تامر خرمه
خمسة عقود مضت على جريمة اغتيال الشهيد غسان كنفاني، وابنة شقيقته، لميس، في العاصمة اللبنانية بيروت.. بيد أن ما كان يخطه بقلمه، خلال حياته القصيرة، لايزال حاضرا في الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، الذي لايزال يكافح في مواجهة نكبته المستمرة. ولاتزال كلمات “أم سعد” تشكل وقود الثورة الدائمة، باعتبارها الخيار الوحيد لدحر المشروع الصهيوني، وبناء دولة الكادحين والمضطهدين على أرض فلسطين التاريخية، من البحر إلى النهر.
المكانة التي يحتلها غسان في الوجدان الفلسطيني، بل وفي قلوب كافة أحرار العالم، هي نتيجة طبيعية لمشروعه الاستراتيجي، الرافض تماما لأية حلول تسووية مع العدو الصهيوني- الإمبريالي، كما أن إيمانه المطلق بتلازم النضالات الفلسطينية -العربية- الأممية، والذي عبّر عنه بشكل حاسم خلال عمله كناطق رسمي لـ “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، كان من أهم الأسباب التي دفعت العدو الصهيوني لاغتياله، بعد فترة قصيرة من عملية مطار اللد، التي نفذها الجيش الأحمر الياباني في نهاية أيار 1972.
إلى جانب نضاله في الجبهة الشعبية، التي أسهم في رسم ملامح استراتيجيتها وبرنامجها السياسي، ترك كنفاني 18 مؤلفا، ومئات المقالات والدراسات السياسية، التي ترجم معظمها إلى 17 لغة، ونشرت في أكثر من 20 بلد، ما جعل العدو يضعه في أعلى قائمة المناضلين المستهدفين. وهكذا، رحل غسان بجسده، لتبقى أعماله بوصلة لمشروعه الاستراتيجي، الرافض لكل أشكال الردّة الثورية، سواء أكانت تحت غطاء الواقعية المبتذلة، أو “التكتيك” الذي يتجاهل طبيعة التناقض التناحري مع العدو.
أعمال كنفاني كان لها دورا حاسما في تشكيل الهوية النضالية الفلسطينية، خلال مشروعه الأدبي من “أرض البرتقال الحزين” إلى “رجال في الشمس”، فرغم تأثره بالوجودية في بداية مشواره، كما يتبين من أعماله المسرحية، طور صاحب “عائد إلى حيفا” تقنيات فنية عالية، مزجها بالواقعية الثورية، حيث تتجلى هذه التوليفة مثلا في رواية “ما تبقى لكم”، والتي استخدم فيها تقنية “اللاوعي”، مقابل بساطة وعمق “أم سعد”، التي كانت”مزجا بين القصة القصيرة والرواية، فهي مجموعة قصصية، لكنك تستطيع قراءتها كرواية متكاملة”.. على حد وصف الشاعر الفلسطيني، عز الدين مناصرة ذات حوار.
يضيف مناصرة بقوله: “طاقة غسان السياسية والنضالية جعلته يصل بقضية فلسطين إلى أقاصي العالم، إذ كان ينتمي إلى مدرسة النقاء الثوري، وفي انتقاله من الفكر القومي إلى الماركسية كان لا يزال يبحث عن فلسطين… أنقى من عاشرت كانا غسان وناجي العلي… في ذلك الوقت لم يكن من الممكن تخيل الحالة التي أوصلتنا إليها “أوسلو”… لقد كان غسان وناجي يتعاملان مع فلسطين الكاملة التاريخية، لهذا ما زالت أعمالهما، ذات القيمة الفنية العالية، دائمة الخضرة”.
كنفاني، الذي رحل متمسكا بمشروعه الثوري، خانه المتهافتون على المسار الذي سلكته القيادة اليمينية لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد استشهاده بسنتين فقط، عند إعلان برنامج “النقاط العشر”، الذي نشهد تداعياته الواقعية اليوم على الأرض بإقامة سلطة أوسلو، والتنسيق الأمني مع الإحتلال. أوهام الحلول “المرحلية”، أو إقامة “سلطة” في كنف الإحتلال، لا مكان لها في قاموس الشهيد وأدبياته. القضية كانت وستبقى قضية عودة وتحرير، وهذا لا يحتمل عبث التأويلات البراغماتية، كما لا يحتاج إلى صيغ أيديولوجية تحريفية طالما حاولت البيروقراطية المتحللة في موسكو فرضها، انطلاقا من العلاقات الدبلوماسية للاتحاد السوفياتي البائد.
ثورات الشعوب من أجل استقلالها، وثورات الطبقات المضطهدة، ينبغي أن تكون في جوهرها ثورات دائمة ومستمرة.. بغير ذلك سيكون المصير هو الانتحار، سواء على يد المحتل، أو الثورات الرجعية المضادة.. هذا ما كان عليه الحال، وسيبقى، منذ إعلان “الأممية الأولى”.. وهذا ما آمن به غسان. بالنسبة له، تحرير فلسطين يعني بكل بساطة إنهاء الوجود المحض لما يسمى بـ “دولة اسرائيل”، وخلق مجتمع العدالة والمساواة في الأرض الفلسطينية الممتدة من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن، مجتمع تلغى فيه كافة الامتيازات، وكل أشكال الاضطهاد، هذه هي المقاربة الثورية التي آمن بها الشهيد، معلنا بكل حزم أنه: “إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية.. فالأجدر بنا أن نغير المدافعين.. لا أن نغير القضية”!
ننوّه إلى أن الآراء الواردة في المواد المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن آراء ومواقف “الرابطة الأممية للعمال – الأممية الرابعة”