✍🏾ماشا شايكينا.. عامل مصنع ومراسل
تقييم الوعي الجماهيري في ظل الديكتاتورية مهمة صعبة. في روسيا تلوذ الجماهير إلى الصمت.
العمال والطبقات المستغلة والمضطهدة ليس لديها منظماتها الخاصة، ولا قيادة لها.
لا يوجد ما يساعد على التعبير الجماعي، ليس فقط عن حالة الاستياء، بل أيضا عن الآراء، إذ يسود الخوف من آلة سلطة الدولة، التي أظهرت قسوتها في الشيشان وجورجيا وسوريا، والآن في أوكرانيا. المحاكمات الجنائية العديدة “الملفقة”، والإدانات المفرطة بتهم ملفقة، تبين انحراف النظام داخل البلاد.
بطبيعة الحال، فإن عقدين من الدعاية الشوفينية المسعورة والمجنونة كانا كافيين لتنفيذ المهمة القذرة: لا يزال هناك جزء كبير من العمال والناس العاديين يؤيدون الحرب على أوكرانيا. ومع ذلك، وفقا لتقديرات تقريبية للغاية، مستمدة من بيانات غير مباشرة، وحتى مشاعر – لقلة قليلة توافق على الإجابة على استطلاعات الرأي – فإن نحو 20٪ من الروس يعارضون الحرب بشدة، ويدينون عدوان النظام. علاوة على ذلك، ووفقا لنفس البيانات غير المباشرة، فإن غالبية الشباب والعمال ذوي الدخل المنخفض يعارضون الحرب. بالمقابل، فإن نسبة التأييد للنظام أعلى بين كبار السن بحوالي 20٪، ومن المثير للاهتمام أن دعم الطبقة الوسطى يبلغ أيضا نحو 20٪. هذه البيانات مثيرة للفضول لأن العديد من “الشخصيات العامة” والمثقفين الذين ذهبوا إلى المنفى يحبون انتقاد الشعب الروسي “الخامل والمظلم والمسكون بالمرارة”.
لكن هذا لا يعني أن كل العمال ضد الحرب، وأن كل هذه هي أقطاب المجتمع المتطرفة ، لكن هذا الانقسام موجود وعميق ولا يمكن التوفيق فيه. وهذا يعطي سببًا للحديث عن التهديد المحتمل بحرب أهلية في روسيا. هذا الانقسام يمر حرفياً بالعائلات، وهو مأساة حقيقية. بالنظر إلى أن حوالي ثلث الروس لديهم أقارب مثل الإخوة والأخوات في أوكرانيا، فقد اتخذ هذا التقسيم أبعادًا كارثية على المجتمع الروسي. من يعيش في الأحياء الأكثر ثراء في المدن الكبرى يؤيدها. الغالبية العظمى من عامة الشعب الروسي صامتة، وتواصل عيش حياتها الروتينية، والفقيرة بشكل عام، وتفضل عدم التفكير أو التحدث عن الحرب.
المجتمع الذي استقطبته الحرب
ومع ذلك، فقد أدت مسألة الحرب إلى تكثيف الاستقطاب في المجتمع وزيادة حدته. معارضو الحرب لن يغفروا لنظام بوتين جرائمه، فبالنسبة لهم (بالنسبة لنا) تغيرت الحياة، وباتوا يتطلعون إلى أمر واحد ورغبة واحدة: انهيار النظام ومعاقبة المسؤولين عن الحرب. وفي المقابل، فإن مؤيدي الحرب يعتبرون خصومهم ليس مجرد معارضة سياسية، بل خونة ومجرمين حقيقيين. هذان هما قطبي المجتمع المتناقضين، فهذا الانقسام موجود وعميق ولا يحتمل التوفيق، ما يعطي سببا للحديث عن التهديد المحتمل بحرب أهلية في روسيا. حتى أن الانقسام موجود حرفيا داخل العائلات، وهذه مأساة حقيقية.
ونظرا إلى أن نحو ثلث الروس لديهم أقارب وأخوة وأخوات في أوكرانيا، فقد اتخذ هذا الانقسام أبعادا كارثية على المجتمع الروسي.
الطبقة العاملة
من المهم إدراك حقيقة أن العمال الروس أنفسهم مضطهدون للغاية. سنوات “استقرار” نظام بوتين كانت سنوات عمل شاق للعمال، الذين يعانون من فقدان المزايا الاجتماعية. الروس يغادرون القرى والبلدات الصغيرة بشكل جماعي بسبب عدم وجود وظائف، والمدارس والمستشفيات فيها باتت مغلقة. لكسب دخل لائق إلى حد ما، يتوجب على العامل كسر ظهره في العمل سبعة أيام في الأسبوع، لتناول الطعام، ونيل القليل من النوم، والعيش في شقق مستأجرة، والتنقل عبر وسائل النقل المزدحمة. بالنسبة للجماهير العاملة، فإن الظروف المادية التي تسمح بالتفكير أو التحليل أو التخطيط ببساطة غير موجودة.
لقد دمر النظام كافة وسائل الإعلام المستقلة إلى حد ما. الشرطة السرية تتغلغل في المجتمع بأسره، وتمارس القمع، وتقوم بالسيطرة أو التسلل لإحباط أدنى دفعة نحو التنظيم الذاتي، الذي لا يمكن تحقيقه إلا عند نيل القوة والإرادة اللازمتين. كل ما تبقى هو التلفاز بما يبثه من شوفينية متفشية، أو مقاطع اليوتيوب أو التيك توك الغبية.
لذا، فإن الفكرة التي انتشرت على نطاق واسع بأن “الروس يدعمون النظام والحرب بشكل كبير” هي فكرة خاطئة تماما. لا يوجد دعم جماهيري للحرب، وإنما عمال وشغيلة مضطهدون إلى أقصى حد. هناك أيضا شعوب أصلية مضطهدة في الاتحاد الروسي متعدد القوميات. من الواضح، نظرا للنسب المئوية، أن غالبية الذين تم تجنيدهم للحرب هم من سكان جمهوريات وطنية مثل بورياتيا وياكوتيا وداغستان. وليس من قبيل الصدفة أن تكون أكبر الاحتجاجات ضد التعبئة قد اندلعت في تشرين الأول من العام الماضي في هذه الجمهوريات. وبالإضافة إلى الناس العاديين، هناك نخبة المثقفين، التي تعيش بشكل جيد في المدن الكبرى، والتي قدمت لسنوات عروض أزياء عصرية، أو نشرت مجلات مولتها شركات بوتين. بعضهم غادر البلاد ليكذب بشأن “الدعم الهائل للنظام من الشعب”. لكن بالطبع، هناك عدد كبير من المثقفين الذين غادروا روسيا هربا من قمع النظام الدائم.
تمرد بريغوجين، عصيان، أو “زحف”؟
كما شهدنا، فإن الحقائق المحيطة بمسيرة مجموعة فاغنر إلى موسكو في 24 حزيران تتناقض مع “الدعم الهائل المفترض للنظام”. لم تكن هناك مظاهرة واحدة لدعم بوتين في أية مدينة روسية عندما شجب التمرد في رسالته للأمة.
كثير من الروس لم يعرفوا حتى ما هي “فاغنر”. اعتقد كبار السن الذين يتابعون الأخبار على التلفاز أن روستوف قد وقعت في قبضة الجيش الأوكراني! كما لم يفهموا معنى “سرية عسكرية خاصة”. كانوا يسألون: “ماذا تقصد بالخاصة؟”.
كما أن بعض قدامى المحاربين وقعوا في شرك التشبيه الذي قدمه بوتين: “أن بريغوجين مثل لينين، الذي طعن بلدا في حالة حرب من الخلف”. قال أحدهم الذي صدم بمنطق التمرد واستعصى عليه فهمه: “إنه (بريغوجين) مثل لينين، يركب سيارة مصفحة، والتاريخ يعيد نفسه”.
“إذا أراد بوتين استعادة النظام، فسوف يهزم فاجنر!” قالت إحدى العاملات التي كانت ربما تتحدث عن الحرب لأول مرة منذ بدايتها. نظرت إليها زميلة أخرى بهدوء، وقالت بصوت منخفض وبسرية تقريبا، ولكن ببهجة على وجهها، “دعيهم يفجرون بعضهم البعض”. وقال مبرمج مكتبي معارض للحرب: “إنها مسرحية بحتة لإظهار أن بوتين ضعيف”.
كان 24 حزيران يوم عطلة صيفية للكثيرين. في مترو الأنفاق كان الناس ينظرون باستمرار إلى هواتفهم لمتابعة آخر الأخبار. ومع ذلك، لم تكن هناك حالة خوف أو ذعر. كان هذا الشعور بالهدوء بين السكان تناقض صارخ مع ما كانت تشعر به “السلطات” وما تظهره. بوتين خاطب الأمة في خطاب طارئ في الساعة 10 صباح يوم السبت، وتحدث عن “تمرد عسكري وضع روسيا في خطر”. كانت هناك شائعات حول رحيل الأوليغارشية المعروفة عن البلاد، وهروب كبار المسؤولين. كما كانت هناك نقاط تفتيش وحواجز على مشارف العاصمة. وألغيت احتفالات التخرج (حدث مهم لكل مرهق، يكاد يكون بنفس أهمية حفل الزفاف)، وكذلك كافة المناسبات العامة.
الناس كانوا يتابعون الأحداث ليس بذعر، وإنما باهتمام وإثارة. أحد عمال البناء، وهو مهاجر قيرغيزي، أشار بابتسامة ساخرة إلى أن والديه قد اتصلوا به ليقترحوا أنه ربما يتعين عليه العودة إلى الوطن، لأنه بات في خطر في روسيا. وقال متى لم يكن الأمر “خطيرا” عليه وعلى العمال المهاجرين الآخرين من قيرغيزستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، الذين يشكلون نصف الطبقة العاملة في المدن الروسية الكبرى، حيث يعانون باستمرار من القمع والإذلال من قبل الدولة وعلى يد الشرطة وسلطات الهجرة.
كان أحد العمال، الذي أيد الحرب منذ الأيام الأولى للهجوم، ينشر الصور ومقاطع الفيديو التي تسخر من “التمرد الروسي”. القرويون المسنون المتقاعدون، المعارضون للحرب، أصابهم الذهول وشعور بانعدام الثقة عندما علموا أن رئيس بيلاروس قد تدخل للتوسط “لوكاشينكو؟ عفوا ، مستحيل… ماذا يفعل هناك؟”.
مدير في موسكو، وهو أب لثلاثة أطفال، ومتعاطف مع حرب بوتين، دعاه والديه في مدينة أخرى إلى العودة إليهما، لأنهما كانا قلقين بشأن أحوال عائلته هناك. أجاب: “لا تقلقا، سنجلس في المنزل ونشاهد الأفلام!”.
إذا، نحن تحت وطأة ديكتاتورية بوتين. أنصار حربه ينغلقون على أنفسهم في الداخل عند أول بادرة على وجود تهديد للنظام. وهناك معارضو الحرب الذين تمنوا أن “يفجر كل من بوتين وبريغوجين بعضهما البعض”. وكبار السن علموا للتو ما معنى “الشركة العسكرية الخاصة”. وما زال آخرون يصرون على التساؤل: “هل روستوف مدينة روسية أم أوكرانية؟”، ثم هناك الشباب الذين سلبت منهم حفلات تخرجهم، وتلقوا لاحقا “تحية” متأخرة من الرئيس بوتين، الذي أصيب بالذعر في وقت سابق من ذلك اليوم. وكان كل هذا يحدث في خضم الشكاوى وحالة الاستياء بين غالبية السكان، وكثير منهم مرهقون بسبب حياتهم الروتينية والفقيرة.
هذه الديكتاتورية “قوية” فقط في جهازها القمعي. وهذا الجهاز على وشك الانفجار من الداخل بسبب مأزق الحرب (وهذا يحدث رغم حقيقة أن الهجوم الأوكراني لم يصل بعد إلى قوته الكاملة). لا يوجد دعم هائل للحرب، بل دعم وهمي تغذيه الدعاية الرسمية بشكل محموم.
العديد من مؤيدي الحرب الفاعلين تعاطفوا مع بريغوجين، وباتوا الآن يتجرّعون المرارة، لكنهم ليسوا خائفين. لقد رأوا أن التمرد لم يتم قمعه بعد كل شيء. وأولئك الذين ما زالوا يدعمون بوتين يريدون فقط “الاستقرار”. قد يكونون في أذهانهم شوفينيين “شرسين”، لكنهم في الواقع يختبئون في المنزل عند أدنى خطر. ومع ذلك، فإن الشيء الأكثر أهمية هو أن هناك شريحة كبيرة، صامتة لكنها ترى كل شيء، من الناس الذين يكرهون النظام، ويريدون انتصار أوكرانيا، ويتوقون للاستعداد لاحتمال التدخل الفاعل. هكذا نرى الوضع في روسيا من الداخل.
ترجمة تامر خرمة
مراجعة فيكتوريوس بيان شمس