هزيمة في الإنتصار ج7
في عام ۱۹۲۱ فقط، بادرت حكومة لينين إلى منع كل معارضة منظمة داخل السوفييتات. فطوال الحرب الاهلية، ضايق البلاشفة المناشفة والاشتراكيين الثوريين، واضعين إياهم تارة خارج القانون، سامحين لهم طوراً بالظهور مجددا في وضح النهار ليعودوا فيحظروهم فيما بعد. أما المرانة تجاه ذينك الحزبين، أو التصلب ضدهما، فكانت تمليهما الظروف والتبدلات التي تطرأ على الحزبين المذكورين اللذين كانت بعض أجنحتها تستند إلى البلاشفة، وأخرى إلى الحراس البيض. إلا أن فكرة ضرورة حلها، من حيث المبدأ، لم تفرض نفسها قبل نهاية الحرب الأهلية. وحتى خلال فترات القمع، كانت مجموعات المعارضة التي لا تدعو صراحة إلى المقاومة المسلحة في وجه البلاشفة تنصرف لشتّى النشاطات العلنية أو السرية. وغالبا ما أزاحها البلاشفة من السوفييتات أو حدوا من تمثيلها فيها، بالقهر أو بالحيلة؛ فبواسطة نظام السوفييتات كانت حكومة لينين تنظم الحرب الاهلية، ولم يكن في ذلك النظام مجال للعناصر المعادية، أو الحيادية. لكن الحكومة كانت ترى إلى أبعد، إلى نهاية القتال، حين تصبح قادرة على احترام القواعد الدستورية للسوفييتات وعلى قبول معارضة منتظمة من جديد. أما الآن فكان البلاشفة يعتبرون الأمر مستحيلا، فكل أحزاب المعارضة دعمت تمرد کرونشتادت، وكان البلاشفة يعرفون إذا ما يمكنهم أن ينتظروا منها. وكلما كانوا يجدون أنفسهم معزولين في الأمة، كلها كانوا يخشون خصومهم. وإذا كانوا الغوهم نصف إلغاء لكسب الحرب الأهلية، فقد بادروا بعد النصر إلى إلغائهم كلياً وإلى الأبد.
ومن المفارقات أن البلاشفة توصلوا إلى فرض احتكارهم السياسي في الوقت ذاته الذي تبنوا فيه سياسة اقتصادية اكثر ليبرالية. فالنيب كانت تفسح في المجال أمام مصالح الفلاحين الفرديين والبورجوازية المدنية. كان من المتوقع أن يدافع هؤلاء عن مصالحهم بالسعي لخلق وسائلهم الخاصة للتعبير السياسي، أو عن طريق استخدام المنظمات المعادية للبلاشفة. وكان البلاشفة مصممين على ألا تبقى هنالك واحدة من تلك المنظمات. «يمكن أن يكون لدينا نظام الحزبين، لكن أحدهما سيكون في السلطة بينما الآخر في السجن» – هذه المزحة المنسوبة إلى بوخارين كانت تعبر عن وجهة نظر شائعة جدا في الحزب. كان بعض البلاشفة يشعرون بالانزعاج من احتكارهم السياسي الخاص بهم، إلا أنهم كانوا يخشون أكثر الخيار الآخر. وقد كتب تروتسكي فيما بعد أنه ولينين فكرا في رفع الحظر الملقى على أحزاب المعارضة مذ يستقر وضع البلاد الاجتماعي والاقتصادي. ربما. إلا أن البلاشفة كانوا يزدادون في الفترة ذاتها اقتناعاً بأن أي معارضة لا بد أن تغدو عربة الثورة المضادة، وهي قناعة ستلعب دورا مهما للغاية في صراعات المرحلة الستالينية. كان يؤرق البلاشفة الخوف من رؤية البورجوازية الدينية الجديدة (التي تطورت سريعاً في ظل نظام النيب)، والانتليجنسيا والفلاحين يتوحدون ليشكلوا في وجههم قوة لا تقاوم؛ لذا لم يتراجعوا أمام أي تدبير يحول دون ذلك. هكذا بعد انتصار الثورة في الحرب الاهلية، بدأت تهرب من ضعفها عن طريق الكليانية.
وفي الحال، تقريبا، بدا ضروريا أن تلغي ايضا كل معارضة في صفوف الحزب البلشفي بالذات. كانت المعارضة العمالية (والى حد ما الدسيميون أيضاً) تعبر إلى حد بعيد عن الخيبة والاستياء اللذين قادا إلى انتفاضة كرونشتادت. كانت التشققات تنزع إلى التواصل، بينما كانت المجموعات المناوئة ميالة للتصرف كأحزاب داخل الحزب. إن إرساء قاعدة الحزب الواحد ثم السماح بعد ذلك بانقسام الحزب إلى تكتلات كان بدا نوعا من العبث. وإذا قيض للبلشفية أن تتمزق إلى حركتين متعاديتين أو ثلاث حركات، کما كان قد تم بالنسبة للحزب الاشتراكي – الديمقراطي القديم، ألن تصبح إحداها عندئذ عربة الثورة المضادة؟ هذا هو السؤال الذي كان يطرحه البعض.
كان في جو مؤتمر ۱۹۲۱ شيء من هذا التوتر، اللاعقلاني في الظاهر، الذي ميز مؤتمر ۱۹۰۳، وكان شبح الانشقاق يرتسم كذلك في الأفق، لكن الانقسامات الحقيقية كانت في هذه المرة أكثر تردداً وارتباكاً مما في عام 1903. والآن، کما آنذاك، لم يكن تروتسکی يتخذ موقعة في النقاش الى الجانب الذي سيغدو فيه بنهاية المطاف. الأن، كما في الماضي، كان همه تجنب الانشقاق، لذا لم يقدم أي اعتراض حين اقترح لينين على المؤتمر حظر أي تكتل أو مجموعة منظمة داخل الحزب؛ وهو ذاته شتت التكتل الذي شكله خلال المجادلة الأخيرة. إلا أن الأمر لم يكن يتعلق بعد بحظر كل معارضة داخل الحزب. فلينين كان يشجع غير الموافقين على التعبير عن تبايناتهم، وكان يدعوهم لعرض وجهات نظرهم في صفحات خاصة من الصحافة البلشفية، أو في ورقات نقاش. وقد طلب إلى المؤتمر أن ينتخب إلى اللجنة المركزية الجديدة قادة كل اتجاهات المعارضة. لكنه ألح على بقاء المعارضة مبعثرة وعلى ألا يتشكل المعارضون في روابط، وعرض مشروع قرار كان أحد بنوده (الذي بقي سريا) يزيد من قدرة اللجنة المركزية على طرد المذنبين، مهما تكن رتبتهم في هرم قدرة الحزب. وساند تروتسكي هذا الاقتراح، أو لم يعترض عليه، على الأقل؛ وتبناه المؤتمر. وفي العاجل، كان هذا البند يستهدف مباشرة شليابنيكوف، الخصم الأشد مراساً لتروتسکی، وقد تم استخدامه ضده بالذات بعد ذلك بقليل. ولم يتبادر إلى ذهن تروتسكي أنه سيستخدم في يوم من الأيام ضده هو بالذات.
هذا النظام، الذي كان يسمح بالمعارضة شريطة أن تبقى دون تنظيم، كان يمكن أن يعمل طالما لا يعترض اعضاء الحزب إلا على مشكلات ثانوية أو عابرة. لكن كان يستحيل تحاشي تجمع المناضلين الملتقين حول رأي واحد، حين تكون الخلافات جدية أو مستديمة. وما كان بإمكان اولئك الذين يتهمون الفريق الحاكم بأنه يحرکه «عداء بيروقراطي وبورجوازي حيال الجماهير»، من مثل أعضاء المعارضة العمالية، ما كان بإمكانهم أن يمتنعوا عن توحيد جهودهم في وجه ما كانوا ينظرون إليه كقوة رديئة ومتينة التنظيم داخل الحزب. هكذا لم يكن في وسع حظر الكتلات، في مرحلة أولى، الحيلولة دون الانشقاق إلا لتسريعه فيما بعد.
لم يمر عامان حتى كان تروتسکی يتبنى الكثير من الانتقادات والمطالب التي صاغها القادة الأقل بلاغة للمعارضة العمالية و الدسيميين، بعد مدها بالمزيد من القوة، تلك الانتقادات والمطالب التي كان قد ساعد على استبعادها. وقد طالب هو الآخر، بقوة، بعودة الديمقراطية العمالية.
* * *
قبل سنوات قلائل، كان تروتسكي المهاجر في فيينا قد رسم لوحة مذهلة لماضي روسيا، أظهر فيها كيف وضع التاريخ الشعب الروسي في «محیط معاد»، وعرضه لضغوط أوروبا الغنية والقوية، وللغزوات من كل حدب وصوب، وهو ما دفعه إلى ترك قدره بين يدي دولة – لویاثان(*). ولكي يتغذى اللوياثان – حسبما کتب – كان يجوّع الأمة، ويؤخر تطور طبقاتها الاجتماعية أو يسرعه، ويدمر حضارتها. وأحد وجوه الثورة كان انتصار الشعب على اللوياثان، وقد بدا الانتصار کاملا لأن الدولة القديمة تحولت الى رماد.
إلا أن الثورة اضطرت، هي الأخرى، إلى استمداد غذائها وحيويتها من ذلك «المحيط المعادي» ذاته، ومنه استمدت كل صرامتها. فالجمهورية الجديدة، الغنية بالافكار وبالتطلعات الشاملة، كانت «فقيرة، ذات فقر روکم خلال ألف عام». وكانت تكره ذلك الفقر بشراسة، لكنه كان لحمها ودمها وحياتها.
كان تروتسكي قد وضع بمقابل «السهام والأقواس والدانتيلا القوطية» الخاصة بإقطاعية أوروبا الغربية الابتذال الهمجي والفظ للإقطاعية الروسية القادرة فقط على سد شقوق اكواخها الخشبية بواسطة العشب. وكان قارن غنى تطور الطبقة الثالثة في أوروبا وتعقيده بالطوائف الحرفية الروسية التي تشرف عليها الشرطة، و«الشخصية البورجوازية» الغربية الحرة والمثقفة بـ «الأنف الذي كان يمكن ان تنهال عليه يد أي شرطي أو رجله». بيد أنه من أحد تلك الأكواخ الخشبية التي ضربتها الثورة والحرب، خرج هو والحزب البلشفي ليفتحا الطريق للاشتراكية. وخلافا لكل توقع، أدار الغرب «المتقدم والمتحضر» ظهره للثورة، وسوف يكون على البلشفية أن تتحصّن خلال عشرات السنين في الإطار الذي ولدت فيه، بغية تحويله. وما كان يمكن لنوع الاشتراكية الذي بنته آنذاك إلا أن يحمل سمة إرثها التاريخي. وستضطر تلك الاشتراكية إلى التطور، قاسية وفظة، من دون السهام والاقواس والدانتيلا التي حلم بها الاشتراكيون. ولما كانت تطوقها قوی معادية راقية، سرعان ما استسلمت للدولة الجديدة – اللوياثان، المنتصبة من رماد الدولة القديمة. وكان على الدولة الجديدة – كالقديمة – أن تدافع عن الأمة وتعطيها الجراية، وأن تؤخر تطورها وتسرعه، وتمحو الشخصية الإنسانية، الشخصية الثورية البروليتارية. وأن يكون تروتسكي، عدو اللوياثان، قد جعل من نفسه أول صانع لقيامته، فتلك سخرية أخرى للتاريخ.
وكتب تروتسكي أيضا في بداية مسيرته: «إن طبقة عاملة قادرة على ممارسة دیکتاتوریتها على المجتمع لن تتسامح إزاء سلطة دیکتاتور تمارس عليها هي بالذات. وحوالي ۱۹۲۱، أبدت الطبقة العاملة عجزها عن ممارسة ديكتاتوريتها الخاصة بها، لا بل كانت عاجزة عن ممارسة رقابة على أولئك الذين كانوا يحكمون باسمها. فبعد أن أنهكتها الثورة والحرب الأهلية، توقفت تقريبا عن الوجود كقوة سياسية. آنذاك نادى تروتسكي بـ «الرسالة التاريخية» للحزب، وبحقه في أن يفرض على البروليتاريا، كما على سائر المجتمع، وصاية لا هوادة فيها. كانت تلك هي الفكرة القديمة «اليعقوبية» القائلة بأن من حق أقلية صغيرة، فاضلة ومستنيرة أن «تحل محل» شعب لم يبلغ النضج بعد، لتقدم له العقل والسعادة؛ وهي فكرة كان تروتسكي فضحها علنا كالوسواس الوراثي الخاص بالدیسمبريين والنارودنيين والبلاشفة. وكان يقول آنذاك إن «ذلك الوسواس» عکس ضمور كل الطبقات الاجتماعية في روسيا وبلادتها. وكان مقتنعاً بأنه مع ظهور طبقة عاملة حديثة واشتراكية، جرى تجاوز ذلك الضمور. وقد أثبتت الثورة انه كان على حق. إلا أنه بدا أن كل طبقات المجتمع الروسي تسقط من جديد في سبات عميق، بعد انتفاضات الطاقة لديها ونضالاتها الجبارة بين ۱۹۱۷ و ۱۹۲۱. إن المسرح السياسي، الذي كان يزدحم بالحاضرين طوال السنوات الأخيرة، بدا مقفراً؛ لم يبق غير مجموعة واحدة تتكلم بقوة باسم الشعب؛ وحتي المستمعون إليها سوف يتقلص عددهم شيئا فشيئا.
حين حث تروتسكي الحزب البلشفي آنذاك على الحلول محل، الطبقات الكادحة، لم يفكر وسط نار العمل والجدال بالمراحل اللاحقة من تلك السيرورة التي تنبأ بها مع ذلك منذ زمن طويل بنفاذ بصر غریب. «سيحل جهاز الحزب محلى مجموع الحزب؛ ثم تحل اللجنة المركزية محل الجهاز؛ وفي الاخير، يحل دیکتاتور واحد محل اللجنة المركزية».
كان الديكتاتور ينتظر الآن في مؤخرة المسرح.
______________
(*) مسخ في الميثولوجيا الفينيقية، مر الحديث عنه ايضا في التوراة، ولا سيما في سفر أيوب، وورد في رؤیا اشعيا كالقدرة الوثنية التي يجب أن تخضع ليهوه (م).
لمراجعة الفصل السابق يرجى الدخول من خلال الرابط أدناه:
https://litci.org/arab/archives/4468?fbclid=IwAR1Rl7ntOeWsWCW5P_xCFh4oBePy415oo3ulVzBf2_mC__3SYzvvauIgDW0