الأحد سبتمبر 08, 2024
الأحد, سبتمبر 8, 2024

(6) المؤتمرات العالمية الأربعة الأولى للأمميـــــــــــة الشيوعيــــــــــــــة

النظرية الماركسية(6) المؤتمرات العالمية الأربعة الأولى للأمميـــــــــــة الشيوعيــــــــــــــة

خطاب لينين حول موضوعاته

أيها الرفاق

أريد أن أضيف بعض الكلمات على النقطتين الأخيرتين، وأعتقد أن الرفاق الذين سيقدمون لنا التقرير عن كونفرانس أممية برن سيحدثوننا بتفاصيل أكبر.
خلال كونفرانس برن بأكمله لم تُقل كلمة واحدة عن معنى السلطة السوفياتية، فيما نحن نناقش هذه المسألة منذ سنتين في روسيا. كنا في نيسان / أبريل 1917، في مؤتمر الحزب، قد طرحنا المسألة من وجهة نظر نظرية وسياسية: «ما هي السلطة السوفياتية، ما هو جوهرها وما هو معناها التاريخي؟» وها قد مضى حوالي عامين ونحن ندرس هذه المسألة وقد تبنينا قرارا بهذا الصدد في مؤتمر الحزب.
نشرت صحيفة الفرايهايت (Freiheit) في 11 شباط / فبراير نداء إلى البروليتاريا الألمانية لم يوقعه فقط القادة الاشتراكيون – الديموقراطيون المستقلون في ألمانيا، بل كذلك كل أعضاء تكتل المستقلين. وفي آب / أغسطس 1918، كتب كاوتسكي أكبر منظري المستقلين في كراسه «ديكتاتورية البروليتاريا» أنه كان من مناصري الديموقراطية والأجهزة السوفياتية، ولكن ينبغي ألاّ تتخذ السوفيتات إلاّ طابعا اقتصاديا، ولا يمكن اعتبارها كمنظمات لدولة. ويكرر كاوتسكي هذا التأكيد في عدديْ 11 تشرين الثاني / نوفمبر و12 كانون الثاني / يناير من صحيفة الفراهايت. في 9 شباط / فبراير ظهر مقال لرودولف هيلفردينغ، الذي يُعتبر أيضا أحد المنظرين الأساسيين المسؤولين في الأممية الثانية، يقترح فيه دمج نظامي السوفيتات والجمعية التأسيسية حقوقيا، أي بالطريقة الاشتراعية. كان ذلك في التاسع من شباط / فبراير، وتبنى هذا الاقتراح الثاني حزب المستقلين بكامله، ونُشر بشكل نداء.
على الرغم من أن الجمعية الوطنية باتت موجودة بالفعل، حتى بعد أن تجسدت «الديموقراطية المحضة» في الواقع، وبعد أن شرح كبار منظري الاشتراكية – الديموقراطية أن المنظمات السوفياتية لا يمكن أن تكون منظمات دولة، بعد كل ذلك ورغما عنه، لا زال هناك تردد. هذا يثبت أن هؤلاء السادة لم يفهموا حقا أي شيء عن الحركة الجديدة وشروطها النضالية. لكن هذا يثبت، بالإضافة إلى ذلك، شيئا آخر، وهو أنه يجب أن توجد هناك ظروف ودوافع تؤدي إلى هذا التردد. عندما يقترحون علينا بعد كل تلك الأحداث، بعد ما يقارب عامين من الثورة المنتصرة في روسيا، هكذا مقررات، كما جرى تبنيها في كونفرانس برن، مقررات لم يُذكر فيها أي شيء عن السوفيتات ومعناها، وفي كونفرانس لم ينطق خلاله أي مندوب بكلمة، في أي خطاب، عن هذه المسائل، يكون لدينا الحق في التأكيد بأن كل هؤلاء السادة أموات، بالنسبة لنا، كاشتراكيين وكمنظرين.

لكن، في الواقع، فإن هذا يثبت، أيها الرفاق، من وجهة النظر السياسية، أن هناك تقدما كبيرا يتحقق بين الجماهير، بما أن هؤلاء المستقلين المعاد ين من الناحية النظرية ومن حيث المبدأ لمنظمات الدولة هذه، يقترحون علينا فجأة حماقة من مثل الدمج «السلمي» بين الجمعية الوطنية ونظام السوفيتات، أي الدمج بين ديكتاتورية البرجوازية وديكتاتورية البروليتاريا. وهكذا نرى إلى أي درجة أفلست هذه الجماعة من الناحيتين السياسية والنظرية، ونرى التحول الضخم الذي حصل على الصعيد الجماهيري. إن الجماهير المتخلفة من البروليتاريا الألمانية تأتي إلينا، ماذا أقول؟ لقد أتت إلينا. هكذا فإن معنى الحزب الاشتراكي – الديموقراطي الألماني المستقل، الذي شكل الجزء الأفضل من الناحيتين النظرية والاشتراكية، يساوي صفرا، وهو يحتفظ مع ذلك بأهمية معينة، بمعنى أن عناصره تقدم لنا مؤشرا على حالة الجزء الأكثر تخلفا من البروليتاريا. من هنا تنبع برأيي الأهمية التاريخية الضخمة لهذا الكونفرانس. لقد شهدنا شيئا مشابها خلال ثورتنا، إذ خضع المناشفة خطوة خطوة، تقريبا، للتطور ذاته الذي عرفه المنظرون المستقلون في ألمانيا. عندما كانوا يحوزون الأغلبية في السوفيتات كانوا من أنصارها فلم نكن نسمع آنذاك سوى صيحات مثل: «عاشت السوفيتات»، «من أجل السوفيتات»، «السوفيتات و الديموقراطية الثورية!». لكن عندما حزنا نحن الأكثرية في السوفيتات، نحن البلاشفة، أنشدوا أغنيات أخرى، من مثل: «لا ينبغي للسوفيتات أن توجد في الوقت نفسه مع الجمعية التأسيسية»، لا بل إن بعض المنظرين المناشفة اقترحوا شيئا مشابها لدمج نظام السوفيتات مع الجمعية التأسيسية وإدخالها في منظمات الدولة. ويظهر مرة أخرى أن المجرى العام للثورة البروليتارية متشابه في العالم أجمع: تشكل عفوي وأولي للسوفيتات في البداية، وامتدادها فيما بعد وتطورها، ومن ثم ظهور السؤال التالي في الممارسة: سوفيتات، أو جمعية وطنية تأسيسية، أو برلمانية برجوازية ؟، تشويش مطلق لدى القادة، وفي النهاية الثورة البروليتارية. يبدو لي مع ذلك أنه بعد حوالي عامين من الثورة لا يجب أن نطرح السؤال على هذه الشاكلة، بل ينبغي أن نتخذ مقررات ملموسة لأن انتشار نظام السوفيتات هو بالنسبة لنا، وبشكل خاص بالنسبة لغالبية بلدان أوربا الغربية، إحدى المهام الأكثر جوهرية. إن الغريب الذي لم يسمع أي شيء سابقا عن البلشفية، لن يستطيع أن يكوّن رأيا خاصا عن نقاشاتنا إلاّ بصعوبة بالغة. فكل ما يؤكده البلاشفة يناقضه المناشفة والعكس صحيح، وبالطبع لا يمكن أن يكون الأمر مختلفا في مجرى الصراع. كان من الأهمية بمكان أن يتخذ الكونفرنس الأخير للحزب المنشفي المنعقد في شهر كانون الأول / ديسمبر 1918 قرارا طويلا مفصلا، نشر بكامله في جريدة المناشفة «جريدة التيبوغراف». يطرح المناشفة بالذات، في هذا القرار، تاريخ الصراع الطبقي والحرب الأهلية بشكل مختصر. ويذكر القرار أن المناشفة يدينون المجموعات الحزبية المتحالفة مع الطبقات المسيطرة في الأورال والجنوب والقرم وجورجيا، ويشيرون بدقة إلى كل هذه المناطق. إن المجموعات الحزبية المنشفية المتحالفة مع الطبقات المسيطرة والتي حاربت ضد السلطة السوفياتية هي الآن مدانة بهذا القرار، لكن النقطة الأخيرة تدين كذلك الذين انضموا إلى الشيوعيين. وتبعا لذلك فإن المناشفة مضطرون للاعتراف بأنه لم تعد هناك وحدة في حزبهم، فهم إمّا يقفون إلى جانب البرجوازية أو إلى جانب البروليتاريا. إن قسما هاما من المناشفة انضم إلى البرجوازية وقاتل ضدنا خلال الحرب الأهلية، فطبيعي أن نلاحقهم، وحتى أن نغتالهم، حيث أنهم، في الحرب ضدنا، يقاتلون الجيش الأحمر ويغتالون ضباطنا الحمر. لقد رددنا على البرجوازية، التي أعلنت علينا الحرب البروليتارية، ولا يمكن أن يكون هناك مخرج آخر. هكذا إذن فمن وجهة نظر سياسية ليس كل ذلك إلاّ نفاقا منشفيا. تاريخيا، ثمة أمر لا يمكن فهمه هو أن أشخاصا غير معتبرين رسميا مجانين كان بإمكانهم، وبدفع من المناشفة والاشتراكيين الثوريين أن يتحدثوا، في كونفرانس برن، عن نضال البلاشفة ضدهم، فيما يمرون بصمت على نضالهم المشترك مع البرجوازية ضد البروليتاريا.
جميعهم يهاجموننا بشراسة لأننا نلاحقهم، هذا صحيح، لكنهم يحاذرون أن يقولوا كلمة واحدة عن الموقع الذي اتخذوه هم أنفسهم في الحرب الأهلية. أعتقد أنه من المناسب أن يُنشر النص الكامل للقرار في محضر الجلسة وأتمنى على الرفاق الأجانب أن يعيروه كل اهتمامهم، لأنه يمثل وثيقة تاريخية، المسألة مطروحة فيه بالكامل، وتقدم أفضل توثيق حول النقاش بين الاتجاهات «الاشتراكية» المختلفة في روسيا. توجد بين البروليتاريا والبرجوازية طائفة من الناس تميل تارة إلى هذا الجانب وتارة إلى الجانب الآخر. هكذا كان الوضع دائما وفي كل الثورات، ومن المستحيل على الإطلاق في المجتمع البرجوازي، حيث تشكل البروليتاريا والبرجوازية معسكرين عدوين متقابلين، ألاّ توجد بينهما شرائح اجتماعية وسيطة. إن وجود هذه العناصر المترددة أمر حتمي تاريخيا ولسوء الحظ فإن هذه العناصر التي لا تعرف هي نفسها مع من ستقاتل إذا، سوف تبقى موجودة، ولفترة طويلة نسبيا.

إنني أرغب بتقديم اقتراح ملموس نحو تبني قرار تتم الإشارة فيه بشكل خاص إلى ثلاث نقاط:

1- إن إحدى المهمات الأكثر أهمية بالنسبة للرفاق في أوربا الغربية تقوم على شرح معنى نظام السوفيتات للجماهير وأهميته وضرورته. فإننا نلحظ نقصا في الفهم في هذه الناحية. إذا كان صحيحا أن كاوتسكي وهيلفردينغ قد أفلسا كمنظرين، فإن المقالات الأخيرة التي نشرت في ألـ «فرايهايت» تبرهن، مع ذلك، على أنهما قد عرفا أن يعبرا بدقة عن ذهنية الأقسام المتخلفة من البروليتاريا الألمانية. لقد حصل الشيء نفسه عندنا: خلال الأشهر الثمانية الأولى للثورة الروسية نوقشت مسألة النظام السوفياتي كثيرا، ولم يكن العمال يرون بوضوح كبير على ماذا يقوم النظام الجديد، ولا إذا كان بالإمكان تشكيل جهاز الدولة بواسطة السوفيتات. لقد استطعنا التقدم، في ثورتنا، ليس بالطريقة النظرية بل بالطريقة العملية. وهكذا مثلا، لم نطرح أبدا في السابق مسألة الجمعية التأسيسية نظريا ولم نقل أبدا إننا لن نعترف بها. ونحن لم نقرر حلّ الجمعية التأسيسية إلاّ مؤخرا، عندما انتشرت المؤسسات السوفياتية عبر البلد كله واستولت على السلطة السياسية. إننا نشهد في الوقت الحاضر المسألة تطرح بحدة أكبر في المجر وسويسرا. من جهة، شيء ممتاز أن يكون الأمر كذلك، فإننا نستمد من هذه الواقعة القناعة المطلقة بأن الثورة تتقدم بسرعة أكبر في بلدان أوروبا الغربية، وأنها ستحمل إلينا انتصارات كبيرة، ولكن، من جهة ثانية، هناك خطر ما، وهو أن الصراع سيكون من الشراسة والتوتر بحيث أن وعي الجماهير العمالية لن يتمكن من اللحاق بهذا الإيقاع. حتى الآن ما زال معنى نظام السوفيتات غير واضح بالنسبة لأوسع الجماهير العمالية الألمانية المثقفة سياسيا، ذلك أنها تربّت على عقلية برلمانية وعلى أفكار مسبقة برجوازية.

2- ثمة نقطة متعلقة بانتشار نظام السوفيتات. فعندما نرى مدى السرعة التي تنتشر فيها فكرة السوفيتات في ألمانيا وحتى في انجلترا، يمكننا أن نقول لأنفسنا إن هذا برهان أساسي على أن الثورة البروليتارية سوف تنتصر، ولا يمكن إيقاف مجراها إلاّ لقليل من الوقت. ولكن أن يأتي إلينا الرفيقان ألبرت وبلاتين ليصرّحا بأنه لا يوجد سوفيتات عندهما في الريف بين العمال الزراعيين والفلاحين الصغار، فهذه قضية مختلفة. لقد قرأت، في «روت فاهنه» (Rote Fahne) مقالا ضد السوفيتات الفلاحية ولكنه (وهذا صحيح كليا) يدعم سوفيتات العمال الزراعيين والفلاحين الفقراء. إن البرجوازية وخدامها مثل شيدمان وشركائه قد أطلقوا شعار السوفيتات الفلاحية. ولكننا لا نريد إلاّ سوفيتات العمال الزراعيين والفلاحين الفقراء. يتضح لسوء الحظ، من تقريري الرفيقين ألبرت وبلاتين وغيرهما أننا، باستثناء المجر، لا نقوم إلاّ بالشيء القليل من أجل توسع النظام السوفياتي في الأرياف. وهنا ربما يكمن خطر عملي ذو أهمية بوجه البروليتاريا الألمانية الساعية إلى تحقيق الانتصار. وبالفعل لا يمكن أن يُعتبر الانتصار مضمونا إلاّ عندما لا يُنظم العمال في المدن فقط، بل كذلك العمال الزراعيون. وعندما ينظّمون ليس كما في السابق في النقابات والتعاونيات، بل في السوفيتات. لقد أحرزنا الانتصار بسهولة أكبر لأننا في تشرين الأول/  أكتوبر 1917، مشينا معا نحن وكل الفلاحين. بهذا المعنى فإن ثورتنا كانت آنذاك برجوازية. كانت الخطوة الأولى لحكومتنا البروليتارية هي تحقيق المطالب القديمة لكل الفلاحين، التي عبّرت عنها السوفيتات وجمعيات الفلاحين في عهد كيرنسكي، وذلك عن طريق القانون الذي وضعته حكومتنا في 26 تشرين الأول / أكتوبر (التقويم القديم) 1917، غداة الثورة. هنا تكمن قوتنا ولهذا كان بمقدورنا أن نكسب بسهولة تعاطف الأغلبية الساحقة. لقد استمرت ثورتنا في الريف ثورة برجوازية، ولكن، فيما بعد، وبانقضاء ستة أشهر اضطررنا للشروع، ضمن أطر تنظيم الدولة، بالصراع الطبقي في الأرياف، وبتأسيس لجان الفقراء وأنصاف البروليتاريين في كل قرية والنضال بشكل منظم ضد البرجوازية الريفية. كان ذلك أمرا لا مفر منه عندنا لأن روسيا بلد متخلف. وسيكون الأمر مختلفا تماما في أوربا الغربية، لهذا علينا أن نشدد على الضرورة المطلقة لتوسع النظام السوفياتي وسط السكان الريفيين، بأشكال ملائمة وربما جديدة.

3- ينبغي أن نقول إن كسب الأغلبية الشيوعية داخل السوفيتات يشكل المهمة الرئيسية في مختلف البلدان حيث لم تنتصر بعد السلطة السوفياتية. لقد درست لجنة القرارات عندنا هذه المسألة. ربما أراد بعض الرفاق إبداء رأيهم ولكنني أرغب بتقديم اقتراح، وهو أن يجري تبني النقطة التالية بشكل قرار خاص. من البديهي أننا لن نتمكن من تحديد مجرى تطور الثورة، فمن المحتمل جدا أن تنفجر في دول عديدة من أوروبا الغربية قريبا جدا. في كل الأحوال نحن نميل ويجب أن نميل بصفتنا جناحا منظما من العمال، وبصفتنا حزبا، إلى كسب الأغلبية في السوفيتات. عندها، يصبح انتصارنا مضمونا ولن يبقى هناك من قوة قادرة على القيام بأي شيء ضد الثورة الشيوعية. وإلاّ، فلن يكون النصر سهل البلوغ كما لن يكون استمراره طويلا.

قرار حول الموقف من التيارات
الاشتراكية وكونفرانس برن

لقد تبيّن منذ عام 1907، في المؤتمر العالمي الاشتراكي في شتوتغارت، عندما عرضت الأممية الثانية لمسألة السياسة الكولونيالية والحروب الإمبريالية، أن نصف أعضاء الأممية الثانية وغالبية قياداتها كانوا في هذه المسائل أكثر قربا بكثير إلى وجهات نظر البرجوازية منهم إلى وجهات نظر ماركس وإنغلز الشيوعية.
على الرغم من ذلك، فإن مؤتمر شتوتغارت تبنى تعديلا اقترحه ممثلا الجناح الثوري، ن. لينين وروزا لوكسمبرغ، مصوغا بالشكل التالي :
«بيد أنه إذا اندلعت حرب ما، على الاشتراكيين أن يعملوا على وضع نهاية سريعة لها، وأن يستخدموا، بكل الوسائل، الأزمة الاقتصادية والسياسية الناجمة عن الحرب من أجل إيقاظ الشعب والإسراع بذلك في إسقاط السيطرة الرأسمالية».
وفي مؤتمر بال في تشرين الثاني / نوفمبر 1912، الذي دعي للانعقاد أثناء حرب البلقان، أعلنت الأممية الثانية :
«على الحكومات البرجوازية ألاّ تنسى أن الحرب الفرنسية – الألمانية قد خلقت انتفاضة الكومونة الثورية، وأن الحرب الروسية – اليابانية قد حركت القوى الثورية في روسيا. بنظر البروليتاريين، إن التقاتل لأجل الربح الرأسمالي والتنافس بين السلالات الملكية وازدهار المعاهدات الديبلوماسية، إنما هو جريمة».
وفي أواخر تموز / يوليو وأوائل آب / أغسطس 1914، قبل 24 ساعة من بدء الحرب العالمية استمرت الهيئات والمؤسسات المختصة، بإدانة الحرب التي تقترب، على اعتبار أنها أكبر جريمة ترتكبها البرجوازية. إن التصريحات العائدة إلى تلك الأيام، والصادرة عن الأحزاب القيادية في الأممية الثانية تشكل حكم الإدانة الأكثر بلاغة ضد قياديّي الأممية الثانية.

* * * * *

مع طلقة المدفع الأولى التي سقطت على حقول المجزرة الإمبريالية، خانت الأحزاب الرئيسية في الأممية الثانية الطبقة العاملة، وانحاز كل حزب منها، تحت غطاء «الدفاع الوطني»، إلى جانب برجوازيته الخاصة. شيدمان وألبرت في ألمانيا، توماس ورينودل في فرنسا، هندرسون وهايدمان في إنكلترا، فاندرفلد ودي بروكير في بلجيكا، رينير وبرنر ستورفر في النمسا، بليخانوف وروبانوفيتش في روسيا، برانتينغ وحزبه في السويد، غومير ورفاقه في أمريكا، موسوليني وشركاؤه في إيطاليا، كل هؤلاء نصحوا البروليتاريا بـ «هدنة» مع برجوازية بلد «ها»، وبأن تقلع عن الحرب ضد الحرب، بأن تصبح في الواقع وقودا لمدافع الامبرياليين.
كانت هذه هي اللحظة التي أفلست فيها الأممية الثانية إفلاسا نهائيا وهلكت.

* * * * *

لقد تمكنت البرجوازية في البلدان الأكثر ثراء، بفعل التطور الاقتصادي العام، من إفساد قمة الطبقة العاملة، الأرستقراطية العمالية، وإغرائها، عن طريق الصدقات المأخوذة من أرباحها الضخمة. وتوافد «رفاق نضال» الاشتراكية البرجوازيون الصغار إلى صفوف الأحزاب الاشتراكية – الديموقراطية الرسمية، ووجهوا شيئا فشيئا مجرى هذه الأخيرة وجهة البرجوازية. وشكّل قادة الحركة العمالية البرلمانية والسلمية، والقادة النقابيون، وأمناء سرّ الاشتراكية – الديموقراطية ومحرروها ومستخدموها، شريحة بيروقراطية عمالية كاملة، لها مصالحها الخاصة كمجموعة أنانية، شريحة كانت في الواقع معادية للاشتراكية.
بفعل هذه الظروف مجتمعة انحطت الاشتراكية – الديموقراطية الرسمية إلى حزب معاد للاشتراكية وشوفيني.
كانت قد ظهرت داخل الأممية الثانية ثلاثة اتجاهات رئيسية. وخلال الحرب وحتى بداية الثورة البروليتارية في أوروبا تحددت معالم هذه الاتجاهات الثلاثة بوضوح كامل:

1- الاتجاه الاشتراكي – الشوفيني (اتجاه «الأغلبية») وممثلوه الأكثر نموذجية هم الاشتراكيون – الديموقراطيون الألمان الذين يتقاسمون السلطة اليوم مع البرجوازية الألمانية، والذين أصبحوا قتلة زعيمي الأممية الشيوعية، كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبرغ.
لقد انكشف الاشتراكيون – الشوفينيون حاليا كأعداء طبقة البروليتاريا كليا، وهم يتبعون برامج «تصفية» الحرب، الذي أملته عليهم البرجوازية: تحميل الجماهير الكادحة الجزء الأكبر من الضرائب، عدم المساس بالملكية الخاصة، الحفاظ على الجيش بأيدي البرجوازية، حل المجالس العمالية التي تظهر في كل مكان والحفاظ على السلطة السياسية بأيدي البرجوازية – أي برنامج «الديموقراطية» البرجوازية بوجه الاشتراكية.
على الرغم من الشراسة التي قاتل فيها الشيوعيون حتى اليوم «جناح الأكثرية في الاشتراكية – الديموقراطية»، لم يدرك العمال، مع ذلك، بعد كل الخطر الذي يتهدد به هؤلاء الخونة البروليتاريا العالمية، ان فتح أعين العمال كافة على العمل الخياني للاشتراكيين – الشوفينيين وشل قدرة الحزب المعادي للثورة على الأذية، وبقوة السلاح، هو إحدى المهمات الأكثر أهمية للثورة البروليتارية العالمية.

2- الإتجاه الوسطي (الاشتراكيون – السلميون، الكاوتسكيون والمستقلون)، هذا الاتجاه بدأ يتشكل منذ ما قبل الحرب، خاصة في ألمانيا. في بداية الحرب تطابقت بشكل شبه دائم المبادئ العامة للـ «وسط» مع تلك الخاصة بالاشتراكيين – الشوفينيين. ودافع كاوتسكي، الزعيم النظري للـ «وسط» عن سياسة الاشتراكيين – الشوفينيين الألمان والفرنسيين. ولم تكن الأممية سوى «أداة في زمن السلم» و«نضال من أجل السلم»، و«صراع طبقي – في زمن السلم». كانت هذه شعارات كاوتسكي.
منذ بداية الحرب والـ «وسط» داعم لـ «الوحدة» مع الاشتراكيين – الشوفينيين. وبعد اغتيال ليبكنخت ولوكسمبرغ، استمر الـ «وسط» بالتبشير بهذه «الوحدة»، أي وحدة العمال الشيوعيين مع قتلة الزعيمين الشيوعيين، ليبكنخت ولوكسمبرغ.
منذ بداية الحرب والـ «وسط» (كاوتسكي، وفيكتور آدلر، توراتي، ماك دونالد) يروج «للعفو المتبادل»، تجاه زعماء الأحزاب الاشتراكية – الشوفينية في ألمانيا والنمسا من جهة، وفي فرنسا وإنجلترا من جهة ثانية. وما زال «الوسط» حتى اليوم وبعد الحرب ينادي بهذا العفو، معيقا بذلك العمال عن تكوين فكرة واضحة عن أسباب انهيار الأممية الثانية.
لقد أرسل «الوسط» ممثليه إلى برن، إلى الكونفرانس العالمي للاشتراكيين المساومين، مسهلا بذلك مهمة شيدمان ورينودل بخداع العمال.
إنه من الضروري بشكل مطلق فصل العناصر الأكثر ثورية عن «الوسط»، ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ بالنقد الذي لا يرحم لزعماء «الوسط» والتشهير بهم. إن القطيعة التنظيمية مع «الوسط» هي ضرورة تاريخية مطلقة. ومهمة الشيوعيين في كل بلد هي أن يحددوا وقت هذه القطيعة تبعا للمرحلة التي بلغتها الحركة عندهم.

3- الشيوعيون: كان هذا التيار يمثل الأقلية داخل الأممية الثانية، حيث دافع عن المفاهيم الشيوعية – الماركسية حول الحرب ومهام البروليتاريا (شتوتغارت 1907، قرار لينين – لوكسمبرغ). وقد شكل تجمع «اليسار الراديكالي» (عصبة سبارتاكوس فيما بعد) في ألمانيا، والحزب البلشفي في روسيا و«المنبريون» في هولندا، وتجمع الشبيبة في عدد من البلدان، النواة الأولى للأممية الجديدة.
ولما كان هذا الإتجاه مخلصا لمصالح الطبقة العاملة فقد رفع منذ بداية الحرب شعار تحويل الحرب الامبريالية إلى حرب أهلية. لقد تشكل هذا الإتجاه الآن كأممية ثالثة.

* * * * *

كان الكونفرانس الإشتراكي في برن الذي عقد في شباط / فبراير 1919 محاولة لتحنيط جثة الأممية الثانية.
يدل تكوين كونفرانس برن بشكل جلي على أن البروليتاريا الثورية في العالم لا تشترك مع هذا الكونفرانس في أي شيء.
إن البروليتاريا المنتصرة في روسيا، و البروليتاريا البطلة في ألمانيا، والبروليتاريا الإيطالية والحزب الشيوعي البروليتاري النمساوي والمجري، والبروليتاريا السويسرية والطبقة العاملة في بلغاريا، ورومانيا والصرب، والأحزاب العمالية اليسارية في السويد والنرويج وفنلندا، والبروليتاريا الأوكرانية والليتونية والبولندية، والشبيبة الأممية والأممية النسائية، قد رفضت بحزم المشاركة في كونفرنس برن الذي عقده الاشتراكيون – الوطنيون.
إن المشاركين في كونفرنس برن الذين ما زالوا يحفظون شيئا من الصلة مع الحركة العمالية الفعلية في عصرنا، شكلوا تجمعا معارضا، وقف بوجه مكائد الاشتراكيين – الوطنيين، على الأقل بصدد المسألة الجوهرية، مسألة «تقويم الثورة الروسية». إن تصريح الرفيق الفرنسي لوريو، الذي فضح أغلبية كونفرنس برن، يعكس الرأي الفعلي لكل العمال الواعين في العالم أجمع.
لقد كان كونفرنس برن يتحرك دائما، في «قضية المسؤوليات» المزعومة، ضمن أطر الإيديولوجية البرجوازية. وقد تبادل الاشتراكيون – الوطنيون الألمان والفرنسيون التهم نفسها التي تراشقت بها البرجوازيتان الألمانية والفرنسية. وضاع كونفرنس برن في تفاصيل سخيفة حول هذا المسلك أو ذاك لهذا الوزير أو ذاك قبل الحرب، وهم لا يريدون أن يعترفوا بأن الرأسمالية، والرأسمال المالي في مجموعتي القوى وخدامها الاشتراكيين – الوطنيين هم المسؤولون الرئيسيون عن الحرب. لقد كانت أغلبية الاشتراكيين – الوطنيين في برن تريد أن تكتشف من هو المسؤول عن الحرب، وكانت تكفي نظرة واحدة إلى المرآة كي يعترفوا كلهم على أنفسهم كمسؤولين عنها.
إن التصريحات الصادرة عن كونفرنس برن حول المسألة الإقليمية مليئة بالالتباسات. إن هذا الالتباس هو بالضبط ما تحتاج إليه البرجوازية. وقد اعترف السيد كليمنصو ممثل البرجوازية الامبريالية الأكثر رجعية بمزايا الكونفرنس الاشتراكي – الوطني في برن بوجه الرجعية الامبريالية، باستقباله وفدا من كونفرنس برن وبالاقتراح عليه المشاركة في كل لجان الكونفرانس الامبريالية في باريس.
لقد أظهرت المسألة الكولونيالية بوضوح أن كونفرنس برن كان في المؤخرة وراء سياسيي الاستعمار الليبراليين – البرجوازيين هؤلاء، الذين يبررون استغلال البرجوازية الامبريالية للمستعمرات واستعبادها لها، ويسعون فقط إلى تمويه ذينك الاستغلال والاستعباد بجمل خيرية – إنسانية. إن الاشتراكيين – الوطنيين الألمان يطالبون بالإبقاء على انتماء المستعمرات الألمانية للرايخ، أي الإبقاء على استغلال الرأسمال الألماني لهذه المستعمرات. وتبين الاختلافات في وجهات النظر حول هذا الموضوع أن الاشتراكيين – الوطنيين في الدول الحليفة إنما يحملون وجهة نظر تاجر العبيد نفسها، ويعتبرون أنه من الطبيعي جدا أن يستعبد رأس المال الاستعماري المستعمرات الانكليزية والفرنسية. وهكذا يظهر أن كونفرنس برن قد نسي كليا شعار «فلتسقط السياسة الكولونيالية».
في تقويم «جمعية الأمم» أظهر كونفرنس برن أنه يقتفي آثار هذه العناصر البرجوازية، التي تسعى تحت المظهر المخادع لما يسمى بـ «عصبة الأمم» إلى إبعاد الثورة البروليتارية المتعاظمة في العالم أجمع. فبدل أن يفضح كونفرنس برن دسائس مؤتمر الحلفاء المنعقد في باريس، باعتبارها دسائس زمرة تقوم باستنزاف الشعوب الصغيرة التابعة والمجالات الاقتصادية، ساندها في ذلك، إذ جعل من نفسه أداة لها.
إن الموقف الذيلي للكونفرنس الذي ترك لمؤتمر حكومي برجوازي في باريس الاهتمام بحل مسألة التشريع حول حماية العمل، يُظهر أن الاشتراكيين – الوطنيين قد عبّروا بوعي عن دعمهم للإبقاء على عبودية الإجارة الرأسمالية واستعدادهم لخداع الطبقة العاملة بإصلاحات غير مجدية.
إن التحولات، التي أوحت بها السياسة البرجوازية، بأن يتخذ كونفرنس برن قرارا تغطي بموجبه الأممية الثانية أي تدخل عسكري محتمل ضد روسيا، لم تفشل إلاّ بفضل جهود المعارضة. إن النجاحات التي حققتها المعارضة في برن بمواجهة العناصر الشوفينية المعلنة هي بالنسبة لنا دليل غير مباشر على أن البروليتاريا في أوربا الغربية تتعاطف مع الثورة البروليتارية في روسيا، وأنها مستعدة للنضال ضد البرجوازية الامبريالية.
وإزاء خشية خدم البرجوازية هؤلاء من الاهتمام، ولو بالحد الأدنى، بهذه الظاهرة ذات الأهمية التاريخية العالمية، نكتشف الخوف الذي يشعرون به أمام امتداد المجالس العمالية.
تشكل المجالس العمالية الظاهرة الأكثر أهمية منذ كومونة باريس. إن كونفرنس برن بتناسيه هذه المسألة، إنما عبّر عن بؤسه المعنوي وإفلاسه النظري.
يعتبر مؤتمر الأممية الشيوعية أن «الأممية» التي يحاول كونفرانس برن إنشاءها، هي أممية صفراء مشكلة من قامعي الإضرابات، وهي ليست ولن تكون إلاّ أداة للبرجوازية.
إن المؤتمر يدعو عمال العالم أجمع إلى خوض النضال الأكثر حزما ضد الأممية الصفراء، وإلى وقاية أوسع الجماهير من أممية الكذب والخيانة هذه.



لمراجعة الفصل السابق يرجى الدخول من خلال الرابط أدناه:

المؤتمرات العالمية الأربعة الأولى للأمميـــــــــــة الشيوعيــــــــــــــة (5)

Check out our other content

Check out other tags:

Most Popular Articles