصل إلا عن طريق المحكمة – وهي الحماية التي كان ومازال يطالب بها عمال القطاع الخاص- كما فتح القانون المجال للتعسف الإداري ضد الموظفين، حتى بدون أي ضمانات للتظلم، وربما للتقاضي أيضاً.
تدعي الحكومة أنها تهدف من القانون تحسين الخدمة التي يقدمها الجهاز الحكومي للمواطنين، إلا أنها لا تخفي رغبتها في التخلص من الموظفين، في محاولة منها لتخفيض الإنفاق. فيعلن المسئولين بالحكومة ومستشاريهم دائما أنه ينبغي أن يصل عدد موظفي الحكومة إلي مليون موظف فقط بدلاً من أكثر من 7 مليون موظف الآن. لذا فتح القانون الباب للمعاش المبكر للموظفين بداية من سن الخمسين. وهناك الكثير من الطرق للتخلص من الموظفين، بداية من التعسف ضد الموظفين وإجبارهم علي الخروج للمعاش المبكر، إلي تحويل عمال الخدمات لديها لعاملين لدي شركات خاصة واستئجارهم منها، وصولا للفصل التعسفي الذي من المتوقع أن يستخدم لتصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين. الشئ الأهم مع نية الحكومة تقليص عدد الموظفين لديها هو رغبتها في إحكام قبضتها علي من سيتبقي في الوظيفة العامة، حيث أن النسبة الأكبر من الاحتجاجات في العشرة سنوات الماضية دائماً كانت لموظفي الحكومة، علي الرغم من أنهم أقل من ثلث المشتغلين، ولديهم ضمانات بالقانون أكثر بكثير من عمال القطاع الخاص.
ومنذ أكثر من عام ونصف، تطرح الحكومة مسودات لقانون بديل لقانون العمل 12 لسنة 2003، الذي ينطبق علي عمال القطاع الخاص، والذين طالما طالبوا بتعديله بسبب تعدية علي حقوقهم. فقانون العمل الحالي يسمح لأصحاب الأعمال بفصل العمال بدون الرجوع للمحكمة، وحتى عندما يلجأ العامل للمحكمة ويأخذ حكم بحقه في العودة للعمل يرفض أصحاب الأعمال تنفيذه. كما أن عقوبات القانون بشكل عام غير رادعة، وبه الكثير من الأبواب التي ليس بها عقوبات علي من يخالفها، مثل الباب الخاص بالمفاوضة الجماعية، فإذا طلب العمال من صاحب العمل الجلوس للتفاوض ورفض فلا عقوبة. لذا فعادة ما كانت ضغوط العمال عبر الاعتصام والإضراب هي ما يجبر صاحب العمل للجلوس علي مائدة الحوار، كما أن الكثير من أصحاب الأعمال –خصوصاً- بعد 30 يونيو رفضوا تنفيذ اتفاقيات العمل الجماعية التي سبق توقيعها مع العمال والتي أصبحت بمثابة قانون، ولا عقوبة في القانون علي ذلك.
الأخطر أن المسودة المطروحة من قبل الحكومة لتعديل هذا القانون أكثر انحيازا لأصحاب الأعمال ضد العمال، فقد توسعت في حالات الفصل، كما أنها فتحت الباب لتقنين أوضاع شركات توريد العمالة التي يكون فيها وضع العمال أقرب لوضع العمالة الغير منتظمة بدون أي حقوق. هذا بالإضافة لكل مشاكل القانون الحالي.
هذا وفيما يخص حقوق العمال في الإضراب والاعتصام والتظاهر، وحق تأسيس النقابات بحرية وبدون تدخل من أحد، فعداء النظام الحاكم واضح منذ حكم مبارك، وبعده إزاحته، فظلت كل السلطات بداية من المجلس العسكري مروراً بحكم الأخوان المسلمين، وصولاً لحكم العسكر الآن معادية لحق العمال في الاحتجاج.
فبدءا من محاولات تشويه الحركة الاحتجاجية للعمال عقب إزاحة مبارك مباشرة- سواء من قبل الإعلام الحكومي أو بعض القوي الليبرالية بالإضافة للآخوان المسلمين – باتهامهم بأنهم لم يشاركوا في الثورة وأنهم يطالبون بمطالب فئوية، ومطالبتهم بالصبر والكف عن الاحتجاج الذي يعطل عجلة الإنتاج المزعومة.
وعندما لم ينجح خطابهم هذا من كسر الحركة، أصدر المجلس العسكري قانون 34 لسنة 2011 الذي يجرم الإضراب، وأتي بعد 30 يونيو قانون تجريم التظاهر والذي كسر دستور 2014 قبل أن يجف الحبر الذي كتب به، وبعدها صدر قانون يجعل من الشوارع والكباري بمثابة منشآت عسكرية، مما يعني أن التظاهر أو الوقوف بها، أو قطعها يعرض من يقوم بذلك للمحاكمات العسكرية، وصولاً لقانون الإرهاب الآن. الهدف من كل ذلك هو حرمان الشعب المصري وفي القلب منه العمال من أداته الثورية التي أزاح بها مبارك، ويستطيع من خلالها إزاحة أي سلطة غاشمة.
فيما يخص حق التنظيم فسياسة النظام الحاكم واضحة، فبعد أن أضطر النظام الحاكم في أثناء زخم الثورة إلي قبول أوراق تأسيس النقابات المستقلة، ولكنه أمتنع في الواقع عن الاعتراف بهذه سواء للتفاوض باسم العمال- إلا إذا أجبرهم العمال علي ذلك- أو حضور الحوارات الاجتماعية الخاصة بالأجور أو في صناديق التأمينات، أو في مجالس إدارات الشركات، وقصر هذا التمثيل قانوناً علي النقابات التابعة للاتحاد الحكومي. ناهيك عن محاولات تشويه النقابات المستقلة واتهامها بالعمالة للخارج، إلي اختراقها وإغراقها بنقابات ورقية. كما امتنع المجلس العسكري عام 2011 من إصدار قانون الحريات النقابية الذي شهد حوار اجتماعي حضره كل الأطراف، ولم يصدر حتي الآن.
ولكن بعد 30 يونيو أعلنت الحكومة وأصحاب الأعمال وبشكل واضح عن كونهم لن يتعاملوا سوي مع الاتحاد الحكومي، فهو ممثل العمال بالنسبة لهم.
وفي صراع العمال وأصحاب الأعمال خلال الأعوام السابقة- خصوصا بعد 25 يناير- تدخل الأمن بشقية (الجيش والشرطة) في فض الاشتباك ما بين العمال وأصحاب الأعمال عندما لا يستطيع أصحاب الأعمال وحدهم -أو حتي باستخدام بلطجية مأجورين خصوصاً في المناطق الصناعية البعيدة عن العمران- في كسر الحركة الاحتجاجية للعمال. فوجدنا الفض بالقوة للكثير من الاعتصامات في السويس والإسكندرية وغيرهم. ووجدنا الاعتقالات للقيادات العمالية، كما شهدنا قيادات الجيش والشرطة والمخابرات تتدخل في المفاوضات ما بين العمال وأصحاب الأعمال، وعادة ما يكون وجودهم للضغط علي العمال للقبول بشروط لا يرضون عنها، ولا تلبي مطالبهم.
ووصل الأمر مؤخراً لضرب العمال بالرصاص الحي لفض اعتصامهم، في مدينتي الإسكندرية والعريش، من قبل الشرطة والجيش علي التوالي، مما أدي لإصابة عمال شركة عبود بالإسكندرية، و مقتل عامل بمصنع أسمنت العريش التابع للمؤسسة الاقتصادية للجيش، وكأن الرسالة التي أرادت سلطة الانقلاب توصيلها للعمال بأنها ستمارس كل طرق القمع ضدهم حتي القتل.
وقد كان ضمن الطرق التي استخدمت منذ عهد حسني مبارك وحتي الان، هو قطع العيش (الفصل التعسفي) للقيادات العمالية التي بدأت تتبلور في المواقع العمالية بعد صعود الحركة العمالية في نهاية عام 2006، وكان الهدف من هذه السياسة هو رسالة ذو شقين الأول أن من يحتج أو يطلب حقه فهو معرض للفصل من العمل والتجويع هو وأسرته، والثاني إبعاد هذه القيادات التي بدأ العمال يلتفون حولها عن هذه المواقع حتي تنطفئ تدريجياً الحركة الاحتجاجية في هذه المواقع.
الفصل التعسفي سياسة مستمرة في كل العهود
ذكرت وزيرة القوي العاملة والهجرة في الرد علي سؤال عن ما أنجزته لجنة المفصولين “حصرنا عدد القضايا المتداولة بالمحاكم فى 10 محافظات، بلغت 4 آلاف و158 قضية من إجمالي عدد العمال المفصولين والذي بلغ 15 ألف عامل”
15ألف عامل مفصول ليس محسوب ضمنهم من أغلقت مصانعهم وطردوا من أعمالهم بالجملة، أو من تم توفيرهم من قبل أصحاب الأعمال في إغلاق جزئي للمصنع. من حصرتهم الوزارة هم جزء ممن مارس أصحاب العمل ضدهم الفصل التعسفي –في الغالب بسبب مطالبتهم بحقوقهم أو تحركهم عليها- فهؤلاء من ذهبوا للشكوى بمكاتب القوي العاملة.
وقد سبقت المراكز الحقوقية الحكومة بسنوات في رصد ظاهرة الفصل التعسفي بسبب ممارسة النشاط النقابي، فقد رصد تقرير بعنوان “قطع الأرزاق سلوك منهجي لكسر الحركة العمالية” وقائع اضطهاد العمال خلال الأعوام 2007، 2008 و2009 في 45 موقع عمل. كما رصد التقرير أيضاً تعرض 301 عامل وعاملة للفصل أو الإجبار علي الاستقالة، وتعرض 501 عامل وعاملة للنقل داخل أو خارج الشركة و وتعرض 65 للإيقاف عن العمل. أما من تم مجازاتهم بالخصم من أجورهم فهم أكثر من 175 عامل وعاملة، ورصد التقرير العديد من الطرق الآخري لاضطهاد القيادات العمالية، مثل تجميد عضوية النقابيين والنقابيات من قبل النقابات العامة التابعة لها نقاباتهم، وذلك لتسهيل فصلهم، أو إلقاء القبض علي بعض القيادات العمالية وتقديمهم للمحاكمات، كما مورس التحرش ضد العاملات لكسرهن.
هذا ولم تتوقف سياسة الاضطهاد للقيادات العمالية بعد إزاحة مبارك، بل استمرت و بوتيرة أسرع، فبالمقارنة مع ما تم رصده من فصل أو إجبار علي الاستقالة لعدد 301 من القيادات العمالية خلال ثلاثة سنوات قبل الثورة، و ما تم رصده من قبل الاتحاد المستقل للمفصولين تعسفياً خلال أقل من عامين بعد إزاحة مبارك الذي وصل إلي 503 نقابي في 40 موقع عمل، هذا بخلاف ما لم يتم رصده، نجد كيف تضاعف عدد المفصولين بعد الثورة.
وفي أحد التقارير – تحت النشر للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية- تم رصد فصل 1564 قيادة نقابية وعمالية بالاسم، تم فصلهم تعسفياً خلال الفترة من بداية عام 2011 حتي بداية عام 2015، ضمنهم 41 عاملة ونقابية.
مما يعني أن عدد المفصولين تعسفياً خلال أربعة سنوات بعد الثورة، قد تعدي خمسة أضعاف حصيلة الفصل خلال ثلاثة سنوات أيام حكم حسني مبارك.
وأوضح التقرير أن سياسة الفصل التعسفي استخدمت لكسر النقابات المستقلة بدليل أن الفصل التعسفي في المواقع التي بها نقابات مستقلة كانت نسبته 66%، بينما حدث الفصل التعسفي في المواقع التي بها نقابات تنتمي للاتحاد العام بنسبة 5%.
كما جاء في التقرير أن القطاع الخاص كان له نصيب الأسد فقد مورست سياسة الفصل التعسفي ضد عماله بنسبة 87.5%، بينما حظي القطاع الحكومي بنسبة 5% فقط.
هذا ولم يقف العمال مكتوفي الأيدي جراء هذه السياسة التعسفية قبل الثورة، فقد كان مطلب عودة العمال المفصولين أو المنقولين أو الموقوفين عن العمل ضمن مطالب العمال في احتجاجاتهم، وإن لم يستطيعوا تنفيذ هذا المطلب في الكثير من المواقع. كما أسس العمال المفصولين تعسفياً في معظم الأماكن، مع عدد من الناشطين المتضامنين معهم من “مجموعة تضامن” حملة أسمها “مش هنخاف” كان هدفها فضح سياسات التعسف التي تمارس ضد القيادات العمالية، والتعريف بقضاياهم. واستطاعت الحملة الضغط علي اتحاد العمال الحكومي وقتها لصرف أجر تعويضي لعدد من العمال المفصولين تعسفياً استمر صرفه لعدة سنوات.
وبعد الثورة علي مستوي كل موقع عمل، استطاع العمال في عدد قليل من المواقع العمالية من إلغاء قرارات الفصل التي تصدر في مواجهة زملائهم عن طريق الإضراب. لكن في حالات آخري عندما تحرك العمال للاحتجاج علي فصل زملائهم، لم ينجحوا في ذلك. بينما نجد في أماكن أخري لم يتحرك العمال للتضامن مع زملائهم اللذين فصلوا من العمل، أو اللذين تم التعسف بهم.
وعلي المستوي القومي نشأة العديد من المبادرات خلال عام 2011 لتجميع المفصولين تعسفياً للتحرك معاً للضغط من أجل أيقاف سياسة الفصل التعسفي للعمال والنقابيين. وكان من أبرز هذه المبادرات هي حملة ” معاً لإصدار قانون الحريات النقابية” والتي كانت تعمل من داخل الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، شارك فيها كثير من النقابات، والقوي السياسية وبعض المراكز الحقوقية. وكان للحملة هدفان الأول وقف سياسة الفصل التعسفي، والثاني الضغط من أجل إصدار قانون الحريات النقابية.
وقد قام أعضاء الحملة بالعديد من الزيارات التضامنية للمواقع المتعسف بها، وأصدرت الحملة العديد من البيانات التضامنية، وعدد من التقارير عن سياسات التعسف، ودعت الحملة لعدد من المسيرات الاحتجاجية لمجلس الوزراء والنائب العام.
لكن لم تكن حملات التضامن مع المفصولين قوية لتستطيع إلي إيقاف سياسة الفصل التعسفي، ولا لإعادة العمال المفصولين لأعمالهم، فبدأ العمال ييأسوا واستسلموا للتفاوض علي الفصل بشروط أصحاب الأعمال. وقد عزز هذا الاتجاه أيضاً، كونهم قد رأوا أن زملائهم ممن حصلوا علي أحكام نهائية واجبة النفاذ لم يستطيعوا تنفيذها.
خاتمة
ربما تبدو الصورة الآن قاتمة، حيث هجمة الحكومة وأصحاب الأعمال علي العمال وحقوقهم التي اكتسبوها عبر نضالهم خلال العشرة سنوات الماضية في ظل عدم وجود ردود أفعال تتناسب مع هذه الهجمة.
ولكن هذه الصورة غير قابلة للاستدامة، و ذلك كون الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت الشعب المصري كله للثورة لم تتحسن، بل ازدادت سوءاً. فبمجرد أن بدأ تطبيق قانون الخدمة المدنية وبدأت مظاهر الاعتراض والاحتجاج عليه في المواقع المختلفة. كما أن هناك حملات حتي لو كانت الحكومة لا تسمع لها وسط العمال تعمل علي شرح أسباب رفضها لقانون العمل الذي أعدته الحكومة، كما أنها أعدت بديل لهذا القانون.
كما أن هناك جزء من النقابات المستقلة رغم كل هذا التعسف الذي مورس ويمارس ضدها مستمرة في الدفاع عن حقوق أعضائها.