فرنسا
وفي الظاهر أن فرنسا هي البلد الذي تنامت قوته أكثر من أي من البلدان المنتصرة الأخرى. فعدا الاستيلاء على الألزاس واللورين، واحتلال الضفة الشمالية للرين، والمليارات التي لا تحصى من خسائر الحرب التي تطالب ألمانيا بها أصبحت في الواقع أكبر قوة عسكرية في القارة الأوروبية. وهي تسيطر على القارة الأوروبية بدولها التابعة التي دربها جنرالات فرنسيون وقادوها (بولندا، تشيكوسلوفاكيا، ورومانيا)، وبجيشها الكبير، وبغواصاتها وأسطولها الجوي، وتلعب دور حارس معاهدة فرساي. غير أن القاعدة الاقتصادية لفرنسا، وعدد سكانها القليل الذي ينخفض أكثر فأكثر وديونها الكبيرة الداخلية والخارجية وتبعيتها الاقتصادية إزاء إنجلترا وأميركا لا تقدم أساساً كافياً لتعطشها للتوسع الامبريالي الذي لا يرتوي. ومن ناحية القوة السياسية، تزعجها سيطرة إنجلترا على كل القواعد البحرية الهامة، والاحتكار البترولي الذي تضع إنجلترا وأميركا يديهما عليه. ومن الناحية الاقتصادية، فإن غناها بركاز الحديد، الذي حصلت عليه عبر معاهدة فرساي، يفقد قيمته بفعل أن مناجم الفحم لأحواض الروهر بقيت لألمانيا. وقد بدا وهمياً الأمل بإعادة النظام إلى مالية فرنسا المزعزعة، بمساعدة التعويضات التي تدفعها ألمانيا. ويجمع كل الخبراء الماليين على الاعتراف بأن ألمانيا لن تقدر على دفع المبالغ التي تحتاجها فرنسا من أجل إصلاح ماليتها. ولا يبقى للبرجوازية الفرنسية إلا وسيلة واحدة: خفض مستوى معيشة البروليتاريا الفرنسية إلى مستوى معيشة البروليتاريا الألمانية. إن مجاعة الشغيل الألماني هي صورة البؤس التي تهدد العامل الفرنسي في الغد. إن انخفاض قيمة الفرنك الذي تسببت به بشكلٍ واعٍ بعض أوساط الصناعة الفرنسية سيساهم في إلقاء أعباء الحرب على كاهل البروليتاريا الفرنسية بعد أن بدت مهمة سلام فرساي متعذرة التنفيذ.
إنجلترا
لقد منحت الحرب العالمية إنجلترا توحيد إمبراطوريتها الكولونيالية من رأس الرجاء الصالح، عبر مصر والجزيرة العربية وصولاً إلى الهند. حافظت على امتلاكها لكل المنافذ الأساسية إلى البحر، وسعت لبناء الإمبراطورية العالمية الانكلوساكسونية عن طريق تنازلات لمستعمراتها الاستيطانية.
ولكن على الرغم من كل مرونة برجوازيتها، وعلى الرغم من جهدها لإعادة السيطرة على السوق العالمي، بدا أن إنجلترا في الظرف العالمي الذي خلقته معاهدة فرساي، لم تعد قادرة على التقدم. فالدولة الصناعية الإنجليزية لم يعد بإمكانها أن تصدّر إذا لم يتم إحياء ألمانيا وروسيا اقتصادياً. ومن هذه الزاوية، يتفاقم العداء بين إنجلترا وفرنسا؛ فإنجلترا تريد بيع سلعها لألمانيا، الأمر الذي تجعله معاهدة فرساي مستحيلاً؛ وفرنسا تريد انتزاع مبالغ هائلة من ألمانيا على شكل ضرائب حرب، مما يدمر القدرة الشرائية لألمانيا. لهذا فإن إنجلترا هي مع إلغاء التعويضات وفرنسا تخوض في الشرق الأدنى حرباً مقنعة ضد إنجلترا لإجبارها على الاستسلام في مسألة التعويضات. وفيما تتحمل البروليتاريا أعباء الحرب على شكل بطالة لملايين العمال، تتصالح البرجوازيتان الإنجليزية والفرنسية على حساب ألمانيا.
أوروبا الوسطى وألمانيا
إن الموضوع الأكثر أهمية في معاهدة فرساي هو أوروبا الوسطى، المستعمرة الجديدة للصوص الامبرياليين. إن أوروبا الشرقية المقسمة إلى عدد لا يحصى من الدويلات وإلى سلسلة من المناطق غير القابلة للحياة اقتصادياً، غير قادرة على حياة سياسية مستقلة. إنها مستعمرة رأس المال الإنجليزي والفرنسي وتبعاً للمصلحة المتبدلة لهاتين الدولتين، تثار هذه الأجزاء المختلفة الواحدة ضد الأخرى. إن تشيكوسلوفاكيا هي على الدوام، في مجال اقتصادي لستين مليون بشري، فريسة الأزمة الاقتصادية باستمرار. وقد حولت النمسا إلى مسخ غير قابل للحياة لا يعيش، في الظاهر، وجوداً سياسياً مستقلاً إلا بفعل تنافس البلدان المجاورة. وبولندا، التي ألحقت بها مناطق واسعة يشغلها سكان من قوميات أجنبية، تشكل مخفراً لفرنسا، وكاريكاتوراً للإمبريالية الفرنسية. في جميع هذه البلدان، يجب على البروليتاريا أن تدفع نفقات الحرب على شكل انخفاض في مستوى معيشتها وبطالة مذهلة.
لكن الموضوع الأكثر أهمية في معاهدة فرساي هو أن ألمانيا المجردة من السلاح، والمحرومة من كل إمكانية دفاعية، متروكة لرحمة الدول الامبريالية. إن البرجوازية الألمانية تسعى تارة لربط مصالحها بمصالح البرجوازية الإنجليزية، وطوراً بمصالح البرجوازية الفرنسية. وتسعى لإشباع جزء من مطامع فرنسا عن طريق الاستغلال المتزايد للبروليتاريا الألمانية وضمان سيطرتها الخاصة على هذه البروليتاريا بمساعدة أجنبية. ولكن الاستغلال الأشد للبروليتاريا الألمانية، وتحويل العامل الألماني إلى حمّال أوروبي، والبؤس المخيف الذي غاص به نتيجة معاهدة فرساي، كل ذلك لا يفسح المجال أمام دفع التعويضات. وتصبح ألمانيا إذاً كرة لعب لانجلترا وفرنسا. إن البرجوازية الفرنسية تريد حل المسألة عبر احتلال حوض الروهر والضفة الشمالية للرين بالقوة. إنجلترا تعارضها بذلك. ووحدها مساعدة الولايات المتحدة، أكبر قوة اقتصادية، سمحت بتسوية المصالح المتناقضة لإنجلترا وفرنسا وألمانيا.
الولايات المتحدة الأمريكية
لقد انسحبت الولايات المتحدة منذ زمن بعيد من مهمة سلام فرساي، إذ رفضت التصديق على المعاهدة. إن الولايات المتحدة التي خرجت من الحرب العالمية كأكبر قوة اقتصادية وسياسية، والمثقلة إزاءها الدول الامبريالية الأوروبية بالديون، لا تبدو قادرة على شفاء فرنسا من أزمتها المالية، عن طريق ديون ضخمة جديدة لألمانيا. إن رأس مال الولايات المتحدة يتحول شيئاً فشيئاً عن الفوضى الأوروبية، ويسعى بكثير من النجاح لخلق إمبراطورية كولونيالية في أميركا الوسطى والجنوبية وفي الشرق الأقصى. وكي تضمن الولايات المتحدة استغلال السوق الداخلي من قبل طبقتها المسيطرة عبر نظام جمركي، وإذ تترك بذلك أوروبا القارية تواجه مصيرها عبر ممارسة تفوقها الاقتصادي في بناء السفن الحربية، فإنها تجبر القوى الأخرى الامبريالية على القبول باتفاق واشنطن لنزع السلاح. لقد دمرت بذلك أحد الأسس الأكثر أهمية لعمل فرساي وهو: التفوق البحري لإنجلترا، وهكذا لم يعد من معنى لبقاء هذه الأخيرة في تجمع القوى المنصوص عليه في واشنطن.
اليابان والمستعمرات
تقف اليابان، القوة العالمية الامبريالية الأكثر فتوة، خارج الفوضى الأوروبية التي خلقتها معاهدة فرساي. ولكن مصالحها قد أصيبت بشدة بفعل تطور الولايات المتحدة إلى قوة عالمية. لقد أجبرت في واشنطن على فك تحالفها مع إنجلترا، الأمر الذي دمر أيضاً إحدى القواعد الهامة لتقسيم العالم المصنوع في فرساي. وفي الوقت نفسه، لا تنتفض الشعوب المضطهدة فقط سيطرة إنجلترا واليابان، بل تسعى مستعمرات الاستيطان لضمان مصالحها عن طريق تقارب مع الولايات المتحدة، في الصراع وشيك الوقوع بين الولايات المتحدة واليابان. وهكذا يتهاوى إطار الامبريالية الإنجليزية أكثر فأكثر.
نحو حرب عالمية جديدة
إن محاولات القوى العظمى الامبريالية خلق قاعدة دائمة لسيطرتها العالمية قد فشلت بشكل مثير للرثاء أمام مصالحها المتناقضة. ودمر عمل السلام الكبير. وتسلح الدول الكبرى دولها التابعة بهدف حرب جديدة. والنزعة العسكرية أقوى مما في أي وقت مضى، ومهما خشيت الامبريالية بقلق من ثورة بروليتارية جديدة على أثر حرب عالمية، فإن القوانين الداخلية للنظام الاجتماعي الرأسمالي تدفع إلى صراع عالمي جديد بشكل لا يقاوم.
أهداف الأحزاب الشيوعية
تسعى الأمميتان 2 و 2,5 جهدهما لدعم التيار الراديكالي في البرجوازية، الذي يمثل قبل كل شيء مصالح الرأسمال التجاري والمصرفي في صراعه العاجز من أجل إلغاء التعويضات. وكما في كل المسائل فإنهما تسيران بهذه المسألة مع البرجوازية. إن مهمة الأحزاب الشيوعية، وبشكل خاص أحزاب البلدان المنتصرة، هي أن توضح للجماهير أن عمل سلام فرساي يرمي كل الأعباء عن كاهل البروليتاريا، سواء في البلدان المنتصرة أو في البلدان المهزومة، وأن البروليتاريين في كل البلدان هم ضحاياه الحقيقيون. على هذا الأساس، ينبغي أن تخوض الأحزاب الشيوعية في ألمانيا وفرنسا قبل غيرهما، نضالاً مشتركاً ضد معاهدة فرساي.
ينبغي أن يناضل الحزب الشيوعي الفرنسي بك قواه ضد الميول الامبريالية لبرجوازيته الخاصة، وضد محاولتها الاغتناء عن طريق الاستغلال المتزايد للبروليتاريا الألمانية، وضد احتلال حوض الروهر، وضد تجزئة ألمانيا، وضد الإمبريالية الفرنسية. فلا يكفي اليوم أن تتم محاربة ما يسمى بالدفاع عن الوطن: يجب النضال خطوة خطوة ضد معاهدة فرساي.
إن واجب الأحزاب الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا وبولندا والبلدان الأخرى التابعة لفرنسا، هو ربط النضال ضد برجوازيتها الخاصة بالنضال ضد الامبريالية الفرنسية. وينبغي أن توضح للروليتاريا الفرنسية والألمانية، عن طريق تحركات جماهيرية مشتركة أن محاولة تنفيذ معاهدة فرساي تحول البروليتاريا في البلدين ومعها البروليتاريا في أوروبا بأكملها، إلى البؤس المدقع.
موضوعات حول العمل الشيوعي في الحركة النقابية
أولاً: وضع الحركة النقابية
1ـ في مجرى العامين الأخيرين، اللذين تميزا بالهجمة الكونية لرأس المال، ضعفت الحركة النقابية بشكل ملموس في جميع البلدان. وعدا استثناءات نادرة (ألمانيا، النمسا)، فقدت النقابات عدداً كبيراً من أعضائها. ويفسر هذا التراجع في آن بالهجمات الواسعة للبرجوازية وبعجز النقابات الإصلاحية، وليس فقط عن حل المسألة الاجتماعية، بل أيضاً عن مقاومة الهجمة الرأسمالية وعن الدفاع عن مصالح الجماهير العمالية الأكثر أولية بشكل جدي.
2ـ وإزاء هذه الهجمة الرأسمالية من جهة، وهذا التعاون الطبقي المستمر من جهة ثانية، تحررت الجماهير العمالية أكثر فأكثر من الأوهام. ومن هنا ليس فقط محاولاتها خلق تجمعات جديدة، بل أيضاً تشتت عدد كبير من العمال الواعين الذين تركوا منظماتهم. إن النقابة توقفت عن أن تكون بالنسبة للكثيرين بؤرة للتحريض، لأنها لم تعرف وفي حالات كثيرة لم ترد إيقاف هجمة رأس المال والحفاظ على المواقع. إن عقم الإصلاحية قد ظهر بصورة بديهية في الممارسة.
3 ـ تحمل الحركة النقابية، في جميع البلدان، طابع عدم استقرار عميق؛ فمجموعات عديدة من العمال لا تتوقف عن الانفصال عنها، فيما يواصل الإصلاحيون سياستهم للتعاون الطبقي بشكل مثابر، تحت حجة «استخدام رأس المال لصالح العمال». وفي الواقع، استمر رأس المال باستخدام المنظمات لأجل مصالحه عبر تحويلها إلى شريكة في خفض مستوى معيشة الجماهير. إن الحقبة المنصرمة عززت بشكل خاص الأواصر القائمة سابقاً بين الحكومات والقادة الإصلاحيين، وكذلك إخضاع مصالح الطبقة العاملة لمصالح قادتها.
ثانياً: هجمة أمستردام ضد النقابات الثورية
4 ـ في اللحظة نفسها التي كان القادة المضادون للثورة يستسلمون فيها للضغط البرجوازي على طول الخط، كانوا يخوضون هجمتهم ضد العمال الثوريين.
وإذا رأوا أن نيتهم السيئة في تنظيم مقاومة ضد رأس المال قد أحدثت تخمراً عميقاً في الجماهير العمالية، وإذا صمموا على تطهير المنظمات من العدوى الثورية، خاضوا ضد الحركة النقابية الثورية هجمة حسب الأصول تتجه لتفتيت الأقلية الثورية ولإحباطها بكل الوسائل التي يملكونها، ولتسهيل توطيد سيطرة الطبقة البرجوازية المزعزعة.
5 ـ لا يتردد قادة أممية أمستردام، من أجل الحفاظ على سلطتهم، في طرد، ليس فقط أفراد مجموعات صغيرة، بل منظمات بأكملها؛ فجماعة أمستردام لا يريدون، لقاء أي شيء في العالم، البقاء كأقلية، وهم مصممون في حالة التهديد من العناصر الثورية، أنصار الأممية النقابية الثورية والأممية الشيوعية، على التسبب بالانشقاق، شرط أن يستطيعوا المحافظة على مصادرتهم للجهاز الإداري والموارد المادية.
هكذا فعل قادة الاتحاد العام للشغل الفرنسي؛ وانخرط الإصلاحيون في تشيكوسلوفاكيا وقادة الاتحاد الوطني للنقابات الألمانية في الطريق نفسه. إن مصالح البرجوازية تفرض شق الحركة النقابية.
6ـ وفي الوقت نفسه الذي شنت فيه الهجمة الإصلاحية في مختلف البلدان كانت الهجمة نفسها تشن في العالم أجمع، وكانت الاتحادات الدولية المنتسبة لأمستردام تطرد الاتحادات الوطنية الثورية المقابلة طرداً منهجياً أو ترفض قبولها. وهكذا رفضت المؤتمرات الدولية لباطن الأرض، وللنسيج، والمستخدمين، وللجلود والفرو، ولشغيلة الغابات، والبناء والبريد والبرق والهاتف، قبول النقابات الروسية والنقابات الثورية الأخرى لأن هذه الأخيرة تنتمي إلى الأممية النقابية الحمراء.
7ـ إن حملة جماعة أمستردام هذه ضد النقابات الثورية هي تعبير عن حملة رأس المال العالمي ضد الطبقة العاملة. وهي تتبع الأهداف نفسها: توطيد النظام الرأسمالي على بؤس الجماهير الكادحة. إن الإصلاحية تستعجل نهايتها القريبة؛ فهي تريد، بمساعدة أعمال الطرد وشق العناصر الأكثر قتالية، إضعاف الطبقة العاملة إلى أقصى حد، لجعلها غير قادرة على الاستيلاء على السلطة وعلى وسائل الإنتاج والتبادل.
ثالثاً: الفوضويون والشيوعيون
8 ـ وفي الوقت نفسه، شن الجناح الفوضوي للحركة العمالية «حملة» مماثلة كلياً لحملة أمستردام ضد الأممية الشيوعية والأحزاب الشيوعية والأنوية الشيوعية في النقابات. وأعلن عدد من المنظمات الفوضوية ـ النقابية عداءه علناً للأممية الشيوعية وللثورة الروسية، على الرغم من انضمامه الاحتفالي للأممية الشيوعية عام 1920 وعرائضه التضامنية مع البروليتاريا وثورة أكتوبر.
هكذا، النقابات الإيطالية، والمحليون الألمان، والفوضويون ـ النقابيون في فرنسا، وهولندا والسويد.
9ـ وباسم الاستقلالية الذاتية للنقابات، طردت بعض المنظمات النقابية (الأمانة العمالية الوطنية في هولندا، والـ i. w.w، والاتحاد النقابي الايطالي، إلخ). أنصار الأممية النقابية الحمراء بشكل عام والشيوعيين بشكل خاص. وهكذا بعد أن كان شعار الاستقلالية الذاتية ثورياً للغاية أصبح شعاراً معادياً للشيوعية، أي معادياً للثورة ويتفق مع شعار أمستردام التي تقوم بالسياسة نفسها تحت راية الاستقلالية، علماً أنه ليس خافياً على أحد أنها تابعة كلياً للبرجوازية الوطنية والعالمية.
10 ـ لقد أدى عمل الفوضويون ضد الأممية الشيوعية والأممية النقابية الحمراء والثورة إلى تفكك صفوفهم الخاصة وانشقاقها. وتدخلت أفضل العناصر العمالية ضد هذه الإيديولوجية وانقسمت الفوضوية والفوضوية ـ النقابية إلى عدة مجموعات واتجاهات تخوض صراعاً ضارياً لصالح الأممية النقابية الحمراء أو ضدها، ولصالح ديكتاتورية البروليتاريا أو ضدها، ولصالح الثورة الروسية أو ضدها.
رابعاً: الحيادية والاستقلال الذاتي
11ـ يعكس تأثير البرجوازية على البروليتاريا نفس في نظرية الحيادية، التي ينبغي على ضوئها أن تحدد النقابات لنفسها أهدافاً نقابية حصراً، واقتصادية ضيقة وليس أهدافاً طبقية أبداً. لقد كانت الحيادية دائماً عقيدة برجوازية صرفة تخوض ضدها الماركسية الثورية نضالاً حتى الموت. إن النقابات التي تحدد لنفسها أي هدف طبقي، أي لا تهدف إلى إطاحة النظام الرأسمالي، هي، على الرغم من تشكيلها البروليتاري، أفضل المدافعين عن التنظيم والنظام البرجوازيين.
12ـ لقد جرى دائماً تشجيع فكرة الحيادية بواسطة هذه الحجة وهي أنه ينبغي أن تهتم النقابات العمالية بالمسائل الاقتصادية فقط دون أن تتدخل بالسياسة. إن لدى البرجوازية دائماً ميلاً لفصل السياسة عن الاقتصاد، إذ تفهم جيداً أنها إذا نجحت في إدخال الطبقة العاملة في الإطار النقابي فإن أي خطر جدي لا يهدد هيمنتها.
13ـ إن هذا الفاصل نفسه بين الاقتصاد والسياسة تخطه أيضاً العناصر الفوضوية في الحركة النقابية من أجل حرف الحركة العمالية عن الطريق السياسي، بحجة أن كل سياسة هي موجهة ضد الشغيلة. هذه النظرية البرجوازية بشكل محض في الواقع تقدَّم للعمال باعتبارها نظرية الاستقلالية الذاتية النقابية، وتُفهَم هذه الأخيرة على أنها معارضة من النقابات للحزب الشيوعي وإعلان حرب على الحركة العمالية الشيوعية.
14ـ يحدث هذا النضال ضد «السياسة والحزب السياسي للطبقة العاملة» انكماشاَ في الحركة العمالية وفي المنظمات العمالية، وكذلك حملة ضد الشيوعية، الوعي المركز للطبقة العاملة. إن الاستقلالية الذاتية بكل أشكالها، سواء كانت فوضوية أو فوضوية نقابية، هي عقيدة معادية للشيوعية وينبغي مواجهتها بالمقاومة الأكثر عزماً: فأفضل ما يمكن أن ينتج عن ذلك هو استقلالية ذاتية إزاء الشيوعية وعداء بين النقابات والأحزاب الشيوعية: عدا ذلك، إنها نضال النقابات الضاري ضد الحزب الشيوعي والشيوعية والثورة الاجتماعية.
15ـ إن نظرية الاستقلالية الذاتية، كما يعرضها الفوضويون النقابيون الفرنسيون، والإيطاليون والإسبان، هي بالحصيلة صرخة حرب الفوضوية ضد الشيوعية. وينبغي أن يخوض الشيوعيون داخل النقابات حملة حاسمة ضد هذه المناورة لتمرير البضاعة الرديئة الفوضوية بواسطة التهريب تحت راية الاستقلالية الذاتية، ولشق الحركة العمالية إلى أجزاء معادية الواحدة للأخرى ولإبطاء انتصار الطبقة العاملة وإعاقته.
خامساً: النقابية والشيوعية
16ـ تخلط الفوضوية ـ النقابية بين النقابات والنقابية إذ تمرر حزبها باعتباره المنظمة الوحيدة الثورية فعلاً والقادرة على خوض التحرك الطبقي للبروليتاريا حتى النهاية. إن النقابية التي تشكل تطوراً ضخماَ بالنسبة للتريديونيونية تنطوي مع ذلك على نواقص عديدة وجوانب مسيئة، يجب مقاومتها بالشكل الأكثر حزماً.
17ـ لا يستطيع الشيوعيون ولا ينبغي أن يتخلوا باسم المبادئ الفوضوية ـ النقابية المجردة عن حقهم في تنظيم «أنوية» داخل النقابات مهما كان توجه هذه النقابات. وهذا الحق لا يمكن لأحد أن ينتزعه منهم. وبديهي أن ينسق الشيوعيون، إذ يناضلون داخل النقابات، عملهم مع عمل النقابات التي استفادت من تجربة الحرب والثورة.
18ـ ينبغي أن يتكفل الشيوعيون بالمبادرة لخلق تكتل مع العمال الثوريين، من اتجاهات أخرى، داخل لنقابات. إن «النقابيين الشيوعيين»، الذين يعترفون بضرورة ديكتاتورية البروليتاريا ويدافعون عن مبدأ الدولة العمالية ضد الفوضويين ـ النقابيين، هم الأقرب إلى الشيوعية. غير أن تنسيق الأعمال يفترض تنظيماً للشيوعيين. إن عملاً معزولاً وفردياً للشيوعيين لا يمكن أن ينسق مع كائن من كان، لأنه لا يمثل أي قوة جديدة.
19ـ وإذ يحقق الشيوعيون مبادئهم بالشكل الأكثر نشاطاً والأكثر منطقية، عبر محاربة نظريات الاستقلالية الذاتية وفصل السياسة عن الاقتصاد، وهي فكرة فوضوية مسيئة جداً للتطور الثوري للطبقة العاملة، عليهم أن يبذلوا جهدهم داخل لنقابات من كل الاتجاهات، لتنسيق عملهم، في النضال ضد الإصلاحية واللغو الفوضوي ـ النقابي، مع كل العناصر الثورية الداعمة لإطاحة الرأسمالية ولدكتاتورية البروليتاريا.
20ـ يصوغ الشيوعيون في البلدان حيث يوجد منظمات هامة نقابية ـ ثورية (فرنسا) وحيث تحت تأثير سلسلة كاملة من الأسباب التاريخية، تستمر الريبة إزاء الأحزاب السياسية في بعض شرائح العمال الثوريين، يصوغون في أماكن تواجدهم وبالاتفاق مع النقابيين، أشكال وأساليب النضال المشترك والتعاون في كل الأعمال الدفاعية والهجومية ضد رأس المال، انسجاماً مع خصوصيات البلد والحركة العمالية المعنية.
سادساً: النضال من أجل الوحدة النقابية
21ـ ينبغي أن يطبق شعار الأممية الشيوعية (ضد الانشقاق النقابي) بحيوية أكثر من السابق، على الرغم من المضايقات العنيفة التي يفرضها الإصلاحيون في جميع البلدان على الشيوعيين. يريد الإصلاحيون إطالة الانشقاق عبر أعمال الطرد. وإذ يطردون أفضل العناصر في النقابات بشكل منظم، يأملون إفقاد الشيوعيين برودة أعصابهم، وإخراجهم من النقابات وجعلهم يتخلون عبر إعلان دعم الانشقاق عن الخطة التي جرى التفكير فيها بعمق حول كسب النقابات من الداخل. غير أن الإصلاحيين لن يتمكنوا من الوصول إلى هذه النتيجة.
22ـ يمثل انشقاق الحركة النقابية، خاصة في الظروف الحالية، الخطر الأكبر على الحركة العمالية بمجملها. إن الانشقاق داخل النقابات العمالية يدفع بالطبقة العاملة سنوات عديدة إلى الوراء، لأن البرجوازية تتمكن عندئذٍ من استعادة المكاسب الأكثر أولية للعمال بسهولة. وينبغي أن يحول الشيوعيون دون الانشقاق النقابي مهما كلف الثمن. وينبغي أن يعيقوا بكل وسائل منظمتهم وكل قواها، الاستخفاف الإجرامي الذي يكسر به الإصلاحيون الوحدة.
23ـ ينبغي أن يناضل الشيوعيون بشكل منظم في البلدان حيث يوجد اتحادان نقابيان وطنيان (اسبانيا، فرنسا، تشيكوسلوفاكيا، إلخ). من أجل اندماج المنظمات المتوازنة. ونظراً لهدف دمج النقابات المنشقة حالياً هذا، ليس عقلانياً أن يتم نزع الشيوعيين المعزولين والعمال الثوريين من النقابات الإصلاحية، عبر تحويلهم إلى النقابات الثورية. لا ينبغي أن تبقى أي نقابة إصلاحية محرومة من خميرة شيوعية. إن عملاً نشطاً للشيوعيين في النقابتين هو شرط لإعادة بناء الوحدة المهدمة.
24ـ إن حماية الوحدة النقابية، كما إعادة بناء الوحدة المهدمة، أمران غير ممكنين إذا لم يضع الشيوعيون في الصدارة برنامجاً عملياً لكل بلد ولكل فرع صناعي؛ فعلى أرضية عمل عملي، ونضال عملي، نستطيع تجميع العناصر المشتتة للحركة العمالية وخلق الشروط الخاصة لضمان وحدتها العضوية في حالة الانشقاق النقابي. ينبغي أن يضع كل شيوعي نصب عينيه أن الانشقاق النقابي ليس تهديداً للمكاسب المباشرة للطبقة العاملة فحسب، ولكنه أيضاً تهديد للثورة الاجتماعية. ينبغي خنق محاولات الإصلاحيين شق النقابات، بشكل جذري؛ والحال أنه لا يمكن بلوغ ذلك إلا بعمل تنظيمي وسياسي نشط داخل الجماهير العمالية.
سابعاً: النضال ضد طرد الشيوعيين
25ـ يهدف طرد الشيوعيين إلى إثارة الفوضى في الحركة الثورية عبر عزل قادة الجماهير العمالية، وهكذا لا يمكن أن يكتفي الشيوعيون بأشكال وأساليب النضال التي طبقت حتى الساعة الراهنة. لقد وصلت الحركة النقابية العالمية إلى لحظتها الأكثر دقة وهاجت الإرادة الانشقاقية لدى الإصلاحيين، فيما تأكدت أرادتنا في حماية الوحدة النقابية، عبر وقائع عديدة، وينبغي أن يظهر الشيوعيون في المستقبل، عملياً أيضاً، الأهمية التي يعلقونها على وحدة الحركة النقابية.
26ـ كلما أصبح الخط الانشقاقي لأعدائنا صريحاً كلما وجب إبداء الحزم في وضع مشكلة الوحدة العمالية في الصدارة. لا ينبغي نسيان أي مشغل، وأي مصنع، وأي اجتماع عمالي؛ ينبغي أن يسمع الاحتجاج على تكتيك أمستردام في كل مكان. يجب أن تطرح مشكلة الانشقاق النقابي أمام كل نقابي، ويجب أن تطرح ليس فقط في اللحظة التي يكون فيها الانشقاق محدقاً، بل كذلك ما أن يكون بالكاد بُدئ به. وينبغي أن توضع مسألة طرد الشيوعيين من الحركة النقابية على جدول أعمال الحركة بمجملها في كل بلد معني. إن الشيوعيين أقوياء كفاية بحيث لا يتم خنقهم دون أن يقولوا كلمة. وينبغي أن تعرف الطبقة العاملة من يدعم الانشقاق ومن يدعم الوحدة.
27ـ إن طرد شيوعيين بعد انتخابهم إلى مناصب نقابية عبر منظمات محلية لا ينبغي أن يثير احتجاجات ضد العنف الممارس إزاء إرادة المنتخبين فحسب؛ فهكذا طرد ينبغي أن يحدث مقاومة منظمة حاسمة جداً. ولا ينبغي أن يبقى الأعضاء المطرودون مشتتين. وتقوم المهمة الأكثر أهمية للأحزاب الشيوعية على عدم السماح للعناصر المطرودة بالتشتت. ينبغي أن تنظم في نقابات للمطرودين عبر وضع برنامج ملموس في صلب عملها، وفرض إعادتها من جديد.
28ـ إن النضال ضد أعمال الطرد هو في الواقع نضال من أجل وحدة الحركة النقابية. وهنا كل الإجراءات جيدة، كل الإجراءات التي تؤدي إلى إعادة بناء الوحدة المهدمة. لا ينبغي أن يبقى المطرودون معزولين ومقطوعين عن كل المعارضة، طالما أن هناك منظمات ثورية مستقلة في البلد المعني، بغية التنظيم المشترك للنضال ضد أعمال الطرد ولتنسيق العمل في النضال ضد رأس المال.
29ـ يمكن وينبغي أن تُستكمل الإجراءات العملية للنضال وتُعدَّل انسجاماً مع الظروف والخصوصيات المحلية. ومن المهم أن تتخذ الأحزاب الشيوعية بوضوح موقفاً قتالياً معادياً للانشقاقية، وتقوم بكل ما في وسعها لإفشال سياسة الطرد التي تعززت بشكل ملموس بالارتباط مع بداية اندماج الأمميتين 2 و 2,5. ليس هناك وسائل وأساليب شاملة ونهائية في النضال ضد الطرد. من هذه الناحية يمكن الشيوعيين أن يناضلوا بالوسائل التي يرون أنها الأفضل من أجل الوصول إلى هذا الهدف: كسب النقابات وإعادة بناء الوحدة النقابية المهدمة.
30ـ ينبغي أن يطور الشيوعيون النضال الأكثر حيوية ضد طرد النقابات الثورية من داخل الاتحادات العالمية للصناعة. لا يمكن ولا ينبغي أن تبقى الأحزاب الشيوعية متفرجة سلبية على طرد النقابات الثورية لسبب وحيد، وهو أنها ثورية. ويجب أن تجد اللجان الدعاوة العالمية للصناعة، التي أنشأتها الأممية النقابية الثورية، الدعم الأكثر نشاطاً من جانب الأحزاب الشيوعية، بشكل يجمع كل القوى الثورية الموجودة بهدف النضال من أجل الاتحادات العالمية الواحدة للصناعة. وينبغي أن يخاض هذا النضال بأكمله تحت راية قبول كل النقابات، دون تمييز بين الميول، ودون تمييز بين الاتجاهات السياسية، في منظمة عالمية واحدة للصناعة.
خلاصة
إن المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية إذ يواصل طريقه نحو كسب النقابات والنضال ضد السياسة الانشقاقية، يعلن بشكل احتفالي إنه في كل المرات التي لا تلجأ فيها جماعة أمستردام إلى أعمال الطرد، وفي كل المرات التي تتيح فيها للشيوعيين إمكانية النضال إيديولوجياً من اجل مبادئهم داخل النقابات، فإن الشيوعيين يناضلون كأعضاء منضبطين في صفوف المنظمة الواحدة، ويعلن المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية أنه ينبغي أن تبذل جميع الأحزاب الشيوعية كل جهدها لمنع الانشقاق في النقابات، وينبغي أن تقوم بكل ما يتوجب عليها من أجل إعادة بناء الوحدة النقابية المهدمة في بعض البلدان، والفوز بانتساب الحركة النقابية في بلدانها الخاصة إلى الأممية النقابية الحمراء.
_____________
– الإشراف العام على التدقيق والمراجعة والتصحيح والتنضيد الإلكتروني منيف ملحم
– مراجعة فيكتوريوس بيان شمس بالتعاون مع صفحة التراث الأممي الثوري
– نقله إلى العربية لينا عاصي
– راجع الترجمة ودقّقها كميل قيصر داغر
لمراجعة الفصل السابق يرجى الدخول من خلال الرابط أدناه:
(22) المؤتمرات العالمية الأربعة الأولى للأمميـــــــــــة الشيوعيــــــــــــــة