✍🏾 تامر خرمه
بعد أكثر من ثلاثين سنة من بدء ما يسمى بمفاوضات السلام مع العدو الصهيوني، ما زالت سلطة رام الله تراهن على “المسار السلمي”، الذي لم يفض سوى إلى ابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية، وبناء المزيد من المستوطنات، والإمعان في سياسات الفصل العنصري، والإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، ومصادرة أبسط حقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقّه بالوجود المحض.
على الطرف الآخر؛ أصرت المقاومة الوطنية على إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، عبر التمسك بنهج الكفاح المسلح، الذي يعد رأس حربة كلّ أشكال المقاومة في مواجهة المشروع الصهيوني التوسعي، وهو النهج الذي تخلت عنه منظّمة التحرير الفلسطينية، في الوقت ذاته الذي لا تزال تطالب فيه باعتبارها “الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”، رغم تخليها رسميًّا عن أكثر من 78٪ من أرض فلسطين التاريخية.
كانت “طوفان الأقصى” إحدى أهمّ المراحل المفصلية في تاريخ المقاومة الفلسطينية، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فهذا التاريخ سجل بداية نقلةٍ تقدميةٍ نوعيةٍ في مسار الكفاح الفلسطيني، وأعاد الاعتبار للقضية على الساحة الدولية، في الوقت الذي كانت تتهافت فيه العديد من الدول العربية على تطبيع علاقاتها مع الكيان المحتل، رغم أهدافه التوسعية المعلنة.
التظاهرات التي اجتاحت معظم مدن العالم دعما للقضية الفلسطينية، والتقدم النوعي في الرأي العام الدولي في ما يتعلق بنصرة الشعب الفلسطيني، وتعرية الكيان الصهيوني أمام كلّ الشعوب، أكبر دليلٍ على أن خيار المقاومة هو السبيل الوحيد لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، وليس استجداء هذه الحقوق من الإمبريالية الداعمة للاحتلال دعماً غير مشروط.
كما أن اعتراف أيرلندا وإسبانيا والنروج بدولة فلسطين، واعتزام دولٍ أخرى اتّخاذ الخطوة ذاتها، وتأييد 143 دولةٍ في الجمعية العامة للأمم المتّحدة لأحقية فلسطين بالعضوية الدائمة في مايو/أيّار الماضي، كانت مكاسب سياسيةً حققتها المقاومة، وليست سياسات الحلول السلمية. نحو نصف دول الاتّحاد الأوروبي ستكون قد اعترفت بالدولة الفلسطينية خلال فترةٍ قصيرةٍ للغاية، ما يعني أن موقف الإمبريالية الأوروبية المؤيدة للمشروع الصهيوني بدأ يترنح أمام صفعات المقاومة الفلسطينية.
لكن، رغم أنّ هذه التطورات تعد مكسبًا سياسيا بالغ الأهمّية للشعب الفلسطيني، إلّا أنّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية لا يزال يستند إلى فكرة “حلّ الدولتين”، التي أثبتت التجربة استحالة نقلها إلى حيز الإمكانية الواقعية، نظرا لطبيعة المشروع الصهيوني العنصري التوسعي. بالتالي، فإنّ الرهان الحقيقي معقودٌ على شعوب العالم، التي بدأت تستيقظ من تضليل الإعلام الغربي، وتدرك حقيقة الطبيعة الإجرامية لما يسمى بإسرائيل، التي نجحت في السابق بالترويج لنفسها على أنّها “الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
ما نحتاجه هو استمرار المقاومة استنادًا إلى استراتيجية اجتثاث الكيان الصهيوني من الأراضي الفلسطينية، وكسب التأييد الشعبي الأممي لمشروع الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية الواحدة على كلّ أرض فلسطين، إذ إن هذا هو الحلّ العادل الوحيد للقضية الفلسطينية. الاعتراف بالدولة الفلسطينية على جزءٍ صغيرٍ من أرض فلسطين التاريخية ليس هو ما قدم الشعب الفلسطيني كلّ ما شهدناه من تضحياتٍ من أجل تحقيقه.
لذا؛ فإنّ حركة حماس، التي تقود اليوم النضال الوطني الفلسطيني، مطالبةٌ أخلاقيًا بالتراجع عن الخطوة التي اتخذتها عام 2017، والمتمثّلة بتعديل ميثاقها السياسي، التي قربت موقفها من مشروع “الحلّ المرحلي”، الذي لن يقود سوى إلى تعزيز الوجود الصهيوني على الأرض العربية.
يواجه الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة اليوم إحدى أبشع المجازر الدموية في تاريخ البشرية، لذا فإن تاريخ السابع من أكتوبر يفترض أن يشكل نقطة تحولٍ جوهريةٍ في رؤية حماس ومشروعها السياسي. منظّمة التحرير سبق لها أن استغلت الانتفاضة الفلسطينية من أجل بناء سلطةٍ سياسيةٍ لم تحقق على أرض الواقع سوى خدمة مصالح الاحتلال وملاحقة المقاومين، واستغلال ما يجري اليوم من أجل بناء سلطةٍ أخرى تعترف بحقّ الاحتلال في الوجود سيكون أمراً أكثر فظاعة مما اقترفه فريق أوسلو.
نجحت حماس في تحقيق الالتفاف الشعبي الفلسطيني حولها لاستمرارها في نهج المقاومة فقط. وهذا ما حققه اليسار الفلسطيني وحركة فتح أيضًا في فترة السبعينيات، ما يعني أن الممثّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني هو المقاومة، بصرف النظر عن طرحها الأيديولوجي. ولا يمكن للمقاومة أن تتوقف قبل تحرير كلّ فلسطين من النهر إلى البحر.