خطاب الرفيق تروتسكي
الرفيق ليون تروتسكي (روسيا) – لقد قال الرفيق ألبرت إن الجيش الأحمر غالبا ما يكون موضوع نقاش في ألمانيا، وإذا كنت قد فهمته جيدا، فإن الجيش الأحمر يقلق أيضا السيدين إيبرت وشيدمان في ليالي أرقهما، أي إنهما يخافان من خطر اكتساح الجيش الأحمر بروسيا الشرقية. في ما يتعلق بالاكتساح، فإن الرفيق ألبرت يستطيع فعلاً أن يطمئن سادة ألمانيا الحاليين، أننا، لحسن الحظ أو لسوئه – تبعا لوجهة النظر – لم نصل إلى ذلك حاليا. في كل الأحوال، في ما يتعلق بالاجتياحات التي تتهددنا، فإن وضعنا اليوم أفضل بكثير منه خلال مرحلة بريست – ليتوفسك. وهذا شيء أكيد تماما. في تلك المرحلة، كنا ما زلنا أطفالا بالنسبة للتطور العام للحكومة السوفياتية، وكذلك بالنسبة للتطور العام للجيش الأحمر. في تلك المرحلة كان هذا الأخير يسمى بالحرس الأحمر، ومنذ فترة طويلة لم تعد هذه التسمية موجودة عندنا. كان الحرس الأحمر مشكلاً من الفرق الأولى من الأنصار، ومن الفروع المرتجلة من العمال الثوريين الذين نشروا الثورة البروليتارية بدءا من بتروغراد وموسكو في كامل الأرض الروسية، مدفوعين بروحهم الثورية. امتدت هذه المرحلة حتى أول مواجهة لهذا الحرس الأحمر مع الأفواج الألمانية النظامية، حيث رأينا بوضوح أن هذه المجموعات المرتجلة غير قادرة بذاتها على تقديم حماية فعلية للجمهوريات الاشتراكية الثورية، طالما أن المسألة لم تعد مسألة القضاء على الثورة المضادة فحسب بل طرد جيش منظم.
وعندها بدأت تتغير عقلية الطبقة العاملة تجاه الجيش، وتتغير أيضا أساليب تنظيم هذا الجيش. لقد لجأنا، تحت ضغط الوضع، إلى بناء جيش جيد التنظيم، يمتلك وعيا طبقيا، لأن الميليشيا الشعبية كانت موجودة في برنامجنا. لكن الحديث عن المليشيا الشعبية، هذا المطلب السياسي للديمقراطية في بلد تحكمه ديكتاتورية البروليتاريا، هو شيء مستحيل، لأن الجيش مرتبط شديد الارتباط دائما بطابع القوة التي تمسك بالسلطة. إن الحرب، كما يقول العجوز كلاوزفيتش هي استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى. والجيش هو أداة الحرب ويجب أن يتوافق مع السياسة. فالحكومة بروليتارية، والجيش يجب أن يتوافق أيضا بتركيبه الاجتماعي مع هذه الواقعة.
وهكذا أدخلنا التعداد في تشكيل الجيش. منذ شهر أيار / مايو في العام الماضي، انتقلنا من الجيش المتطوع، من الحرس الأحمر إلى الجيش الذي يستند إلى الخدمة العسكرية الإلزامية، ولكننا لم نكن نقبل إلاّ بالبروليتاريين، أو الفلاحين الذين لا يستغلون يدا عاملة خارجية.
من المستحيل الحديث بجدية عن ميليشيا شعبية في روسيا، عندما نأخذ في الاعتبار واقع أنه كان عندنا، ولا يزال هناك أيضا عدة جيوش للطبقات المعادية على أرض الامبراطورية القيصرية القديمة. وعندنا أيضا، مثلا على أرض الدون، جيش ملكيّ، بقيادة ضباط قوزاق، مؤلف من عناصر برجوازية وفلاحين أغنياء قوزاق. ومن ثم، كان لدينا في صقيع الفولغا والأورال جيش الجمعية التأسيسية، الذي كان أيضا، تبعاً لمفهومه، جيشا شعبيا كما كان يسمى. لقد حُلَّ هذا الجيش بسرعة كبيرة، وانهزم سادة الجمعية التأسيسية هؤلاء، وتركوا الساحة الديموقراطية في الفولغا والأورال بشكل قسري تماما، وطلبوا ضيافة الحكومة السوفياتية. وببساطة اعتقل الأميرال كولتشاك حكومة الجمعية التأسيسية، وتطور الجيش إلى جيش ملكيّ. لا يمكن إذا في بلد يعيش حربا أهلية أن يتم بناء جيش إلاّ على أساس المبدأ الطبقي. هذا ما قمنا به فعلا وبنجاح أيضاً.
لقد أثارت لنا مسألة القادة العسكريين صعوبات كبيرة وبالطبع كان الهم الأول هو تربية الضباط الحمر الذين تم تطويعهم من صفوف الطبقة العاملة ومن بين أبناء الفلاحين الميسورين. لقد لجأنا من البداية إلى هذا العمل، وحتى هنا، أمام باب هذه القاعة، يمكنكم أن تروا بعض «الرقباء» الحمر الذين سيدخلون، خلال فترة قصيرة، في الجيش السوفياتي كضباط حمر، ولدينا عدد كبير منهم. لا أريد أن أعطي أرقاما لأن سر الحرب هو دائما سر حرب. قلت إن عددهم كبير ولكننا لم نكن نستطيع أن ننتظر أن يصبح الرقباء الحمر الشباب، جنرالات حمراً، لأن العدو لم يكن يريد أن يترك لنا الوقت الكافي للراحة. فمن أجل الإفادة بنجاح من هذا الاحتياطي، ولكي نأخذ منه الرجال القادرين، يجب أن نتوجه أيضا إلى قدامى القادة العسكريين. إننا لم نبحث بالطبع عن ضباطنا بين الشريحة اللامعة من رجال البلاط العسكريين، بل إننا كسبنا قوى قادرة تماما من بين العناصر الأكثر بساطة، التي تساعدنا حاليا على مقاتلة زملائها السابقين. فمن جهة، لدينا العناصر الجيدة والمخلصة التي تشكل مجموعة الضباط القدامى والتي أضفنا إليها شيوعيين جيدين بصفة مفوضين سياسيين، وهناك من جهة أخرى أفضل العناصر، بين الجنود والعمال والفلاحين، التي تحتل المراكز القيادية الدنيا. وبهذه الطريقة استطعنا تشكيل هيئة الضباط الحمر.
منذ أن وجدت الجمهورية السوفياتية في روسيا كانت مجبرة دائما على خوض الحرب وما زالت تخوضها اليوم. لدينا جبهة تمتد على أكثر من 8 ألف كلم. في الجنوب والشمال، في الشرق والغرب وفي كل مكان. الأسلحة بأيدينا، يحاربوننا ونحن مضطرون للدفاع عن أنفسنا. هذا وكاوتسكي يتهمنا حتى بتنمية النزعة العسكرية. والحال، أعتقد أنه إذا أردنا الاحتفاظ بالسلطة للعمال، علينا أن ندافع عن أنفسنا بجدية. ومن أجل الدفاع عن أنفسنا علينا أن ندرب العمال على استعمال الأسلحة التي صنعوها. لقد بدأنا بنزع سلاح البرجوازية وبتسليح العمال. وإذا كانت هذه نزعة عسكرية، فإننا إذن قد خلقنا النزعة العسكرية الاشتراكية، وسنستمر بحزم في الإعتماد عليها.
وفي هذا الصدد، كان وضعنا في آب / أغسطس الماضي سيئا بالفعل. ليس فقط أننا كنا محاصرين، بل إن الحصار كان قريبا جدا من موسكو. منذ تلك الفترة وسَّعنا دائرة الحصار بشكل متزايد، وفي الأشهر الستة الأخيرة، أعاد الجيش الأحمر إلى روسيا السوفياتية ليس أقل من 700 ألف كلم مربع مع 42 مليونا من السكان و16 حكومة مع 16 مدينة كبرى، حيث كانت الطبقة العاملة ولا تزال تخوض نضالا شرسا. واليوم، إذا مددتم على الخريطة خطّا من موسكو بأي اتجاه كان، فإنكم ستجدون في كل مكان فلاحا روسيا، عاملا روسيا على الجبهة، يقف مع بندقيته في هذه الليلة الباردة على حدود الجمهورية السوفياتية من أجل الدفاع عنها.
وأستطيع أن أؤكد لكم أن العمال الشيوعيين الذين يشكلون حقا نواة هذا الجيش يتصرفون ليس كجيش لحماية الجمهورية الاشتراكية الروسية فحسب، بل أيضا كجيش أحمر للأممية الثالثة. وإذا كنا قد تمكنا اليوم من استضافة هذا الكونفرنس الشيوعي لنشكر، لمرة واحدة، إخواننا في أوربا على الضيافة التي قدموها لنا خلال عشرات السنين، فنحن من جهتنا إنما ندين بذلك لجهود وتضحيات الجيش الأحمر، الذي يتصرف داخله أفضل الرفاق من الطبقة العاملة الشيوعية كجنود عاديين، وكضباط حمر أو مفوضين، أي كممثلين مباشرين لحزبنا وللحكومة السوفياتية؛ وهم في كل كتيبة وفي كل فرقة يقدمون المثال السياسي والأخلاقي، أي يعلمون، بمثالهم، الجنود الحمر كيف نناضل ونموت من أجل الاشتراكية. ليست هذه كلمات فارغة لدى هؤلاء الرجال، لأنها، مرفقة بالأعمال، وقد فقدنا في هذا النضال المئات والآلاف من خيرة العمال الاشتراكيين؛ وأنا أعتقد أنهم لم يسقطوا فقط من أجل الجمهورية السوفياتية بل أيضا من أجل الأممية الثالثة.
وإذا لم يكن يخامرنا اليوم حتى التفكير بالهجوم على بروسيا الشرقية – على العكس فإننا نكون سعداء جدا لو أن السيدين إيبرت وشيدمان يتركاننا بسلام – فصحيح مع ذلك، أنه عندما يدعونا إخوتنا في الغرب إلى نجدتهم فإننا سنجيب «حاضرون ! لقد تعلمنا خلال هذا الوقت استخدام الأسلحة ونحن جاهزون للنضال والموت من أجل مصلحة الثورة العالمية».
خطاب لينين الاختتامي
(7 آذار/ مارس 1919)
هكذا أنهينا عملنا.
إذا كنا قد استطعنا أن نجتمع على الرغم من كل الصعوبات والقمع البوليسي، وإذا كنا قد نجحنا، دون تعارضات أساسية، في أن نتخذ، في وقت قصير من الزمن، قرارات هامة حول كل المسائل الساخنة للمرحلة الثورية الحالية، فذلك لأن الجماهير البروليتارية في العالم أجمع قد وضعت عبر أفعالها كل هذه المسائل العملية على جدول أعمالها وبدأت بحلها فعلا.
ولم نقم هنا إلاّ بتلخيص ما كانت الجماهير قد نجحت باكتسابه في نضالها الثوري.
إن الحركة الداعمة للسوفيتات تمتد دائما إلى الأبعد، ليس فقط في بلدان أوروبا الشرقية بل أيضا في بلدان أوروبا الغربية، ليس فقط في البلدان المهزومة بل أيضا في البلدان المنتصرة كإنكلترا مثلاً، وهذه الحركة ليست أقل من حركة هدفها خلق ديموقراطية بروليتارية جديدة، إنها التطور الأكثر أهمية نحو ديكتاتورية البروليتاريا ونحو الانتصار الكامل للشيوعية.
فلتستمر البرجوازية في العالم أجمع في التخريب، فلتلاحقْ وتعتقلْ وحتى تغتالْ السبارتاكيين والبلاشفة، فإن هذا لن يخدمها بشيء، لن يكون بمقدوره إلاّ توعية الجماهير، وحفز تصميمها على تخطي أفكارها المسبقة البرجوازية الديموقراطية القديمة وعلى الإنخراط في النضال. إن انتصار الثورة البروليتارية مضمون في العالم أجمع: فتشكيل الجمهورية السوفياتية العالمية يسير قدما.
بيان الأممية الشيوعية
إلى بروليتاريي العالم أجمع!
منذ إثنين وسبعين عاما قدم الحزب الشيوعي برنامجه للعالم على شكل بيان كتبه أكبر أنبياء الثورة البروليتارية، كارل ماركس وفريدريك إنجلز. منذ تلك المرحلة، وفيما كانت الشيوعية لا تزال في بدايات نضالها، أثقلت كاهلها الملاحقات والأكاذيب والحقد والاضطهاد من جانب الطبقات المالكة التي رأت فيها، وعن حق، عدوتها القاتلة. خلال ثلاثة أرباع القرن هذه، اتَّبع تطور الشيوعية طرقا معقدة وشهد، بشكل متناوب، عواصف الحماس وفترات الإحباط، وعرف الانتصارات والخيبات القاسية. ولكن الحركة سارت بالواقع تبعا للطريق الذي رسمه البيان الشيوعي. لقد أتت ساعة النضال النهائي والحاسم متأخرة عمّا كان يقدره ويتوقعه رسولا الثورة الاجتماعية. ولكنها أتت. ونحن الشيوعيين، ممثلي البروليتاريا الثورية في مختلف بلدان أوربا وأمريكا وآسيا، المجتمعين في موسكو، عاصمة روسيا السوفياتية، نشعر أننا ورثة العمل الذي أُعلن برنامجه منذ اثنين وسبعين عاما، ومتابعوا هذا العمل.
إن مهمتنا هي تعميم التجربة الثورية للطبقة العاملة، وتخليص الحركة من الخليط العكر من الانتهازية والاشتراكية – الوطنية، وتوحيد قوى كل أحزاب البروليتاريا العالمية الثورية حقا. وانطلاقا من ذلك تسهيل انتصار الثورة الشيوعية في العالم أجمع والإسراع به.
اليوم، وأوروبا مغطاة بالحطام والأنقاض المحترقة، ينهمك مشعلو الحرائق الأكثر إثما في البحث عن المسؤولين عن الحرب، تتبعهم حاشيتهم من أساتذة وبرلمانيين وصحافيين واشتراكيين – وطنيين وغيرهم من الداعمين السياسيين للبرجوازية.
خلال سلسلة طويلة من السنين، تنبأت الاشتراكية بحتمية الحرب الإمبريالية. لقد رأت أسبابها في الرغبة المسعورة بالربح والتملك لدى الطبقات المالكة في المعسكرين المتنافسين، وبشكل عام في جميع البلدان الرأسمالية. قبل عامين من الانفجار، في مؤتمر بال، كان القادة الاشتراكيون المسؤولون في كافة البلدان يشهِّرون بالإمبريالية باعتبارها المحرضة على الحرب المقبلة، ويهددون البرجوازية بإطلاق الثورة الاجتماعية ضدها وبثأر البروليتاريا من جرائم الرأسمالية.
والآن، بعد تجربة امتدت خمس سنوات، وفيما يكشف التاريخ، بعد أن فضح شهوات ألمانيا الجشعة، ممارسات الحلفاء التي لا تقل إجراما، لم يكفّ الاشتراكيون الرسميون في بلدان الحلفاء عن التشهير بالإمبراطور الألماني المخلوع باعتباره مجرم الحرب الأكبر وذلك جريا خطى حكوماتهم. أكثر من ذلك، إن الاشتراكيين الوطنيين الألمان، الذين جعلوا في آب / أغسطس 1914 من الكتاب الديبلوماسي الأبيض لعائلة هوهينزولرن إنجيل الأمم المقدس، هؤلاء الاشتراكيون الوطنيون، في خنوعهم الدنيء، يتهمون بدورهم اليوم الملكية الألمانية المجندلة، التي كانوا خدامها المخلصين، بأنها المسبب الرئيسي للحرب. وهم يأملون، هكذا، نسيان الدور الذي لعبوه وكسب تسامح المنتصرين في آن واحد. ولكن إلى جانب الدور الذي قامت به عائلات رومانوف وهوهنزولرن وهابسبورغ الملكية المخلوعة والزمر الرأسمالية في تلك البلدان، فإن دور الطبقات الحاكمة في فرنسا وإنكلترا وإيطاليا والولايات المتحدة يظهر بكل ضخامته الإجرامية على ضوء الأحداث الحاصلة والإفشاءات الديبلوماسية.
لم ترفع الديبلوماسية الانكليزية قناعها الخفي أبدا حتى انفجار الحرب. كانت حكومة السيتي(*) تخشى إن هي أعلنت بوضوح عن نيتها الاشتراك في الحرب إلى جانب الحلفاء أن تتراجع حكومة برلين ولا تقع الحرب. لهذا كانت، من جهة، تتصرف بشكل يجعل برلين وفيينا تأملان حيادها، وبشكل يجعل باريس وبيتروغراد من جهة ثانية تعتمدان بثقة على تدخلها.
إن الحرب، التي هيأ لها مسار التاريخ خلال عدة عقود، فجرها استفزاز مباشر وواع من جانب بريطانيا العظمى. لقد كانت حكومة هذا البلد تنوي أن تدعم روسيا وفرنسا فقط بالقدر الضروري الذي يسمح بإنهاكهما عبر إنهاك ألمانيا عدوها اللدود. غير أن قوة التنظيم العسكري الألماني بدت خطرة جدا وفرضت على إنكلترا تدخلا حقيقيا وليس فقط ظاهريا كما كانت تنوي.
إن دور المشاهد الباسم، الذي كانت تطمح إليه بريطانيا جريا على عادتها انتقل إلى الولايات المتحدة. وقبلت حكومة ويلسون بسهولة أكبر الحصار الانكليزي الذي كان يضعف إمكانات مضاربة البورصة الأمريكية على الدم الأوربي، لا سيما أن الدول العظمى المتحالفة عوّضت البرجوازية الأمريكية بأرباح ضخمة من جراء ذلك الخرق «للقانون الدولي». مع ذلك فالتفوق العسكري الهائل لألمانيا أجبر حكومة واشنطن بدورها على الخروج من حالة الحياد الزائف حيال أوروبا، وتكلفت بالمهمة التي أدتها بريطانيا في الحروب السابقة والتي حاولت القيام بها، في الحرب الأخيرة، على صعيد القارة: إضعاف أحد المعسكرين باستخدام الآخر وعدم التورط في العمليات العسكرية إلاّ بالقدر الذي لا مفر منه من أجل تأمين كل مكاسب الوضع. إن الرهان المعروض في اليناصيب الأمريكي لم يكن كبيرا، ولكنه كان الخيار الأخير، ولهذا كان يؤمن لها الربح.
لقد ظهرت تناقضات النظام الرأسمالي للإنسانية أثر الحرب على شكل عذابات جسدية: الجوع، البرد، الأمراض السارية وعودة إلى الهمجية. هكذا تم الحكم المبرم على النزاع الأكاديمي القديم بين الاشتراكيين حول نظرية الإفقار والانتقال التدريجي من الرأسمالية إلى الاشتراكية. كان إحصائيو نظرية تدوير الزوايا وأحبارها قد بحثوا خلال عشرات السنوات في جميع أنحاء العالم عن وقائع حقيقية أو خيالية قادرة على إثبات تقدم رفاهية بعض مجموعات الطبقة العاملة أو فئاتها. لقد اعتبرت نظرية الإفقار مدفونة وسط صفير الاحتقار من جانب الخصيان الذين يحتلون المنابر الجامعية البرجوازية وكبار موظفي الانتهازية الاشتراكية. والآن ليس فقط الإفقار الاجتماعي بل الإفقار الفيزيولوجي والبيولوجي هو الذي يظهر لنا بكل واقعه البشع.
لقد كنّست كارثة الحرب الامبريالية كل مكاسب المعارك النقابية والبرلمانية بصورة جذرية. ومع هذا فقد ولدت تلك الحرب من الاتجاهات الداخلية للرأسمالية مثلها مثل المساومات الاقتصادية أو التسويات السياسية التي دفنتها في الوحل والدم.
بعد أن جر الرأسمال المالي الإنسانية إلى هاوية الحرب، تعرّض هو نفسه لتحول كارثي. لقد انقطعت نهائيا تبعية العملة الورقية للأساس المادي للإنتاج، وتحولت العملة الورقية، بفقدانها بشكل متزايد لقيمتها بما هي وسيلة وضابطة لتبادل المنتوجات في النظام الرأسمالي، إلى أداة تسخير وقهر، وبشكل عام، إلى أداة اضطهاد عسكري واقتصادي.
إن الانخفاض الكلي لقيمة أوراق البنوك يشير إلى الأزمة المميتة الشاملة التي يتعرض لها تداول المنتجات في النظام الرأسمالي. وإذا كان قد تم استبدال المنافسة الحرة، كمنظِّمة للإنتاج والتوزيع، بنظام التروستات والاحتكارات في الحقول الرئيسية للاقتصاد قبل بضعة عقود من الحرب، فإن مسار الحرب نفسه قد انتزع من التجمعات الإقتصادية دورها المنظم والموجِّه، ليضعه مباشرة في أيدي السلطة العسكرية والحكومية. فتوزيع المواد الأولية واستغلال نفط باكو أو رومانيا والفحم الحجري في دونتز وقمح أوكرانيا، واستخدام قطارات ألمانيا وحافلاتها وعرباتها، وتموين أوروبا الجائعة بالخبز واللحم، كل هذه المسائل الأساسية في الحياة الاقتصادية للعالم لم تعد تنظَّم بالمنافسة الحرة ولا حتى بواسطة تشكيلات من التروستات أو الاتحادات الوطنية أو العالمية، لقد وقعت تحت نير الطغيان العسكري كي يستخدمها كضمانة من الآن وصاعدا. وإذا كان خضوع السلطة السياسية للرأسمال المالي قد قاد الإنسانية إلى المجزرة الامبريالية، فإن هذه المجزرة قد سمحت للرأسمال المالي ليس فقط بعسكرة الدولة، بل بعسكرة نفسه بالذات، حيث أنه لم يعد قادرا على القيام بوظائفه الاقتصادية إلاّ بواسطة الحديد والدم.
إن الانتهازيين الذين كانوا يدعون العمال، قبل الحرب، إلى الاعتدال في مطالبهم تحت حجة المرور البطيء نحو الاشتراكية، والذين أجبروهم خلال الحرب على التخلي عن الصراع الطبقي، باسم الوحدة المقدسة والدفاع الوطني، يطلبون تضحية جديدة من البروليتاريا، وهذه المرة من أجل التغلب على النتائج المخيفة للحرب. إذا كان لمثل هذه المواعظ أن تؤثر على الجماهير العمالية، فإن تطور الرأسمال سيستمر، مضحيا بأجيال عديدة عبر أشكال جديدة، أكثر تركيزا وبشاعة أيضا، وبمنظور حتمي لحرب عالمية جديدة. ولكن من حظ الإنسانية، أن ذلك لم يعد ممكنا.
إن دولنة الحياة الاقتصادية التي طالما احتجت عليها الليبرالية الرأسمالية أصبحت أمرا واقعا. إن العودة ليس إلى المنافسة الحرة بل فقط إلى سيطرة التروستات والنقابات أو أي أخطبوط رأسمالي آخر، من الآن فصاعدا، باتت أمرا مستحيلا. فالمسألة الوحيدة التي يجب معرفتها من الآن وصاعدا هي من سيستلم الإنتاج الذي تسيطر عليه الدولة: الدولة الامبريالية أو دولة البروليتاريا المنتصرة.
بعبارات أخرى هل ستصبح الإنسانية العاملة بمجملها العبد التابع لزمرة عالمية منتصرة، تنهب البعض وتخنقه، وتتعهد بالرعاية للبعض الآخر، ولكنها دائما وفي كل مكان، تقيّد البروليتاريا ضمن هدف واحد وهو الحفاظ على سيطرتها، وذلك تحت رعاية عصبة الأمم وبواسطة جيش «أممي» وأسطول «أممي»؟ أم أن الطبقة العاملة في أوربا وفي البلدان الأكثر تقدما في الأجزاء الأخرى من العالم ستستولي على الحياة الاقتصادية على الرغم من فوضاها ودمارها من أجل إعادة بنائها على أسس اشتراكية؟
إن اختصار فترة الأزمة التي نمر بها لا يمكن أن يتم إلاّ بأساليب ديكتاتورية البروليتاريا التي لا تنظر إلى الماضي ولا تقيم وزنا للامتيازات الموروثة ولا لحق الملكية، ولا تقيم اعتبارا إلاّ لضرورة إنقاذ الجماهير الجائعة، وتعبئ من أجل ذلك كل الوسائل وكل القوى، وتقرر إلزامية العمل للجميع وتؤسس لنظام الانضباط العمالي، وذلك ليس فقط من أجل شفاء الجروح الفاغرة التي أحدثتها الحرب بل من أجل الارتفاع بالإنسانية إلى علو جديد غير منتظر.
******
لقد أصبحت الدولة القومية، بعد أن أعطت دفعا قويا للتطور الرأسمالي، ضيقة جدا بالنسبة لتوسع القوى المنتجة، وقد جعلت هذه الظاهرة من وضع الدول الصغرى، المحصورة وسط القوى الكبرى الأوروبية والعالمية، أكثر صعوبة. إن هذه الدول الصغرى التي ولدت في فترات مختلفة كأجزاء من تلك الكبرى، وكعملة النحاس المخصصة لتسديد مختلف الضرائب، وكصمامات استراتيجية، لديها أُسرُها الملكية وشرائحها الحاكمة وأطماعها الامبريالية وحيلها الديبلوماسية. لقد كان استقلالها الوهمي مرتكزا، حتى الحرب، على ما كان يرتكز عليه التوازن الأوربي بالضبط أي العداء بين المعسكرين الامبرياليين. لقد جاءت الحرب لتدمر هذا التوازن. وإذا أعطت الحرب في البداية تفوقا هائلا لألمانيا، دفعت الدول الصغرى إلى البحث عن الخلاص في شهامة العسكرية الألمانية، وبعد أن هزمت ألمانيا، استدارت برجوازية الدول الصغرى، بالاتفاق مع «اشتراكييها» الوطنيين، لتحية امبريالية الحلفاء المنتصرة، وانكبت تبحث في البنود المخادعة لبرنامج ويلسون عن ضمانات للمحافظة على وجودها المستقل. وفي الوقت نفسه، كان عدد الدول الصغرى يتزايد: لقد انفصلت عن الملكية النمساوية – المجرية وامبراطورية القياصرة دول جديدة. ما إن ولدت حتى أمسكت الواحدة منها بخناق الأخرى حول مسألة الحدود. وكان الامبرياليون الحلفاء خلال ذلك الوقت، يعدون لتشكيلات من القوى الصغرى، الجديدة والقديمة، من أجل ربطها بعضها ببعض بحقد متبادل وضعف شامل.
لا يكف الحلفاء الامبرياليون، وهم يسحقون ويقهرون الشعوب الصغيرة والضعيفة ويقضون عليها بالجوع والإذلال كما فعل إمبرياليو دول المحور قبلهم بقليل، لا يكفون عن الحديث عن الحقوق القومية، هذه الحقوق التي داسوها بأرجلهم في أوروبا والعالم أجمع.
إن الثورة البروليتارية وحدها تستطيع أن تضمن للشعوب الصغيرة وجودا حرا، لأنها تحرر القوى المنتجة في كل البلدان من الكماشات التي تشدّها الدول القومية، عبر توحيدها للشعوب في تعاون اقتصادي وثيق، انسجاما مع خطة اقتصادية مشتركة. وهي الوحيدة التي تعطي الشعوب الأضعف والأقل عددا إمكانية حكم نفسها، مع حرية واستقلالية مطلقتين، وتمنحها ثقافتها الوطنية دون أن تلحق أدنى ضرر بالحياة الاقتصادية الموحدة والممركزة في أوروبا والعالم.
إن الحرب الأخيرة التي كانت إلى حد بعيد حربا من أجل الاستيلاء على المستعمرات، كانت في الوقت نفسه حربا وقعت بمساعدة المستعمرات. فبنسب لم تكن معروفة حتى ذلك الحين جُرت الشعوب المستعمرة إلى الحرب الأوروبية. لقد تقاتل الهنود والزنوج والعرب والملقيون على أرض أوروبا، ولكن لماذا؟ باسم حقهم بالبقاء مدة أطول عبيدا لانكلترا وفرنسا. فلم يحصل أبدا بالسابق أن كان مشهد انعدام شرف الدولة الرأسمالية في المستعمرات موجبا للعبرة إلى هذا الحد، ولم يحدث من قبل أن طرحت مشكلة العبودية الاستعمارية بحدة مماثلة.
ومن هنا، قامت سلسلة من الانتفاضات والحركات الثورية في كل المستعمرات في أوروبا نفسها، وذكرت إيرلندا في معارك دموية في الشوارع بأنها لا تزال بلدا مستعبدا وأنها تعي ذلك. في مدغشقر وأنام وأماكن أخرى، كان على قوات الجمهورية البرجوازية، والأكثر من مرة، أن تخمد انتفاضات العبيد المستعمرين. وفي الهند لم تتوقف الحركة الثورية يوما واحدا، وقد أدت في الفترة الأخيرة إلى إضرابات عمالية عظيمة ردت عليها الحكومة البريطانية باستخدام العربات المصفحة.
وهكذا طُرحت المسألة الكولونيالية بكل زخمها ليس فقط على البساط الأخضر لمؤتمر دبلوماسيي باريس، بل في المستعمرات نفسها. لقد كان هدف برنامج ويلسون، في تفسيره الأفضل، تغيير مراسم الاستعباد الاستعماري. إن تحرر المستعمرات لا يمكن إحرازه إلاّ إذا تم بالتزامن مع تحرر الطبقة العاملة في الدول المستعمرة. إن العمال والفلاحين، ليس فقط في أنام والجزائر والبنغال، بل أيضا في إيران وأرمينيا، لا يمكنهم أن يتمتعوا بوجود مستقل إلاّ في اليوم الذي يستولي فيه عمال إنكلترا وفرنسا على السلطة الحكومية، بعد أن يطيحوا لويد جورج وكليمنصو. ومنذ الآن، لم يعد يخاض النضال في المستعمرات الأكثر تطورا تحت راية التحرر القومي فقط، بل إنه يتخذ فورا طابعا اجتماعيا بالغ الوضوح إلى هذا الحد أو ذاك. إذا كانت أوربا الرأسمالية قد قادت الأجزاء الأكثر تخلفا في العالم، رغما عنها، إلى دوامة العلاقات الرأسمالية، فإن أوربا الاشتراكية ستأتي بدورها لإنقاذ المستعمرات المحررة، بواسطة تقنيتها وتنظيمها ونفوذها المعنوي، من أجل الإسراع بانتقالها إلى الحياة الاقتصادية المنظمة بإتقان على يد الاشتراكية.
يا عبيد المستعمرات في افريقيا وآسيا، إن ساعة دكتاتورية البروليتاريا في أوربا ستدق من أجلكم، باعتبارها ساعة خلاصكم.
إن العالم البرجوازي بأكمله يتهم الشيوعيين بإلغاء الحرية والديموقراطية السياسية. هذا ليس صحيحا. إن البروليتاريا باستلامها السلطة لا تقوم إلاّ بإظهار الاستحالة التامة لتطبيق أساليب الديموقراطية البرجوازية، وبخلق الشروط والأشكال الخاصة بديمقراطية عمالية جديدة، وأكثر تقدما. لقد نسف كامل مسار التطور الرأسمالي، وبشكل خاص في العصر الإمبريالي الأخير، أسس الديمقراطية السياسية، ليس فقط بتجزئته الأمم إلى طبقتين عدوتين لا مجال للتوفيق بينها، بل أيضا بحكمه بالهلاك الاقتصادي والعجز السياسي على شرائح عديدة من البرجوازية الصغيرة والبروليتاريا، مثلما فعل بالعناصر الأكثر حرمانا من هذه البروليتاريا نفسها.
لقد استخدمت الطبقة العاملة نظام الديموقراطية السياسية من أجل تنظيم نفسها بمواجهة الرأسمال في البلدان حيث سمح لها التطور التاريخي بذلك. وهذا ما سيحصل في المستقبل في البلدان التي لم تتحقق فيها بعد الشروط التمهيدية لثورة عمالية. لكن جماهير السكان المتوسطين ليس فقط في القرى ولكن أيضا في المدن، ما زالت تشدّهم الرأسمالية إلى الوراء، متخلفين مراحل عديدة عن التطور التاريخي.
إن فلاح بافيير أو باد، الذي ما زال وثيق الصلة بمسقط رأسه، ومزارع العنب الفرنسي الصغير الذي دفعه إلى الإفلاس غش كبار تجار الخمور الرأسماليين، والأمريكي صاحب المزرعة الصغيرة الذي أثقله أصحاب البنوك والنواب بالديون وخدعوه، كل هذه الفئات الاجتماعية التي رمتها الرأسمالية خارج طريق التطور التاريخي الكبير، يدعوها نظام الديموقراطية السياسية للمشاركة بحكومة الدولة. والواقع أنه في المسائل الأساسية التي يتوقف عليها مصير الأمم، هناك طغمة مالية تحكم من وراء كواليس الديموقراطية البرلمانية. هذا ما حصل سابقا في مسألة الحرب ويحصل حاليا في مسألة السلم.
وبقدر العناء الذي ما زالت تتكبده الطغمة المالية من أجل تشريع أعمال الطغيان التي تقوم بها عبر التصويتات البرلمانية، فإن الدولة البرجوازية تستخدم للوصول إلى النتائج المتوخاة كل أسلحة الكذب والديماغوجية والتعذيب والافتراء والإفساد والإرهاب التي وضعتها بيدها عصور العبودية البائدة، والتي ضاعفتها معجزات التقنية الرأسمالية.
أن يُطلب من البروليتاريا، في صراعها الأخير حتى الموت ضد الرأسمال، أن تراعي بورع مبادئ الديموقراطية السياسية، فهذا يعادل مطالبة شخص يدافع عن وجوده وحياته ضد قطاع طرق بأن يراعي القواعد الشكلية والمتفق عليها للملاكمة الفرنسية، تلك القواعد التي وضعها خصمه علما أنه لا يحترمها.
وفي مجال الدمار، حيث لم تعد وسائل الإنتاج والنقل، بل وأيضا مؤسسات الديموقراطية السياسية، إلاّ كومة من الحطام الملطخ بالدم، ستضطر البروليتاريا إلى خلق جهازها الخاص الذي يخدم قبل كل شيء بالإبقاء على التماسك الداخلي للطبقة العاملة نفسها ويمنحها القدرة على التدخل بشكل ثوري في التطور اللاحق للإنسانية. هذا الجهاز هو السوفيتات.
عبرت الأحزاب القديمة والمنظمات النقابية القديمة بشخص زعمائها عن عجزها ليس فقط عن اتخاذ القرار بل حتى عن فهم المشاكل التي يطرحها العصر الجديد. إن البروليتاريا خلقت نموذجا جديدا من التنظيم الواسع، الذي يستوعب الجماهير العمالية بغض النظر عن المهنة ودرجة التطور السياسي. جهازا مرنا قادرا على التجدد والتوسع الدائمين، وبإمكانه دائما جذب فئات جديدة واحتضان شرائح الشغيلة القريبة من بروليتاريا المدينة والريف. إن تنظيم الطبقة العاملة هذا، الذي لا يمكن الاستعاضة عنه والذي يحكم نفسه بنفسه، ويناضل ويستولي بالنهاية على السلطة السياسية، قد خضع للتجربة في بلدان مختلفة وهو يشكل المكسب والسلاح الأكثر قوة في يد البروليتاريا في عصرنا.
في البلدان كافة حيث تتمتع البروليتاريا بحياة واعية، تتشكل اليوم وستتشكل في المستقبل سوفيتات النواب العمال والجنود والفلاحين. إن تعزيز السوفيتات ورفع سلطاتها ووضعها بوجه الجهاز الحكومي للبرجوازية، هذا هو حاليا الهدف الأساسي للعمال الواعين والمخلصين في البلدان كافة. بواسطة السوفيتات تستطيع البروليتاريا أن تتخلص من عناصر التفسخ التي تحمل في داخلها آلام الحرب الجهنمية والجوع وطغيان الأغنياء مع خيانة زعمائها السابقين، وبواسطة السوفيتات تستطيع الطبقة العاملة، بالطريقة الأكثر ثقة والأكثر سهولة، أن تصل إلى السلطة في البلدان كافة حيث تجمع السوفيتات حولها غالبية الشغيلة، وبواسطة السوفيتات تستطيع الطبقة العاملة سيدة السلطة، أن تحكم كل ميادين الحياة الاقتصادية والأخلاقية للبلد، كما هو قائم في روسيا.
إن انحلال الدولة الامبريالية، بدءا بأشكالها القيصرية ووصولا إلى أشكالها الأكثر ديموقراطية، يترافق مع انحلال النظام العسكري الإمبريالي. إن الجيوش المؤلفة من عدة ملايين من الرجال والتي تعبئها الامبريالية لن تستطيع الصمود إلاّ طالما بقيت البروليتاريا خاضعة لنير البرجوازية. إن تحطيم الوحدة الوطنية يعني التحطيم الحتمي للجيوش. هذا ما جرى أولا في روسيا، ومن ثم في ألمانيا والنمسا، وهذا ما ينبغي انتظاره في البلدان الامبريالية الأخرى. إن تمرد الفلاح على المالك والعامل على الرأسمالي، وتمرد الإثنين معا على البيروقراطية الملكية أو «الديموقراطية» يقود بشكل حتمي إلى تمرد الجنود على الضباط. ويؤدي إلى انشقاق مميز بين العناصر البروليتارية والبرجوازية في الجيش نفسه. إن الحرب الإمبريالية إذ وضعت الأمم بعضها بمواجهة البعض قد انقلبت وستنقلب بشكل متزايد إلى حرب أهلية تضع الطبقات بعضها بمواجهة البعض.
يشكل نواح العالم البرجوازي حول الحرب الأهلية والإرهاب الأحمر أضخم نفاق سجله تاريخ الصراعات السياسية. فلم يكن هناك حرب أهلية لو أن طغمة المستغِلين، التي قادت البشرية إلى حافة الهاوية، لم تقف في وجه أي تطور للعمال، ولم تنظم المؤامرات والاغتيالات ولم تطلب النجدة العسكرية من الخارج من أجل الحفاظ على امتيازاتها المغتصبة وتجديدها.
لقد فرضت الحرب الأهلية على الطبقات العاملة أعداؤها اللدودون، فإذا لم تكن الطبقة العاملة تريد الانتحار أو التخلي عن مستقبلها الذي هو مستقبل كل البشرية، ليس بإمكانها إلاّ أن ترد بضربات على ضربات المعتدين عليها. إن الأحزاب الشيوعية لا تثير الحرب الأهلية بشكل مصطنع، وتسعى مستطاعها لتقصير مدتها قدر الإمكان، عندما تظهر هذه الحرب كضرورة لا ترد، ولأن تقلص عدد الضحايا إلى حده الأدنى، ولكن، وفوق كل شيء، أنها تسعى لتحقيق انتصار البروليتاريا. من هنا تنبع ضرورة نزع سلاح البرجوازية في الوقت المناسب وتسليح العمال وخلق جيش شيوعي من أجل الدفاع عن سلطة البروليتاريا وحصانة بنائها الاشتراكي. هذا هو الجيش الأحمر، جيش روسيا السوفياتية الذي برز ويرتفع كسور لمكاسب الطبقة العاملة ضد الهجمات كافة في الداخل والخارج. إن جيشا سوفياتيا لا يمكن فصله عن الدولة السوفياتية.
اتجه العمال الأكثر تقدما، واعين الطابع العالمي لقضيتهم، نحو اتحاد أممي للحركة الاشتراكية، منذ الخطوات الأولى للحركة الاشتراكية المنظمة. لقد وضعت أسس هذا الاتحاد عام 1864 في لندن على يد الأممية الأولى. وقد حصدت الحرب الفرنسية الألمانية، التي نشأت عنها ألمانيا هوهنزلرن، الأممية الأولى وأدت في الوقت نفسه إلى ظهور الأحزاب العمالية القومية. ومنذ عام 1889 اجتمعت هذه الأحزاب في باريس وأنشأت منظمة الأممية الثانية. غير أن مركز ثقل الحركة العمالية كان قد انتقل بشكل كامل، في تلك الفترة، إلى الحقل الوطني في إطار الدول القومية، وعلى قاعدة الصناعة الوطنية في ميدان البرلمانية الوطنية. وخلقت بضعة عقود من العمل والتنظيم والإصلاحات، جيلا من القادة كان بأغلبيته يقبل كلاميا برنامج الثورة الاجتماعية ولكنه كان قد تخلى عنها في الواقع وغاص في الاصلاحية عبر تكيف عبودي مع السيطرة البرجوازية. إن الطابع الانتهازي للأحزاب القائدة للأممية الثانية قد انكشف بشكل واضح وأ دى إلى أكبر انهيار للتاريخ العالمي في اللحظة المحددة التي كان مجرى الأحداث التاريخية فيها يتطلب من أحزاب الطبقة العاملة أساليب ثورية في النضال. إذا كانت حرب 1870 قضت على الأممية الأولى وكشفت أنه وراء برنامجها الاجتماعي والثوري لا توجد أي قوة جماهيرية منظمة، فإن حرب 1914 قد قضت على الأممية الثانية وأظهرت أن الأحزاب التي تسيطر على المنظمات القومية للجماهير العمالية قد أصبحت الأداة الطيّعة للسيطرة البرجوازية.
لا تنطبق هذه الملاحظات فقط على الاشتراكيين – الوطنيين الذين انتقلوا بوضوح وعلانية إلى معسكر البرجوازية وأصبحوا مندوبيها المفضلين وعملاءها الموثوقين وجلادي الطبقة العاملة الأكثر أهلا للثقة، بل تنطبق أيضا على التيار الوسطي غير المحدد وغير الواضح الذي يسعى إلى إحياء الأممية الثانية، أي تخليد ضيق الأفق والانتهازية والعجز الثوري لدوائرها القيادية. ويسعى الحزب الألماني المستقل، والأغلبية الحالية في الحزب الاشتراكي الفرنسي، وحزب العمال الإنكليزي المستقل وكل المجموعات الأخرى المماثلة، في الواقع، إلى شغل الموقع الذي كانت تحتله قبل الحرب الأحزاب الرسمية القديمة للأممية الثانية. وهي تقدم نفسها، كما في السابق، بأفكار التسوية والوحدة، مطيلة بذلك الأزمة ومضاعفة آلام أوروبا. إن النضال ضد الوسط الاشتراكي هو الخلاصة التي لا مفر منها لإنجاح النضال ضد الامبريالية.
نحن، الشيوعيون، المتحدين في الأممية الثالثة، إذ نطرح بعيدا عنا أنصاف الإجراءات وكذب الأحزاب الاشتراكية الرسمية التي مر عليها الزمن وكسلها، نعتبر أنفسنا المكملين المباشرين لجهود سلسلة طويلة من الأجيال الثورية ولاستشهادها البطولي الذي تقبلته، بدءا ببابوف وحتى كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبرغ.
إذا كانت الأممية الأولى قد توقعت التطور المقبل ومهدت له الطرق، وإذا كانت الأممية الثانية قد جمّعت ملايين البروليتاريين ونظمتهم، فإن الأممية الثالثة هي أممية العمل الجماهيري، أممية الإنجاز الثوري.
إن النقد الاشتراكي قد أشبع النظام البرجوازي جلدا، ومهمة الحزب الشيوعي الأممي هي قلب نظام الأشياء هذا، وتشييد النظام الاشتراكي مكانه. إننا نطلب من كل العمال والعاملات في كل البلدان أن يتوحدوا تحت الراية الشيوعية التي أصبحت راية الانتصارات البروليتارية الكبرى الأولى في العالم أجمع! فلتتحدوا في النضال ضد الهمجية الامبريالية، ضد الملكية والطبقات صاحبة الامتيازات، ضد الدولة البرجوازية والملكية البرجوازية وضد كل مظاهر الاضطهاد الطبقي والقومي وأشكاله.
تحت راية السوفيتات العمالية، وراية النضال الثوري من أجل السلطة وديكتاتورية البروليتاريا، تحت راية الأممية الثالثة، يا عمال العالم اتحدوا!
(**) Gouvernement de la City، المقصود بالسيتي المنطقة التجارية في لندن، وبالتالي حكومة التجار الإنكليز (المعرّبة)
__________________
– الإشراف العام على التدقيق والمراجعة والتصحيح والتنضيد الإلكتروني منيف ملحم
– مراجعة فيكتوريوس بيان شمس بالتعاون مع صفحة التراث الأممي الثوري
– نقله إلى العربية لينا عاصي
– راجع الترجمة ودقّقها كميل قيصر داغر
لمراجعة الفصل السابق يرجى الدخول من خلال الرابط أدناه:
المؤتمرات العالمية الأربعة الأولى للأمميـــــــــــة الشيوعيــــــــــــــة (8)