حق المقاومة الأوكرانية في مطالبة كافة الحكومات بتسليحها
نشر “المكتب السياسي للأممية الرابعة” (التسمية الحالية للتيار المعروف باسم الأمانة العامة الموحدة للأممية الرابعة)، مؤخرا، بيانا حول الحرب في أوكرانيا. وقد وصف في بيانه الاجتياح الذي قام به الجيش الروسي بأمر من نظام فلاديمير بوتين بالـ “عدوان”، مؤكرا دعمه للمقاومة الأوكرانية في نضالها من أجل تقرير المصير واستقلال البلاد، ومنوّها بأن “أفضل السيناريوهات الممكنة” هو “دحر الغزو الروسي على يد الشعب الأوكراني”.
بقلم الكسندر إيتوربي
كما قامت بعض الشخصيات العامة من ذلك التيار السياسي برحلة تضامنية إلى أوكرانيا (كان من بينها، المرشح الرئاسي السابق للحزب الجديد المناهض للرأسمالية الفرنسي، أوليفييه بيسانسينوت)، باعتبارها جزءاً من الشبكة الأوروبية للتضامن مع أوكرانيا ومناهضة الحرب، وذلك بعد أيام قليلة من تسيير قافلة دعم المقاومة الأوكرانية، التي شارك فيها نقابيون ونشطاء من عدة دول، هي: البرازيل، وفرنسا، وإيطاليا، وبولندا، وليتوانيا، والنمسا (وكان من بينهم مناضلون من “الرابطة الأممية للعمال- الأممية الرابعة”)، وكذلك مناضلون من المقاومة الأوكرانية.
نحيي موقف هذه المنظمة الأممية الذي يضعنا في نفس الخندق في مواجهة هذه الحرب (خندق مقاومة الشعب الأوكراني)، ما يميزنا عن المنظمات اليسارية الأخرى التي تدعم عدوان بوتين، أو تلك التي “ليس لها موقف” في هذا الصراع.
في إطار هذه المصادفة المركزية، نريد، من جهة، أن نطور، بشكل رفاقي، النقاش حول توصيف السياق الدولي الذي تدور فيه هذه الحرب، ومن جهة أخرى تسليط الضوء على التناقضات، والغموض، وما يتم إغفاله عندما يجب أن تثار مسألة تسليح المقاومة، وهي قضية مركزية في الحرب.
ما هي روسيا بوتين اليوم؟
ينوّه البيان بأن هذه الحرب جاءت في سياق نزاع بين قطبين إمبرياليين (الناتو وروسيا)، بيد أنهما “يتجنّبان”، حتى الآن، “أية مواجهة مباشرة يمكن أن تؤدي إلى حرب إمبريالية داخلية”، حيث قد تكون مثل هذه الحرب، إن وقعت، “نتيجة لدوامة خرجت عن السيطرة”. سنعود لمسألة هذه الحرب الافتراضية فيما بعد، لكننا نريد أن نبدأ الآن من مناقشة مكان روسيا الحالي في “التسلسل الهرمي للأمم”، الذي تحدث عنه لينين في كتابه “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”، ودور نظام بوتين في هذا السياق.
خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح الاتحاد السوفياتي السابق ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، بقاعدة صناعية واسعة. وبعد استعادة الرأسمالية وتفكّك الاتحاد السوفياتي، تم تفكيك جزء كبير من القاعدة الصناعية الروسية (فقط “المجمع الصناعي العسكري” بقي على حاله). وباتت روسيا مصدرا رئيسيا للغاز والنفط، وبدرجة أقل، للحبوب والمعادن. لهذا السبب، عرّفت “نيويورك تايمز” هذا البلد بأنه “محطة وقود كبرى”. والأوليغارشية البرجوازية، التي يعبّر عنها نظام، بوتين هي المستفيد القومي الأكبر من هذا النموذج للتراكم الرأسمالي.
إنه نموذج يعتمد ماليا، بشكل كامل، على الإمبريالية الأوروبية (خاصة الألمانية)، فبدون تدفق الأموال من الاتحاد الأوروبي، سيتعرض الاقتصاد الروسي للانهيار. وتجدر الإشارة، على سبيل المثال، إلى أن الشركة الرئيسية في البلاد، وهي شركة غازبروم المصدرة للغاز، والتابعة للدولة، مدينة بما يتجاوز قيمتها الرأسمالية (شأنها شأن الشركات الكبرى الأخرى). بعبارة أخرى، فإن روسيا ليست دولة إمبريالية، بل دولة رأسمالية تعتمد على الإمبريالية بشكل كبير. وليس غريبا أن العقوبات الاقتصادية التي نتجت عن الغزو، رغم أنها لم تكن كافية، باتت تهز الاقتصاد الروسي بشدة.
في ذات الوقت، يتمتع نظام بوتين الديكتاتوري باستقلال سياسي نسبي، وبشكل أساسي، باستقلال عسكري. لذا، وباعتباره وكيلا لاعتماد روسيا المالي على الإمبريالية، وإلى جانب ذلك جزء من معسكر الثورة المضادة، فإن نظام بوتين، والقطاعات البرجوازية التي يعبر عنها، تطمح إلى الحفاظ على “منطقة نفوذ خاصة بها” في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وفي جزء من مناطق الكتلة الشرقية السابقة، كصربيا، حيث تريد أن تكون وسيطا لعملية تعميق الهيمنة الإمبريالية.
لكن روسيا لا تمتلك اليوم القوة الاقتصادية للقيام بذلك “بالحسنة أو بالسيئة”. لذا، كان على بوتين أن يعتمد، بشكل متزايد، على قمع الأنظمة المتحالفة معه، وخوض العمليات العسكرية. على سبيل المثال، كان عليه التدخل لإنقاذ نظامي بيلاروس وكازاخستان من الصيرورات الثورية التي واجهاهما.
إن غزو أوكرانيا (كدولة متنازع عليها) يتناسب مع هذه الحاجة، بمعنى أنه استمرار للرد على ثورة الميدان الديمقراطية (2013- 2014 )، التي أطاحت بنظام فيكتور يانوكوفيتش الحليف لموسكو، وأقامت نظاما ديمقراطيا برجوازيا. لذا، تم ضم شبه جزيرة القرم وإنشاء “جمهوريات” مصطنعة في لوهانسك ودونيتسك.
نعيد التأكيد على أننا لا نعتبر روسيا دولة إمبريالية، ولا نرى أن بوتين يشكك في دور بلاده في التقسيم العالمي للعمل، بل إنه بالأحرى يدافع عن فضائها باعتبارها وسيطا للهيمنة الإمبريالية. لكن ما تم احتماله وقبوله من قبل الإمبرياليتين الأمريكية والأوروبية في حالتي بيلاروس وكازاخستان، لم يعد كذلك في حالة أوكرانيا، وقد يكون هذا انتحارا.
ماذا لو قام الناتو بمهاجمة روسيا؟
كما رأينا، فإن هذا الاختلاف في توصيف روسيا لا يمنعنا من اتخاذ موقف مشترك من الحرب الحالية (دعم المقاومة الأوكرانية)، حيث تتفق كلتا المنظمتين على أن هناك دولة مضطهِدة معتدية (روسيا) وبلد يتعرض للاضطهاد والهجوم (أوكرانيا). ولكن سيكون لهذه الحرب أهمية مركزية في حال تغير طابعها، وتحولت إلى مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا، أي أن يقوم التحالف العسكري بمهاجمة هذا البلد.
بالنسبة لنا، ينبغي في تلك الحالة الدفاع عن روسيا، لأن ذلك سيعني قيام الناتو الإمبريالي بمهاجمة دولة أضعف وأقل استقلالية (روسبا). بعبارة أخرى سنكون مع هزيمة الناتو. بل أبعد من ذلك، بما أن بيان “المكتب السياسي للأممية الرابعة” وصف مثل هذه الحرب بأنها “حرب إمبريالية داخلية”، فإن الموقف الذي ينبغي اتخاذه هو “الانهزامية الثورية”، الذي نادى به لينين في مواجهة الحرب العالمية الأولى، حيث كانت “هزيمة الإمبريالية بحد ذاتها هي أهون الشرين”، لذا، وجه الحزب البلشفي الروسي إلى تحويل الحرب الإمبريالية الداخلية إلى حرب طبقية ثورية.
كما يعارض البيان “أي تصعيد يمكن أن يحول هذه الحرب إلى مواجهة إمبريالية داخلية مباشرة”. هذا هو الموقف الذي ينبغي اتخاذه، في إطار التوصيف الذي قدمه البيان، وفي اللحظة الحالية للحرب في أوكرانيا، لكنه يغفل تحديد موقف ثوري واضح إذا وقعت مثل هذه الحرب الافتراضية.
قضية جوهرية: التسليح
على أي حال، هذا الأمر ستكون له أهميته في المستقبل فقط. لذا، نعتقد أن الأهم من ذلك هو غياب مسألة أخرى في البيان: عدم وجود إجابة عن كيفية حصول المقاومة الأوكرانية على السلاح، وهي قضية أساسية في حرب نريد لأوكرانيا أن تفوز بها.
من ناحية أخرى، ينص البيان على ما يلي: “نؤيد حقهم في المقاومة، بما في ذلك المقاومة العسكرية، ونتعاطف معهم في اتخاذهم لهذا القرار. إننا ندافع عن حقهم في تسليح أنفسهم، وبالتالي حقهم في الحصول على الأسلحة اللازمة لمقاومة جيش أكثر قوة”.
السؤال الذي يطرح نفسه على الفور هو ما هي الجهة التي “يحق للمقاومة الأوكرانية أن تستلم منها السلاح”، أو بعبارة أخرى، لمن يحق لها أن تتوجه بطلب تسليحها؟ وارتباطا بهذا، يطرح سؤال آخر نفسه: ما هي السياسة التي على المنظمات الثورية تبنيها تجاه الحكومات التي يمكن أن توفر هذه الأسلحة؟
حول هذه النقطة، يدخل المكتب السياسي للأممية الرابعة في تناقض عميق. فهو من جهة، يشير إلى أن المقاومة الأوكرانية “تلقت شحنات من الأسلحة والمساعدات الإنسانية والمعلومات الاستخباراتية من دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي”، وأن هذه المساعدات أسهمت في “النجاحات الأولى لهذه المقاومة” وزادت “الآمال الأوكرانية في هزيمة المعتدي الروسي “. ومن ناحية أخرى، يشجب في ذات الوقت “الهدف الواضح لقادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتحويل الحرب إلى ما يناسب مصالحهم الخاصة […] أي أنهم يعتزمون استخدام ساحة المعركة الأوكرانية لتحقيق أهدافهم الجيوسياسية”.
هذه الطريقة في التعامل مع مسألة التسليح تنتهي بوضع المنظمة في طريق مسدود: كيف يمكن دعم حق المقاومة الأوكرانية في تسليح نفسها إذا كانت حكومات الدول التي يمكنها تزويدها بالسلاح (أعضاء الناتو) تنوي استخدام هذه المقاومة من أجل “أهدافها الجيوسياسية” الإمبريالية؟
كان جواب البيان هو التزام الصمت. لهذا السبب، في الجزء الذي يقترح فيه المهام لعمال وجماهير البلدان الأخرى خارج أوكرانيا وروسيا (خاصة أولئك في دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، حيث يمتلك “المكتب السياسي للأممية الرابعة” أكبر قدر من القوى) لا يقول كلمة واحدة حول مسألة تسليح المقاومة الأوكرانية. إنه يعبّر عن “دعم المقاومة المسلحة”، وكل “المبادرات التي تسهم في تعزيزها”، لكنه يصر على عدم إيراد كلمة واحدة حول كيفية حصول هذه المقاومة على ما يلزمها من سلاح.
إذا كان البيان يلتزم الصمت، في الغالب، حول هذه القضية الرئيسية، فإن جيلبر الأشقر (أحد المراجع لهذه المنظمة في مسائل السياسة الدولية) يعبّر بشكل أكثر وضوحاً عن الموقف الأساسي وراء هذا الغياب. في مقال نُشر مؤخراً ، قال: “إن الشعب الأوكراني يخوض حرباً عادلة ضد غزو إمبريالي وبالتالي يستحق دعمنا”. ومع ذلك، يضيف أن الشعب الأوكراني “ليس له الحق في إشراك الدول الأخرى بشكل مباشر في دفاعهم الوطني: ليس لديهم الحق في مطالبة الناتو … بإرسال الأسلحة والمعدات التي من المحتمل أن توسع نطاق الحرب. إنه يستحق دعمنا، لكن هذا ليس أكثر من التزام أخلاقي.
بهذه الطريقة، يزيل الأشقر التناقض الذي أشرنا إليه، حيث يعتبر أن المقاومة الأوكرانية عادلة، ولكن ليس لها الحق في طلب السلاح من حكومات الدول الأخرى، لموازنة التفاوت العسكري الهائل في مواجهة الجيش الروسي. وهكذا، فإن الدعم الذي يقترحه الأشقر هو مجرد دعم “أخلاقي”، أي أنه يقتصر على الكلام، أو التظاهر في البلدان الأخرى، أو إرسال الوفود التضامنية. لكن فيما يتعلق بالمسألة الرئيسية، أي التسليح، فمفاد رسالته أن القضية المركزية لم تعد هي انتصار المقاومة الأوكرانية، وإنما منع “اتساع نطاق الحرب”.
ما هو الموقف الثوري الذي ينبغي اتخاذه فيما يتعلق بمسألة التسليح؟
إن منطقنا السياسي واستنتاجاته مختلفان للغاية، حيث ننطلق من اعتبار أننا نتعامل مع حرب ندعم أحد طرفيها بلا تردد: مقاومة شعب يقاتل عدوه في ظل ظروف غير متكافئة. وهكذا، يتضح إثر ذلك أن مسألة التسليح والإمدادات العسكرية باتت قضية مركزية من أجل تجسيد هذا الدعم.
لهذا السبب، وكما ورد في العديد من البيانات الصادرة عن الرابطة الأممية للعمال- الأممية الرابعة، فإننا ندعم بفاعلية جهود الأوكرانيين للحصول على السلاح والإمدادات اللازمة للدفاع عن أنفسهم. في هذا الإطار، نعتقد أنه من الصواب تماما القيام بالتحشيد لمطالبة كافة الحكومات (بما فيها حكومات الدول الأعضاء في الناتو) بتسليم السلاح وكل المواد اللازمة (من ذخيرة وأغذية وأدوية) للمقاومة الأوكرانية بشكل مباشر ودون أي شروط.
نريد تجنب الجدل الزائف، فنحن نعارض تماما دخول الناتو في الصراع، ونطالب بحله، كما نندد “بسباق التسلح” الذي تطوره العديد من الدول الأعضاء، كألمانيا. ما نقوله هو أنه لا بد من مطالبة هذه الحكومات، عوضا عن تعزيز أدواتها العسكرية الإمبريالية بشكل متزايد، بتسليم أسلحتها إلى المقاومة الأوكرانية بشكل مباشر وغير مشروط.
في الظرف الحالي، نرى أن هذه مهمة أساسية يتوجب طرحها في كل أرجاء العالم، ولاسيما في البلدان الإمبريالية والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، فهذه هي الطريقة الملموسة، ليس فقط لدعم المقاومة الأوكرانية في كفاحها ضد الغزو الروسي، بل أيضا لمحاربة الناتو بعمق. ولكن خلافا لذلك، كان موقف كل من “المكتب السياسي للأممية الرابعة”، وجيلبر الأشقر، ينتهي بهما المطاف إلى تفضيل التفوق العسكري الروسي، من جهة، ويضع القتال ضد الناتو في إطار تجريدي تماما (“أخلاقي”، كما يقول الأشقر)، من جهة أخرى.
تقاليد التروتسكية
استنادا إلى هذا الموقف المتمثل في حق المقاومة الأوكرانية في طلب السلاح من حكومات البلدان الأخرى، من ناحية، والتزام الثوار في تلك الدول بدعم هذا المطلب، من ناحية أخرى، فإننا، ببساطة، نتبع التقليد التروتسكي، طالما أننا حددنا أن هناك “حربا عادلة” تدور رحاها.
من المعروف تماما أنه خلال الحرب الأهلية الإسبانية، أشاد تروتسكي بقرار حكومة لازارو كارديناس المكسيكية، المتعلق بإرسال السلاح إلى الحكومة الجمهورية التي تقاتل ضد قوات فرانشيسكو فرانكو (وقد كانت الدولة الوحيدة في العالم، خارج إطار الاتحاد السوفياتي، التي فعلت ذلك). في تلك السنوات نفسها، وفي جدال مع تيار حزب الشعب الاشتراكي الأمريكي، الذي رفض دعم نضال الحركة الجمهورية ضد فرانكو آنذاك، استخدم تروتسكي مثالا لباخرتين افتراضيتين تغادران من الولايات المتحدة، أو من فرنسا، بعد تحميلها بالأسلحة، باتجاه إسبانيا، إحداهما متجهة إلى الحكومة الجمهورية، والأخرى لقوات فرانكو. وقام بطرح السؤال التالي: ما هو الموقف الذي ينبغي على العمال [في تلك البلدان الإمبريالية] اتخاذه؟ وقد كانت إجابته واضحة للغاية: مقاطعة الباخرة المتجهة إلى قوات فرانكو، والسماح لتلك المتجهة إلى الحكومة الجمهورية بالعبور.
استمرارا لموقفه خلال الحرب الأهلية الإسبانية، أشاد تروتسكي بمقال لأحد أمنائه، ردولف كليمنت، بعنوان: “المبادئ والتكتيكات في الحرب”، واصفا إياه بالمقال “الممتاز”، وقد ساعد في تحرير نسخته النهائية. وقد جاء في ذلك المقال: “في الدول الإمبريالية المتحالفة مع البلدان التي تشن حروبا تقدمية وثورية، يتلخص كل شيء في التالي: أن تكافح البروليتاريا بوسائل ثورية من أجل إيصال الدعم العسكري المباشر والفعال، تحت رقابتها، في سبيل القضية التقدمية (كان العمال الفرنسيون يهتفون: “الطائرات لإسبانيا!”). في كل الحالات، على البروليتاريا أن تشجع على ضمان الدعم العسكري الحقيقي والمباشر، تحت رقابتها، (من سلاح، وذخيرة، وطعام، وأخصائيين.. إلخ)، حتى وإن كانت كلفة ذلك “استثناء” الصراع الطبقي المباشر.
المسألة واضحة للغاية: في “الحروب التقدمية” يحق للعمال في البلدان الإمبريالية المطالبة “بالدعم العسكري المباشر والفعال من أجل القضية التقدمية”. في هذا الإطار، تكون القضية قضية نضال “بالوسائل الثورية” حتى تتمكن البروليتاريا من التحكم في هذه العملية. بيد أن السياسة التي اقترحها “المكتب السياسي للأممية الرابعة” وجيلبر الأشقر لا علاقة لها بتلك التي صاغها كليمنت وتروتسكي.
حول “توسيع نطاق الحرب”
في الواقع، لقد قاموا بتحويل تركيز سياستهم من الدعم الحقيقي للمقاومة الأوكرانية إلى الحيلولة دون “اتساع نطاق الحرب”. ماذا يعني هذا التصور؟ نتخيل أنه لا يعني أنهم ضد قيام المقاومة الأوكرانية بشن هجمات خارج أراضيها على قواعد إمدادات ودعم جيش الاجتياح، والواقعة في الأراضي الروسية، أو بمهاجمة نظام الصواريخ الذي يستهدف أوكرانيا، والذي نصبه بوتين في بيلاروس.
إننا نفسر ذلك على أنه يشير إلى تغير طبيعة الحرب على الأراضي الأوكرانية نفسها، ما يعني أنها لن تبقى حرب تحرير عادلة، بل ستتحول إلى حلقة من حرب إمبريالية داخلية بين الناتو وروسيا. الفكرة الأساسية في نص الأشقر هي أنه بإرسال السلاح للمقاومة الأوكرانية من قبل حكومات الدول الأعضاء في الناتو، فإن هذا التغيير سيحدث بالفعل، وبالتالي، يجب معارضته (أو على الأقل عدم دعمه).
لقد سبق وأن لفتنا إلى معيار كليمنت – تروتسكي بشأن مسألة التسليح هذه. لكن هناك جدلا شبيها جدا بهذا النقاش، حيث اتخذت الأممية الرابعة (بعد وفاة تروتسكي) موقفا فيما يتعلق بالحرب الصينية اليابانية. بدأت تلك الحرب قبل الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في عام 1937، عندما قام الجيش الياباني بغزو واحتلال العديد من الأراضي الصينية، حيث تمت مواجهة الغزو من قبل المقاومة الوطنية الصينية التي عبرت عن ذاتها في جانبين مختلفين: جيش الحكومة الجمهورية البرجوازية، بقيادة الجنرال شيانغ كاي تشيك، وجيش الفلاحين الشيوعيين، بقيادة ماو تسي تونغ. وكان تفوق التسلح الياباني عظيما للغاية. وقد كتب تروتسكي في ذلك الوقت: “إذا كانت هناك حرب عادلة في العالم، فهي حرب الشعب الصيني ضد مضطهديه”.
عام 1939 بدأت الحرب العالمية الثانية. وبعد الهجوم على قاعدة بيرل هاربور الأمريكية في هاواي (7 كانون الثاني 1941)، أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا الحرب على الإمبراطورية اليابانية، وانضمت الحكومة الصينية إلى الحلفاء. وهكذا، جمع الواقع بين حرب التحرير الصينية والحرب الإمبريالية الداخلية في شرق المحيط الهادئ. وقد بدأت الولايات المتحدة في إرسال الأسلحة والإمدادات إلى الصين، وتدريب ضباط جيش شيانغ كاي تشيك، ما أدى إلى تحسين قدرته العسكرية، وسمح له بالبدء في شن بعض الهجمات. إضافة إلى ذلك، شاركت القوات الصينية في استعادة بورما مع القوات البريطانية والأمريكية.
في هذا الإطار، نشأ في الولايات المتحدة نقاش بين حزب العمال الاشتراكي (فرع الأممية الرابعة) وبعض القادة الذين انفصلوا عن الحزب قبل بضع سنوات من ذلك. وقد جادل هؤلاء بأنه بعد انضمام حكومة شيانغ البرجوازية إلى الحلفاء، الذين دعموها عسكريا، لم يعد الأمر مجرد حرب تحرير عادلة، بل بات يتعلق بجبهة أخرى في الحرب الإمبريالية الداخلية، وبالتالي، كان لا بد من اقتراح “الانهزامية الثورية” بالنسبة للأوضاع في الصين.
في مقال مطول يرد جون جي رايت (عضو اللجنة الوطنية لحزب العمال الاشتراكي)، نشر في مجلة الأممية الرابعة (نيسان 1942) على هذا الموقف. بعد تحليل سبب دعم تروتسكي والتروتسكيين للصين، استنادا إلى مواقف لينين، يعالج رايت معايير النظر فيما إذا كان طابع الحرب قد تغير بدعم الولايات المتحدة للصين:
“على أي شخص يعارض دعم حرب الصين ضد اليابان أن يثبت أولا أن الجانب الوطني في هذه الحرب ليس له أهمية جدية مقارنة بالتدخل المباشر من قبل حلفاء الصين “الإمبرياليين” […] كما أنه، لإثارة مسألة تغير طبيعة حرب الصين، من الضروري أولا إظهار أن ميزان القوى قد مال بلا شك لصالح الإمبرياليين. هذا هو جوهر الأمر برمته”.
أمام هذه المعايير، كان موقف رايت، وحزب العمال الاشتراكي، والأممية الرابعة واضحا تماما: حقيقة أن حكومة إمبريالية قامت بتقديم أسلحة وإمدادات (حتى مدربين ومساعدات دعم لوجستي) إلى القوات الصينية، لم تغير طابع حرب المقاومة الوطنية العادلة. كما أنها لم تغير حقيقة أن هذه الحرب كانت تدور رحاها بالتوازي مع الحرب الإمبريالية الداخلية شرق المحيط الهادئ. يستطيع “المكتب السياسي” استخدام اسم الأممية الرابعة والادعاء بأنه استمرار لها، ولكن الحقيقة أنه، منذ سنوات عديدة، تخلى عن أسسها النظرية والسياسية والبرامجية.
سياسة دول الناتو الحقيقية وتناقضاتها
حتى أن “المكتب السياسي” والأشقر لا يحللان، في الواقع، سياسة الولايات المتحدة، ودول أوروبا الإمبريالية، في هذه الحرب، ولا تناقضاتها (بين الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة، وألمانيا وفرنسا من جهة أخرى)، بشكل صحيح.
بعد استعادة الرأسمالية في أوروبا الشرقية، قبلت الإمبريالية الأمريكية بأن تكون القوى الأوروبية (بقيادة ألمانيا وفرنسا) هي المستفيد الرئيسي من شبه الاستعمار، وأن يكون لديها “تعايش سلمي” مع بوتين، الذي يزودها بحصة هامة من الغاز والنفط الذي تحتاج إليه.
جو بايدن غير هذه السياسة جذريا، حيث قام، في خطاب تنصيبه، بوضع المواجهة مع نظام بوتين كهدف دولي ثان، بعد الصين. وفي أعقاب غزو أوكرانيا، أعلن أنه “لا يمكن للرئيس الروسي البقاء في السلطة”. وقد كان هذا الموقف ردا على حقيقة أن بوتين ركل موضوع التعايش السلمي. لكننا نعتقد أنه يعبر أيضا عن مسألة أعمق بكثير، حيث أن قسماً من البرجوازية الإمبريالية الأمريكية يريد الدخول مباشرة في شبه استعمار أوكرانيا، وكذلك روسيا، دون وساطة ألمانيا والاتحاد الأوروبي، بل وحتى دون المرور عبر بوتين.
هذا الأمر أفضى إلى تناقضات هامة مع الإمبريالية الأوروبية، والتي بينتها الحرب في أوكرانيا بشكل واضح للغاية. رغم أنه كان هناك اتفاقا كاملا على عدم التدخل المباشر من قبل الناتو، نشأت خلافات حول مسألتي العقوبات الاقتصادية، وتزويد المقاومة بالسلاح، خاصة مع ألمانيا. وقد عكس الأمر استياء من سياسة بايدن المتعلقة بالدخول المباشر في عملية شبه استعمار أوروبا الشرقية، وفيما يتعلق باعتماد الاتحاد الأوروبي على إمدادات الغاز الروسية.
في هذا الإطار، دفع تصرف بوتين ألمانيا إلى الاقتراب أكثر من موقف بايدن – بوريس جونسون. لكن سياسة القطاع الأكثر تشددا في القوى الإمبريالية لا تتمثل في “توسيع نطاق الحرب”، بل في إمداد المقاومة الأوكرانية بالسلاح، بشكل محدود، لإطالة أمد هذه الحرب، من ناحية، وفي فرض عقوبات اقتصادية أشد، تؤدي إلى إرهاق بوتين، من ناحية أخرى.
إنهم لا يريدون انتصارا حاسما للمقاومة الأوكرانية، والذي من شأنه أن يثير أزمة حادة للغاية لدى نظام بوتين، ويتيح إمكانية سقوطه، بل ويفتح الباب لخطر اندلاع صيرورات ثورية، ليس فقط في أوكرانيا، ولكن أيضا في روسيا نفسها، دون أن يكون للإمبريالية الوقت لإجراء عملية استبدال منظمة. وسيكون لهذه الصيرورات أثرها على أوروبا الشرقية بأكملها، وأيضا على غرب القارّة.
هذا هو المنظور الذي نكافح في “الرابطة الأممية للعمال – الأممية الرابعة” استنادا إليه، والذي نصيغ سياستنا في إطاره. لهذا السبب، ووفقا لمعايير كليمنت – تروتسكي، ننادي في الولايات المتحدة، وفي البلدان الأوروبية الإمبريالية، بـ “المزيد من أفضل الأسلحة للمقاومة الأوكرانية”. وخلافا لهذا، فإن “المكتب السياسي للأممية الرابعة”، وفي الوقت الذي يؤكد فيه أن “أفضل سيناريو ممكن” هو “هزيمة المحتل الروسي على يد الشعب الأوكراني”، يقترح علينا سياسة تتآمر ضد هذه الإمكانية.
الشعب الأوكراني يقاتل ببسالة ضد الغزو الذي أمر به نظام بوتين، وفي مواجهة الفظائع التي يقوم بها. وقد ألحق به بالفعل هزائم كبرى. لقد بين أن آلة الحرب الروسية يمكن هزيمتها، وبالتالي هزيمة أحد أعوان الثورة المضادة الرئيسيين في العالم. وهذا هو السبب في أن نضال الشعب الأوكراني ليس فقط نضالا من أجل بلاده، حيث أن هزيمة نظام بوتين في هذا الغزو ستعطي دفعة عظيمة لنضال العمال والجماهير في المنطقة، وفي العالم بأسره. هذا، اليوم، هو نضال كافة عمال العالم.
ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس شمس