أور أوميت أونغر – أنصار شحود
نقله إلى العربية: مهند أبو الحسن ودُمّر سليمان
في شهر نيسان (إبريل) من العام 2013، قام فرع المنطقة التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية، والمعروف أيضاً بالفرع 227، بقتل أكثر من 280 مدني اقتيدوا إلى أحد أحياء دمشق المعزولة، وتم إعدامهم واحداً تلو الأخر في مقبرة جماعية كانت قد أُعدت مسبقاً. وأثناء توثيقهم للمجازر بتصويرها، لم يتوانَ الجناة عن أخذ لقطات تذكارية مروّعة. لم يكن من المفترض أن يتم تداول هذه المقاطع، ولكنّ مصدراً مقرباً منهم قام بتسريب هذه الفيديوهات لنا. وعلى مدار عامين، قُمنا بالتحقّق من حملة القتل تلك، حيث أجرينا تحليلاً لهذه المقاطع المصورة وعملنا على تحديد الموقع الجغرافي الذي وقعت فيه هذه المجازر، كما أننا استطعنا العثور على مُطلِق النار الرئيسي على منصة فيسبوك ونجحنا في إجراء سلسلة من المقابلات معه.
الفيديو الصادم
في شهر حزيران (يونيو) من العام 2019، كان أور أونغر يَحضرُ مؤتمراً أكاديمياً في باريس، حول الاستخدامات العلمية للمواد البصرية وشهادات الناجين وشهود العيان في حالات المجازر الجماعية. خلال هذا المؤتمر كان أور يستعد لتقديم عرض حول آلية معالجة المواد الفيلمية المتعلقة بجرائم الحرب، وأثناء انتظاره لتقديم مداخلته، تلقّى اتصالاً هاتفياً من صديق سوري أراد لقاءه بشكل عاجل. وفعلاً التقيا في ركن بعيد في أحد المقاهي الهادئة، أخرج الصديق السوري هاتفه وطلب من أور مشاهدة مقطع فيديو. كان مقطع الفيديو هذا، والمقاطع اللاحقة التي شاهدها مع مجموعة من الباحثين المخضرمين في أبحاث أعمال العنف والابادة الجماعية، صادماً بشدّة حتى بالنسبة لهم، إذ تتضمن هذه الفيديوهات عرضاً لتنفيذ عناصر من المخابرات العسكرية وقوات الدفاع الوطني عملية إبادة ممنهجة بحق مدنيين في حي التضامن الدمشقي في العام 2013 وبدايات 2014.
حي التضامن: سورية المصغرة
يقع حي التضامن خارج البوابة الجنوبية لمدينة دمشق القديمة، على أطراف حي الميدان الدمشقي، وإلى الجنوب الغربي من حي باب شرقي الذي يعتبر قلب الحياة الليلية الصاخبة لمدينة دمشق. ويقابل مفردة «التضامن» في اللغة الإنجليزية كلمة «solidarity»، في إشارة إلى هؤلاء الذين تشردوا نتيجة غزو إسرائيل لمرتفعات الجولان عام 1967. فقد بدأ هؤلاء النازحون بالاستقرار في الأراضي الزراعية جنوب العاصمة دمشق، في المنطقة الواقعة ما بين حي الميدان الدمشقي ومنطقة السيدة زينب، حيث قاموا ببناء منازلهم بشكل عشوائي وبإمكانياتهم الخاصة بالإضافة إلى دعم حكومي محدود بشدّة. وفي وقت لاحق، تم الاعتراف بالحي بأثر رجعي باعتباره جزءاً من حي الميدان وبلدة يلدا، ويأخذ اسم حي «التضامن».
في تسعينيات القرن الماضي، تدفقت موجات اليد العاملة الريفية المهاجرة من كافة أرجاء سوريا باتجاه العاصمة دمشق، ثم تدفّقت موجات أخرى نتيجة الجفاف التي أثَّرَ بشكل حاد على القطاع الزراعي في البلاد في العام 2003، وأجبرَ العديد من المزارعين اليائسين على ترك أراضيهم في محاولة إيجاد سبل النجاة في دمشق. استوعبَ حي التضامن جزءاً كبيراً من الهجرات الداخلية المتعاقبة، التي أسست ديناميات عائلية سهلت استقرار القادمين الجدد، وأثّرت بشكل كبير على تشكيل التركيبة الاجتماعية والديمغرافية للحي، الذي أصبح منطقة عشوائية كبيرة ذات أعلى نسبة كثافة سكانية في دمشق.
ومع أن الحي بغالبيته العظمى من العرب السنة، إلا أنه استوعبَ أيضاً العديد من الطوائف الدينية والعرقية الأخرى كـ: العلويين والدروز والإسماعيليين والتركمان والأكراد… إلخ. لكن التمايزات بين هذه التجمّعات تشكلت على أسس مناطقية أكثر من كونها انتماءات طائفية، أو بشكل أكثر تحديداً، على التراكب ما بين هذين العاملين. فعلى سبيل المثال: يُنسَب علويو شارع نسرين إلى قريتهم الأصلية عين فيت التي نزحوا منها في مرتفعات الجولان المحتلّ، كما ينتسب دروز شارع الجلاء إلى قراهم التي نزحوا منها في الجولان أيضاً. هكذا يصبح تحليل التمايزات السوسيو-مجالية (socio-spatial)، التي شكلتها هذه التجمعات المتجانسة والمتنافسة معاً، عاملاً مهماً لفهم آليات العنف الجماعي في حي التضامن.
لطالما أشارت كبرى وسائل الإعلام الرسمية السورية إلى حي التضامن بوصفه «سوريا المصغرة»، لكن هذه الإشارة لم تكن متعلّقة بنشأة الحي أو تكوينه الاجتماعي، بل بوصفه الواجهة «العلمانية» المفترضة للنظام السوري، بالإضافة إلى كونها مادة خطابية عن التعايش السلمي في البلاد، إلا إن الحي شكّل في الواقع مساحةً متناقضة. فعلى الرغم من تواجد سوريين من خلفيات طائفية وعرقية وسياسية ومناطقية متنوعة يعيشون معاً بألفة فيه، إلا إنه كان في الوقت نفسه بيئةً متوترةً شديدة الاستقطاب. فحي التضامن من الأماكن القليلة التي يكون فيها الجناة والضحايا جيراناً، إذ إنه موطن العقيد سيء السمعة علي خزام،(1)الذي ارتكب أعمالاً شنيعة على طول البلاد وعرضها، وفي الوقت ذاته هو موطن شخص مثل آصف الذي أمضي في زنازين المخابرات الجوية 12 عاماً.
كيف صاغت هذه التعقيدات الصراعً في الحي؟
ساهمت الانقسامات الاجتماعية بلا شك في زعزعة الثقة بين المجموعات المختلفة، فليس هناك ما يميز حالة التعايش المرتبك هذه، نظراً لوجود حالات مماثلة في جميع أنحاء العالم، ولكن النظام السوري لم يستطع أن يستثير العداء والتوترات ما بين التجمعات إلا في ظل تنامي الاستقطاب بعد العام 2011، حيث حدّد هذا الاستقطاب الحاد المتصاعد بين الجيران أنماط التعبئة المتمايزة لسكان الحي.
ومع انطلاق التظاهرات في مختلف أحياء دمشق في ربيع العام 2011، شهد حي التضامن احتجاجاتٍ سلمية قصيرة ومتفرقة افتقرت إلى التنظيم في كثير من الأحيان، إذ انقسمت حركة الاحتجاج فعلياً وفقاً للبعد المناطقي للجماعات المنظِّمة. في لحظة معينة، كانت هناك ثلاث تنسيقيات مختلفة في الحي. والحال كان شبيهاً بين التجمعات الموالية للأسد، حيث انقسمت بدورها إلى ميليشيات متنافسة. بالمحصلة، قُسّمت المنطقة في النهاية إلى ما لا يقل عن ثلاث عشرة منطقة عسكرية منفصلة (قطاع)، يسيطر عليها أمراء حرب مختلفون. نستطيع القول بأن حي التضامن قد شهد دورة العنف المألوفة في النزاع السوري، أي انطلاق مظاهرات واجهها النظام بالقمع، فعسكرةٌ من طرف المعارضة أعقبها تصعيدٌ من قبل النظام.
ردَّ النظام على مظاهرات عام 2011 عبر إنشاء مجموعات الشبيحة، وهي ميليشيات موالية للنظام، قامت بقمع الاحتجاجات بطريقة شديدة العنف. يرتدي عناصر هذه الميليشيات عادةً ملابس مدنية، ويتم اختيارهم عشوائياً من بين فئة الشباب ذوي الخلفيات الأقلوية. إن أفعال هذه المجموعات موثّقة بشكل جيد جداً، من خلال مقاطع الفيديو والتسريبات والاعترافات والانشقاقات، بالإضافة إلى شهادات الضحايا. وتُظهر هذه التوثيقات ممارسات الشبيحة أثناء اقتحام الأحياء وتفريق المظاهرات ومصادرة الممتلكات وتعذيب الموقوفين، وصولاً إلى أعمال الخطف والاغتيال والمجازر الجماعية.(2) قد يبدو أن مجموعات الشبيحة ظهرت بشكل مفاجئ، إلا إن النظام السوري هو الذي تغاضى عن أفعالها وحرّضها ووجّهها ونظّمها، وقام بهيكلتها تدريجياً عبر نظام الزبائنية والمحسوبية الذي طوره. وكان من الواضح أن النظام أوكلَ لهذه الميليشيات مهمة القيام بالأعمال القذرة، لكي يتسنى له في وقت لاحق إنكارها.
قام النظام بإضفاء الطابع الرسمي على مجموعات الشبيحة من خلال إدراجها تحت ما سمي «قوات الدفاع الوطني» في شتاء العام 2012، حين مُنحت هذه المجموعة صلاحية إقامة نقاط التفتيش لتقوم باعتقال واحتجاز الأشخاص دون حسيب أو رقيب مع الإمكانية التامة للإفلات من العقاب، بالإضافة إلى صلاحياتهم السابقة باستخدام السلاح وقتل المتظاهرين. ولا بد من الإشارة إلى أن أحد أبرز قادة الشبيحة في الحي كان من بين مرتكبي المجازر الجماعية التي وقعت في المنطقة.
وعلى الرغم من الكفاءة العالية التي أبداها النظام في قمع المدنيين، إلا إنه لم يكن يبدي الكفاءة ذاتها على المستوى العسكري، الأمر الذي ظهر جلياً في العام 2012 من خلال خسارته بشكل مطرد لسيطرته على مساحاتٍ واسعةٍ في كافة أرجاء سوريا. ومع حلول بدايات العام 2013، كانت تقريباً نصف مساحة البلاد تحت سيطرة مجموعات مختلفة من مسلّحي المعارضة. اقترب خط المواجهة في منطقة دمشق وريفها من المدينة، نظراً لأن معظم الغوطة الشرقية والضواحي الجنوبية كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة.
في شهر شباط (فبراير) من العام نفسه، شنت فصائل المعارضة هجوماً مُنسّقاً واسع النطاق على كفر سوسة من جهة الجنوب ومن جوبر في جهة الشرق، ولو قُدِّرَ لهذا الهجوم النجاح لأصبحت القوات المُهاجِمة في مواجهة مباشرة مع أفرع المخابرات الرئيسة للنظام في كفرسوسة. وعلى الرغم من فشل الهجوم، إلا إن شبح الهزيمة المحتملة كان قد بدأ يلوح في الأفق بشكلٍ جدي، والأهم من ذلك أن خطوط المواجهة قد وصلت إلى حي التضامن.
دليل لا يقبل الشك: المجزرة
قام كل من أمجد يوسف ونجيب الحلبي، في 16 نيسان (أبريل) من العام 2013، بإعدام 41 شخصاً عبر الإلقاء بهم في حفرة تم إعدادها مسبقاً لهذا الهدف في وسط أحد الشوارع «غير المأهولة» في حي التضامن، وبعد الانتهاء من إطلاق النار على الضحايا واحداً تلو الآخر، أضرمَ الجناة النار في جثث ضحاياهم عبر إحراق إطارات سيارات وُضعت مُسبقاً في قعر الحفرة. أُنجزت المجزرة في يوم واحد، وقام الجناة بتصوير تفاصيل المذبحة كاملة.
كان أمجد يوسف يرتدي زياً عسكرياً أخضر اللون وقبعة صيد، مبدياً درجةً عاليةً من التركيز والهدوء والدقّة الخالية من المشاعر. وكان يُنفّذُ «عمله» هذا «بكفاءة» عالية مُنجِزاً المهمة في غضون 25 دقيقة، فيما كان زميله نجيب الحلبي يرتدي زياً عسكرياً رمادي اللون وتبدو على ملامحه علامات الارتياح. كان يدخن، بل ويتحدث أحياناً بشكلٍ مباشرٍ إلى عدسة الكاميرا.
كانت عملية إعدام الضحايا تتم بشكل روتيني تماماً، حيث يقوم أحد الجناة بإخراج الضحية معصوبة العينين من سيارة بيضاء صغيرة مخصصة للنقل الجماعي «سرفيس»، ثم يقتاده إلى الحفرة الكبيرة المفروشة بالكامل بإطارات السيارات، ويلقي به في هذه الحفرة، ليقوم الآخر بإطلاق النار عليه من خلال بندقية حربية من طراز AK-47 وفي بعض الحالات بواسطة مسدس.
نفَّذَ الجناة عمليات الإعدام هذه بأسلوب إجرائي اعتيادي دون أن يتبادلوا الحديث إلا فيما ندر. كانت صرخاتهم وأوامرهم تتوجه للضحايا: «قوم» «طلاع» «مشي» «اركض». ولم يُبدِ القتلة أي درجةٍ من درجات التعاطف مع الضحايا، بل نستطيع القول إننا نَلمَحُ درجةً من الاستمتاع وهم يقومون بذلك. خلال مجريات تصوير المجزرة، يتوجه نجيب إلى عدسة الكاميرا مخاطباً «رئيسه»: «لعيونك يا معلم ولعيون البدلة الزيتية اللي م تلبسها».
من الواضح أن الجناة قد أعدّوا موقع الإعدام هذا بشروط مثالية من أجل استخدامه المتكرر، ليس فقط لتنفيذ عمليات الإعدام، بل وأيضاً من أجل إحراق الجثث وعدم ترك أي أثرٍ لها. كما يبدو أن مرتكبي المجزرة مرتاحون تماماً أثناء تنفيذ عملهم في وضح النهار، مما يشير إلى أن موقع المجزرة يقع تحت سيطرتهم الكاملة، حيث لا تبدو عليهم العجلة، وليسوا مُعرَّضين لأي تهديد.
في سياق هذه المجزرة، يقوم الجناة بإيهام بعض الضحايا بأنهم يمرون عبر منطقة معرضة لنيران القنّاصة، فيصرخ نجيب مخاطباً ضحيته: «قنّاص يا عرص» دافعاً إياه نحو الحفرة ومُطلِقاً النار عليه بينما لا يزال في الهواء أثناء سقوطه. فيما يبدي أمجد درجةً من نفاد الصبر لأن أحد الضحايا لم يَمت لا من الطلقة الأولى ولا من الثانية، وبعد الطلقة الثالثة يصرخ مخاطباً الضحية «موت يا عرصة، ما شبعت؟». تُشير نهاية الفيديو إلى انتهاء هذه المجزرة حيث يسأل أحد الجناة: «في غيرو؟»، ليَسودَ صمتٌ لا يقطعه سوى أنينٌ خافتٌ صادرٌ عن كتلة الجثث تحت أحذية الجناة.
في فيديو آخر، يظهر أمجد يوسف وهو يقود الجرافة التي تحفر المقبرة الجماعية بعمق ثلاثة أمتار. تم قصف الشارع الذي وقعت فيه المجزرة في وقتٍ لاحق، ليبدو المشهد وكأنه دمارٌ شاملٌ جراء القصف والتفجير والاشتباكات. تظهر ثقوب الرصاص على الجدران، فيما تبدو الأجواءُ خلال الفيديو هادئة بدون أصوات للحرب أو القصف أو الاشتباكات؛ هدوءٌ لا تقطعه سوى أصوات طلقات النار التي تستهدف الضحايا، بالإضافة إلى الدخان المتصاعد من فوهات بنادق القتَلَة.
يأخذ المصوّر وقته في التقاط مَشَاهِده، حيث يركّز في أغلب الأحيان على المقبرة الجماعية، وعلى عملية إحضار الضحايا وإطلاق النار عليهم واحداً تلو الأخر.
يُملَأُ القبر بسرعة ويتحوّل إلى فوضى متشابكة من الجثث والملابس والدم وإطارات السيارات، وبعد بضعة دقائق تَصعُب مشاهدة اللقطات ويَصعُب وصفها بالقدر ذاته.
كانت أعينُ الضحايا معصوبة إمّا بشريط لاصق أو بغلاف بلاستيكي، كما أن أيديهم كانت مُقيَّدةً برباطٍ بلاستيكي يُستخدم عادة من أجل جمع وتثبيت الكابلات الكهربائية. تُستخدم هذه الأربطة في جميع أرجاء العالم كأصفادٍ بلاستيكية. يرتدي معظم الضحايا ملابس غير رسمية: جينز وقمصان وبدلات رياضة ودشاديش، فيما يرتدي عددٌ آخرٌ منهم ملابس منزلية مما يدل على توقيفهم إما من منازلهم أو من نقاط التفتيش القريبة إليها. كما أن الفقر المدقع يبدو على بعضهم، فيما البعض الآخر يبدو حسنَ الهندام. كما تُظهر الفيديوهات بأن هؤلاء الضحايا لم يتعرضوا لتعذيبٍ شديد، ولا وجود لعلامات هزال كالتي تظهر على المعتقلين الذين يحتفظ بهم النظام في معسكرات اعتقاله، مما يشير إلى حداثة توقيفهم. لا يُبدي الضحايا أية مقاومة تذكر، فهم يطيعون الأوامر بكل استسلام، يخرجون، يمشون ويقفون دون ينطقوا ببنت شفة. قُتلَ الضحايا جميعاً بإطلاق النار عليهم، باستثناء رجل كبير في السنّ قتله أمجد يوسف ذبحاً.
يُقتَلُ الضحايا بصمت، مع قليل من التوسل والبكاء والصياح. يحاول بعضهم المساومة أو التسوية، ولكن أياً منهم لم ينطق الشهادتين قبل موته. كان الجناة يقومون بدفع البعض دفعاً، بينما يتم ركل الآخرين في الحفرة ليتم إطلاق النار عليهم بعد أن تستقر أجسادهم فوق جثث من سبقوهم، وفي بعض الحالات كان يتم إطلاق النار على الضحايا وهم في الهواء أثناء سقطتهم الأخيرة. أحد الضحايا توسّلَ لأمجد قائلاً: «بحياة الإمام علي»، لكن أمجد لم يرحمه وقذف به في الحفرة قائلاً «لعنك الله يا إبن الشرموطة». عجوزٌ يسير مترنحاً ليرتطم بالجدار، وتنزلق قدمه في الحفرة مطلقاً صرخة ألم مستنجداً بوالده: «يا باي»، شابٌ يستطيع تحرير يديهِ من القيد أثناء سقوطه؛ امتدّت يده محاولاً رفع العصابة عن عينيه قبل أن يرديه أمجد برصاصة في الرأس. تتحرك بعض الأجساد في الحفرة وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولكن زملاء أمجد يوسف يمسكون بنادقهم «الكلاشنكوف» بيدٍ واحدةٍ، ويمطرون برصاصهم الجثث في الحفرة.
ست من الضحايا النساء السبع اللواتي يظهرنَ في التسجيل كُنَّ يرتدين الحجاب والمعطف، اللذين يميزان النساء المسلمات التقليديات. هؤلاء النسوة كُنّ يقتلن بوحشية وعدائية لا يبديها القتلة تجاه ضحاياهم من الرجال. بشكلٍ مفاجئ تصرخ إحدى النساء صرخة استغاثة، ولكن نداءها لم يصل إلى أذني قاتلها، بل أجابها قائلاً: «قومي ولك شرموطة»؛ يسحبها من شعرها ويلقي بها في الحفرة مُطلِقاً عليها النار. تصرخ امرأتان صرخة خوف وهلع، ليقوم أمجد بركلهما نحو الحفرة وقتلهما، فيما الأخريات واجهنَ مصيرهنّ بكل صمت.
في فيديو آخر، تتحرك عدسة الكاميرا فوق أجساد مجموعة من الأطفال وسط غرفة مظلمة، يتحدث أمجد يوسف قائلاً بإيجاز: «أطفال كبار الممولين في ركن الدين، تضحية لروح الشهيد نعيم يوسف».
بلغ عدد الضحايا الإجمالي 288 ضحية في مقاطع الفيديو الـ27 التي بحوزتنا، معظمهم من الشباب أو ممّن هم في منتصف العمر، بالإضافة إلى بعض الأطفال والنساء وكبار السن. وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من الضحايا هم من السنّة (بما فيهم التركمان)(3)، إلا أن هناك مؤشرات تدل على أن هناك بعض الإسماعيليين بينهم استهدفوا نتيجة نشاطهم السياسي المعارض.
وفق فهم الجناة وولائهم، فقد كان الذكور متوسطي العمر السنّة موضع شك ما لم يؤكدوا ولاءهم وطاعتهم لـ «الأسد». بخلاف ذلك، كان يُنظَر إلى الجميع على أنهم متعاطفون أو عملاء متخفّون أو مؤيدون محتملون للمعارضة، وقد كان الجميع يُعامل على هذا الأساس. ووفقاً للعديد من الشهادات التي حصلنا عليها، يبرر الجناة ذلك باحتفال السكّان التركمان بدخول الجيش الحر إلى الحي. عدا أن هذا التبرير ليس إلّا خيالاً مبالغاً فيه، فإن جميع الضحايا الذين تم التعرف عليهم كانوا متنوعين ينتمون إما إلى الطبقة العاملة أو الطبقة الوسطى.
تؤدي الشهادات التي حصلنا عليها إلى استنتاج أن الضحايا هم ممن اعتقلوا في حي التضامن أو على الحواجز المحيطة به، ليتم نقلهم إلى موقع المجزرة وتصفيتهم على تلك الشاكلة. ومن المرجّح أن أياً منهم لم يتخيل حدوث ذلك، بل وربما اعتقدوا أنهم آمنون، أو أنهم حتى لم يفهموا بتاتاً سبب حدوث ذلك.
دراسة المجزرة
تركتنا مقاطع فيديو المجزرة في حالة من الصدمة والحيرة: متى وأين حدث هذا؟ من كان القتلة ومن هم الضحايا؟ لماذا حدث كل هذا؟ واجهتنا مجموعة من التحديات الأخلاقية والعملية، نظراً لصعوبة دراسة عنف الأنظمة الاستبدادية كنظام الأسد. إذ كيف يمكن المناورة مع الطبيعة القمعية المتكتّمة للنظام؟ وكيف سنتعامل مع المخاطر الأمنية المحتملة علينا كباحثين، وعلى الذين سنجري معهم المقابلات؟ وهكذا بدأت مقاربة محددة بالتشكل، تعتمد منهجية متعددة الطرق، تدمج التاريخ الشفوي ومقابلات إثنوغرافية سرّية مع عملية تحليل مرهقة لمقاطع الفيديو وبيانات المصادر المفتوحة. كما قمنا بإجراء مقابلات شخصية في كل من برلين وغازي عنتاب وإسطنبول، إضافةً إلى المقابلات الافتراضية عبر وسائط التواصل الاجتماعي (فيسبوك، واتساب، سيجنال، وزووم)، وأخيراً استعنّا بوسيط يقيم في دمشق ليقوم بالبحث الميداني.
بدأنا بالمقطع الرئيس لعمليات الإعدام، وكان هناك دليلٌ واحدٌ جيد على الوقت الدقيق للمجزرة، فأحد ملفات الفيديو حمل ختماً زمنياً يُشير إلى 16-4-2013. إلا أن التحديد الدقيق لموقع القتل كان أكثر صعوبةً، فقد حُفِرَت المقبرة الجماعية في شارع ضيّق نسبياً، يشير طابعه الحضري وهندسته المعمارية إلى أنه مكانٌ ما من ضواحي دمشق، ولكن من غير الواضح إن كان في غوطة دمشق الشرقية أو في ضواحيها الجنوبية. ثم استطعنا رؤية المزيد، فقد كان للبناء المقابل لحفرة الإعدام سقفٌ أحمر وشرفة زرقاء، مع رسم شجرة نخيل على أحد الجدران. لكن المنطقة كانت مدمرة كلياً، مما لا يدع مجالاً للتعرّف على أي شيء آخر، فلا يمكن مشاهدة دكان او إشارة أو معلم بارز. ومن خلال مُشاهدة مقطع الفيديو مرة تلو الأخرى، لاحظنا عبارة «فتح بلد يلدا 14/3/2012» منقوشة على أحد الجدران خلف الجاني. تثير هذه العبارة، التي رسمتها على الأغلب إحدى فصائل المعارضة بدهان بخاخ، احتمال أن الموقع المنشود يقع في جنوب بلدة يلدا التي سقطت بيد الثوار في وقت سابق من العام 2012. (اتضح لاحقاً أن الموقع هو منطقة الطبقة العاملة في حي التضامن المجاور، لكن تلك كانت مجرد بداية). دَفعَنا هذا الدليل إلى التواصل مع نشطاء المعارضة والفصائل المسلحة التي نشطت هناك.
وبما أننا لا نستطيع السفر إلى سورية، قمنا بالاستعانة بباحث مساعد يمتلك الخبرة وشبكة علاقات ضمن مجتمعات الضحايا. استطاع باحثنا المساعد أن يستكشف المنطقة ويصوّرها بالفيديو سراً، كما أنه بحث عن الضحايا ورتَّبَ مقابلاتٍ سرية مع الناجين منهم. أُجريت المقابلات وسُجِّلَت بواسطة برمجيات آمنة نسبياً، ودُوِّنت أسماء من أُجريت معهم المقابلات ومعلوماتهم التعريفية بشكل منفصل، ثم مُسحت من التسجيلات. اتّبعنا أكثر تدابير الأمن السيبراني المتوفرة لدينا صرامة. كما شملت المقابلات الرقمية شهود عيان ومدافعين عن حقوق الإنسان ومقاتلين سابقين في الجيش السوري الحر. عرضنا صوراً أخذناها من مقاطع الفيديو على من أجرينا معهم المقابلات، مما سرَّعَ نسبياً عملية تضييق نطاق البحث وحصرها بشارع دعبول في التضامن. وتقاربت الروايات لتحديد المكان بالقرب من مسجد عثمان في «حارة البرادي»، وهي منطقة كانت تحت سيطرة النظام طيلة فترة النزاع الذي قسم الحي إلى منطقتين بواسطة خط جبهة ثابت نسبياً، تَحدَّدَ في تاريخ المجزرة بالقرب من جامع عثمان وصولاً إلى سينما النجوم. هنا، كنا قد استوفينا حدود قدراتنا لتحديد الشارع بدقة، فطلبنا مساعدة تقنية من مُحللي بيانات المصادر المفتوحة وخبراء تحديد المواقع الجغرافيّة، الذين بدورهم قدموا أدلةً قاطعةً، أكدت افتراضاتنا، على أن المجازر وقعت بالقرب من مسجد عثمان في التضامن استناداً إلى أعمدة البناء التسعة المجاورة لحفرة المقبرة.
ولكن من هم هؤلاء الجناة؟ ولماذا ارتدى القاتلان الرئيسان بزّتين عسكريتين مختلفتين؟ قد يدلّل هذا على عمل مشترك بين جهازين أمنيين أو عسكريين مختلفين، ولكنهما لم يحملا أي إشارات تعريفية أو رُتَب على أكتافهما. وفي أحيان قليلة، كان من الممكن التعرف على لهجة مناطقية معينة، لكنهما بالمجمل كانا يتحدثان العربية باللهجة الدمشقية «المحايدة»، ولم يقدم أي شيء قالاه دليلاً على هويتهما الشخصية أو المهنية، إذ لم يخاطب أحدٌ منهم الآخر. كانت المهمة الملقاة أمامنا شاقة، إذ علينا التعرف على الأجهزة التي كانت مسؤولةً عن المنطقة، ومحاولة تحديد مواقعهم بواسطة الإنترنت من خلال وسائل الإعلام الموالية للنظام، أو عبر مجموعات الفيسبوك الغامضة الناطقة باسم الأجهزة الأمنية.
أصبحَ فيسبوك منصةً شعبيةً بين السوريين الموالين للنظام منذ 2011، ومن بين هؤلاء كان الجناة ومنتهكو حقوق الإنسان الذي غالباً ما يشاركون عبره قصصهم وصور رفاقهم المتوفين. وكان السؤال المُلحّ: كيف يمكننا استخلاص معلومات منهم دون المساس بأمن أي أحد؟ وقد حالَفنا الحظ إذ إننا كنا قد أنشأنا مسبقا في العام 2018 ملفاً شخصياً على فيسبوك لفتاة شابة موالية للنظام، من عائلة علوية تنتمي إلى الطبقة الوسطى من حمص أسميناها «آنّا». وكان الغرض من هذه الهوية الافتراضية هو مراقبة منتهكي حقوق الإنسان السوريين عن كثب في بيئاتهم على الإنترنت، والتمكّن من التواصل المباشر معهم بغية إجراء مقابلات. صُمّمت شخصية آنّا ومنشوراتها على فيسبوك بعناية لتتناسب مع المحيط الاجتماعي والاقتصادي للجناة (ecosystem) أياً كانت هويتهم، فمن الصعب التشكيك في دوافع فتاة علوية من الطبقة الوسطى من حمص، تدرس النزاع السوري في الخارج. حققت آنّا نجاحاً باهراً، إذ مكّنتنا من إجراء مقابلات مع العشرات من الأسديين مرتكبي جرائم، بمن فيهم بعض الرتب الرفيعة نسبياً.
عندما حصلنا على فيديو مجزرة التضامن كانت آنّا بالفعل جزءاً لا يتجزأ من الدوائر الفيسبوكية الموالية للنظام، وقد شملت قائمة أصدقائها عدداً من الجنود ورجال الميليشيات والضباط ورجال الأعمال والإعلاميين، بل وحتى بعض عناصر أجهزة المخابرات.
إذا أخذنا بعين الاعتبار الاحترافية الروتينية لعمليات القتل المُصوَّرة، والمكانة البارزة التي تحتلها الأجهزة المخابراتية في منظومة عمل نظام الأسد، وبالإضافة إلى أن عمليات قتل جماعي كهذه، تستوجب قدراً من الحساسية والحذر، كانت تنفذ في وضح النهار، يصبح من المحتمل جداً أن واحداً على الأقل من مطلقي النار ينتمي إلى أحد الفروع الأمنية. وبما أننا ألقينا نظرةً فاحصةً على وجوه القتلة (وهو أمرٌ فاق قدراتنا النفسية)، بدأنا استعراض صفحات الفيسبوك الخاصة بالجيش والمخابرات والميليشيات التي كانت عاملةً في منطقة يلدا، وجنوب دمشق على نحو أوسع، لربما نصادف وجهاً مألوفاً، لكن هذا كان كالبحث عن إبرة في كومة من القش. كان لدينا عدد قليل جداً من الأدلة، ليس من بينها اسم أو رقم الفرع الأمني الذي ينتمي له أيّ من القتلة. وقد استطاع عددٌ ممن أجرينا معهم المقابلات التعرف إلى مطلق النار الرئيسي، ولكنهم أشاروا إليه باسمه الحركي المخابراتي «أبو علي»، بينما لم يستطيعوا استذكار اسمه الكامل أو أية تفاصيل أخرى. سعينا لأشهر دون جدوى، وبدأ صبرنا يتحول تدريجيا إلى يأس.
ثم، في أحد الأيام، تعرّفنا على مطلق النار الرئيسي في صور لعناصر من فرع المنطقة التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية، وهو ما يعرف أيضاً باسم الفرع 227.
مقابلة مع الجاني
القاتل هو شاب، صف ضابط في المخابرات العسكرية اسمه أمجد يوسف، يمكن التعرف عليه بسهولة بسبب ندبةٍ أفقية على حاجبه الأيسر. نظر إلى الكاميرا مباشرةً في فيديو المجزرة، وكانت صورته واضحةً جداً. وبعد تصفح ملفه الشخصي على فيسبوك، الذي ضُبطت منشوراته بحيث تكون متاحة للعموم، أرسلنا له طلب صداقة. كان بالتأكيد هو. لقد تغير مظهره الجسدي قليلاً، إذ اكتسب جسدُ مطلق النار النحيل ذي الزي العسكري بنيةً عضلية. كان ملفّه الشخصي على فيسبوك يطابق تماماً نمط منتهكي حقوق الإنسان السوريين، منشوراته كانت صوراً للأسد الأب والابن، لقطاتٍ لأصدقائه، مناظر خلّابة لقريته، صور شخصية أثناء ممارسته الرياضة في النادي، والأهم من ذلك كله، منشورٌ حزينٌ نعى فيه صديقه وزميله «نجيب الحلبي»، والذي كان من السهل التعرف عليه على أنه مطلق النار الثاني. لقد غمرتنا البهجة إذ وجدنا «الشريكين» اللذَين بحثنا عنهما لأشهر.
قَبِلَ أمجد طلب صداقة «آنّا»، وكان حذراً، إلا إن فضوله لمعرفة لماذا وكيف تواصلنا معه كان أيضاً واضحاً. وافق على التحدث إلينا(4) بعد أن شرحنا له بعباراتٍ عامة أننا نُجري أبحاثاً أكاديمية عن سياق النزاع السوري، وأننا تواصلنا معه لأنه يبدو «في الجيش». وبهذا بدأنا سلسلة من المحادثات استمرت ستة أشهر، تبادلنا أثناءها الحديث مع أمجد، وخلالها أيضاً أجرينا مقابلتي فيديو مطوّلتين معه.
أثناء المقابلة الأولى، كان أمجد في الفرع يجلس مرتديا لباساً مدنياً إلى مكتبٍ تعلوه صورةٌ لبشار الأسد معلقةً على الحائط الخلفي. كانت هذه المحادثة الأولى لنتعرف على بعضنا بعضاً، وقد حرصنا على عدم استخدام مصطلح «مقابلة»، بل أسميناها «تعارف». كان متوتراً بعض الشيء، وبعد تبادل المجاملات الاعتيادية قام باستجوابنا أكثر مما أتاح لنا أن نطرح عليه أسئلتنا. لم يُدرك أمجد أن سلوكه بحد ذاته كان أحد مواضيع بحثنا. ولكن بغض النظر عن هذا كله، كنا قادرين على النظر من خلال شاشتنا في عيون منتهكٍ حقيقي لحقوق الإنسان يجلس إلى مكتبه، ينظر إلينا من خلال شاشته ويعبث بكمبيوتر موضوعٍ على مكتبه، ويرفع سماعة الهاتف ليطلب فنجان من القهوة كلما رغب بذلك. في نهاية اللقاء بدا أنه قد اقتنع بروايتنا ووافق على محادثة ثانية.(5)
كانت المقابلة الثانية أكثر إفادةً وإثارةً للاهتمام. تحادثنا في وقتٍ متأخرٍ من الليل. كان أمجد على أريكةٍ في منزله، يرتدي قميصاً داخلياً (شيّال أبيض)، يدخن بشراهة، ويحتسي مشروباً ما بينما يتناول وجبةً خفيفةً من الخيار. أخبرنا أنه ولد عام 1986 في قرية نبع الطيب العلوية في منطقة الغاب وسط غرب سوريا، على بعد 70 كيلومتراً إلى الشمال الغربي من مدينة حماة. وهو الابن الأكبر لعائلة مكونة من عشرة أخوة وأخوات تربوا جميعاً بشكلٍ صارمٍ على تكريم التراث الديني العائلي لجدهم الأكبر، الذي كان من الشيوخ العلويين البارزين. وقد مارس أمجد مع أخوته وأخواته مراراً الطقوس الدينية في مقامات بني هاشم المحاذية لقريتهم. أثّرت هذه التنشئة الدينية على تصوره لذاته وللآخر، لكنها لم تكن الدافع الرئيسي خلف أفعاله.
حَدَّثنا أمجد أنه التحق بمدرسة المخابرات العسكرية الواقعة في منطقة ميسلون في ضاحية الديماس في دمشق عام 2004، وأمضى فيها تسعة أشهر من التدريب المكثّف. كان العمل لصالح المخابرات العسكرية بالنسبة لأمجد ذي الثمانية عشر ربيعاً حينها الفرصة الأفضل لتحصيل حياةٍ مختلفةٍ عن أسلافه، الذين عانوا مشقة العمل في حقول التبغ لكسب لقمة معيشتهم. لم تتخطَ أحلام أمجد أكثر من رغبةٍ في الحياة كشخصٍ من الطبقة الوسطى، يمتلك منزلاً وعائلةً وسيارة. كان لدى أمجد رغبة خفية أن يتحرر من والده، ذاك الشيخ العلوي الذي اختار العزلة بعد تقاعده من عمله كعنصرٍ في الجيش والمخابرات. وبدلاً من أن يحرره العمل في المخابرات من واقعه، أدى ذلك إلى ترسيخه أكثر في المجتمع الموالي للنظام، وحوّله إلى «ابن المؤسسة». وخلافاً لطموحه أصبح «الولد سرّ أبيه». لم يستطع أمجد خلال مقابلاتنا معه -وهو الآن في سن السادسة والثلاثين- ألّا يعبر عن خوفٍ دفينٍ من والده، وأخبرنا أحد نُدمائه أن أمجد لم يجرؤ يوماً على التدخين في حضور والده.
حقَّقَ أمجد نجاحاً مهنياً لافتاً مع مطلع الألفية الجديدة، واستطاع دائماً أن يضمن لنفسه الترقية، ليكون في العام 2011 صف ضابط «مُحقِّق» يعمل بساعات دوام مكتبية ثابتة في فرع المنطقة أو الفرع 227. يعتبر هذا الفرع الكئيب الواقع في منطقة كفرسوسة مسؤولاً عن اعتقال وتعذيب وقتل الكثير من معارضي النظام السياسيين.
غير أن اندلاع انتفاضة عام 2011 غير حياة أمجد يوسف، إذ تم تعيينه في قسم العمليات ليكون مسؤولاً عن قيادة العمليات العسكرية على خطوط الجبهات في ضواحي دمشق الجنوبية، وتحديداً بين العامين 2011 و2021 كان المسؤول عن أمن خطوط الجبهة في منطقتي التضامن واليرموك. وخلال بحثنا تمكنّا من العثور على بعض المواد المصورة الدعائية المنشورة لهذه العمليات، حيث يظهر أمجد في أحد مقاطع الفيديو بعيون عابسة متجهمة، وسيجارة بين أصابعه أثناء حديثه مع مجموعة من المقاتلين المتحمسين لاقتحام حي التضامن.
وبخنَا أمجد خلال المقابلات لأننا نستخدم كلمة «مخابرات»، وطلب منا استخدام مصطلح «الجيش» أو «القوات المسلحة» عوضاً عنها:
«لم يكن هناك أثناء الأزمة أي شيء اسمه مخابرات، كان كلّه جيش. أنا كنت عنصر مخابرات، ولكن عملي كان كما يفعل الجيش، كانت مهمتي كما مهمات الجيش. مهنتي ليست قتال الشوارع والاقتحام والقصف …إلخ. هذه كانت مهنتي أثناء الأزمة. لم يكن هناك أي شيء خلال هذه الأزمة اسمه مخابرات، كنا كلنا جيش، مهماتنا كانت نفسها»(6)
تُخبرنا حساسية أمجد المفرطة لاستخدام كلمة «مخابرات» تحديداً ما يمكن أن يكتب عنه مجلداتٌ عدة، فهذه الحساسية لا تدل على إنكار وجود المخابرات فحسب، ولكنها تعبّر أيضاً عن الطبيعة الحساسة والمحرمة لأجهزة المخابرات في سورية، فالحديث العلني عنها بالتأكيد ليس مسموحاً، لكنه تحدَّثَ عنها كما تحدَّثَ في أمور أخرى ذات طبيعة مُحرّمة كالطائفية. ربما كان هذا عائداً إلى تصور أمجد عن ذاته، فهو قبل كل شيء أوضحَ بشدة أنه لا يرى نفسه إلا «ابن المؤسسة». وهذا من ناحية يعني أنه منخرطٌ تماماً في ثقافة وتقاليد المخابرات العسكرية، وأن ولاءه لذلك الجهاز يأتي أولاً وقبل كل شيء ويعلو على أي ولاءٍ آخر طائفي أو مناطقي. ومن ناحية أخرى، فقد كان حرفياً ابناً للمؤسسة حيث خدم والده كصف ضابط لعقود.
ألقت المجزرة بظلّها على المقابلات كموضوع آخر تجنّبنا الحديث عنه، وبدورنا لم نلمّح في أي وقت أننا رأينا مقاطع الفيديو وأننا على درايةٍ بجرائمه. ومن خلال شرحه كيف يرى أسباب وسياقات النزاع في سورية، بدأ يتضح أنه ازداد تشدّداً بعد مقتل شقيقه الأصغر الذي قضى أثناء أدائه خدمته العسكرية في الجيش بتاريخ 1 كانون الثاني (يناير) 2013، الأمر الذي كان شديد التأثير على أمجد.
أصبح أمجد عاطفياً عندما ذكر هذه النقطة في المقابلة، وبدأ يعبث بولاعة سجائره بتشنج، وتمتم:
« لقد انتقمت، أنا لا أكذب عليكِ. لقد انتقمت، لقد قتلت. لقد قتلت كثيراً، قتلت كثيراً ولا أعرف عدد الأشخاص الذين قتلتهم»(7)
وعندما واجهناه بجزءٍ من الفيديو بعد بضعة شهو،ر وعلم أننا على اطلاعٍ عليه، أنكر بدايةً أن يكون هو الشخص نفسه الذي يظهر في مقطع الفيديو، ثم قال إنه كان يقوم باعتقال شخصٍ ما فقط. ولكن في نهاية المطاف استقرّ على تبرير أنها مقتضيات وظيفته، وعبر عن مكنوناته: «أنا فخور باللي عملتو».
لماذا وافق أمجد على التحدث إلينا مطولاً؟ ربما كانت الأسباب مزيجاً من الفضول والعزلة والغضب. فمع انتهاء الحرب بانتصارٍ باهت واقتصادٍ وطني متهالك، مضى مجرمو نظام الأسد في حياتهم بصمتٍ مع ذكرياتهم، يشربون العرق ويدخنون السجائر. أما بالنسبة لأمجد، فكان قد اختبر أيضاً تغييراتٍ في عمله أثارت امتعاضه، حيث أُنهيَ تكليفه بقيادة العمليات في التضامن واليرموك، ونُقل لممارسة وظيفةٍ مكتبية مملّة في الفرع. قد تكون الأسباب السابقة مجتمعةً هي ما دفعت أمجد للاعتراف بارتكابه مجزرة التضامن؛ ربما لا تعرف زوجته وأولاده عن هذا الماضي الأسود أي شيء، أو ربما لم يسأله عنه أحدٌ غيرنا قط.
المخابرات والشبيحة: شبكة القتل المتداخلة
تشير كلمة «مخابرات» في العالم العربي عموماً إلى وكالات الاستخبارات أو الشرطة السرية. يكمن تحت مظلة هذه الكلمة الاصطلاحية مجموعةٌ من الممارسات التي تعبّر عن سلطات ومناطق سيطرة متداخلة جزئياً ومتنافسة غالباً، تقوم أحياناً بالتجسس على بعضها والعمل ضد بعضها بينما تحافظ على الاستقرار الراهن للنظام. أسّس حافظ الأسد امبراطوريته المخابراتية منذ السبعينات اعتماداً على أربع وكالاتٍ استخباراتية: المخابرات العامة أو أمن الدولة والأمن السياسي والأمن العسكري والمخابرات الجوية، يتبع لهذه الأجهزة فروعٌ ازدادت قوتها بشكل ملحوظ بحيث بدأت تشكل في حد ذاتها فاعلاً مهماً مستقلاً نسبياً.
ما يميز الاستخبارات السورية عن مثيلاتها حول العالم بشكل أساسي هو صلاحياتها الواسعة لاستخدام العنف ضد المواطنين السوريين. فالأجهزة السورية تستطيع التنصت والتجسس على المواطنين، كما بمقدورها تهديدهم وابتزازهم، وأيضا اعتقالهم وسجنهم غالباً دون مذكرة أو أي اعتبار لسلطة القانون. تتسم سجون المخابرات السورية بالتعذيب الوحشي الممنهج واسع النطاق الذي ينفّذُه جلادون محترفون، ويمكن للمرء الادعاء أن السجن والتعذيب يُعرِّفان النظام السوري.(8)
لا تقل قدرة المخابرات السورية على المراوغة عن سلطتها، فهي الفاعل الأكثر قوةً في النزاع السوري. مع هذا فهي متعذرةٌ على البحث والدراسة، وسيكون السير في دمشق وطرح أسئلة عن هيكلية المخابرات وأفعالها وتأثيرها مهمةً انتحارية (إلا إذا كان النظام يثق بالباحث). يعمل موظفو المخابرات مستخدمين أسماء حركية أو ألقاب عامة مثل «أبو حيدر» أو «أبو علي» أو «أبو جعفر»، ويمنع منعاً باتاً التدلال عليهم. تهدف هذه الممارسة المتعمّدة للمخابرات السورية إلى الحفاظ على السرية وإثارة الخوف في المجتمع، وهذا كفيلٌ بخلق أساطير مبالغ فيها عن رجال المخابرات وعن شخصياتهم وقُدراتهم. المختلف في الفيديو الذي لدينا أن الجناة يظهرون بشكلٍ صارخٍ بينما يبقى الضحايا مجهولين. يختلف ذلك جذرياً عن معظم فيديوهات الإعدام التي كانت تنشرها داعش، حيث يخفي القتلة فيها وجوههم خلف أقنعة، بينما يحرصون على إظهار وجوه ضحاياهم بوضوح.
يُعتبر فرع المنطقة من أقوى أفرع الاستخبارات العسكرية في سورية، وهو الفرع المسؤول عن محافظة دمشق وريفها. ترأسه في الثمانينات نزار الحلو (1942-2016)، ولكنه أُقيل بعد هروب مجموعةٍ من المعتقلين الإسلاميين، ليستلم رئاسة الفرع نائبه هشام الاختيار (1941-2012) الذي بقي في منصبه حتى العام 2001. أدار الفرع بين العامين 2005 و2012 رئيس قسم التجسس المخضرم رستم غزالة (1953-2015)، من بعده تسلّم عماد عيسى، ثم شفيق مصّة الذي كان رئيس الفرع المسؤول وقت ارتكاب المجزرة عام 2013.
يرأس العميد كمال الحسن الفرع 227 أثناء كتابة هذه الكلمات، ومقرّه الرئيسي عبارة عن مبنى شاحب على شكل حرف W في مجمع المخابرات الواقع بين جامعة دمشق وساحة الأمويين مقابل وزارة التعليم العالي.
كانت قائمة أصدقاء أمجد يوسف على فيسبوك أشبه بمعرض للقتلة، ومن بين أصدقائه وجدنا أحد زملاء أمجد في المخابرات «جمال خ.»، وهو من الطائفة السنية من حي القدم، يخفي بعناية شخصيةً لا ترحم خلف قناع أبوي صاخب ومرح وابتسامة مريضة، ويعلو وجهه شعرٌ رمادي. لهذه الشخصية قدرة كبيرة على خداع أي شخص. فعلى سبيل المثال، ظهر في تقرير شبكة سي ان ان بتاريخ 3 كانون الأول (ديسمبر) 2013 على أنه القائد العسكري «أبو أكثم» الذي يُري المراسل فريدريك بليتغن حي السبينة الواقع جنوب حي التضامن مباشرةً بوصفه القائد الميداني المسؤول عن المنطقة. قَبِلَ «جمال خ.» طلب الصداقة الذي أرسلناه، وفي واحدةٍ من المقابلتين اللتين أجريناهما معه بعد أن وثِق بـ«آنّا» قال: «سأخبرك شيئاً لا يجدر بي أخبارك إياه: أنا رئيس أمجد يوسف»، وقد أصرّ جمال على معرفة من وصل آنّا بـ أمجد يوسف، واصفاً الأخير بأنه: «بطل، أخ الشهيد، وبالتأكيد ليس رأساً صغيراً». وأخذت المحادثة انعطافة حادة عندما سألته آنّا عن الانتهاكات المزعومة:
آنّا: «حدثتني منذ فترة عن إصلاح المعتقلين في السجون، ولكنّ وسائل الاعلام تقول إن النظام السوري قتل المعتقلين في سجونه وارتكب مجازر بحقهم؟»
جمال خ: «جوابي بسيطٌ جداً. لماذا آخذهُ إلى السجن وأقتله ثم أُتّهم بقتله؟ أنا أفضّل قتله على خط الجبهة وينتهي الأمر، فقد مات في معركة. إذا لم تكوني في مرمى نيراني ولكنك عدوتي وتدمرين بلدي، لماذا آخذك إلى السجن وأقتلك فيه ثم أتهم بقتلك؟ يطرح هذا السؤال كثيراً، ولكنه سؤال غبي. إن كان بمقدوري قتل شخصٍ ما في الشارع دون أن يراني أحد فلماذا أجلبه إلى سجني وأعطيه رقماً وغذاءً وماءً وهو عبءٌ على الدولة؟ هل تعلمين أنهم يأكلون ما نأكل؟ إنهم يأكلون من أكلنا. لماذا أجلبه ليأكل ويشرب من أكلي وشربي ويكلّف الدولة؟ وبعدها يتهموني به. هل هناك أغبى من هذا؟… عندما أقوم باعتقال عشرة أو خمس عشرة رجلاً مسلحاً فسيحتاجون إلى ثلاثين أو أربعين جندياً لمرافقتهم. لماذا المشاكل في حين إني قادرٌ على قتلهم في الشارع والراحة؟ لماذا أقتلهم في السجن؟ أنا أفضّل قتلهم في أماكنهم والانتهاء من الأمر»(9)
والآن وبعد أن كشفنا دائرة المخابرات، ماذا عن القاتل الثاني الذي كان يرتدي بزّةً عسكريةً رمادية؟ كانت ذراع أمجد اليمنى في فيديو المجزرة هو نجيب الحلبي، والمعروف أيضاً بلقب «أبو وليم». عرفناه إذ وجدناه وقد تمت الإشارة إليه في منشورٍ على فيسبوك في صفحة «شهداء التضامن». نجيب ابنُ عائلةٍ درزية نازحة من الجولان، ولكنه ولد وترعرع في حي التضامن. وعلى عكس باقي سكان الحي الفقراء، كانت حالة نجيب المادية معقولةً وكان يدير ملهىً في منطقة باب شرقي قبل اندلاع النزاع. أنشأ في عام 2011 أول مجموعةٍ من الشبيحة في التضامن، متخذاً لها مركزاً على خط الجبهة بجوار جامع عثمان، الأمر الذي جعل منه بطلاً في نظر الموالين لنظام الأسد. خِبرتُه في حفر الأنفاق والخنادق كانت سبباً لاستدعائه للإشراف وتقديم المشورة أثناء القيام بهذه الأعمال على الجبهة أو عند ارتكاب المجازر.
كان نجيب في فيديوهات المجزرة يقف على حافّة القبر الجماعي، يدخن سيجارةً ويبتسم للكاميرا صانعاً علامة النصر بيده. لم يكن يُظهِر أي ضيقٍ على الإطلاق بينما يتم إعدام جيرانه الذين أمضى حياته بينهم، ويرمون في الحفرة. ما عرفناه عن نجيب أنه كان متواضعاً وذكياً، مستمعاً جيداً ومحبوباً من الجميع. وكأنه لم يُظهِر أبداً كراهيته وجانبه المظلم لأحد.
«لا يمكنك توقّع أنه سيفعل ذلك. لقد صُدِمتُ عندما رأيت الفيديو» يقول أحد الأشخاص الذي كان يعرفه. مع هذا فقد كان لنجيب أعداء. مات نجيب أثناء حفر نفق على الجبهة في العام 2015. ولا يزال سبب موته مثارَ جدلٍ حتى هذه اللحظة، فهناك من يعتقد أنه كان اغتيالاً دبّره له خصومه، وهناك من يلقي اللوم في موته على المعارضة.
صُمّمتْ مجموعات الشبيحة منذ إطلاقها لتكون قوةً ميليشياويةً فضفاضة، وبِنيّةٍ مُسبقة أن يستحيل تقفّي أثرها بحيث يتم ربطها مع قوات النظام الرسمية، وبهذه الطريقة يستطيع النظام (وقد قام بذلك في مناسباتٍ عدة) المحاججة أن مرتكبي العنف كانوا مجموعةً من المتطوعين المدنيين الذين يعملون خارج سيطرته. أدار فادي صقر (اسمه الحقيقي: فادي أحمد) المقرب من القصر الجمهوري هذه الميليشيات في دمشق. فادي كان بلا ذقن، يدخن بشراهة، أنهى دراسته الثانوية فقط، تفضح الهالات السوداء تحت عيونه قلة نومٍ مزمنة. ومع أنه ينحدر من أسرة تملك بعض الحظوة لدى النظام (كان والده ضابط مخابراتٍ سابق) إلا أنه سُجن بتهم فساد قبل اندلاع الاحتجاجات، وعلاقات الوالد مع النظام لم تفلح في إنقاذ ابنه. ويقال إن فادي قتلَ أحد زملائه في السجن قبل أن يحصل على عفوٍ رئاسي خاص بسبب الحاجة لخبراته القمعية مع تزايد زخم انتفاضة 2011. لم يكتفِ فادي بتأسيس مجموعات الشبيحة، بل شوهد بذاته يهاجم المتظاهرين بواسطة سكين. وسرعان ما أصبح وسيطاً مرموقاً للنظام ظهر علناً في أكثر من مرة برفقة بشار الأسد شخصياً. استفرد فادي صقر بالسلطة وأثرى نفسه لدرجة بات يحتقره موالو الأسد أنفسهم. فأمجد على سبيل المثال لم يعبّر إلا عن ازدراءٍ عميقٍ تجاهه.
يأتي بين نجيب الحلبي والعقل المدبر فادي صقر في الترتيب الهرمي للمجموعة قائد الشبيحة في التضامن، وهو رجل خمسيني، متهم بالكثير من جرائم الاغتصاب،(10) ذو شاربين رفيعين، نحيف ومفزع يعرف بلقب أبو منتجب واسمه «صالح ر.». قاد أبو منتجب مرحلةً من الرعب في التضامن، أطلق عليه زملاؤه أثناءه لقب «هتلر سورية».
قد يستخدم نجيب كلمة «معلم» لمخاطبة رئيسه المباشر أبو منتجب، ولكن يُحتمل أيضاً أن يستخدم الكلمة نفسها عندما يخاطب -أثناء اجتماعٍ ما- رئيس أركان قوات الدفاع الوطني في القصر اللواء بسام مرهج الحسن. يصعب تمييز بسام الحسن فائق السلطة، والملقب بـ«الخال»، عن أي شخص عادي، لكن لا يجب السماح للمظاهر أن تخدعنا، إذ إن «الخال» قادرٌ على تجاوز أي قرار بناءً على علاقة مقربة جداً تجمعه مع بشار الأسد.
يشرح بحثنا ومقاطع فيديو المجزرة بشكلٍ مكثف وقاطع علاقة التعاون والتواطؤ بين الشبيحة وأعلى مستويات الأجهزة المخابراتية.
تطهير الريف الجنوبي
تركّزَ النقاش العام خلال سنوات الحرب حول الاشتباكات والقصف النظام الجوي العنيف على مناطق سيطرة المعارضة. لكن بالمقابل بقيت مناطق سيطرة النظام على الجهة الأخرى من خط الاشتباك منسية. في حين أظهر فيديو التضامن، ومقابلاتنا مع جناة الحرب، وشهادات الناجين، أن ما حدث في التضامن قد ارتقى لعملية تطهير وحشية. فعندما تعمّقنا في البحث، أدركنا أن المجزرة كانت جزءاً من عملية موسعة ارتكبها النظام للتدمير والتطهير في أحياء دمشق الجنوبية. ولم تقتصر عملية الإبادة على المستوى المحلي في هذه المنطقة على نمط المجازر هذا، بل توسعت لتشمل على الأقل أربعة أنماط من العنف: القتل الجماعي الممنهج، والسجون، والاعتداءات الجنسية، والاستغلال الاقتصادي.
الفيديوهات التي بين أيدينا هي نموذج مصغّر عن عمليات القتل المُمنهجة والصامتة في المنطقة الواقعة تحت سيطرة النظام. عندما تسلّحت المعارضة وسيطرت على جزءٍ من التضامن في الثاني عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، بدأ النظام عمليةً متكاملةً من العزل والسيطرة. وأعطى الفرع 227 لمن سَمحَ لهم بالبقاء في الحي أذوناتٍ أمنية عن طريق قادة الدفاع الوطني المسيطرين على الأحياء. وكانت هذه الأذونات مطلوبةً لأجل أي نوع من النشاط، سواء كان عناية طبية مستعجلة أو زيارة صديق. كما نشر الفرع 277 بطاقاتٍ خاصة للمقيمين في الحي، وكانت على نوعين: الصفراء للمقيمين في حي دفّ الشوك، وأما الزرقاء للمقيمين في حي التضامن. واحتوت هذه البطاقات على معلومات عن حاملها: اسمه وعنوانه وأعضاء عائلته ومكان الولادة، وغيرها. وبذلك يكون الفرع قد أسس لنظام مراقبة وسيطرة موسع، وجمعَ معلوماتٍ مفصلة ودقيقة حول المقيمين في الحي.
لقد تم أخذ الضحايا الأوائل في المجزرة من منازلهم أو الشوارع في التضامن سيراً على الأقدام، إلى أماكن قريبة من مقار إقامتهم، حيث قتلوا وبقيت جثثهم في مكان تنفيذ المجزرة بحيث يمكن التعرف عليهم. وقد أظهرت فيديوهات ما بعد القتل أنه قد تم إطلاق النار على الضحايا عن قرب. هؤلاء الضحايا لجرائم النظام قد تم تجاهلهم، واستُخدمت هذه الفيديوهات في حرب السرديات بين المعارضة والنظام.
بعد تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، كان الضحايا يُؤخذون إلى مواقع محددة للإعدام، إما مشياً على الأقدام أو بالحافلات (السرفيس). ثم يُطلق النار عليهم واحداً تلو الآخر من الخلف، وتُحرق جثثهم حتى تصبح رماداً. وقد ظهرت هذه الطرق في القتل نتيجة حاجة جناة الحرب إلى طمس جرائمهم، والتخلّص من جثث الضحايا المكدسة في الشوارع. وعلى إثر ذلك، أسس كل أمير حرب موقعه الخاص للقتل. أدار أمجد واحداً، ولكن تفيد العديد من الشهادات التي أُخذت من الحي بأنّ شخصاً مثل «إبراهيم ح.» المعروف باسم «أبو علي حكمت»، وهو قائد في الدفاع الوطني وعضو سابق في سرايا الدفاع، كان يمتلك مقبرته البدائية لحرق جثث الضحايا الذين اعتقلهم من على الحواجز أو من مستشفى المجتهد. حتى إن جنوده يتفاخرون حول قدراته المضبوطة في قتل الناس وتدمير الدلائل، مدعين أن مجموعته قتلت أكثر من ثلاثين ألف مدني بين العامين 2012 و2015. هناك مبالغة على الأغلب في هذا الادعاء، ولكنه يعكس حجم العنف الممنهج في التضامن كما تصفه شهادة أحد المقيمين في الحي: «كنا نشم رائحة حديد واخزة نتيجة حرق الجثث كل يوم».
أما النمط الثاني للعنف في التضامن فهو السجون. تحوّلَ التضامن مع نهاية العام 2012 إلى سجن كبير بحجم الحي، مع تواجد ما يزيد على ستين حاجز وموقع أمني. حيث ازدادت حواجز الأمن العسكري – الفرع 227 والدفاع الوطني، وتمركزت حول مداخل الحارات في الجزء من الحي الممتد بين شارع الجلاء وخط المواجهات، والذي لا تزيد مساحته عن كيلومترٍ مربع واحد. وبنى قادة الدفاع الوطني جدران قسّمت الحي إلى خمس عشرة منطقة أمنية، ووثّقوا وسجلوا المدنيين المقيمين هناك. ما جعل من هذه المناطق غيتوهات خاصة تخضع لسيطرة وقواعد إدارة كل منهم. بما في ذلك السيطرة على أملاك المدنيين من منازل ومحال وتحويلها إلى سجون سرّية، تُستخدم لاحتجاز المدنيين وتعذيبهم. حتى إن نائب مدير مكتب المعلومات للدفاع الوطني، وصف التضامن بـ«مثلث برمودا» لأن كل من يدخل إليه يختفي. وقد أضاءت الفيديوهات والمقابلات التي أجريناها على حملة اعتقال واسعة في التضامن: أظهرت ثلاث من الفيديوهات تعذيباً شديداً لضحايا مدنيين في منازل خاصة، من ضرب وجلد وحرق وصعق كهربائي وتعذيب نفسي. كما مارس جناة الحرب، بمن فيهم أمجد يوسف ونجيب الحلبي، تعذيباً قاسياً وتجريبياً بغرض الاستمتاع بمعاناة الضحايا. وتشير جميع المعطيات بأن اللواء بسام الحسن كان على علم بهذه السجون، كما أشرف عليها وشجّعَ الجناة.
النمط الثالث للعنف في التضامن هو العنف الجنسي الذي كان سياسةً ممنهجة. حيث أخبرتنا إحدى الناجيات التي أجرينا معها مقابلةً شخصيةً أنها ذهبت إلى مقر الفرع 227 في شارع دعبول لتسأل عن مصير أحد أقربائها، وكان أمجد يوسف يجلس على كرسيه خلف المكتب في ضوء الغرفة الخافت ويدخن السجائر بينما كانت تسمع أصوات التعذيب من الغرفة المجاورة. أصغى أمجد يوسف لها بتمعّن، ووعدها بأن يطلق سراح قريبها بشرط: «إما أن تمارسي معي الجنس أو عليك نسيانه». ومنذ ذلك اليوم اغتصب أمجد هذه المرأة. ولم تكن هي الضحية الوحيدة، كان هناك أيضاً ضحايا كثيرات من أقربائها وجيرانها، وحتى أزواجهنّ كانوا عرضةً للاغتصاب والعنف الجنسي من قبل المخابرات والشبيحة. كما تسبّب خطف الشبيحة الممنهج للرجال في الحي بانتشار جوٍّ من الخوف، وعزّزَ من ذلك الوضعُ الهشُ الذي تخضع له هؤلاء النسوة، مما أجبرهنَّ على مفاوضة الجناة لأجل النجاة، والموافقة بدون رغبة على علاقات جنسية معهم، أو بمعنىً آخر على عبودية جنسية. أما الرجال في الحي فقد اختبروا نوعاً مماثلاً من العنف الجنسي خلال فترات السجن والتعذيب. كان الرجال يُعتَقلون بسبب الاشتباه في علاقتهم بالمعارضة، ولكن ذلك كان في أحيان كثيرة بغرض ابتزاز نساء العائلة.
النمط الرابع والأخير هو السخرة والاستغلال الاقتصادي. مع تصاعد الاشتباكات على خط النار في عام 2013، اعتقل المخابرات والشبيحة الرجالَ من الطائفة السنية من التضامن ودف الشوك ومناطق أخرى، واستخدموهم للسخرة في حفر الأنفاق وبناء الحواجز والجدران على خط الجبهة، مُعرَّضين لنيران فصائل المعارضة. وأما الذين نجوا من المعاناة والمناوشات، فقد أُطلقت عليهم النار وأُحرقت جثثهم. وكان للسخرة هدف عسكري واقتصادي أيضاً، فقد شكلت استثماراً مثمراً لتجار الحرب وقادة المخابرات. إذ كان على المدنيين دفع مبلغ مليوني ليرة سورية للحواجز العسكرية للهرب من السخرة.
من الأشكال الأخرى للعنف والقمع الاقتصادي في التضامن هو المصادرة غير المشروعة لأملاك المدنيين. ازدهر سوق العقارات بعد أن نزح المدنيون من مناطق سيطرة فصائل المعارضة إلى التضامن، فصادر قادة الشبيحة والمخابرات ملكيات القتلى والمُرحلين قسراً من الضحايا، وتم تأجير ملكياتهم في سوقٍ العقارات، تحت حجج كمساعدة أسر الشهداء من الجيش والنازحين أو للضرورات العسكرية. على سبيل المثال: صادر أمجد ورئيسه أكثر من ثلاثين عقاراً في التضامن، وما زالوا يستثمرونها حتى يومنا هذا.