بقلم عصام شعبان
أثار المقاول ورجل الأعمال المصري، محمد علي، عبر تسجيلات متواترة على “فيسبوك”، جدلا واسعا في مصر، ليكون موضوعا عاما للنقاش، لم يرتبط وحسب بما تضمنته التسجيلات من اتهاماتٍ للسلطة ورجالها بالفساد وإهدار المال العام، ولكن قصة محمد علي نفسها بطابعها الشخصي والثأري جعلت منه حالةً حظيت بالاهتمام محليا، ثم المتابعة عربيا وعالميا. ومثلت حدثا سياسيا فارقا في مواجهة السلطة في مصر، عبر فردٍ كان ضمن زمرة المستفيدين منها، ثم قرّر الانشقاق عنها، غالبا لضغوطٍ قاهرةٍ عجّلت من حالة التحول. ولهذا تلقى أغلب المتابعين تسجيلاته باهتمام، لأن لديه تفاصيل طرحها بوصفها حقائق تستحق الكشف والفضح. وبحكم قربه ومشاركته في تنفيذ مشروعاتٍ إنشائيةٍ ضمن مشاريع مؤسسات الدولة المختلفة، تلقّى قطاعٌ كبيرٌ من الجمهور تسجيلاته، وما يطرحه بالتصديق، إلى جانب قطاع يستنكر مجمل ما يقول ويرفضه، غير قطاع ثالث محدود لا يرى في ما يقوله جديدا أو ذا أثر، وأنها، في النهاية، آراء وتحليلات معروفة سبق طرحها.
أيا كانت ردود الفعل، سواء بالترحيب أو الرفض أو التشكك، أو حتى اعتبار أن تسجيلاته لم تأت بجديد، إلا أن ذلك لا يغير من أن ما فعله محمد علي خروج عن النص، ورفض لروايات السلطة، وتمرّد من رجل أعمالٍ مرتبطٍ طبقيا بالسلطة، استفاد منها. هذا جانب ممّا يعظّم إحساس السلطة بالانزعاج والخطر، فرجالها المتحلّقون حولها ربما يكونون عرضةً للانشقاق والتمرّد، غير قابلين للانصياع الكلي، وقبول آليات الهيمنة وقواعد التوظيف والمصالح المتبادلة في شكلها الحالي.
أمام الترحيب بتسجيلات محمد علي والاهتمام الواسع به، تشعر السلطة في مصر بأن
مشروعاتها الكبرى التي يتم التغنّي بها يتم الحطّ منها، والتقليل من جدواها، واتهام القائمين عليها بالفساد. ويأتي الاتهام من أحد الشهود والمنفّذين لبعض تلك المشروعات، والتي اعتمدت الدولة عليه سابقا، في تنفيذ مشاريع إنشائية وعقارية عامة، وأخرى خاصة بمؤسسة الرئاسة. كانت السلطة تثق في رجل الأعمال، محمد علي، المقاول الشاب. وبات اليوم يناظرها بخطاب شعبوي، يحمل مرارات المواطنين وهمومهم، ولا يخلو من أداء تمثيلي يتمتع به محمد علي، لتكون تسجيلاته أكثر تأثيرا وحظا في المتابعة.
تضرب تسجيلات محمد علي الصورة الاعتبارية للنظام والقائمين عليه، من حيث الشفافية والعدالة والانضباط وحسن سمعة رجال النظام، وهي الصورة التي تعتمد عليها غالبا النظم المغلقة والسلطوية القائمة على الفرد البطل، المستبد العادل الشريف، النزيه الوطني، والحكيم القوي والحنون والمهاب، الصلد ساعة الشدائد. حكّام وقادة كثيرون تاريخيا حاولوا رسم هذه الصورة، وكان المسّ بها يشكل أزمة لأدوات الدعاية السياسية، ويهزّها. وقد استمرت جهود سابقة ومتراكمة لرسم هذه الصورة الذهنية، فيما يشوّش الأسلوب الساخر والمتجاوز مهابة السلطة والخوف منها، فضلا عن التماس العذر لها، وتقديم المهابة والاحترام، ويقلل من خوف بعض القطاعات من بطش السلطة.
في كتابه “الأمير”، والذي يناقش سمات الحكم وطرقه، بحثا عن أمير قوي يوحد إيطاليا، يتناول القائد العسكري السابق، ميكافيللي، صفات هذا الأمير، ويسدي النصائح لتأمين سبل الحكم وإحكام السيطرة، استعان بها حكام كثيرون. وفي فصول الكتاب متطلبات التغلب والإمارة، وصفات الحاكم من الشدة واللين والمهابة، و”إشاعة حالة الفزع من العقاب الذي لا يخفق أبدا بحفظ الخوف ويصونه”. ولا يتسع المجال هنا لتناول أفكار “الأمير”، لكن حالة محمد علي تحيلنا إلى ما تضمنه الكتاب في كثير من فصوله التي تستحق الاطلاع.
ليس الخطاب الشعبوي أداة السلطة وحسب. يمكن للمعارضة أيضا استخدامها وتوظيفها. وهذا أمرٌ يدركه محمد علي في تسجيلاته، محل اهتمام ملايين المصريين، وآخرين غيرهم، من وسائل إعلام عربية وأجنبية. يبارز السلطة، ويبين بعض مثالبها، حتى ولو في صورة اتهاماتٍ لا تحمل أدلةً أو تستعين بوثائق. يرد صاحب التسجيلات بمكرٍ على عدم تقديم أدلةٍ بعبارةٍ شهيرة، يردّدها المصريون حين يصفون بيروقراطية السلطة وقدرتها على التلاعب بالوثائق والتشريعات بعبارة “الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا”.
حالة محمد علي تمثيل لحالة الفردانية، ونتاج غياب العمل الجماعي وتأميم المجال العام وإحكام السيطرة على الإعلام، ما جعل تسجيلاته محل احتفاء، لأنها إعلانٌ للتمرد والغضب والتجاوز ضد السلطة في مجتمعٍ يلفّه الخوف، ويحاصَر فيه المعارضون، أو يلتحقون بآخرين في السجون. هي إعلان تمرّد فردي بلغة بسيطة، وبغضب واضح محمّل بثأر شخصي من رجل أعمال مورست ضده ضغوط، ربما من فترة أسبق من التي أعلن فيها موقفه. يطالب محمد علي بألا يكون وحيدا، وأن يخرج من دائرة الانتقام الشخصي إلى دائرة التعبئة العامة ليشاركه آخرون موقفه.
كان فيلم محمد على “البر التاني”، لمخرجه علي إدريس، رسالة سياسية غاضبة. وعلى الرغم من إخفاق السيناريو الجاد في مناطق عديدة، إلا أنه محمّل برسائل اجتماعية مهمّة، ويحتوي على وصفٍ لأحوال فئاتٍ تعيش في فقر مدقع، وقهر يومي. ولم يكن تحمّل محمد علي كلفة إنتاج الفيلم يهدف، وحسب، إلى أن يكون بطلا فيه، وإنما أيضا أن يقول في الفيلم رسالةً، مستعينا بما يملكه من قدرةٍ في التمويل، ونزوع نحو التمثيل ولعب دور البطولة. وهو ما جاء في كثير من تسجيلاته، وما سبقها من إحساس بالقوة والقدرة على الفعل، بعد حصوله على جائزة أوروبية في السلام، وما تكوّن لديه من معارف واتجاهات، وما تلاها من ضغوط ولّدت دافعية للتمرّد ضد من كان يعمل معهم، ورأى فيهم، بعد ضغوطهم، سببا في أزمته الشخصية وأزمات آخرين.
باختصار، يلعب محمد علي دورا وظيفيا تيسّره له الظروف، وتفسّره تصورات الأنثروبولوجي شتراوس الوظيفية، أو تلك التي عن البطل والأسطورة. ربما تنتهي رحلته، ولكن أثره يراكم على ما سبق من حوادث مشابهة، وأحاديث حظيت باهتمامٍ مماثل، ومسّت صورة السلطة. قدّر له أن ينجح في اقتناص مساحة سياسية وإعلامية بحكم عوامل شتى، وإعادة النقاش بشأن مسائل وقضايا بسيطة، وأخرى معقدة بأسلوب ساخر وشعبوي وتمثيلي، وكأنه عرض سينمائي أو مسلسل سياسي، لم يحظ باهتمام المصريين وحسب، لكنه فتح أيضا باب النقاش على قضايا الحكم والسياسة والحريات والحقوق وأوضاع الطبقات الشعبية، وربما تفتح تسجيلاته باب شكاوي أخرى وتسجيلات جديدة من قطاعات مشابهة، تعبر عن أزمتها عبر الفضاء الإلكتروني، طالما ظل الفضاء العام مغلقا. تم اختراق سقف المبارزة السياسية، ومواجهة السلطة لها لم تعد كافيةً بترديد المقولات المحفوظة عن حروب الجيل الرابع، ومخاطر وسائل الاتصال، فالمعارضون والمؤيدون والمتفرجون يستخدمون الوسائل نفسها. والدولة تحكم سيطرتها بشتى السبل، لكنها لا تسلم من النقد، على الرغم مما تبثه من برامج موجهة، وصحف تحولت نشرات، ومؤتمرات سابقة الإعداد والتجهيز، ومكررة الموضوعات والرسائل، وربما المتحدثين والضيوف.
ننوّه إلى أن الآراء الواردة في المواد المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن آراء ومواقف “الرابطة الأممية للعمال – الأممية الرابعة”