تأليف: ليون تروتسكي
ترجمة: جورج طرابيشي
تقديم
إلى جانب كتابات لينين الثرّة والفذّة عن المسألة القومية، ثمّة نصان يعدّان بحكم الكلاسيكيين في الموضوع: نص عام 1913 لستالين المعروف باسم “الماركسية والمسألة القومية”، ونص تروتسكي “المسألة القومية” الذي يؤلّف فصلاً “مستقلاً ذاتياً” من سِفره الضخم: “تاريخ الثورة الروسية”.
ونظراً إلى أن كتابات لينين ونص ستالين قد تُرجمت -حتى أكثر من مرة- إلى العربية،ونظراً إلى أن الترجمة العربية بكتاب “تاريخ الثورة الروسية” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لم تتضمن -لسبب نجهله- ترجمة الفصل الهام عن “المسألة القومية”، فقد أصبح إصدرا النص المحذوف في كرّاس مستقل أمراً ضرورياً، لأهمية النص أولاً، ولأنه نص مستقل بذاته إلى حد كبير ثانياً.
يبقى أن نقول أن تروتسكي يتناول المسألة القومية هنا من منظور تاريخي. وعيني محدّد تماماً: روسيا المتعدّدة القوميات في ظل عهود ثلاثة، العهد القيصري، وعهد ثورة شباط الديموقراطية البرجوازية، ومستهل العهد البلشفي (عهد لينين). بيد أن التناول التاريخي والعيني للمسألة القومية في روسيا المتعدّدة القوميات لا يعني أن النص يتحاشى التعميمات السوسيولوجية. بل على العكس من ذلك، فالتاريخ -والكلام لتروتسكي- ما كان ليكون ذا قيمة البتة لولا أنه يعلمنا شيئاً ما.
ج. ط
المسألة القومية
اللغة أهم أداة لارتباط الإنسان بالإنسان، وبالتالي للارتباط بالاقتصاد. وتغدو اللغة لغة قومية مع رجحان كفّة تداول البضائع الذي يوحّد الأمة. على هذا الأساس تقوم الدولة القومية بوصفها أنسب أرضية وأكثرها طبيعية وفائدة للعلاقات الرأسمالية. وفي أوروبا الغربية بدأ عصر تكوين الأمم البرجوازية، إذا ضربنا صفحاً عن نضال هولندا في سبيل الإستقلال ومصير انجلترا الجزيرية، مع الثورة الفرنسية الكبرى، واكتمل من حيث الجوهر، بعد ما يقارب القرن، بتكوين الإمبراطورية الألمانية.
ولكن في المرحلة التي توقّفت فيها الدولة القومية في أوروبا عن استيعاب قوى الإنتاج وشرعت تتحول إلى دولة إمبريالية، لم يكن الشرق -فارس، البلقان، الصين، الهند- قد تخطّى بعد بداية عصر الثورات القومية -الديموقراطية التي وجدت حافزها في ثورة 1905 الروسية. وجاءت حرب البلقان في عام 1912 لتنجز تكوين الدولة القومية في جنوب شرقي أوروبا. ثم أكملت الحرب الإمبريالية التي أعقبتها ما لم يكن قد اكتمل بعد من عمل الثورات القومية، إذ أدّت إلى تقطيع أوصال النمسا – المجر، وإلى خلق بولونيا مستقلة، ودول متاخمة انفصلت عن إمبراطورية القياصرة.
لم تكن روسيا قد تشكّلت كدولة قومية، وإنما كدولة قوميات. وكان ذلك يتّفق وطابعها المتأخر. فعلى أساس من زراعة خفيفة (أفقية) قد طفق يتطوّر لا في العمق، ولا من خلال تحويل الإنتاج، وإنما في العرض، من خلال توسيع دائرة عملياته. كان التاجر والمالك والموظّف ينتقلون من المركز إلى المحيط، في إثر الفلاحين الذين راحوا يتشتّتون، وبحثاً عن أراضٍ جديدة، وتهرباً من الضرائب، ويدلفون إلى أقاليم جديدة تستوطن فيها أقوام أشد تأخراً أيضاً. كان توسّع الدولة في جوهره توسع اقتصاد زراعي أثبت، بالرغم من كل بدائيته، تفوقه على بدو الجنوب والشرق. وقد غدت دولة الطوائف والبيروقراطية هذه، التي تكوّنت على أساس تلك القاعدة الرحيبة التي ما ونت تتوسّع، قوية بما فيه الكفاية لتخضع لنيرها في الغرب نفسه، بعض أمم تتقدّم عليها حضارة لكنها تعجز، بسبب ضآلة تعداد سكانها أو في أعقاب أزمة داخلية، عن الذود عن استقلالها (بولونيا، ليتوانيا، الأقاليم البلطيقية، فنلندا).
لقد انضاف تدريجياً إلى السبعين مليوناً من الروس الكبار الذين كانوا يؤلّفون الكتلة المركزية في البلاد زهاء تسعين مليوناً من “الدخلاء” الذين كانوا ينقسمون انقساماً ظاهراً للعيان إلى زمرتين: الغربيين، وكانوا يتفوقون على الروس -الكبار ثقافة، والشرقيين الذين كانوا أدنى منهم مستوى. هكذا تكوّنت امبراطورية لم تكن القومية السائدة فيها تمثّل سوى 43 بالمئة من السكان، بينما كان 57 بالمئة (بينهم 17 بالمئة من الأوكرانيين و6 بالمئة من البولنديين و4,5 بالمئة من الروس- البيض) ينتمون إلى قوميات متباينة في درجة ثقافتها وفي اللا تساوي في حقوقها.
كانت أشرس أشكال الإستغلال تتولّد من متطلبات الدولة النهمة وعن فاقة القاعدة الفلاحية. وكان الاضطهاد القومي في روسيا أفظع بما لا يقاس منه في الدول المجاورة، لا على الحدود الغربية، بل حتى على الحدود الشرقية أيضاً. وكانت المشكلة القومية في روسيا القيصرية تأخذ أبعاد قوة انفجارية هائلة بحكم العدد الكبير من الأمم المهضومة الحقوق وتفاقم وضعها الحقوقي.
إذا كانت الثورة البرجوازية في الدولة المؤلفة من قومية متجانسة نمّت وطوّرت ميولاً جارفة في اندفاعها نحو المركز، رافعة راية النضال ضد الانعزالية الإقليمية كما في فرنسا أو ضد التجزئة القومية كما في إيطاليا وألمانيا، فإن الثورة المتأخرة للبرجوازية في الدول غير المتجانسة قد أطلقت، على العكس، القوى النابذة المركسة (البعد عن المركز). وبالرغم من التعارض السافر بين هاتين السيرورتين، معبّراً عنه بلغة الإوالة (علم الميكانيك)، فإن وظيفتها التاريخية واحدة بقد ما كان المقصود في كلتا الحالتين استخدام الوحدة القومية كخزّان اقتصادي ثرّ: فقد كان لا بد في سبيل ذلك من تحقيق النمسا – المجر.
كان لينين قد تكهّن في الوقت المناسب بالطابع الحتمي للحركات القومية المركسة (المبعدة عن المركز) في روسيا، وناضل بعناد، طوال سنين، ضد روزا لوكسمبورغ بوجه خاص، دفاعاً عن الفقرة 9 المشهورة من البرنامج القديم للحزب، التي كانت تنص على حق الأمم في تقرير مصيرها بنفسها، أي في الإنفصال التام عن الدولة. وما كان الحزب البلشفي يلزم نفسه البتة، بحكم ذلك، بالقيام بدعاية انفصالية. وإنما كان يعهد فقط بأن يقاوم بلا هوادة جميع ضروب الاضطهاد القومي، بما في ذلك الإبقاء بالقوة على هذه القومية أو تلك في حدود دولة مشتركة، وعن هذا الطريق، وعنه وحده، أمكن للبروليتاريا الروسية أن تفوز تدريجياً بثقة القوميات التي كانت رازحة تحت نير الاضطهاد.
لكن لم يكن ذلك سوى وجه واحد من وجوه المسألة. فقد كان للسياسة البلشفية في المضمار القومي طابع آخر، يتناقض ظاهرياً مع الأول، ولكنه يتمّمه في الواقع. فضمن كوادر الحزب، وبوجه عام المنظمات العمالية، كانت البلشفية تطبق أشد أشكال المركزية الصارمة، مناضلة بلا لين ولا هوادة ضد كل عدوى قومية قمينة بأن تؤلّب العمال بعضهم على بعض أو بأن تزرع الفرقة بين صفوفهم. وفي الوقت الذي كانت فيه البلشفية تنكر على الدولة البرجوازية الحق في أن تفرض على أقلية قومية ما إقامة جبرية أو حتى لغة رسمية، كانت ترى أيضاً أن مهمتها المقدّسة حقاً هي أن تربط، على أوثق نحو ممكن، وعبر انضباط طبقي طوعي، شغيلة مختلف القوميات في كلٍ واحد. هكذا كانت تنبذ نبذاً باتّاً المبدأ القومي – الإتحادي في بنية الحزب. فالتنظيم الثوري ليس نموذج الدولة المقبلة، وإنما هو مجرّد وسيلة لخلقها. والمفروض في الأداة أن تكون مناسبة لصنع النتاج، لكن لا يفترض بها البتّة أن تتشبّه به. إن تنظيماً مركزياً هو وحده الذي يستطيع أن يكفل نجاح النضال الثوري- حتى عندما يكون الهدف القضاء على الاضطهاد المركزي الذي ترزح تحت نيره الأمم.
كانت الإطاحة بالملكية تعني أيضاً، وبالضرورة، بالنسبة إلى أمم روسيا الرازحة تحت الاضطهاد، إنجاز ثورتها القومية. وهنا أيضاً تجلّى ما حدث في سائر ميادين نظام شباط(1): فالديموقراطية الرسمية، المقيدة بتبعيتها السياسية للبرجوازية الإمبريالية، وجدت نفسها عاجزة مطلق العجز عن إزالة العوائق والقيود القديمة. ونظراً على أنها كانت تعتقد أن حقها في تسوية مصير سائر الأمم لا يقبل المنازعة، فقد استمرت بالتشبّث بكل غيرة وحمية بمصادر الثروة والقوة والنفوذ التي كانت تتمتّع بها البرجوازية الروسية -الكبيرة بحكم مركزها المتفوق والغالب. وكل ما فعلته الديموقراطية التوفيقية أنها ترجمت تقاليد السياسية القومية للقيصرية إلى لغة البلاغة التحريرية: فقد بات المطلوب الدفاع عن وحدة الثورة. لكن الائتلاف الحاكم كانت له حجة أخرى أشد خطورة: الاعتبارات التي يمليها زمن الحرب(2). وهذا يعني أن جهود مختلف القوميات في سبيل التحرر كانت تصور على أنها من صنع هيئة الأركان النمساوية – الألمانية. وهنا أيضاً كان الكاديت يقومون بدور العازف الأول، بينما كان التوفيقيون يعزفون على الآلات المصاحبة.
وطبيعي أن السلطة الجديدة ما كان لها ألا تبدّل شيئاً في الكثرة المقرفة من الإهانات القروسطية التي كانت تنزل بالأقوام “الدخيلة”. لكنها كانت تأمل أن تكتفي، وتسعى إلى تحقيق ذلك، بإلغاء القوانين الإستثنائية ضد شتّى الأمم، أي بتطبيق مساواة ظاهرية بين جميع عناصر السكان أمام بيروقراطية الدولة الروسية – الكبيرة.
كانت المساواة الشكلية في الحقوق الدستورية في صالح اليهود بوجه خاص: فقد بلغ عدد القوانين التي كانت تحد من حقوقهم ستمئة وخمسين قانوناً. أضف على ذلك أن اليهود، ما كانوا يستطيعون أن ينشدوا لا استقلالاً في الدولة ولا حتى استقلالاً إقليمياً ذاتياً. أما المشروع المسمّى بـ “الإستقلال الذاتي القومي – الثقافي”، الذي كان يفترض فيه أن يجمع شمل اليهود ويوحّدهم على امتداد البلاد قاطبة حول مدارس ومؤسسات أخرى، أقول: أمّا هذه اليوتوبيا الرجعية التي اقتبسها فقد ذابت من اليوم الأول للحرية كما يذوب الشمع تحت أشعة الشمس.
لكن الثورة هي على وجه التحديد ثورة لأنها لا تكتفي بالصدقات، ولا بالدفع على أقساط. فإلغاء القيود المخزية حقّق من حيث الشكل مساواة في الحقوق بين المواطنين، بصرف النظر عن القومية؛ لكن تجلّت بالمقابل، بمزيد من الحدّة، اللا مساواة في الحقوق الدستورية للأمم ذاتها، إذ بقي معظمها في وضع الأولاد غير الشرعيين أو المتبنين للدولة الروسية – الكبيرة.
إن المساواة في الحقوق المدنية لم تهب شيئاً للفنلنديين الذين كانوا ينشدون لا المساواة مع الروس، وإنما الإستقلال عن روسيا. كما أنها لم تحمل شيئاً إلى الأوكرانيين الذين لم يعرفوا في الماضي أي تقييد لأنهم نسبوا بالقوة إلى الروس. كذلك لم تبدّل شيئاً في وضع الليتوانيين والأستونيين المسحوقين تحت وطأة الملكية العقارية الألمانية والمدنية الروسية – الألمانية. ناهيك عن أنها لم تخفّف من سوء مقادير شعوب آسيا وأقوامها المتأخّرة التي كانت مقضياً عليها، لا بالتقييدات وإنما بأغلال قنانة اقتصادية وثقافية، بأن تحيا في الدرك الأدنى من انعدام الحقوق. إن جميع هذه المسائل لم يشأ الائتلاف الليبرالي – التوفيقي حتى أن يطرحها. وبذلك لبثت الدولة الديموقراطية نفس دولة الموظّف الروسي – الكبير الذي لم يكن مستعداً لأن يتخلى عن مكانه لأي كائن.
وفيما راحت الثورة تجذب إليها جماهير متعاظمة في أطراف الدولة، اتضح للعيان بمزيد من الجلاء أن اللغة الرسمية هناك هي لغة الطبقات المالكة. فنظام الديموقراطية الشكلية، بما يتضمّنه من حرية الصحافة والاجتماعات، أرغم القوميات المتأخّرة المضطهدة على أن تشعر، بمزيد من الألم، بمدى حرمانها من الوسائل الأساسية لتطور ثقافي:/ مدارس خاصة بها، محاكم تابعة لها، وسلكها الخاص بالموظّفين. وكانت الإحالات إلى الجمعية التأسيسية القادمة مثيرة للأعصاب لا أكثر: فقد كان محتّماً، بعد كل شيء، أن تكون الغلبة في الجمعية التأسيسية لنفس الأحزاب التي كوّنت الحكومة المؤقتة والتي كانت لا تزال متمسّكة بتقاليد المروسين، مبيّنة بذلك الحد الذي لا تريد الطبقات الحاكمة أن تتخطاه.
وصارت فنلندا على حين غرة شوكة في جسم نظام شباط. فنتيجة لخطورة المسألة الزراعية التي كانت تمس في فنلندا “التورباري”، أي صغار المزارعين المضطهدين، تمكن العمال الصناعيون الذين يؤلّفون في مجموعهم أربع عشرة بالمئة من السكان من جرّ القرية خلفهم. هكذا غدا “السييم” الفنلندي (الدييت) البرلمان الوحيد في العالم الذي حصل فيه الاشتراكيون – الديمقراطيون على الغالبية: مئة وثلاثة مقاعد نيابية من أصل مئتي مقعد. وبعد أن أعلنت الاشتراكية – الديمقراطية في مرسوم 5 حزيران استقلال “السيم”، فيما عدا المسائل المتعلّقة بالجيش والسياسة الخارجية، توجّهت إلى “الأحزاب الشقيقة في روسيا” لكي تمحضها تأييدها ومساندتها. واتفق أن الالتماس أُسيء توجيهه كل الإساءة. وفي البداية تنحّت الحكومة جانباً، تاركة حرية العمل لـ “الأحزاب الشقيقة”. فقدّم وفد برئاسة تشيخذره(3) للتأنيب والتقريع، ولكنه عاد أدراجه من هلسنغفور(4) بخفي حنين. عندئذ قرر وزراء بتروغراد الاشتراكيون: كيرنسكي، تشيرنوف، سكوبيليف، تسيريتلي(5)، أن يصفّوا بالعنف حكومة هلسنغفور الاشتراكية. ووجّه الملكي لكومسكي، رئيس أركان القيادة العامة الكبرى، تحذيراً إلى السلطات المدنية وإلى السكان: من أن “مدنهم، وفي المقام الأول هلسنفور، ستخرب” في حال قيام أي مظاهرة ضد الجيش الروسي. وبعد أن مهّدت الحكومة الميدان على هذا النحو أعلنت، في بيان مفخّم، يكاد أسلوبه أن يكون منتحلاً عن العهد الملكي، حلّ “السييم”، ووضعت على أبواب البرلمان الفنلندي، في نفس اليوم الذي بدء فيه بشن هجوم في الجبهة، جنوداً روساً جرى سحبهم من الجبهة، هكذا تلقّنت جماهير روسيا الثورية، وهي في الطريق نحو أكتوبر، درساً جيداً تعلمت منه ما المكانة الإعتبارية التي تحتلها مبادئ الديمقراطية في صراع القوى الطبقية.
إزاء انفلات الحكم القومي النزعة هذا من عقاله، أخذت القوات الثورية في فنلندا موقفاً مناسباً. فقد أعلن المؤتمر الإقليمي للسوفييتات المنعقد في هلسنغفور في النصف الأول من أيلول: “إذا ارتأت الديمقراطية الفنلندية ضرورة لاستئناف جلسات السييم، فإن كل محاولة للوقوف في وجه هذا الإجراء ستعتبر من قبل المؤتمر عملاً مناهضاً للثورة”. كان ذلك بمثابة عرض مباشر للمساعدة العسكرية. لكن الاشتراكية – الديمقراطية الفنلندية، التي كانت تهيمن عليها الاتجاهات التوفيقية، لم تكن على استعداد للسير في طريق الانتفاضة. وجاءت الانتخابات الجديدة، التي جرت تحت سيف التهديد بالحل من جديد، لتضمن للأحزاب البرجوازية، التي حلت الحكومة “السييم” بالاتفاق معها، أغلبية ضئيلة: مئة وثمانية مقاعد من أصل مئتي مقعد.
لكن ما يطرح الآن، في المقام الأول، هي المسائل الداخلية التي تقود بالحتم والضرورة، في سويسرا الشمال تلك، في بلاد جبال الغرانيت، والملكيات الشحيحة تلك، إلى الحرب الأهلية. فالبرجوازية الفنلندية تدرّب بصورة شبه علنية كوادرها العسكرية وتعدّها. وتتشكّل في الوقت نفسه خلايا سرّية للحرس الأحمر. وتتوجّة البرجوازية بالسؤال إلى السويد وألمانيا لتحصل على الأسلحة والمدرّعات. أما العمال فيلقون الدعم والمساندة لدى الجنود الروس. وتتعزّز في الوقت نفسه الحركة باتجاه انفصال كامل عن روسيا في أوساط الدوائر البرجوازية التي كانت لا تزال بالأمس على استعداد للتفاهم مع بتروغراد. وقد كتبت صحيفة الحكومة Huvudstats Bladet: “أن الشعب الروسي فريسة لهيجان فوضوي.. أفلا ينبغي علينا في هذه الشروط.. أن نبتعد بقدر الإمكان عن هذه الفوضى؟”. وقد وجدت الحكومة المؤقتة نفسها مرغمة على القيام بتنازلات بدون انتظار الجمعية التأسيسية(6): ففي 23 تشرين الأول تم إقرار مرسوم “مبدئي” بصدد استقلال فنلندا فيما عدا الشؤون العسكرية والعلاقات الخارجية. لكن “الاستقلال” الآتي من يدي كيرنسكي كان قد أمسى غير ذي شأن: إذ كان قد بقي يومين على سقوطه.
ثمّة شوكة أخرى، كان غرزها أبعد غوراً بكثير، هي أوكرانيا. ففي مستهل حزيران أصدر كيرنسكي أمره بحظر مؤتمر قوات أوكرانيا الذي دعت إليه الرادا(7). ولم ينصع الأوكرانيون للأمر. وإنقاذاً لماء وجه الحكومة صادق كيرنسكي على شرعية المؤتمر بعد تأخير، حين بعث ببرقية مفخّمة أصغى المؤتمر إليها بضحكات لم تعبّر عن كبير احترام. بيد أن الدرس القاسي لم يمنع كيرنسكي من أن يحظر، بعد ثلاثة أسابيع، مؤتمر العسكريين المسلمين في موسكو. وظهر واضحاً أن الحكومة الديمقراطية تتعجّل للإيحاء إلى الأمم المتذمّرة: أنكم لن تأخذوا إلا ما تنتزعونه.
في العدد الأول من Ouniversal، الصادر في 10 حزيران، أعلنت الرادا في معرض اتهامها موسكو بمعارضة الاستقلال الذاتي القومي: “من الآن فصاعداً سنصنع حياتنا بأنفسنا”. وكان الكاديت يعاملون الحكّام الأوكرانيين على أنهم عملاء لألمانيا. وكان التوفيقيون يسدون على الأوكرانيين عظات عاطفية. وأرسلت الحكومة المؤقتة إلى كييف وفداً. ففي الجو الذي كان يغلي غلياناً في أوكرانيا، وجد كيرنسكي وتسيريتلي وتيرشتسنكو أنفسهم مكرهين على التقدم بضع خطوات باتجاه الرادا. لكن بعد سحق العمال والجنود في تموز. أخمدت الحكومة صوت اليمين أيضا في المسألة الأوكرانية. وفي 5 آب اتهمت الرادا، بأغلبية ساحقة، الحكومة بانتهاك اتفاق 3 تموز “بعد أن تسرّبت إليها الميول الإمبريالية للبرجوازية الروسية”. وكتب زعيم السلطة الأوكرانية فينتسشنكو: “حين توجب على الحكومة أن تسدّد الكمبيالة، اتضح أن هذه الحكومة المؤقتة.. محتال صغير يزعم أنه يسوي، بغشه وشطارته، مشكلة تاريخية كبرى”. هذه اللغة التي لا تحتمل التباساً تبيّن مدى الهيبة التي كانت تتمتّع بها الحكومة حتى في الأوساط التي كان يفترض فيها سياسياً أن تكون قريبة منها غاية القرب. إذ أن التوفيقي فينتشنكو لم يكن يختلف في خاتمة المطاف عن كيرنسكي أكثر من اختلاف روائي تافه عن محام خامل الذكر.
وأخيراً نشرت الحكومة في أيلول، والحق يقال، مرسوماً ويعترف لقوميات روسيا -في الأطر التي ستحدّدها الجمعية التأسيسية- بالحق في “تقرير مصيرها بنفسها”. لكن هذه الكمبيالة المسحوبة بدون أي كفالة للمستقبل، والمنطوية على تناقضات، والمبهمة غاية الابهام في كل شيء، إلا فيما تتضمنه من شروط وتحفّظات، لم توح بالثقة إلى أحد: فقد كانت قرارات الحكومة المؤقتة الأخرى تُنبئ بحقيقتها سلفاً.
وفي 2 أيلول قرّر مجلس الشيوخ، وهو نفس المجلس الذي رفض أن يحضر جلساته أعضاء جدد لا يرتدون الزي القديم، قرّر ألّا يوافق على إصدار تعميم مصادق عليه من الحكومة وموجّه إلى سكرتارية أوكرانيا العامّة، أي إلى مجلس وزراء كييف. والدفع؟ لا وجود لقانون عن السكرتارية، وبالتالي لا يمكن إرسال تعميمات إلى مؤسّسة لا مشروعة. ولم يُخفِ الحقوقيون النوابغ أن اتفاق الحكومة بالذات مع الرادا هو بمثابة تعدٍّ على حقوق الجمعية التأسيسية: فأعتى أنصار الديمقراطية المحضة قد باتوا مذ ذاك فصاعداً في جانب شيوخ القصر. وما كان المعارضون اليمينيون يجازفون بأي شيء بتشدّدهم ذاك: فقد كانوا يعلمون أن معارضتهم تطيب للحكام. فلئن كانت البرجوازية الروسية لا تزال تماطل في الاعتراف باستقلال ما لفنلندا، التي كانت على واهن الصلات الاقتصادية بروسيا، فإنها ما كانت تستطيع بأي صورة من الصور أن تقبل بـ “الإستقلال الذاتي” لقمح أوكرانيا وفحم الدونتز وفلزات كريفوي – روغ.
في 19 تشرين الأول أصدر كيرنسكي تعليماته برقياً إلى السكرتاريين العامّين في أوكرانيا “للقدوم فوراً إلى بتروغراد لاستيضاحات شخصية” بصدد تحريضهم المجرم في صالح جمعية تأسيسية أوكرانية. ودعيت في الوقت نفسه النيابة العامّة في كييف إلى فتح تحقيق ضد الرادا. لكن صواعق الغضب التي انهالت على هذا النحو على أوكرانيا لم تُثر من الهلع أكثر مما أثارته من الغبطة بوادر اللطف تجاه فنلندا.
كان التوفيقيون يشعرون إبّان ذلك بأنهم أكثر استقراراً ورسوخ قدم بما لا يقاس من أبناء عمومهم المتقدّمين عليهم سنّاً في بتروغراد. فبغض النظر عن الجو المناسب الذي كان يحيط بالنضال في سبيل الحقوق القومية، كان للاستقرار النسبي للأحزاب البرجوازية – الصغيرة في أوكرانيا وفي غيرها من الأمم الرازحة تحت الإضطهاد، جذور اقتصادية واجتماعية يمكن وصفها بكلمة واحدة: متأخّرة. فبالرغم من التطوّر الصناعي السريع في أحواض الدونتز وكريفوي – روغ، كانت أوكرانيا لا تزال تسير بوجه الإجمال في ركاب روسيا – الكبرى، وكانت البروليتاريا الأوكرانية أقل تجانساً وحنكة. وكان الحزب البلشفي لا يزال ضعيفاً كمّاً وكيفاً، ولا ينفصل عن المناشفة إلا ببطء، ولا يحسن تمييز الأمور في السياسة، وبخاصة في المضمار القومي. وحتى في أوكرانيا الشرقية، الصناعية، كان المشار الإقليمي للسوفييتات، المنعقد في أواسط تشرين الأول، لا يزال يمنح التوفيقيين أغلبية ضئيلة.
كذلك كانت البرجوازية الأوكرانية أشد ضعفاً نسبياً. فلقد كان أحد أسباب عدم الاستقرار الإجتماعي للبرجوازية الروسية في مجملها، كما نذكر. أنها كانت تتألّف، في أقوى شرائحها، من أجانب لا يعيشون حتى على تراب روسيا. أما في الأطراف فقد كانت هذه الواقعة مقترنة بواقعة أخرى لا تقل عنها أهمية: فقد كانت برجوازية البلد، برجوازية الداخل، تنتمي إلى أمّة أخرى غير تلك التي كانت تنتمي إليها جمهرة الشعب الرئيسية.
كان سكان المدن في الأطراف يتميزون كل التميّز بتركيبهم القومي عن سكان القرى. ففي أوكرانيا وروسيا البيضاء كان مالك الأرض والرأسمالي والمحامي والصحفي روسياً – كبيراً، بولونياً، يهودياً، أجنبياً؛ فيما كان سكان الأرياف أوكرانيين أو روساً بيضاً برمّتهم. وفي مناطق البلطيق كانت المدن موطناً للبرجوازية الألمانية والروسية واليهودية، بينما كانت القرية ليتوانية وأستونية بكاملها.
وفي جورجيا كانت الغلبة للسكان الروس والأرمن، وكذلك كانت الحال في أذربيجان التركمانية. وكان ملّاك الأطراف النبلاء والصناعيون والتجار، المنفصلون عن سواد الشعب لا بمستوى حياتهم وأخلاقهم فحسب بل بلغتهم كذلك، تماماً كالإنجليز في الهند، والمتشبثون بالجهاز البيروقراطي دفاعاً عن أراضيهم ومداخيلهم، والمرتبطون ارتباطاً غير قابل للانفصام بالطبقات الحاكمة للبلاد بأسرها، كانوا يجمعون حولهم بطانة محدودة من الموظفين والمستخدمين ومعلمي المدارس والأطباء والمحامين والصحفيين، وإلى حد ما العمال، وهم جميعهم من الروس، محوّلين بذلك المدن إلى مواطن للترويس وللاستعمار.
وكان من الممكن ألّا تنتبه العين لوجود القرية ما دامت هذه الأخيرة صامتة. لكن حتى عندما شرعت ترفع صوتها بنفاد صبر متعاظم، أصرّت المدينة على المقاومة دفاعاً عن وضعها الممتاز. وسرعان ما تعلّم الموظّف والتاجر والمحامي كيف يموّهون صراعهم للحفاظ على المرتفعات الإستراتيجية للاقتصاد والثقافة تحت ستار إدانة متعجرفة لـ “الشوفينية” التي رفعت رأسها من جديد. وكثيراً ما كان مسعى الأمّة السائدة للإبقاء على الوضع القائم يتلوّن بنزعة ما فوق قومية، تماماً كما يأخذ مسعى البلد الغالب للحفاظ على ما نهبه شكل نزعة سلمية. هكذا كان ماكدونالد يشعر أمام غاندي بأنه أممي النزعة. وهكذا كان اندفاع النمساويين باتجاه ألمانيا يبدو لبوانكاريه إهانة للنزعة السلمية الفرنسية.
كتب في أيار وفد رادا كييف إلى الحكومة المؤقتة: “إن الناس الذين يحيون في مدن أوكرانيا يرون أمامهم شوارع هذه المدينة المروّسة.. وينسون تماماً أن هذه المدن ما هي إلا جزر صغيرة في خضم الشعب الأوكراني بأسره”. وحين أكّدت روزا لوكسمبورغ، في مجادلة نُشرت بعد وفاتها بصدد برنامج ثورة أكتوبر، أن النزعة القومية الأوكرانية، التي كانت فيما غبر مجرّد “تسلية” لدزينة من المثقفين البرجوازيين الصغار، قد رفختها رفخاً مصطنعاً خميرة الصيغة البلشفية عن حق الأمم في تقرير مصيرها، وقعت بدورها، بالرغم من أنها كانت صاحية الفكر، في خطأ تاريخي بالغ الخطورة: ففلاحو أوكرانيا لم يتقدّموا في الماضي بمطالب قومية لسبب بسيط وهو أنهم لم يرتقوا بوجه عام إلى مستوى السياسة، والفضل الأكبر لانتفاضة شباط، بل لنقل الأوحد وإن يكن غير كاف، تجلّى على وجه التحديد في أنه أتاح أخيراً إمكانية التحدّث بصوت عالٍ إلى الطبقات والأمم الرازحة تحت أبشع اضطهاد في روسيا.
بيد أن يقظة الفلاحين السياسية ما كان يمكن أن تحدث إلا بالرجوع إلى لغة المولد مع كل ما يترتّب على ذلك من نتائج في المدرسة والمحاكم والإدارات المستقلة ذاتياً. وما كانت معارضة ذلك إلا بمثابة محاولة لإرجاع الفلاحين من جديد إلى حالة العدم.
إن عدم التجانس القومي في المدينة والقرية كان له انعكاسه المؤلم على السوفييتات بوصفها منظّمات مدينية بصورة رئيسية. فتحت قيادة الأحزاب التوفيقية كانت السوفييتات تتعمّد باستمرار تجاهل المصالح القومية للسكان المحليين. وكان ذلك واحداً من أسباب ضعف السوفييتات في أوكرانيا. وكانت سوفييتات ريغا وريفال تتناسى مصالح الليتوانيين و الاستونيين. وكان سوفييت باكو التوفيقي يهمل مصالح السكان الذين كانوا في غالبيتهم من التركمان. وتحت راية أممية زائفة كانت السوفييتات تكافح في كثير من الأحيان الموقف الدفاعي القومي الأوكراني أو المسلم، مموهة بذلك الترويس الإضطهادي الذي كانت تمارسه المدن. وكان لا بد أن يمضي زمن طويل، حتى في عهد هيمنة البلاشفة، قبل أن تتعلم سوفييتات الأطراف طيف تتكلّم لغة القرية.
إن الحالة البدائية، الاقتصادية والثقافية، للسكان السيبيريين الأصليين المسحوقين تحت وطأة الشروط الطبيعية والاستغلال، ما كانت تسمح لهم بوجه عام بأن يرتقوا إلى المستوى الذي تبدأ عنده المطالب القومية. ولقد كانت الفودكا والضريبة والديانة الأرثوذكسية القسرية منذ قرون وقرون العتلات الرئيسية لسلطة الدولة. وكان المرض الذي يسميه الإيطاليون “المرض الفرنسي” ويسميه الفرنسيون “الداء النابوليتاني” يسمّى لدى الشعوب السيبيرية “الداء الروسي”: وفي هذا إشارة إلى المعين الذي تتأتّى منه بذور الحضارة. بيد أن ثورة شباط لم تصل قط إلى ذلك. ولم يكن هناك معدى عن انتظار طويل كي يشرق الفجر على الصيادين وعلى حوذيي الرنّة في السهوب القطبية الشاسعة.
ما كانت الشعوب والأقوام التي تعيش على ضفاف الفولغا وفي القفقاس الشمالي وفي آسيا الوسطى، والتي أيقظتها انتفاضة شباط لأول مرة من وجود ما قبل تاريخي، ما كانت تعرف بعد لا البرجوازية القومية ولا البروليتاريا. ففوق الجمهرة الفلاحية أو الرعوية راحت تنفصل عن الشرائح العليا قشرة رقيقة من المثقفين. وقبل أن يرتفع النضال على مستوى برنامج للإدارة القومية المستقلة ذاتياً، كان لا يزال يدور حول أبجدية خاصة، ومعلّم مدرسة خاص.. وأحياناً كاهن خاص. ولم يكن هناك مفر من أن تلاحظ هذه المخلوقات التي تعاني من أشنع أشكال الاضطهاد، ومن خلال تجربة مرّة، أن أرباب الدولة المطّلعين لن يسمحوا لها بملء الخاطر أن ترتقي وتنهض. ونظراً على تخلفها بين الجميع، فقد كانت مكرهة على البحث عن حليف لها من الطبقة الأكثر ثورية. هكذا بدأ الفوتياكيون والتشوفاشيون والزيريانيون وأقوام تركستان وداغستان يشقّون طريقهم نحو البلاشفة عبر العناصر اليسارية من مثقفيهم الشبّان.
وقد تبدّل مصير الممتلكات الإستعمارية، ولا سيما في آسيا الوسطى، مع التطور الاقتصادي للمركز الذي توصّل، بعد النهب المباشر والسافر، وبخاصة النهب التجاري، إلى طرائق أشد خفاء وأحسن تمويهاً، محوّلاً فلاحي أسيا إلى مورّدين للمواد الأولية الصناعية، وفي مقدمتها القطن. وقد أفلح الإستغلال المنظّم ترتيباً، الجامع بين همجية الرأسمالية وهمجية التقاليد البطريركية، في إبقاء شعوب آسيا في حالة من الذّل القومي الشديد. والحال أن نظام شباط أبقى هنا كل شيء على حاله.
كانت أخصب الأراضي التي صودرت، في العهد القيصري، من الباشكيريين والبورياتيين والقرغيز وسواهم من البدو، لا تزال بين أيدي المُلّاك والنبلاء والفلاحين الروس الموسرين الموزّعين في واحات استعمارية بين السكان الأصليين. وكانت يقظة روح الاستقلال القومي تعني هنا قبل كل شيء الكفاح ضد المستعمرين الذين أوجدوا تجزئة مصطنعة وقضوا على البدو بالمجاعة والاضمحلال. كما أن هؤلاء المستعمرين الدخلاء كانوا يدافعون بشراسة، ضد “انفصالية” الآسيويين، عن وحدة روسيا، أي عن مناعة نهبهم وحصانة سلبهم. وقد تلبّست كراهية المعمّرين لحركة السكان الوطنيين أشكالاً حيوانية. ففي إقليم عبر بايكاليا جرى على عجل إعداد مجازر جماعية ضد البورياتيين، تحت إشراف الاشتراكيين – الثوريين الآذاريين، الممثلين بموظّفي المحاكم الإقليمية وضباط الصف العائدين من الجبهة.
لقد راح جميع المسغِلّين ومقترفي أعمال العنف في المناطق المستعمَرة يتذرّعون، سعياً منهم للحفاظ لأطول مدّة ممكنة على النظام القائم القديم، بالحقوق المطلق للجمعية التأسيسية: وإنشاء الجمل هذا كانت تقدّمه إليهم الحكومة المؤقّتة التي وجدت فيهم خير سند. كذلك راحت الفئات العليا المتمتعة بالامتيازات من الشعوب المضطهدة تردّد أكثر فأكثر اسم الجمعية التأسيسية. وحتى أئمّة الدين الإسلامي، الذين رفعوا سكان الجبال وأقوام القفقاس الشمالي المستيقظة راية القرآن الخضراء، طفقوا يلحّون على ضرورة الإرجاء والتأجيل “حتى الجمعية التأسيسية” في كل مرة كان فيها الضغط من تحت يضعهم في موقف صعب. كان ذلك الشعار قد أصبح شعار المحافظين، والرجعية، والمصالح والامتيازات الجشعة في جميع أرجاء البلاد. وكانت الدعوة إلى الجمعية التأسيسية تعني الإرجاء والتسويف والمماطلة. وكانت المماطلة تعني حشد القوى وخنق الثورة.
بيد أن القيادة لم تقع بين أيدي السلطات الدينية أو النبلاء الإقطاعيين إلا في الآونة الأولى، ولدى الشعوب المأخّرة فحسب. وفي المقام الأول المسلمين. وبوجه عام، كان على رأس الحركة القومية في الأرياف معلمو المدارس، والعاملون في القضاء المحلي والموظّفون والضباط الصغار، وإلى حد ما التجار. وإلى جانب الانتلجنسيا الروسية أو المروّسة، وبين العناصر الأعظم نفوذاً والأكثر يسراً، أمكن أن تتكوّن شريحة أخرى أصغر سنّاً، مرتبطة وثيق الإرتباط بالقرية بأصلها ومحتدّها، بعد أن لم تجد منفذاً إلى مائدة الرأسمال، وبعد أن أخذت على عاتقها بالطبع أن تمثّل سياسياً المصالح القومية، والاجتماعية كذلك جزئياً، لجماهير الفلاحين الواسعة.
ولئن كان توفيقيو الأطراف قد اختلفوا وتعادلوا مع التوفيقيين الروس على صعيد المطالب القومية، فإنهم كانوا ينتمون وإياهم على كل حال إلى نمط أساسي واحد ويحملون في غالب الأحيان الألقاب نفسها. فقد كان الاشتراكيون – الثوريون والاشتراكيون – الديمقراطيون في اوكرانيا، ومناشفة جورجيا وليتوانيا و”عماليو” ليتوانيا يسعون قصارى جهدهم، مثلهم مثل سمييهم الروس – الكبار، إلى إبقاء الثورة في أُطر النظام البرجوازي. لكن وهن البرجوازية المحلية وضعفها الشديد أرغما هنا المناشفة والاشتراكيين – الثوريين على رفض الائتلاف وعلى وضع اليد على سلطة الدولة. ونظراً إلى أن توفيقيي الأطراف كانوا مرغمين في مضمار المسألة الزراعية والعمالية على المضي إلى أبعد مما مضت إليه السلطة المركزية، فقد ربحوا كثيراً بظهورهم في الجيش وفي البلاد بمظهر خصوم الحكومة الائتلافية المؤقّتة. وكان هذا كله يكفي، إن لم نقل لاختلاف المصائر بين التوفيقيين الروس – الكبار والتوفيقيين الأطرافيين، فعلى الأقل لاختلاف وتائر صعود نجمهم وأُفوله.
ما كانت الاشتراكية – الديمقراطية الجورجية تجرّ وراءها فلاحي جورجيا الصغرى المعوزين فحسب، بل كانت تتطلّع أيضاً، بشيء من النجاح أصلاً على تزعّم حركة “الديمقراطية الثورية” في عموم روسيا، ففي الأشهر الأولى من الثورة كان “عمالقة” الانتلجنسيا الجورجية يعدّون جورجيا لا محض وطن قومي، بل ضربا من الجيروند(8). إقليماً مباركاً في الجنوب مدعواً لأن يزوّد البلاد قاطبة بالقادة والزعماء. وفي “مجمع الدولة” بموسكو تباهى تخكنكيلي، وهو من أبرز وجوه المناشفة الجورجيين، بالقول بأن الجورجيين قد نادوا، حتى في العهد القيصري، في أيام السرّاء والضرّاء على حد سواء، بأن “الوطن الأوحد هو روسيا”. وتساءل تخكنكيلي نفسه بعد شهر من الزمن في “المجمع الديمقراطي: “ماذا نقول عن الأمة الجورجية؟ أنها بأسرها في خدمة الثورة الروسية الكبرى”. وبالفعل، كان التوفيقيون من جورجيين ويهود على حد سواء “في خدمة” البيروقراطية الروسية – الكبرى على الدوام حين يكون المطلوب فرض الاعتدال على المطالب القومية لمناطق شتّى أو شطبها.
بيد أن الأمر لم يستمر على هذا المنوال إلا بقدر ما حافظ الاشتراكيون – الديمقراطيون الجورجيون على الأمل في إبقاء الثورة ضمن أُطر الديمقراطية البرجوازية. ولكن مع تعاظم خطر انتصار الجماهير بقيادة البلاشفة، راحت الاشتراكية – الديمقراطية الجورجية تخفّف من صلاتها بالتوفيقيين الروس، رابطة نفسها بمزيد من الإحكام بالعناصر الرجعية في جورجيا ذاتها. ويوم انتصرت السوفييتات، صار الأنصار الجورجيون لروسيا الواحدة وغير القابلة للقسمة، دعاة الإنفصالية وأنبياءها، وكشّروا لسائر سكان عبر القفقاس عن أنياب الشوفينية الصفراء.
إن التمويه القومي المحتوم للتناحرات الاجتماعية، الأقل تطوراً بوجه عام في الأطراف، يقدّم تفسيراً كافياً لما لاقته ثورة اكتوبر بين معظم الأمم الرازحة تحت الإضطهاد من مقاومة تفوق المقاومة التي لاقتها في روسيا المركزية. لكن النضال القومي، بالمقابل، كان في ذاته عامل زعزعة عنيفة لنظام شباط، إذ خلق للثورة في المركز محيطاً سياسياً موائماً إلى درجة كافية.
كانت التناحرات القومية تتحول على تناحرات بالغة الحدّة لدى تطابقها مع تناقضات طبقية. فقد دفع الصراع المزمن بين الفلاحين الليتوانيين والبارونات الألمان، في بداية الحرب، بالآلاف من الشغيلة الليتوانيين إلى التطوّع في الجيش. وكانت كتائب القناصة المؤلّفة من مياومين وفلاحين ليتوانيين تعد من خيرة الكتائب في الجبهة. ومع ذلك أعربوا عن تأييدهم، منذ شهر أيار، لسلطة السوفييتات. هكذا اتّضح أن النزعة القومية ما هي إلا غلاف لبلشفية لمّا تنضج بما فيه الكفاية بعد. وقد لوحظ مثل هذا التطوّر في أستونيا أيضاً.
أما في روسيا البيضاء -حيث كان يقيم ملّاكون بولونيون أو متبلينون Polonises، وسكان يهود في المدن والأقضية، وفئة من الموظّفين الروس- فقد وجّه الفلاحون الرازحون تحت نير اضطهاد مزدوج، بل مثّلت بسبب قرب الجبهة، رافد تمرّدهم القومي والاجتماعي حتى قبل اكتوبر في تيار البلشفية، وسوف تقترع الجمهرة الساحقة من فلاحي روسيا البيضاء في انتخابات الجمعية التأسيسية لصالح البلاشفة.
إن جميع هذه التطورات، التي اقترنت فيها الكرامة القومية المستيقظة بسخط اجتماعي كان تارة يلجمها وطوراً يشحذها، وجدت أعلى درجات تعبيرها الحي في الجيش حيث كانت تتشكّل بفائق السرعة كتائب قومية برعاية السلطة المركزية تارة، تبعاً لموقفها من الحرب والبلاشفة، على أن هذه الكتائب في مجملها كانت تنقلب على بتروغراد بعداء متزايد.
كان لينين يجس بكل ثقة النبض “القومي” للثورة. فقد عاد بإلحاح، في مقاله المشهور “الأزمة ناضجة” في نهاية أيلول، إلى التأكيد على أن “العشيرة القومية” في المجتمع الديمقراطي “تحتل بجذريتها المكان الثاني، ولا تتخلى عن الأول إلا للنقابات وتتقدم على عشيرة السوفييتات من حيث نسبة الأصوات المجاهر بها ضمن الائتلاف (أربعين على خمسة وأربعين)”. وكان هذا معناه أن الأمم الرازحة تحت الاضطهاد باتت لا تنتظر شيئاً حسناً البتة من البرجوازية الروسية – الكبيرة. فقد راحت تحقّق أكثر فأكثر حقوقها بملء إرادتها، نتفاً نتفاً، بحسب أسلوب المصادرات الثورية.
في مؤتمر البوريتانيين، في تشرين الأول، في فرخنيودانسك النائية، قال مقرر على رؤوس الأشهاد: أن “ثورة شباط لم تدخل شيئاً جديداً” على وضع الأقوام “الدخيلة”. وكانت مثل هذه النتيجة ترغم هذه الأقوام، إن لم يكن على الإصطفاف إلى جانب البلاشفة، فعلى الأقل أن تأخذ منهم موقفاً محايداً أكثر ودّاً.
وقرّر مؤتمر قوات عموم أوكرانيا، الذي كان منعقداً أثناء أيام الإنتفاضة في بتروغراد، أن يناهض مطالب تسليم السلطة إلى السوفييتات، لكنه رفض في الوقت نفسه أن يعد انتفاضة البلاشفة الروس – الكبار “عملاً مناهضاً للديمقراطية”، ووعد باستخدام جميع الوسائل للحيلولة دون إرسال قوات لسحق الانتفاضة. هذا الإلتباس الذي يميّز، أحسن ما يكون التمييز، الطور البرجوازي الصغير في النضال القومي كان يمهد الطريق أمام ثورة البروليتاريا العازمة على وضع حد لكل غموض.
كذلك راحت الأوساط البرجوازية في الأطراف، وهي التي كانت مشدودة الأنظار على الدوام وبثبات إلى السلطة المركزية، تندفع الآن في تيار نزعة انفصالية لم يكن تحتها في كثير من الأحيان ظل من أساس قومي. فالبرجوازية المتطرّفة وطنياً في أقاليم البلطيق حذت حذو البارونات الألمان، الذين كانوا خير سند لآل رومانوف(9)، ووضعت نفسها، منساقة بتيار صراعها ضد روسيا البلشفية وجماهير وطنها بالذات، تحت راية الانفصالية. وفي هذه الطريق حدثت ظاهرات أبعث أيضاً على الاستغراب. ففي 20 تشرين الأول ظهر إلى حيز الوجود تشكيل حكومي جديد، أطلق على نفسه اسم “الإتحاد الجنوبي – الشرقي للقوات القوزاقية وجبليي القفقاس وشعوب السهوب الحرّة”. ففي غضون أشهر قليلة تحول كبار قادة الخيالة القوزاق في الدون وكوبان وتير واستراخان، الذين كانوا سابقاً أقوى سند للمركزية الإمبراطورية، إلى أنصار يشتعلون حماسة للاتحاد Federation، واتحدوا في هذا المجال مع زعماء المسلمين والجبليين وأهل السهوب، ولا غرو: فقد كان من المفروض أن تنتصب حواجز النظام الاتحادي سدّاً منيعاً في وجه الخطر البلشفي الآتي من الشمال. هذا مع أن النزعة الإنفصالية المناهضة للثورة كانت، قبل أن تُنشئ المواقع المسلّحة الرئيسية للحرب الأهلية ضد البلاشفة، تستهدف بصورة مباشرة الائتلاف الحاكم، عاملة على إضعافه والفتّ في عضده وتحطيم معنوياته.
هكذا أبدت المشكلة القومية، بعد سائر المشكلات، للحكومة المؤقّتة وجه ميدورزا وقد تحولت ضفائرها، التي عقدت عليها آمال آذار ونيسان، إلى ثعابين للحقد والفتنة.
* * *
لم يحتل الحزب البلشفي في المسألة القومية بعد الانتفاضة مباشرة الموقع الذي كفل له النصر في نهاية الأمر. ولا ينطبق هذا على الأطراف بمنظماتها الحزبية الضعيفة وغير المحنّكة فحسب، بل أيضاً على المركز، بتروغراد. فقد كان الحزب في سني الحرب قد أصابه قدر كبير من الوهن والضعف، وانحط المستوى النظري والسياسي لكوادره إلى درجة جعلت القيادة الرسمية تتخذ في المسألة القومية أيضاً، حتى يوم وصول لينين، موقفاً بالغ التشوّش والتردّد.
لقد ثابر البلاشفة، والحق يقال، وطبقاً للتقاليد، على الدفاع عن حق الأمم في تقرير مصيرها. لكن هذه الصيغة كانت مقبولة لفظاً لدى المناشفة أيضاً: إذ كان نص البرنامج لا يزال واحداً. بينما انكشف للعيان العجز المطلق لقادة الحزبين المؤقتين عن فهم التناقض الذي لا يقبل مساومة بين الشعارات البلشفية في المسألة القومية كما في المسألة الزراعية من جهة أولى، وبين الإبقاء من جهة ثانية على النظام البرجوازي الإمبريالي، ولو جرى تمويهه تحت أشكال ديمقراطية.
لقد وجد الموقف الديمقراطي تعبيره الأكثر ابتذالاً تحت ريشة ستالين. ففي 25 آذار، في مقال بصدد المرسوم الحكومي القاضي بإلغاء القيود على الحقوق القومية، حاول ستالين أن يطرح المسألة القومية برحابتها التاريخية. كتب يقول: “إن الأساس الإجتماعي للاضطهاد القومي، القوة التي تحفّزه وتحثّ عليه، هي أرستقراطية الأرض في طور أفولها”. أما الواقعة الهامة المتمثلة في أن الاضطهاد القومي تطور تطوراً منقطع النظير في عصر الرأسمالية ووجد تعبيره الأكثر همجية في السياسة الاستعمارية، فيبدو أنها لم تخطر في بال الكاتب قط.
تابع يقول: “إن الاضطهاد القومي في انجلترا، حيث تشاطر ارستقراطية الأرض البرجوازية السلطة، وحيث لم تعد لهذه الأرستقراطية، منذ زمن طويل، هيمنة لا محدودة، لهو أكثر نعومة وأقل لا إنسانية، وهذا بالطبع إذا لم نأخذ باعتبارنا (؟) الظرف التالي، وهو أنه حين انتقلت السلطة في أيام الحرب إلى أيدي المُلّاك العقاريين (!) اشتد الاضطهاد القومي اشتداداً ملموساً (اضطهاد الايرلنديين والهنود)”. هكذا يكون المذنبون المسؤولون عن اضطهاد الإيرلنديين والهنود هم المّاك العقاريون الذين استولوا بالبداهة، في شخص لويد جورج، على السلطة بفضل الحرب. يتابع ستالين: “… لا مجال، بوجه عام، للاضطهاد القومي في سويسرا وأميركا الشمالية حيث لا وجود ولم يكن هناك وجود قط(؟) للملّاك العقاريين، وحيث السلطة برمتها في يد البرجوازية، وحيث تتطوّر القوميات بملء الحرية..”. إن الكاتب لينسى تماماً مسألة الزنوج والمسألة الاستعمارية في الولايات المتحدة.
وترتّب على هذا التحليل، القروي إلى حد يبعث على اليأس، والذي لا يتعدّى إقامة مفارقة مبهمة بين الإقطاعية والديمقراطية، تترتّب استنتاجات سياسية ليبرالية خالصة. يكتب ستالين: “إن إقصاء الأرستقراطية الإقطاعية عن الحلبة السياسية وانتزاع السلطة منها يعنيان على وجه التحديد تصفية الاضطهاد القومي وخلق الشروط الفعلية الضرورية للحرية القومية. وبقدر ما كان النصر حليف الثورة الروسية يمكن القول إن الثورة خلقت تلك الشروط الفعلية..”. ها نحن، على ما يبدو أمام تقريظ لـ “الديمقراطية” الإمبريالية مبني على مبدأ بنّاء يتجاوز في الوضوح كل ما كتبه المناشفة حول ذلك الموضوع حتى اليوم. وكما كان ستالين يعلّق الآمال، في ميدان السياسة الخارجية، محتذياً بذلك حذو كامينيف، على تقسيم العمل مع الحكومة المؤقتة للوصول إلى سلم ديمقراطي، كذلك كان يجد، على صعيد السياسة الداخلية، في ديمقراطية الأمير لفوف(10) “الشروط الفعلية” للحرية القومية.
وفي الواقع، أماط سقوط الملكية اللثام إماطة تامّة لأول مرة عن حقيقة أن الخصوم الألدّاء لمساواة حقيقية في الحقوق القومية، أي إلغاء امتيازات الأمة السائدة، ليسوا هم الملّاك الرجعيين وحدهم، وإنما أيضاً البرجوازية الليبرالية برمّتها، مع بعض القادة الوطنيين من الطبقة العاملة؛ فقد كان برنامج هؤلاء جميعاً يقتصر على تخفيف، على صقل ثقافي وتمويه ديمقراطي للهيمنة الروسية – الكبيرة.
لقد انطلق ستالين شكلياً، في مشار (كونفرانس) نيسان، في معرض دفاعه عن قرار لينين بصدد المسألة القومية، من النقطة التي تنص على أن “الاضطهاد القومي هو النظام.. التدابير.. التي تطبّقها الدوائر الإمبريالية”، لكنه سرعان ما عاود السقوط في الموقف الذي كان عليه في آذار: “كما كانت البلاد أكثر ديمقراطية، كان الاضطهاد القومي أضعف وأوهن، والعكس بالعكس”- هذا هو بالحرف كلام المقرر المجرد، كلامه هو لا بالاقتباس عن لينين. أما واقعة اضطهاد انجلترا الديمقراطية للهند الاقطاعية بطوائفها فقد ظلت غائبة عن حقل نظره المحدود. يضيف ستالين قوله: “إن الاضطهاد القومي لم يأخذ قط أشكال مذابح جماعية في انجلترا وفي النمسا – المجر، وذلك بخلاف واقع الحال في روسيا. وهذا كما لو أنه لم توجد “قط” في انجلترا أرستقراطية إقطاعية، أو كما لو أن هذه الأرستقراطية في المجر ليست هي المهيمنة حتى اليوم! الحق أن طابع التطوّر التاريخي، الجامع بين “الديمقراطية” وخنق الأمم الضعيفة، ظل بالنسبة إلى ستالين كتاباً مغلقاً تحت سبعة أختام.
أن تكون روسيا قد تكوّنت كدولة قوميات، فهذه نتيجة تأخرها التاريخي. لكن التأخّر مفهوم معقّد، متناقض لا محالة. فالقطر المتأخّر لا يسير البتّة في أثر القطر المتقدم، تفصل بينهما مسافة واحدة. ففي عصر الاقتصاد العالمي تقفز الأمم المتأخّرة فوق بعضها الدرجات الوسيطة، إذ تجد نفسها منساقة تحت ضغط الأمم المتقدّمة على احتلال مكانها في سلسلة التطوّر العامة. بل إن غياب الأشكال الإجتماعية والتقاليد الراسخة يجعل القطر المتأخّر -ضمن بعض الحدود على الأقل- قابل للتأثّر الشديد بآخر مبتكرات التقنية العالمية والفكر العالمي، لكن التأخّر يظل مع ذلك تأخّراً.
فالتطوّر في مجمله يتلبّس طابعاً متناقضاً ومركّباً. وما يميز البنية الاجتماعية لأمّة متأخرة هو هيمنة أقطاب تاريخية متناقضة، من فلاحين متأخّرين وبروليتاريين متقدمين، على التشكيلات الوسطية، على البرجوازية. وبذلك تقع مهام طبقة على كاهل طبقة أخرى. ويغدو استئصال شأفة المخلّفات القروسطية في المجال القومي من واجب البروليتاريا.
وما من شيء يبرز للعيان بعظيم الوضوح تأخر روسيا التاريخي، إذا نظرنا إليها بصفتها قطراً أوروبياً، كالواقعة التالية: اضطرارها في القرن العشرين إلى تصفية الإكارة الإجبارية ومناطق إقامة اليهود، أي همجية القنانة والغيتو. لكن روسيا كانت تمتلك، لأداء هذه المهام، وبحكم تطوّرها المتأخّر على وجه التحديد، طبقات جديدة وأحزاباً جديدة وبرامج حديثة إلى أقصى درجة. والحق أن روسيا وجدت نفسها بحاجة، حتى تقطع صلاتها بأفكار راسبوتين وأساليبه، إلى أفكار ماركس ومناهجه.
بيد أن الممارسة السياسية لبثت أكثر بدائية بكثير من النظرية، نظراً على أن الأشياء تتغير بصعوبة تفوق صعوبة تغيّر الأفكار. على أن النظرية لم تكن موجودة مع ذلك إلا لكي تدفع بحاجة الممارسة إلى أقصى درجات الاستنتاج والاستنباط. فقد وجدت القوميات المضطهدة نفسها مرغمة، حتى تحصل على التحرّر وعلى نهضة ثقافية، على أن تربط مصيرها بمصير الطبقة العاملة. ولم يكن لها معدى، بغرض ذلك، عن التخلّص من قيادة أحزابها البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، أي التعجيل بمسار تطوّرها التاريخي.
إن ربط الحركات القومية بسيرورة الثورة الأساسية، بنضال البروليتاريا في سبيل السلطة، لم يتحقّق دفعة واحدة، وإنّما على مراحل، وبصورة متباينة بحسب اختلاف مناطق البلاد، ومن هنا بالذات أصبح العمال والفلاحين والجنود الأوكرانيين أو الروس البيض أو التتريين، المعادين لكيرينسكي والحرب والترويس، حلفاء الانتفاضة البروليتارية، وهذا على الرغم من قياداتهم التوفيقية. وبعد أن قدّموا الدعم والمؤازرة موضعياً للبلاشفة، وجدوا أنفسهم مكرهين، في المرحلة التالية، على الانخراط ذاتياً في طريق البلشفية. ففي فنلندا وليتوانيا وإستونيا، وبصورة أضعف في أوكرانيا، كان انشطار الحركة القومية قد بلغ في تشرين الأول درجة من الحدّة بات معها تدخّل القوات الأجنبية هو وحده الذي يستطيع أن يحول هناك دون نجاح الانتفاضة الشعبية. أمّا في الشق الآسيوي، فإن اليقظة القومية، التي كانت تتم في أكثر الأشكال بدائية، لم تسقط إلى تدريجياً، وبعد تأخّر كبير، تحت قيادة البروليتاريا عبر استيلاء هذه الأخيرة على السلطة، وإذا ما نظرنا إلى السيرورة المعقدة والمتناقضة في جملتها، فرض الاستنتاج نفسه فرضاً: لقد صب التيار القومي، شأنه شأن التيار الزراعي، في سرير نهر ثورة أكتوبر.
إن انتقال الجماهير المحتّم، الذي لا يصمد أمامه شيء، من أبسط مشكلات التحرّر السياسي والزراعي والقومي إلى هيمنة البروليتاريا لم يكن وليد تحريض “ديماغوجي”، ولا وليد مخطّطات مسبقة التصوّر، ولا وليدة نظرية الثورة الدائمة، كما كان يحسب الليبراليون والتوفيقيون، وإنّما وليد البنية الاجتماعية لروسيا وظروف الوضع الدولي. أمّا نظرية الثورة الدائمة فكانت محض تعبير عن سيرورة التطوّر المركبة.
والأمر ليس مقصوراً هنا على روسيا. فحتمية تبعات الثورات القومية المتأخّرة لثورة البروليتاريا تكمن في الوضع العالمي. ففي حين كانت المهمة الرئيسية للحروب والثورات في القرن التاسع عشر لا تزال تأمين سوق قومية للقوى المنتجة، تكمن مهمة عصرنا في تحرير القوى المنتجة من الحدود القومية التي صارت عقبات تعيقها. وما ثورات الشرق القومية، بمعنى تاريخي واسع، سوى درجات من الثورة العالمية للبروليتاريا، تماماً كانت الحركات القومية في روسيا قد أضحت درجات نحو الديكتاتورية السوفييتية.
كان لينين قد ثمّن بعمق يدعو إلى الإعجاب القوة الثورية الملازمة لمصير القوميات الرازحة تحت الاضطهاد، في روسيا القيصرية كما في العالم قاطبة. وكان يرى أن الازدراء هو خير ما ينبغي أن تقابل به تلك “النزعة السلمية” المرائية التي “تدين” بلا تمييز حرب اليابان ضد الصين بهدف استرقاقها، وحرب الصين ضد اليابان بهدف تحرير نفسها. وفي نظر لينين، لم تكن حرب التحرير القومية، بالمعارضة مع حرب الاضطهاد الامبريالي، سوى شكل آخر من الثورة القومية التي تندرج بدورها كحلقة لا غنى عنها في النضال التحرّري للطبقة العاملة في العالم بأسره.
إن هذا التقييم للثورات والحروب القومية لا يترتّب عليه البتّة، على كل حال، الاعتراف برسالة ثورية ما لبرجوازية الأمم المستعمرة ونصف المستعمرة. بل على العكس من ذلك بالضبط، فبرجوازية الأقطار المتأخّرة، بمجرّد ظهور أسنانها اللبنية، تتطوّر كوكالة للرأسمال الأجنبي، وبالرغم من عدائها الحسود تجاه هذا الرأسمال فإنها تقف وستقف وإياه في معسكر واحد في جميع المواقف الفاصلة. إن النظام الكمبرادوري الصيني هو الشكل التقليدي للبرجوازية الكولونيالية، تماماً كما أن الكومينتانغ هو الحزب التقليدي للكمبرادورات. ومن الممكن لفطاحل البرجوازية الصغيرة، وأخصّ بالذكر المثقفين هنا، أن يشاركوا بقسط وافر، وأحياناً صاخب جدّاً، في النضال القومي، لكنهم يقفون عاجزين كل العجز عن أداء دور مستقل. الطبقة العاملة هي وحدها القادرة، بعد تزعّمها الأمّة، على أن تمضي حتى النهاية بثورة قومية، أو زراعية.
إن الخطأ القاتل لتلامذة الصف الثاني، وعلى الأخص ستالين، يكمن في أن النتيجة التي استخلصوها من مذهب لينين عن الدلالة التاريخية التقدّمية لكفاح الأمم الرازحة تحت الاضطهاد هي افتراضهم بأن لبرجوازية الأقطار المستعمَرة رسالة ثورية. إن عدم تفهّم الطابع الدائم للثورة في العصر الإمبريالي، وحصر التطوّر في مخططات مجرّدة متحذلقة، وتمزيق أوصال التطوّر الحي المركّب إلى جُمل ميّتة منفصلة بعضها عن بعض انفصالاً حتمياً في الزمن، أن هذا كله قاد ستالين إلى إضفاء مسحة مثالية سوقية على الديمقراطية، أو إذا شئتم على “الديكتاتورية الديمقراطية” التي يمكن كل مكان، في الواقع، أن تكون ديكتاتورية إمبريالية أو ديكتاتورية بروليتارية. هكذا انتهى المطاف بزمرة ستالين، خطوة خطوة على هذا الطريق، إلى التنكّر التام لموقف لينين في المسألة القومية وإلى انتهاج سياسة مفجعة في الصين.
في آب 1927، أبان الصراع ضد المعارضة (تروتسكي، راكوفسكي، وآخرين)، قال ستالين أمام الدورة العامّة للجنة المركزية للبلاشفة: “إن الثورة في البلدان الإمبريالية شيء: فالبرجوازية هناك مناهضة للثورة في جميع مراحل الثورة.. والثورة في البلدان المستعمَرة والمستعبدة شيء آخر: فالبرجوازية القومية هناك تستطيع، في مرحلة معيّنة ولزمن معيّن، أن تساند الحركة الثورية في قطرها ضد الإمبريالية”. إن ستالين يعزو هنا، (مع تحفّظ وتخفيف لا يدلّان أصلاً إلا على قلّة ثقته)، إلى البرجوازية الكولونيالية نفس الصفات التي نسبها في آذار إلى البرجوازية الروسية. فالانتهازية الستالينية، بالتوافق مع طابعها العضوي العميق، تشق لنفسها، كما لو تحت ضغط قانون الجاذبية، طريقاً عبر أقنية مختلفة. وما اختيار الحجج النظرية في هذه الحال إلا مسألة محض طارئة.
إن تقييم آذار بخصوص الحكومة المؤقتة أفضى، بعد تحويله إلى الحكومة “القومية” في الصين، على تعاون دام ثلاثة أعوام بين ستالين والكومينتانغ، وهو التعاون الذي يمثّل واقعة مذهلة من وقائع التاريخ الحديث: فبلشفية تلاميذ الصف الثاني رافقت، بصفتها حاملة السلاح الوفية، البرجوازية الصينية حتى 11 نيسان 1927، أي حتى يوم القمع الدموي الذي أنزلته بروليتاريا شنغهاي. قال ستالين تبريراً لأخوّة السلاح مع تشانغ كاي – شيك: “إن الخطأ الجوهري للمعارضة يكمن في خلطها بين ثورة 1905 في روسيا، في قطر امبريالي اضطهد شعوباً أخرى، وبين الثورة في الصين، في قطر مضطهَد..”. وأنه مما يبعث على الدهشة أن ستالين نفسه لم تخطر له فكرة تناول الثورة في روسيا، لا من وجهة نظر أمّة “اضطهدت شعوباً أخرى”، وإنما من وجهة نظر تجربة “الشعوب الأخرى” في روسيا هذه عينها، وهي الشعوب التي عانت من اضطهاد لا يقل عن الاضطهاد الذي يئن تحت نيره الصينيون.
إن لفي وسعنا أن نجد، في حقل التجارب الواسع الذي قدّمته روسيا خلال ثورات ثلاث، جميع صور كفاح القوميات والطبقات فيما عدا صورة واحدة: إذ لم نرَ البتّة برجوازية أمّة مضطهَدة تلعب دوراً تحريرياً لصالح شعبها. ففي مختلف مراحل تطوّرها، كانت برجوازية الأطراف تخضع على الدوام، مهما تنوّعت الألوان التي تجمّلت بها، للمصارف المركزية وللتروستات وللشركات التجارية، بوصفها، بمختصر الكلام، وكالة رأسمال عموم روسيا، فتنصاع لميوله الترويسية وتخضع لهذه الميول نفسها الدوائر الواسعة من الانتلجنسيا الليبرالية والديمقراطية. وكلّما أظهرت برجوازية الأطراف المزيد من “النضج”، توثّقت صلاتها بجهاز الدولة العام. ولقد كانت برجوازية الأمم المضطهَدة في جملتها تؤدّي إزاء البرجوازية الحاكمة نفس الدور الكومبرادوري الذي كانت تؤدّيه هذه الأخيرة إزاء الرأسمال العالمي. والحق أن التراتب المعقّد من التبعيات والتناحرات لم ينحّ في يوم من الأيام جانباً التضامن الأساسي في الصراع ضد الجماهير الثائرة.
حين كانت قيادة الحركة القومية، في مرحلة الثورة المضادّة (من 1907 إلى 1917)، مركّزة بين يدي البرجوازية “الدخيلة”، كانت هذه البرجوازية تسعى إلى التفاهم مع الملكية جهاراً وعلناً متجاوزة في ذلك الليبراليين الروس أنفسهم. فقد كان البرجوازيون البولونيون والبلطيقيون والتتريون والأوكرانيون واليهود يتبارون ويتنافسون في حلبة الوطنية الإمبريالية. وبعد انتفاضة شباط اختبأوا خلف ظهر الكاديت، أو أنهم اقتدوا بمثال الكاديت فاختبأوا خلف ظهر التوفيقيين من أبناء جلدتهم. ولقد سارت برجوازية أمم الأطراف في خريف عام 1917 في طريق الإنفصالية، لا بهدف النضال ضد الاضطهاد القومي، وإنما بهدف مكافحة الثورة البروليتارية التي كانت ساعتها تقترب. وبوجه الإجمال، لم يكن العداء الذي أبدته برجوازية الأمم المضطهَدة تجاه الثورة بأقل ضراوة من ذاك الذي أبدته البرجوازية الروسية – الكبيرة.
بيد أن الدرس التاريخي الباهر الذي أمكن استخلاصه من الثورات الثلاث لم يترك أثراً مع ذلك على العديد من صانعي الأحداث، وعلى رأسهم ستالين. فالتصور التوفيقي، أي البرجوازي الصغير، للعلاقات المتبادلة بين الطبقات داخل الأمم المستعمَرة، وهو التصوّر الذي قضى بالهلاك على الثورة الصينية في 1925 – 1927، وجد في شخص تلامذة الصف الثاني من يثبته في برنامج الأممية الشيوعية بالذات، محولاً إياه، في هذا المجال، إلى فخ حقيقي لشعوب الشرق المضطهدة.
* * *
حتى نفهم الطابع الحقيقي لسياسة لينين القومية، فإن خير ما يمكن أن نفعله هو -طبقاً لمنهج المتضادات- أن نقارن بينها وبين سياسة الاشتراكية – الديمقراطية النمساوية. ففي حين راحت البلشفية تتوجّه منذ عشرات السنوات نحو انفجار للثورات القومية، مثقفة بهذه النظرة العمال المتقدمين، كانت الاشتراكية – الديمقراطية النمساوية تتكيّف بكل وداعة مع سياسة الطبقات السائدة، وتحامي عن التساكن القسري لعشر أمم في ظل الملكية النمساوية – المجرية، وتقيم في الوقت نفسه، نظراً إلى عجزها التام عن تحقيق الوحدة الثورية لعمال شتّى القوميات، الحواجز والفواصل باتجاه عمودي بين هؤلاء العمال في الحزب وفي النقابات. وكان كارل رينر(11)، الموظّف المثقف لدى آل هابسبورغ، يفتّش بلا كلل ولا ملل في مجرّة الماركسية النمساوية عن الوسائل القمينة بتجديد شباب دولة آل هابسبورغ، إلى أن وجد نفسه المُنظّر المترمّل للملكية النمساوية – المجرية. وحين تهاوت امبراطوريات أوروبا الوسطى، حاولت سلالة هاسبورغ من جديد أن تشهر، تحت صولجانها وسلطانها، راية اتحاد فيدرالي لأمم مستقلّة ذاتياً: هكذا أصبح في لحظة من اللحظات البرنامج الرسمي للاشتراكية – الديمقراطية النمساوية، المحسوب حسابه لتطوّر سلمي ضمن أُطُر الملكية، برنامج الملكية نفسها الملطّخة بدم أربعة أعوام من الحرب وبوحلها.
لقد تمزّقت الحلقة الحديدية الصدئة التي كانت تغلّ في قيد واحد عشر أمم ارباً ارباً. فقد راحت الامبراطورية النمساوية – المجرية تتداعى وتنهار، وقد تخلّعت أوصالها تحت ضغط ميول نابذة مركسة عزّزتها جراحة فرساي. وطفقت تتكوّن دول جديدة، بينما راحت الدول القديمة تعيد تشكيل نفسها. ووجد ألمان النمسا أنفسهم على شفير هاوية. فالمسألة بالنسبة إليهم، لم تعد مسألة الحفاظ على سيادتهم على أمم أخرى، وإنما مسألة تفادي سقوطهم هم أنفسهم تحت نير سلطة أخرى. وقد ارتأى أوتو باور، ممثل الجناح “اليساري” في الاشتراكية – الديمقراطية الألمانية، أن تلك اللحظة موائمة لإشهار صيغة حق الأمم في تقرير مصيرها، هكذا تحوّل البرنامج الذي كان يفترض فيه، وطوال الخمسة عشر عاماً السابقة، أن يلهم ويسدّد خطى نضال البروليتاريا ضد آل هابسبورغ والبرجوازية الحاكمة، إلى أداة للدفاع عن الأمّة عينها التي كانت بالأمس سيدة مطاعة والتي باتت يومئذ مهدّدة من قبل الشعوب السلافية المتحرّرة، كذلك تحول البرنامج الإصلاحي للاشتراكية – الديمقراطية الألمانية في لحظة من اللحظات إلى القشّة التي راحت الملكية الغارقة تحاول أن تتمسّك بها. وهكذا أيضاً أضحت الصيغة المغلولة للماركسية النمساوية الملاذ الأخير للبرجوازية الألمانية.
لقد “اعترف” النواب الاشتراكيون – الديمقراطيون في الرايخسرات، في 3 تشرين الأول 1918، حين أفلت زمام المسألة من أيديهم نهائياً، “اعترفوا” بكل كرم بحق شعوب الامبراطورية القديمة في الاستقلال. وفي 4 تشرين الأول، أقرّت الأحزاب البرجوازية بدورها برنامج حق الأمم في تقرير مصيرها. ولئن كانت الاشتراكية – الديمقراطية قد سبقت على هذا النحو الامبرياليين النمساويين – الألمان بيوم كامل، فإنها لم تخرج عن موقف الانتظار والتريّث: إذ لم يكن أحد يدري كيف ستجري الأمور وماذا سيقول نلسون. ولم يطرح الماركسيون النمساويون عملياً مسألة حق الأمم في تقرير مصيرها إلا في 13 تشرين الأول حين قام بنتيجة الاندحار النهائي للجيش والملكية “الوضع الثوري الذي من أجله صيغ برنامجنا القومي” كما زعم باور. وفي الحق، لم يكن قد تبقّى لهم شيء يخسرونه. يقول باور مفسّراً بكل صراحة: “إن برجوازية القومية الألمانية اعتبرت، مع انهيار سلطانها على الأمم الأخرى، أن الرسالة التاريخية التي قبلت باسمها طوعاً واختياراً أن تفصل عن الوطن الألماني قد انتهت”. وقد تم وضع البرنامج الجديد قيد التداول لا لأنه كان ضرورياً للمضطهَدين، وإنما لأنه ما عاد يشكّل خطراً على المضطهِدين.
لقد أضحت الطبقات المالكة، المحصورة في صدع تاريخي، مكرهة على الاعتراف الحقوقي بالثورة القومية، فارتأت الماركسية النمساوية أنه من المناسب إضفاء الصيغة الشرعية النظرية عليها. فهي ثورة ناضجة، جاءت في أوانها، وجرى التمهيد لها تاريخياً: فضلاً عن أنها قد تمّت وقضي الأمر!
والحق أن روح الاشتراكية – الديمقراطية ماثلة هنا أمامنا وكأنها على كفّنا.
وكان الوضع يختلف كل الاختلاف بالنسبة إلى الثورة الاجتماعية التي ما كان في وسعها البتة الاعتماد على اعتراف من قبل الطبقات المالكة. وكانت هناك حاجة إلى استبعادها، إلى الإساءة إلى سمعتها، إلى نزع التاج عن رأسها. ونظراً إلى أن الامبراطورية راحت تتمزّق بالطبع في أضعف نقاط درزها، النقاط القومية، فقد استخلص أوتو باور الاستنتاج التالي بصدد طابع الثورة: “لم تكن البتّة ثورة اجتماعية، وإنما كانت ثورة قومية”. وفي الواقع، كان للحركة، من البداية، مضمون اجتماعي ثوري عميق. ولعل الطابع القومي “المحض – لا ينكشف على حقيقته كما ينكشف في الواقعة التالية: فقد اقترحت الطبقات المالكة في النمسا على دول “الوفاق”(12) أن تأسر الجيش برمّته. وتوسّلت البرجوازية الألمانية إلى جنرال إيطالي بأن يحتل فيينا بقواته!.
لقد كان القصد من فصل متحذلق إلى حد الابتذال بين الشكل القومي وبين المضمون الاجتماعي لسيرورة ثورية محدّدة. واعتبارهما مرحلتين تاريخيتين مستقلتين مزعومتين -أننا لنرى رأي العين مدى اقتراب أوتو باور هنا من ستالين!- أقول: كان القصد من وراء ذلك نفعياً إلى أبعد حد، إذ كان الهدف تبرير تعاون الاشتراكية – الديمقراطية مع البرجوازية في مكافحة أخطار ثورة اجتماعية.
إذا سلّمنا مع ماركس بأن الثورة قاطرة التاريخ، فلا بد أن يكون فيها للماركسية النمساوية دور المكبح. فحتى بعد الانهيار الفعلي للملكية، ظلّت الاشتراكية – الديمقراطية، المدعوة إلى المشاركة في السلطة، تتردّد في الافتراق عن وزراء آل هابسبورغ القدامى: فقد اكتفت الثورة “القومية” بدعمهم إذ ألحقت بهم أمناء الدولة. ولم تقترح الاشتراكية – الديمقراطية النمساوية على مجلس الدولة إعلان الجمهورية، مثيرة بذلك رعب الشركاء البرجوازيين بحركة جماهيرية كانت تخشاها هي نفسها بقدر ما يخشونها، إلا في 9 تشرين الثاني حين طوحت الثورة الألمانية بآل هوهنزولون. وقد قال أوتو باور بسخرية طائشة: “لقد حزم المسيحيون – الاشتراكيون أمرهم في 11 تشرين الثاني على إنهاء مقاومتهم، مع أنهم كانوا في التاسع والعاشر من الشهر نفسه لا يزالون يساندون الملكية..”.
لقد سبقت إذن الاشتراكية – الديمقراطية حزب الملكيين المئة – السود(13) بيومين كاملين! والحق أن جميع خرافات الإنسانية البطولية تشحب وتبهت أمام هذه الاندفاعة الثورية.
لقد وجدت الاشتراكية – الديمقراطية نفسها، منذ بداية الثورة، بصورة آلية وبالرغم منها، على رأس الأمّة، مثلما حدث للمناشفة، والاشتراكيين – الثوريين الروس. وقد خافت، مثلها مثلهم، أكثر ما خافت من قوتها بالذات. وسعت جهدها إلى احتلال أصغر ركن ممكن في الحكومة الإئتلافية. وفسّر أوتو باور ذلك بقوله: “نظراً إلى الطابع القومي المحض للثورة، لم يطالب الاشتراكيون – الديمقراطيون سوى بمشاركة متواضعة للغاية في الحكومة”. هكذا نرى أن حل مسألة السلطة بالنسبة لهؤلاء الناس لا يمكن في ميزان القوى الفعلي، في قوة الحركة الثورية، في إفلاس الطبقات الحاكمة، في النفوذ السياسي للحزب، وإنما في اللافتة المتحذلقة: “الثورة القومية”، الملصوقة على الأحداث من قبل مصنفين حكماء.
لقد انتظر كارل رينر مرور العاصفة بصفته رئيساً لمستشارية مجلس الدولة، وتحوّل سائر الزعماء الاشتراكيين – الديمقراطيين إلى مساعدين للوزراء البرجوازيين. وبعبارة أخرى، اختبأ الاشتراكيون – الديمقراطيون تحت طاولات المكاتب. بيد أن الجماهير لم تقبل مع ذلك بأن تتغذّى وتقتات من الصَدَفة القومية التي احتفظ الماركسيون النمساويون بلبّها الاجتماعي للبرجوازية. وقد أُرغم العمال والجنود الاشتراكيين – الديمقراطيين على الخروج من مخابئهم. وقال أوتو باور، المُنظّر الذي لا يمكن أن يغني عنه أحد، قال مفسّراً: “إن أحداث الأيام التالية، التي دفعت بالثورة القومية باتجاه ثورة اجتماعية، هي وحدها التي زادت وزننا في الحكومة”. وإذا ترجمنا ذلك إلى لغة واضحة نقول: وجد الاشتراكيون – الديمقراطيون أنفسهم مكرهين، تحت ضغط الجماهير، على الخروج من تحت الطاولات.
لكن إخلاصهم الدائم لدعوتهم الرّبانية جعلهم لا يمسكون بزمام السلطة إلا بغرض شنّ الحرب على الرومانسية وروح المغامرة: وهي الألفاظ التي تتجسّد فيها لدى هؤلاء النمّامين الثورة الاجتماعية ذاتها التي “زادت وزنهم في الحكومة”. ولئن كان الماركسيون النمساويون قد أدّوا بقدر من النجاح في عام 1918 رسالتهم التاريخية كملائكة حرّاس لبنوك فيينا ضد رومانسية البروليتاريا الثورية، فهذا فقط لأنهم لم يلقوا مقاومة من جانب حزب ثوري حقيقي.
إن روسيا والنمسا – المجر، وهما الدولتان المؤلّفتان من قوميات مختلفة، كان لهما دورهما الكبير، بما آلتا إليه مؤخّراً، في إبراز التعارض بين البلشفية والماركسية النمساوية. فعلى زهاء خمسة عشر عاماً نادى لينين، وهو يشنّ نضالاً لا هوادة فيه ضد جميع ألوان الشوفينية الروسية – الكبيرة، بحق جميع الأمم المضطَهَدة في الانفصال عن امبراطورية القياصرة. وكان البلاشفة يُتّهمون بالنزوع إلى تقطيع أوصال روسيا.
والحال إن التحديد الثوري الجريء للمسألة القومية خلق بين الشعوب المضطهَدة، الصغيرة والمتأخّرة، في روسيا القيصرية، ثقة لا تتزعزع في الحزب البلشفي. وكان لينين يقول في نيسان 1917: “إذا رأى الأوكرانيون جمهورية سوفييتات لدينا فلن ينفصلوا، لكنهم سينفصلون إذا قامت لدينا جمهورية على طريقة ميليوكوف(14). وفي هذه المرّة أيضاً كان على حق. ولقد كان التاريخ بمثابة محك لمدى البون الهائل في صحّة كلتا السياستين في المسألة القومية. ففي حين تمزّقت النمسا – المجر، التي رُبّيت البروليتاريا فيها على روح المراوغات الرعديدة، أرباً أرباً تحت ضغط هزّة رهيبة، والتي أخذت فيها العناصر القومية من الاشتراكية – الديمقراطية زمام المبادرة إلى الهدم والانهيار، قامت على أنقاض روسيا القيصرية دولة جديدة مؤلّفة من قوميات مترابطة اقتصادياً وسياسياً وثيق الترابط بفضل الحزب البلشفي.
ومهما تكن المصائر اللاحقة للاتحاد السوفييتي -وهو لا يزال بعيداً عن الوصول إلى مرفأ الأمان- فإن سياسة لينين القومية ستدخل إلى الأبد في ذخيرة الانسانية الوطيدة.
___________________
(1) الإشارة إلى النظام “الديمقراطي” البرجوازي الذي قام في روسيا بعد الإطاحة بالقيصرية في شباط 1917.
(2) كان الائتلاف الحاكم بعد ثورة شباط يتألّف من الكاديت (الدستوريين الديموقراطيين) والمناشفة والإشتراكيين – الثوريين. وقد رفض هذا الائتلاف الانسحاب من الحرب العالمية الأولى، وتابع الحرب التي كانت قد بدأتها القيصرية. وكان ذلك أحد المعاول التي عجّلت بحفر قبره وقيام ثورة اكتوبر. -م-
(3) اشتراكي – ديمقراطي جورجي منشفي، كان وزيراً في الحكومة البرجوازية المؤقتة عام 1917. -م-
(4) الإسم القديم لعاصمة فنلندا، هلسنكي. -م-
(5) أربعتهم من زعماء المناشفة والاشتراكيين – الثوريين ومن أعضاء الحكومة البرجوازية المؤقّتة. -م-
(6) معلوم أن الحكومة البرجوازية المؤقتة ماطلت في الدعوة إلى انتخابات الجمعية التأسيسية. وأن هذه الانتخابات لم تجر إلا بعد ثورة أكتوبر، وأن الجمعية التأسيسية كان مصيرها الحل في نهاية المطاف. -م-
(7) الرادا المركزية أو المجلس المركزي: هيئة قومية برجوازية أوكرانية أنشأها في كييف في نيسان 1917 مؤتمر الأحزاب والتجمعات الأوكرانية البرجوازية والبرجوازية الصغيرة. وبعد انتصار ثورة أكتوبر أعلنت الرادا نفسها ناطقة باسم “جمهورية أوكرانيا الشعبية” ووقفت موقفاً معادياً، وحلّتها السلطات السوفييتية في كانون الثاني سنة 1918.
(8) الجيروند إقليم في فرنسا إليه ينتسب الجيرونديون، ثاني أكبر حزبين سياسيين في ثورة 1789 الفرنسية الكبرى. -م-
(9) سلالة روسيا القيصرية. -م-
(10) غيورغي لفوف (1861 – 1925): من كبار الملّاك العقاريين الروس، ملكي، نائب في دوما الدولة، رئيس الحكومة البرجوازية المؤقّتة بين آذار وتموز 1917. -م-
(11) من زعماء الاشتراكيين – الديمقراطيين النمساويين، وضع مع أوتو باور البرنامج المسمّى بالاستقلال الذاتي القومي الثقافي بالتعارض مع البرنامج القومي للماركسية الثورية القائم على مبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها بما في ذلك حق الانفصال (الفقرة التاسعة من البرنامج البلشفي).
(12) دول الوفاق هي فرنسا وروسيا والدول الحليفة لها التي حاربت ألمانيا في حرب 1914 – 1918.
(13) إشارة إلى حزب المئة – السود في روسيا القيصرية، وهو حزب ملكي، رجعي، قروسطي، يمثّل مصالح الملّاك العقاريين. -م-
(14) بافل ميليوكوف (1859- 1943)، زعيم البرجوازية الروسية، ورئيس حزب الكاديت، ومؤرّخ. -م-
لقراءة الفصل السابق يمكن مراجعة الرابط التالي:
https://litci.org/arab/archives/1739