جسدت حادثة محمد البوعزيزي وحرقه لنفسه نقطة اللاعودة، واعلان الحرية: حرية اختيار الموت. كان الموت “قضاء وقدر” يقرره الحاكم الذي ينصّب نفسه إلهاً على الشعب.
أراد البوعزيزي أن يقول: “أنا حر وبامكاني تقرير مصيري إذا كان للحاكم أن يمنع عني العمل والتنقل والتعليم والصحة فإنه ليس بمقدوره أن يقرر لحظة موتي”. كان هذا تحدياً من نوع آخر لم يعهده النظام في تونس.
فجأة، انتبه الناس، الشباب تحديدا، أن الوحيد الحر في البلد هو البوعزيزي الذي يملك قرار موته بيده في حين كان الجميع أشباه موتى بقرار مؤجل.
أحس الشعب التونسي بالإهانة التي عظُمت لدى النخبة، ولدى “المناضلين الحزبيين”. أعلن الشعب التونسي تحديه للسلطة والحاكم، فيما اختلط الأمر على الأحزاب، فالتحم بعضها فورا بالجماهير، فيما تردد البعض الآخر، وبدأ يبحث عن مخرج للسلطة الحاكمة، بحجة ضرورة استمرارية الدولة، فيما يستبطن مصالح انتهازية حزبية.
لم يكن بن علي مثقفاً، لكنه حاكما مخضرماً، تدرّج من الجيش الى الشرطة الى المخابرات ومنها الى سدة الحكم. يتقن استعمال السلاح وآلات التعذيب، لكنه لا يعرف كيف تخاض “الحروب”، رغم أن تونس لم تخض أي حرب.
حين وصل بن علي إلى السلطة أطبق على الشعب التونسي، فصادر كل السلطات، وحاصر البلد من جهاتها الأربع. أصبحت البلد كلها على فوهة بركان.. البركان الذي سيفجّره البوعزيزي فيما بعد.
أطاح الشباب التونسي ببن علي، فتقدمت الأحزاب “الثورية” والإصلاحية يميناً ويساراً لتقاسم السلطة دون تقديم أي بدائل للشباب. استمر الشباب في احتجاجاتهم ضد السلطة رغم سقوط بن علي. ليبدأ التدخل الخارجي الناعم، فبدأت الأموال بالتدفق من الخارج، وانتشرت الجمعيات غير الحكومية بتمويل أجنبي، فيما سُمح بإنشاء الأحزاب، ليصبح في كل حارة حزب (أحزاب بلا هوية أو برنامج). في الأثناء، تساهلت الدول الغربية، في أوروبا، وكندا، وأميركا بمنح التأشيرات للنخب. وفي تواطؤ ضمني، تم غض النظر عن عمليات التهريب البحرية للفقراء في قوارب الموت باتجاه ايطاليا.
من بين الخيارات المتاحة، والذي كان أسوأها، فتح المجال باتجاه سوريا لاستخدامهم في الصراع الدائر هناك كمرتزقة. كانت النتيجة إفراغ الثورة من الشباب، رافعتها الأساسية.
دخلت البلاد في مرحلة الديمقراطية الشكلية: انتخابات، مجلس تأسيسي، توافقات، سلطة بثلاث رؤوس على الطريقة اللبنانية، ونظام هجين، لاهو رئاسي، ولا برلماني. نظام هجين غير مفهوم.
تعاظمت الديون وأُغرقت البلاد بالقروض التي تقاسمتها الأحزاب، ونهشت جيب المواطن، بعد أن انهارت العملة الوطنية.
استشرى الفساد الذي هو بالأساس موجود ومنتشر في جميع القطاعات دون استثناء، من الأمن، إلى الصحة، إلى التعليم.
تأسست النقابات القطاعية ونشطت وعظمت وأصبحت كمافيات تعمل ضد مصالح الناس إذا ما تجرّأوا على انتقاد المنتسبين إليها، كما هو الحال في قطاعات الصحة والشرطة وقطاع التدريس وغيره.
بقيت مافيا المال والأعمال اللاعب الأكبر الذي لم يتغير طيلة سبعين عاماً تقريبا، فمن المعروف تاريخيا أن لا وجود لطبقة تجار أو رجال أعمال أثرياء في تونس أثناء الفترة الإستعمارية. تأسست هذه الطبقة بعد الاستقلال بإرادة سياسية في عهد بورقيبة لتكون رافعة اقتصادية لرأس مال وطني، ولكنها، لم تشمل سوى الداعمين والموالين والمحظيين المرتبطة مصالحهم بقوى خارجية على رأسها فرنسا. استفادت هذه الطبقة من تسهيلات غير قانونية، أضرّت بالاقتصاد الوطني، أكثر بكثير مما أفادته.
أغلب برلمانيي ووزراء ورؤساء حكومات تونس بعد الثورة يحملون الجنسية الفرنسية، ويمثلون شركات أجنبية. (مهدي جمعة ممثل شركة توتال/ يوسف الشاهد ممثل لشركة بذور اميركية/ إلياس الفخفاخ صاحب شركات تتعامل مع الدولة وهو رئيس حكومة ويحمل الجنسية الفرنسية).
تصدع الديمقراطية التوافقية
رغم محافظة “حركة النهضة” على تقدمها في الانتخابات، لكنها فقدت ثلثي ناخبيها وتراجع عدد نوابها بالبرلمان، وبالتالي استحال عليها أن تشكل حكومة لوحدها، أو بتوافق مع حزب واحد يدعمها كما حدث في سنة ٢٠١٤ مع الباجي قايد السبسي، والذي بوفاته تصدّع حزبه وتشظّى.
الانتخابات الرئاسية كانت مفاجئة للأحزاب، لكن الشعب كان مدركاً لخياره، فقد أراد معاقبة الأحزاب، فانتخب شخصاً من خارج الأطر السياسية، بلا أي تجربة، أو تاريخ نضالي. وكغيره من الديكتاتوريين العرب، أدرك منذ البدء أهمية استخدام القضية الفلسطينية لتثبيت سلطانه في وجه شعبه، عدا عن أنه مسكون بالمؤامرات على حكمه ومحاولات اغتياله المتكررة.
أُتيحت للرئيس قيس سعيّد الفرصة مرتين لتشكيل الحكومة، ولم يوفّق في اختياراته. استقالت الحكومة الأولى، لتضارب مصالح رئيسها الشخصية مع مصالح الدولة، وقد استقالت قبل أن تُستدعى للمساءلة في البرلمان.
وفي الثانية التي اختار رئيسها وبعض أعضائها بنفسه، عاد وأقالها لأنها في نظره لا تنفّذ تعليماته، ولتواطؤها مع البرلمان ومع “حركة النهضة” الإسلامية، لأن الحكومة مسؤولة أمام البرلمان وليس أمام الرئيس.
وفوق هذا كله، ظهر أن الرئيس لا يتقبّل النقد إطلاقاً، سواء في وسائل الإعلام التي لم يخصها بأي مقابلة حتى الآن، أو حتى في الصحف أو على مواقع التواصل الإجتماعي.
كشفت جائحة كورونا جانباً آخر من جوانب الفشل البشعة، بعد أن انهار النظام الصحي وامتلأت المستشفيات بضحايا الإهمال وجشع الحكومة التي فتحت أبواب البلاد للسياحة أمام القادمين من أوروبا، ليتفشى فيها الوباء. عدا عن استهتارها بعدم الانضمام لمبادرة كوفاكس العالمية للحصول على اللقاحات.
قام الرئيس قيس سعيّد بزيارات عديدة للخارج، كان أولها إلى الجزائر، لكن الأكثر إثارة للجدل هي زيارته لفرنسا وتقبيله لكتفي ماكرون وتبرئة فرنسا من الاستعمار، واعتبر تلك الحقبة بمثابة الحماية.
الزيارة الإشكالية كانت لمصر، إذ قام بعد عودته بانقلاب على الطريقة السيساوية، مستغلاً الرفض الشعبي لـ “الاخوان”. ولأول مرة في تاريخ تونس منذ الإستقلال، يدخل الجيش كلاعب أساسي في السياسة.
احتلت الدبابات مجلس نواب الشعب وحاصرت القصر الحكومي وأُقيلت الحكومة وتم تجميد عمل البرلمان، وتجميع السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية في شخصه.
هكذا دخلت تونس إلى نادي الشرق من الباب العريض.
ننوّه إلى أن الآراء الواردة في المواد المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن آراء ومواقف “الرابطة الأممية للعمال – الأممية الرابعة”