الأحد ديسمبر 22, 2024
الأحد, ديسمبر 22, 2024

(14) المؤتمرات العالمية الأربعة الأولى للأمميـــــــــــة الشيوعيــــــــــــــة

النظرية الماركسية(14) المؤتمرات العالمية الأربعة الأولى للأمميـــــــــــة الشيوعيــــــــــــــة

   المؤتمر الثالث

موضوعات حول الوضع العالمي ومهمة الأممية الشيوعية
أولا: جوهر المسألة

1- تميزت الحركة الثورية في نهاية الحرب الإمبريالية ومنذ تلك الحرب باتساع لا سابقة له في التاريخ. في آذار / مارس 1917، أطيحت القيصرية. وفي أيار / مايو 1917، نضال إضرابي عاصف في انجلترا. وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1917، البروليتاريا الروسية تستولي على سلطة الدولة. وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1918 سقوط الحاكمين الملكيين في ألمانيا والنمسا – المجرية. حركة الإضراب تسيطر على سلسلة من البلدان الأوروبية، وتتطور، بشكل خاص في مجرى السنوات التالية: ففي آذار / مارس 1919، أقيمت الجمهورية السوفياتية في المجر. وفي نهاية السنة نفسها تقريبا، اهتزت الولايات المتحدة بفعل الإضرابات الضخمة لعمال المعادن، والمناجم والسكك الحديدية. وفي ألمانيا، بعد معارك كانون الثاني / يناير وآذار / مارس 1919، بلغت الحركة أوْجها، غداة عصيان كاب في آذار / مارس 1920. وفي فرنسا بلغ التوتر الداخلي أشده في شهر أيار / مايو 1920. وفي إيطاليا، كانت حركة البروليتاريا الصناعية والريفية تتنامى دون توقف، وأدت في أيلول / سبتمبر 1920 إلى مصادرة المصانع والمعامل والملكيات العقارية على يد العمال. وحملت البروليتاريا التشيكية، في كانون الأول / ديسمبر 1920 سلاح الإضراب العام السياسي. وفي آذار / مارس 1921، وقع عصيان العمال في ألمانيا الوسطى وإضراب عمال المناجم في إنجلترا.
وبلغت الحركة أبعادا كبيرة جدا، واحتداما أكثر عنفا في البلدان التي كانت في حالة حرب بالأمس، وخاصة في البلدان المهزومة، غير أنها امتدت أيضا إلى البلدان المحايدة. وفي آسيا وإفريقيا كانت تستثير أو تعزِّز السخط الثوري لدى العديد من الجماهير المستعمَرة.
ومع ذلك لم تنجح هذه الموجة العاتية بأن تطيح الرأسمالية العالمية، ولا حتى الرأسمالية الأوروبية.

2- خلال العام الذي انقضى بين المؤتمر الثاني والمؤتمر الثالث للأممية الشيوعية، قامت الطبقة العاملة بسلسلة انتفاضات ونضالات انتهت جزئيا إلى الهزيمة (تقدم الجيش الأحمر نحو فرصوفيا في آب / أغسطس 1920، تحرك البروليتاريا الإيطالية في أيلول / سبتمبر 1920، انتفاضة العمال الألمان في آذار / مارس 1921).
تميّزت المرحلة الأولى من الحركة الثورية، بعد الحرب، بعنفها البدائي، وغموض الأهداف والأساليب المعبّر جدا، والذعر الشديد الذي استولى على الطبقات الحاكمة؛ وقد بدا أنها انتهت إلى حد بعيد. وقد تعزَّز شعور البرجوازية بقوتها وبالصلابة الخارجية لأجهزة دولتها. وتضاءل الخوف من الشيوعية ولئن لم يختف كليا. وراح يتباهى قادة البرجوازية بقوة آلية دولتهم، وينتقلون في كل البلدان إلى الهجوم ضد الجماهير العمالية، سواء على الجبهة الاقتصادية أو على الجبهة السياسية.

3- نظرا لهذا الوضع، فالأممية الشيوعية تطرح على نفسها وعلى الطبقة العاملة الأسئلة التالية: إلى أي حد تتناسب حقا العلاقات المتبادلة الجديدة بين البرجوازية والبروليتاريا مع ميزان القوى الأعمق القائم بينهما؟ هل أن البرجوازية قادرة فعلا على إعادة التوازن الذي حطمته الحرب؟ هل هناك أسباب للافتراض أنه بعد حقبة من الاضطرابات السياسية والصراعات الطبقية، أتت حقبة جديدة طويلة من تجدّد الرأسمالية وتوسعها؟ ألا تترتب على ذلك ضرورة مراجعة برنامج الأممية الشيوعية، أو تكتيكها؟

ثانيا: الحرب، ازدهار المضاربات والأزمة. البلدان الأوروبية

4- شكل العقدان اللذان سبقا الحرب حقبة نمو رأسمالي قوي بشكل مميز. وتميزت فترات الازدهار بطول أمدها واتساعها، فيما تميزت فترات الركود أو الأزمة، على العكس، بقصرها. عموما، كان النبع قد ارتفع فجأة؛ واغتنت الأمم الرأسمالية.
وإذ طوّق أسياد مصائر البشر السوق العالمي بتروستاتهم وكارتيلاتهم واتحاداتهم، فقد تنبهوا إلى أن التطور المسعور للإنتاج سوف يصطدم بحدود القدرة الشرائية للسوق الرأسمالية العالمية، وحاولوا الخروج من هذا الوضع عبر أساليب عنفية، وجاءت الأزمة الدموية للحرب العالمية لتحل محل فترة طويلة من الركود الاقتصادي المتهدِّد، وبالنتيجة السابقة نفسها، أي تدمير قوى إنتاج ضخمة.
بيد أن الحرب قد جمعت ما بين القدرة التدميرية القصوى لطرائقها والمدة الطويلة بشكل غير متوقع لاستخدام تلك الطرائق. وكانت النتيجة أنها لم تدمّر فقط الإنتاج «الفائض»، بالمعنى الاقتصادي، بل أضعفت كذلك الآلية الأساسية للإنتاج في أوروبا، وزعزعتها وخربتها. وساهمت في الوقت نفسه بالتطور الرأسمالي الكبير في الولايات المتحدة والنمو المحموم في اليابان. لقد انتقل مركز ثقل الاقتصاد العالمي من أوروبا إلى أميركا.

5- لقد بدت مرحلة إيقاف المجزرة التي امتدت أربع سنوات، مرحلة تسريح الجيوش والانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلم، والتي تترافق بشكل حتمي مع أزمة اقتصادية نتيجة الإنهاك وفوضى الحرب، بدت أمام أعين البرجوازية –ولديها الحق في ذلك- كمرحلة حبلى بأكبر المخاطر. والحقيقة أنه في السنتين اللتين تلتا الحرب، أصبحت البلدان التي خربتها هذه الحرب حلبة لتحركات بروليتارية ضخمة.
وشكّل واقع أن ما حدث بعد عدة أشهر من انتهاء الحرب لم يكن الأزمة المحتومة بل انتعاشا اقتصاديا، أحد الأسباب الرئيسية في أن البرجوازية حافظت مع ذلك على موقعها المسيطر. امتدت هذه المرحلة حوالي عام ونصف وشغّلت الصناعة العمال المسرّحين بمجملهم تقريبا. ومع أن الأجور لم تستطع عموما أن تبلغ أسعار السلع الاستهلاكية إلاّ أنها ارتفعت بشكل كافٍ لخلق سراب مكاسب اقتصادية.
إن نتيجة هذا الازدهار الاقتصادي بين عامي  1919- 1920، الذي لطّف المرحلة الأكثر حدّة لتصفية الحرب، كانت بالضبط تجدُّد ثقة البرجوازية بنفسها، وقد طرح مسألة قدوم حقبة عضوية جديدة من التطور الرأسمالي.
مع ذلك، فإن الانتعاش بين عامي 1919 – 1920 لم يشر في الحقيقة إلى بداية إحياء الاقتصاد الرأسمالي بعد الحرب، بل إلى استمرار الوضع المصطنع للصناعة والتجارة الذي خلقته الحرب، والذي أمكنه أن يزعزع الاقتصاد الرأسمالي.

6- اندلعت الحرب الإمبريالية في مرحلة كانت فيها الأزمة الصناعية والتجارية، التي ولدت في أميركا (1913) قد بدأت باجتياح أوروبا.
لقد انقطع التطور الطبيعي للدورة الصناعية بفعل الحرب التي أصبحت هي نفسها العامل الاقتصادي الأقوى. وخلقت الحرب سوقا غير محدود إلى هذا الحد أو ذاك للفروع الأساسية في الصناعة، في مأمن من كل منافسة. لم يكن يحصل المشتري الكبير أبدا على ما يكفيه مما يجري توفيره له. وتحول إنتاج وسائل الإنتاج إلى إنتاج وسائل التدمير، وأصبح ملايين الأفراد، الذين لا ينتجون، ولا يقومون إلاّ بالتدمير، يحصلون على السلع الاستهلاكية الشخصية لقاء أسعار ترتفع باستمرار. وكانت هذه بالذات سيرورة التدمير، ولكن بموجب التناقضات المخيفة للمجتمع الرأسمالي اتخذ هذا الخراب شكل الثراء. وأصدرت الدولة قروضا فوق قروض، وإصدارات مالية فوق إصدارات مالية، وانتقلت الميزانيات التي كانت تبلغ في السابق الملايين إلى مليارات. وتم تخريب الآلات والمباني ولم يجر استبدالها. وأهملت زراعة الأرض. وتوقفت الإنشاءات الأساسية في المدن والسكك الحديدية. فيما كان يزداد في الوقت نفسه عدد سندات الدولة، وسندات الائتمان وسندات الخزينة وإصدار النقود دون توقف. وتضخم الرأسمال الإسمي بالقدر الذي كان فيه الرأسمال الإنتاجي يدمّر. وتحول نظام الإقراض، وهي وسيلة لتبادل البضائع، إلى وسيلة لتداول الثروات الوطنية، بما فيها الثروات التي من المفترض أن تخلقها الأجيال القادمة.
وخوفا من أزمة كان يمكن أن تكون كارثة، تصرفت الدولة الرأسمالية بعد الحرب على الشاكلة نفسها التي تصرفت بها أثناءها: إصدارات مالية جديدة، اقتراضات جديدة، تنظيم أسعار مبيع السلع الأكثر أهمية وأسعار شرائها، ضمان الأرباح، مواد غذائية بأسعار مخفضة، ومخصصات عديدة إضافة إلى المعاشات والأجور ـ بالإضافة إلى كل ذلك رقابة عسكرية ودكتاتورية ضباط.

7- وفي الوقت نفسه، كشف توقف الأعمال الحربية وإعادة العلاقات الدولية، الطلب الكبير على السلع الأكثر تنوعا، على امتداد الكرة الأرضية. لقد تركت الحرب كميات ضخمة من المنتجات، ومبالغ ضخمة من الأموال، تجمعت بين أيدي المورّدين والمضاربين الذين كانوا يستخدموها حيث يكون الربح أكبر ظرفيا. وأدى ذلك إلى نشاط تجاري محموم، في حين أنه مع الارتفاع المذهل في الأسعار وأرباح الأسهم الخيالية، لم تقترب الصناعة في أي من الفروع الأساسية من مستواها قبل الحرب.

8- ولقاء التدمير الاقتصادي للنظام الاقتصادي، نمو الرأسمال الإسمي، وانخفاض الأسعار، والمضاربة، فإن الحكومة البرجوازية ـ بدل أن تضمد الجروح الاقتصادية – نجحت بالاتفاق مع الاتحادات المصرفية وتروستات الصناعة في إبعاد بداية الأزمة الاقتصادية، في الوقت الذي كانت تنتهي فيه الأزمة السياسية لتسريح الجيش وأول امتحان لذيول الحرب.
وبحصولها بذلك على استراحة طويلة، ظنت البرجوازية أن خطر الأزمة قد استبعد إلى وقت غير محدد. واستحوذ تفاؤل كبير على العقول، وبدا أن حاجات إعادة البناء سوف تفتح حقبة من الازدهار الصناعي والتجاري، وبشكل خاص حقبة مضاربات موفّقة. لقد كان عام 1920 عام الآمال المخيبة.
بشكل مالي بالبداية، ومن ثم بشكلٍ تجاري وأخيرا تحت شكل صناعي، وقعت الأزمة في آذار / مارس 1920 في اليابان، وفي نيسان / أبريل في الولايات المتحدة (كان انخفاض طفيف في الأسعار بدأ في كانون الثاني / يناير)، وانتقلت الأزمة إلى إنجلترا، وفرنسا وإيطاليا، في شهر نيسان / أبريل ذاته، وإلى بلدان أوروبا المحايدة، وظهرت بشكل خفيف في ألمانيا، وانتشرت في النصف الثاني من العام 1920 في العالم الرأسمالي بأكمله.

9- انطلاقا من ذلك، فإن أزمة عام 1920، لم تكن حقبة من حقبات الدورة «الطبيعية» الصناعية. وهذا أساسي لفهم الوضع العالمي، بل كانت ردة فعل أكثر عمقا على الازدهار الصوري في زمن الحرب، وفي السنتين التاليتين، ازدهار قائم على التدمير والإنهاك.
كان التناوب العادي للأزمات وفترات الازدهار يتواصل في السابق وفقا لمنحنى النمو الصناعي وعلى العكس، ففي السنوات السبع الأخيرة، بدل أن ترتفع القوى المنتجة في أوروبا، انخفضت بشكل عنيف.
لابد أن يظهر تدمير أسس الاقتصاد بالذات، في البداية، في مجمل البنية الفوقية. ومن أجل الوصول إلى انسجام داخلي معين، سيتوجب على الاقتصاد الأوروبي في السنوات القليلة القادمة أن يتقلص وينخفض. وسيهبط منحنى القوى المنتجة من ارتفاعه الصوري الحالي. ولا يمكن لفترات الازدهار في هذه الحالة إلاّ أن تكون قصيرة الأمد وستتخذ بشكل خاص طابع المضاربة. وستكون الأزمات طويلة ومضنية. إن الأزمة الحالية في أوروبا هي أزمة نقص إنتاج. وهي ردة فعل البؤس على الجهود المبذولة من أجل الإنتاج، والاتجار والعيش على منوال الحياة في الحقبة الرأسمالية السابقة.

10- وفي أوروبا، فإن إنجلترا هي البلد الأقوى اقتصاديا والذي عانى أقل من غيره من الحرب؛ لا يمكننا مع ذلك الحديث، حتى بالنسبة لهذا البلد، عن إعادة التوازن الرأسمالي بعد الحرب. لا شك أن إنجلترا، بفضل تنظيمها العالمي وموقعها كمنتصرة، أحرزت بعد الحرب بعض النجاحات التجارية والمالية، وحسّنت ميزانها التجاري، ورفعت سعر الجنيه الاسترليني، وحصلت على فائض في العائدات بالنسبة للمصاريف في الميزانية؛ ولكن إنجلترا تقهقرت على الصعيد الصناعي منذ الحرب، فمردود العمل والعائدات الوطنية منخفضة بشكل لا يقارن عما كانت عليه قبل الحرب. والوضع الصناعي الأكثر أهمية، أي وضع صناعة الفحم، يتفاقم بشكل متزايد، مفاقما وضع الفروع الأخرى. وحركات الإضراب المتواصلة لم تكن السبب في خراب الاقتصاد الإنجليزي، بل نتيجة هذا الخراب.

11- لقد دُمرت فرنسا وبلجيكا وإيطاليا بفعل الحرب بشكل لا يمكن تعويضه، ومحاولة إحياء الاقتصاد الفرنسي على حساب ألمانيا هو عمل لصوصية حقيقي يصحبه اضطهاد دبلوماسي يميل، دون أن ينقذ فرنسا، إلى إنهاك ألمانيا بشكل نهائي (عن طريق نهب الفحم، والآلات، والماشية، والذهب). وهذا الإجراء يوجه ضربة جدية لاقتصاد أوروبا القارية بمجملها. ففرنسا تكسب أقل بكثير مما تخسر ألمانيا، وتسير نحو الخراب الاقتصادي، على الرغم من أن فلاحيها قاموا بفعل جهود خارقة، بإصلاح جزء كبير من المزروعات، وأن بعض فروع الصناعة (مثلا صناعة المواد الكيميائية) قد تطورت بشكل ملحوظ خلال الحرب. فقد بلغت ديون الدولة ومصاريفها (المتأتية من النزعة العسكرية) أرقاما خيالية في نهاية مرحلة الازدهار الأولى، وهبط سعر الصرف الفرنسي بمقدار 60 بالمائة. وتعيق الخسائر الضخمة بالأرواح البشرية التي سببتها الحرب إحياء الاقتصاد الفرنسي، وهي خسائر من المستحيل تعويضها، بسبب النمو البطيء للسكان في فرنسا. وينطبق الشيء نفسه، إلى هذا الحد أو ذاك، على اقتصاد كل من بلجيكا وإيطاليا.

12- إن الطابع الوهمي لمرحلة الازدهار جليّ بشكل خاص في ألمانيا. ففي مدة من الزمن ارتفعت فيها الأسعار خلال عام ونصف بمعدل ستة أضعاف استمر إنتاج البلاد بالانخفاض بسرعة كبيرة. إن المشاركة الظافرة ظاهريا من جانب ألمانيا، في التهريب التجاري العالمي لما قبل الحرب، تم دفع ثمنها بسعر مضاعف: تبذير الرأسمال الأساسي للأمة (عن طريق تحطيم جهاز الإنتاج، والنقل والائتمان)، والانخفاض المتلاحق لمستوى معيشة الطبقة العاملة. وقد عبّرت أرباح المستوردين عن نفسها بخسارة دون تعويض من زاوية اقتصاد الدولة. فتحت شكل التصدير، يجري بيع ألمانيا بالذات بسعر بخس. والسادة الرأسماليون يضمنون لأنفسهم حصة متزايدة باستمرار من الثروة الوطنية، التي تتناقص، من جهتها، دون توقف. لقد أصبح العمال الألمان حمالي أوروبا.

13- وكما يقوم الاستقلال السياسي الصوري للبلدان الصغيرة المحايدة على التضاد القائم بين الدول الكبرى، فإن ازدهارها الاقتصادي يخضع للسوق العالمي، الذي كان قد حدّد طابعه الأساسي قبل الحرب كل من إنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا. حققت برجوازية البلدان الصغيرة المحايدة في أوروبا خلال الحرب أرباحا هائلة لكن دمار البلدان الأوروبية التي شاركت في الحرب وخرابها حمل الخراب الاقتصادي للبلدان الصغيرة المحايدة. فارتفعت ديونها، وانخفضت أسعار عملتها. لقد وجهت لها الأزمة الضربة تلو الأخرى.

ثالثا: الولايات المتحدة، اليابان
البلدان المستعمَرة وروسيا السوفياتية

14- يمثل تطور الولايات المتحدة خلال الحرب، بمعنى من المعاني، نقيض تطور أوروبا. فقد كانت مشاركة الولايات المتحدة بالحرب مشاركة مموّنين. ولم تشعر الولايات المتحدة أبدا بالآثار التدميرية للحرب. وكان التأثير التدميري غير المباشر للحرب على النقليات والاقتصاد الريفي، الخ.، أضعف بكثير في هذا البلد منه في إنجلترا ـ دون الحديث عن فرنسا وألمانيا. ومن جهة ثانية استغلت الولايات المتحدة بشكل كامل انعدام المنافسة الأوروبية أو على الأقل ضعفها الحاد، ودَفعت صناعاتها الأكثر أهمية إلى درجة من التطور غير المنتظر (النفط، الإنشاءات البحرية، السيارات، الفحم)، وليس النفط الأميركي وحده ولا الزُّروع(1) الأميركية، بل أيضا الفحم هو ما يبقي غالبية البلدان الأوروبية في حالة تبعية.
وإذا كانت أميركا تصدر، إلى حين اندلاع الحرب، المنتجات الزراعية والمواد الأولية (تشكل ثلثي حجم الصادرات الكلية) فهي في الوقت الحاضر تصدِّر بشكل خاص، وعلى العكس، المنتجات الصناعية (60 بالمائة من الصادرات). وإذا كانت أميركا حتى الحرب مدينة، فإنها أصبحت في الوقت الحاضر دائنة للعالم أجمع. فنصف احتياطي الذهب العالمي ما زال يتدفق إليها. وانتقل الدور الحاسم في السوق من الجنيه الاسترليني إلى الدولار.

15- مع ذلك، فإن الرأسمال الأميركي قد خرج هو أيضا عن التوازن. فالازدهار الخارق للصناعة الأميركية قد تحدد حصرا بجملة شروط عالمية: إلغاء المنافسة الأوروبية، وبشكل خاص الطلب في سوق الأسلحة في أوروبا. وإذا لم تستطع أوروبا المدمَّرة أن تعود بعد الحرب إلى موقعها كمنافسة لأميركا أي إلى موقعها في السوق العالمي ما قبل الحرب، فإنها لا تستطيع من جهة ثانية كسوق لأميركا، أن تحصل من الآن وصاعدا إلاّ على جزء لا قيمة له من أهميتها السابقة. فقد أصبحت الولايات المتحدة بلدا مصدّرا بدرجة أكبر بكثير مما كانت عليه قبل الحرب. إن الجهاز الإنتاجي فائق التطور لا يمكن أن يستخدم بشكل كامل خلال الحرب بسبب افتقاد الأسواق. وهكذا أصبحت بعض الصناعات صناعات موسمية لا يمكن أن تؤمن العمل للعمال إلاّ لجزء من السنة. إن الأزمة في الولايات المتحدة هي بداية دمار اقتصادي عميق ومستديم بنتيجة انهيار أوروبا. وهنا تكمن نتيجة تدمير تقسيم العمل العالمي.

16- لقد أفادت اليابان أيضا من الحرب من أجل توسيع موقعها في السوق العالمي. إن تطورها أكثر محدودية بما لا يقارن مع الولايات المتحدة، ويتخذ في سلسلة من الفروع طابعا مصطنعا محضا. وإذا كانت قواها المنتجة كافية من أجل السيطرة على سوق خال من المنافسين، إلاّ أنها تبدو مع ذلك غير كافية من أجل الحفاظ على هذا السوق في الصراع مع البلدان الرأسمالية الأقوى، وقد نتج عن ذلك أزمة حادة كانت بالتحديد بداية الأزمات الأخرى كافة.

17- وأفادت البلدان الساحلية المصدِّرة للمواد الأولية، ومن ضمنها البلدان المستعمَرة (أميركا الجنوبية، كندا، أستراليا، الهند، ومصر، الخ)، كل بدورها، من توقف المواصلات الدولية من أجل تطوير صناعتها المحلية. لقد امتدت الأزمة العالمية إلى هذه البلدان أيضا. إن تطور الصناعة الوطنية في هذه البلدان يصبح بدوره مصدرا لصعوبات تجارية جديدة لإنجلترا وأوروبا بأكملها.

18- وفي مجال إنتاج التجارة والتسليف، ليس ثمة سبب للتأكيد ـ ليس فقط في أوروبا بل على الصعيد العالمي – بأن هناك أي إعادة لتوازن مستقر بعد الحرب.
فالانهيار الاقتصادي يستمر في أوروبا، ولكن تدمير أسس الاقتصاد الأوروبي لن يظهر خلال السنوات القادمة إلاّ بشكل خفيف.
السوق العالمي في فوضى. أوروبا بحاجة للمنتجات الأميركية، غير أنها لا تستطيع أن تعطي أميركا أي مقابل. أوروبا مصابة بفقر الدم، وأميركا مصابة بنمو زائد. ويشكل انخفاض قيمة العملة في البلدان الأوروبية (الذي يصل إلى نسبة 99 بالمائة) عائقا أمام التجارة العالمية يكاد يمكن تجاوزه. إن التقلبات الدائمة وغير المتوقعة للعملة تحوِّل الإنتاج الرأسمالي إلى مضاربة لا كابح لها. ولا يمكن إعادة سعر الذهب إلى ما كان عليه في أوروبا إلاّ عن طريق رفع الصادرات وخفض الواردات. وأوروبا المهدّمة غير قادرة على هذا التحول. وأميركا بدورها تقاوم الواردات الأوروبية المصطنعة (الإغراق) عن طريق رفع التعرفات الجمركية.
وتبقى أوروبا مستشفى للأمراض العقلية. فأغلبية الدول تصدر قوانين تحظر الاستيراد والتصدير، وتضاعف تعرفات الحماية لديها. إنكلترا تطبق حقوق الحظر على الصادرات الألمانية ومجمل الحياة الاقتصادية الألمانية رهن بعصابة من المضاربين في الدول الحليفة وخاصة فرنسا. وأراضي النمسا – المجرية تقسمها عشرات الخطوط الجمركية. وربطة خيوط معاهدات السلم تصبح أكثر تداخلا وتعقيدا يوما بعد يوم.

19- لقد ساهم اختفاء روسيا السوفياتية كسوق للمنتجات الصناعية وكمموِّن بالمواد الخام في الإخلال بتوازن السوق العالمي. وعودتها في المرحلة القادمة إلى السوق العالمي لن تحمل إليه تحولات كبيرة. كان الجهاز الرأسمالي لروسيا، من ناحية وسائل الإنتاج، في تبعية كاملة للصناعة العالمية، وتعززت أيضا هذه التبعية تجاه الدول الحليفة خلال الحرب، فيما كانت صناعة روسيا الداخلية مستنفرة بشكل كامل. لقد قطع الحصار هذه الروابط الحيوية بضربة واحدة. وليس واردا أن يتمكن هذا البلد، الذي أنهكته ثلاث سنوات من الحرب الأهلية ودمرته، من تنظيم الفروع الصناعية الجديدة لديه، التي بدونها كانت الفروع القديمة تدمرت حتما بفعل استنزاف معداتها الأساسية. يضاف إلى ذلك واقع استيعاب الجيش الأحمر لعشرات الآلاف من أفضل العمال، إلى حد بعيد أكثرهم اختصاصا. ضمن هذه الشروط التاريخية، لم يكن أي نظام آخر ليستطيع، وهو مطوّق بالحصار، ومعرّض لحروب لا تتوقف، ويحمل إرثا رهيبا من الدمار، أن يحافظ على الحياة الاقتصادية ويخلق إدارة ممركزة. ولكن لا يمكننا أن نشك بأنه تم دفع ثمن النضال ضد الإمبريالية العالمية بالاستنزاف المتواصل للقوى المنتجة في روسيا في فروع أساسية عديدة من الاقتصاد ولم يحصل إلاّ في الوقت الحاضر، بعد فك الحصار، وإحياء بعض الأشكال الأكثر طبيعية للعلاقات بين المدينة والريف، إن توفرت للسلطة السوفياتية إمكانية قيادة ممركزة ثابتة وصلبة لا تلين لأجل إنهاض البلد.

رابعا: احتدام التعارضات الاجتماعية

20- إن الحرب التي أنتجت تدميرا للقوى المنتجة لا سابقة له في التاريخ، لم توقف سيرورة التمايز الاجتماعي؛ بل على العكس حصل تقدم مخيف على صعيد بلترة شرائح متوسطة واسعة، بما فيها الطبقة الوسطى (المستخدمين، والموظفين) في البلدان التي عانت أكثر من غيرها من الحرب. لقد أصبحت المسألة ستينز Stinnes مسألة أساسية في الحياة الاقتصادية الألمانية.
لقد كان ارتفاع أسعار السلع الملازم للانخفاض الكارثي للصرف في كل البلدان الأوروبية التي شاركت في الحرب يشهد في الواقع على توزيع جديد للدخل الوطني على حساب الطبقة العاملة والمستخدمين والموظفين وأصحاب الريع الضئيل، وبشكل عام على حساب جميع فئات الأفراد الذين يحصلون على ريع محدد إلى هذا الحد أو ذاك.
على هذه الشاكلة عادت أوروبا لناحية مواردها المادية عشرات السنوات إلى الوراء وبعيدا عن أن يتوقف مجرى احتدام التعارضات الاجتماعية، الذي لم يعد ممكنا مقارنته من الآن وصاعدا بما كان عليه بالسابق، راح يتفاقم بسرعة مذهلة. هذه الواقعة الرئيسية كافية لتحطيم كل أمل مبني على تطور متواصل وسلمي للقوى الديمقراطية. إن التمايز المتنامي -«الستنزة»(2)، من جهة، ومن جهة أخرى البلترة والإفقار-، القائم على الدمار الاقتصادي، يحدد الطابع المتوتر والحاسم والقاسي للصراع الطبقي.
إن الطابع الحالي للأزمة يشكل إدامة، من هذه الزاوية، لعمل الحرب ولاندفاع المضاربة الذي تبع تلك الحرب.

21- أدى ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية، بخلقه لوهم الثراء العام للريف، إلى ازدياد فعلي في دخول الفلاحين الأغنياء وثرواتهم. فلقد استطاع الفلاحون في الواقع أن يدفعوا ديونهم التي ترتبت عليهم حين كان لا يزال سعر العملة عاديا، بواسطة أوراق مالية هابطة القيمة كانوا قد راكموها بكميات كبيرة. على الرغم من الارتفاع الكبير بسعر الأرض وعلى الرغم من سوء الاستخدام الوقح لاحتكار وسائل المعيشة، وأخيرا على الرغم من إثراء كبار الملاكين العقاريين والفلاحين الميسورين، فإن تراجع الاقتصاد الريفي في أوروبا لا جدال فيه: وهو تراجع متعدد الوجوه يعبر عن نفسه بتوسيع أشكال الاقتصاد الزراعي، وتحويل الأراضي الصالحة للزراعة إلى حقول، وإبادة الماشية، وتطبيق نظام الأراضي المرتاحة. ومن أسباب هذا التراجع أيضا نقص الأدوات المصنوعة وغلاؤها وارتفاع أسعارها. وأخيرا الخفض المنظم ـ في أوروبا الوسطى والشرقية – للإنتاج، الذي جاء كردة فعل على محاولات سلطة الدولة وضع يدها على الإشراف على المنتجات الزراعية. ويخلق الفلاحون الميسورون، وإلى حد ما الفلاحون المتوسطون، منظمات سياسية واقتصادية من أجل حماية أنفسهم من هجمات البرجوازية ومن أجل أن يفرضوا على الدولة ـ كثمن للدعم الذي يقدمونه بمواجهة البروليتاريا – سياسة تعرفات وضرائب أحادية الجانب ولصالح الفلاحين حصرا، سياسة تعيق تجديد الرأسمالية. بذلك ينشأ تعارض بين البرجوازية المدينية والبرجوازية القروية، مما يضعف قوة الطبقة البرجوازية بمجملها. فيما يتبلتر، في الوقت نفسه، جزء كبير من الفلاحين الفقراء، وتتحول القرية إلى جيش من الساخطين، ويتنامى الوعي الطبقي لطبقة البروليتاريا الريفية.
من جهة ثانية، سبّب الإفقار العام في أوروبا، الذي جعلها عاجزة عن شراء الكمية الضرورية من الزروع الأميركية، أزمة كبيرة في الاقتصاد الريفي لما وراء الأطلسي. ونلاحظ تفاقم وضع الفلاح والمزارع الصغير ليس فقط في أوروبا بل أيضا في الولايات المتحدة وكندا والأرجنتين وأستراليا وجنوب إفريقيا.

22- لقد تفاقم وضع الموظفين والمستخدمين بشكل عام، بفعل انخفاض القدرة الشرائية للعملة، بحدة أكبر من وضع البروليتاريا. واختلّت شروط المعيشة للموظفين الصغار والمتوسطين اختلالا كليا، بحيث أصبحت هذه العناصر خميرة سخط سياسي، يقوّض صلابة آلية الدولة، التي يخدمها هؤلاء. إن «الفئة المغلقة المتوسطة الجديدة» التي تمثل بالنسبة للإصلاحيين مركز القوى المحافظة، تصبح بالأحرى خلال مرحلة الانتقال عاملا ثوريا.

23- لقد فقدت أوروبا الرأسمالية أخيرا موقعها الاقتصادي المهيمن في العالم. من جهة ثانية، كان توازنها الطبقي النسبي يقوم على هذه الهيمنة الواسعة. وكل الجهود التي قامت بها البلدان الأوروبية (إنجلترا وإلى حد ما فرنسا) من أجل إعادة الوضع الداخلي إلى ما كان عليه، لم تكن إلاّ لتزيد من فوضى الحيرة والتقلب.

24- فيما كان تركّز الملكية في أوروبا ينجز على قاعدة الدمار وصل هذا التركّز والتضاد الطبقي في الولايات المتحدة إلى درجة قصوى على قاعدة إثراء رأسمالي محموم. إن التحولات المفاجئة للوضع بفعل التقلب العام بالسوق العالمي، أعطت الصراع الطبقي على الأرض الأميركية طابعا متوترا للغاية وثوريا. ولا بد أن يلي بلوغ الرأسمالية ذروة لا مثيل لها في التاريخ بلوغ النضال الثوري ذروته.

25- كانت هجرة العمال والفلاحين إلى ما وراء المحيط تخدم دائما كصمام أمان للنظام الرأسمالي في أوروبا وكانت تزداد خلال فترات الركود المتواصلة وبعد هزيمة الحركات الثورية. غير أن أميركا وأستراليا تعيقان الآن الهجرة ودائما بشكل متزايد. إن صمام الأمان الخاص بالهجرة لم يعد يشتغل.

26- خلق التطور النشط للرأسمالية في الشرق، وخاصة في الهند والصين، أسسا اجتماعية جديدة للنضال الثوري وعزّزت البرجوازية في هذه البلدان روابطها بالرأسمال الأجنبي وأصبحت على هذه الشاكلة أداته الأساسية للسيطرة. إن صراعها مع الإمبريالية الأجنبية، صراع المنافس الأشد ضعفا، يتخذ أساسا طابعا نصف وهمي، فتطور البروليتاريا المحلية يشلُّ الميول الثورية الوطنية للبرجوازية الرأسمالية. ولكن، وفي الوقت نفسه، تجد الصفوف الواسعة للفلاحين، في شخص الطليعة الشيوعية الواعية، قادة ثوريين حقيقيين.
إن اجتماع الاضطهاد القومي العسكري بواسطة الإمبريالية الأجنبية، والاستغلال الرأسمالي بواسطة البرجوازية المحلية والبرجوازية الأجنبية، وكذلك بقايا العبودية الإقطاعية، كل ذلك يخلق الشروط التي تستطيع البروليتاريا الناشئة أن تتطور بفعلها سريعا، وتقف على رأس حركة فلاحية واسعة.
لقد أصبحت الآن الحركة الشعبية الثورية في الهند والمستعمرات الأخرى جزءا لا يتجزأ من الثورة العالمية للشغيلة، تماما كما هو الحال مع انتفاض البروليتاريا في البلدان الرأسمالية في العالم القديم أو في العالم الجديد.

خامسا: العلاقات الدولية

27- يحدد الوضع العام للاقتصاد العالمي وقبل كل شيء خراب أوروبا مرحلة طويلة من صعوبات اقتصادية كبيرة، وهزات وأزمات جزئية وعامة، الخ. وتتولى العلاقات الدولية، كما توطدت كنتيجة للحرب ومعاهدة فرساي، جعل الوضع أمام جدار مسدود.
لقد ولدت الإمبريالية تعبيرا عن حاجات القوى المنتجة التي تنزع إلى إلغاء حدود الدول القومية وخلق أرض أوروبية وعالمية اقتصادية واحدة؛ وكانت نتيجة الصراع بين الامبرياليات المتعادية إتاحة حدود جديدة وجمارك جديدة وجيوش جديدة في أوروبا الوسطى والشرقية. لقد أعيدت أوروبا، بالمعنى الاقتصادي والعملي إلى القرون الوسطى.
وعلى أرض مستنزفة ومهدمة، تتم المحافظة حاليا على جيش أكبر مرة ونصفا مما كان عليه عام 1914، أي في ذروة «السلم المسلح».

28- يمكن أن نقسم السياسة القيادية لفرنسا في القارة الأوروبية إلى قسمين: أحدهما يشهد على الغضب الأعمى للمرابي المستعد لخنق المستدين المفلس، والثاني يتمثل بجشع الصناعة الكبيرة النهّابة بغية خلق الشروط الملائمة لإمبريالية صناعية، قادرة على الحلول محل الإمبريالية المالية المفلسة، وذلك عن طريق أحواض السار والروهر وسيليزيا العليا.
غير أن هذه الجهود تتعارض مع مصالح إنكلترا. فمهمة هذه الأخيرة تقوم على فصل الفحم الألماني عن الركاز (3) الفرنسي، اللذين يشكل الجمع بينهما شرطا ضروريا لإحياء أوروبا من جديد.

29- تبدو الإمبراطورية البريطانية حاليا في ذروة قوتها. فقد حافظت على ممتلكاتها القديمة واحتلت أخرى جديدة. ولكن اللحظة الحالية تحديدا تُظهر أن الموقع المهيمن لإنجلترا يتناقض مع انحطاطها الاقتصادي الفعلي. وقد سُحقت ألمانيا، برأسماليتها الأكثر تطورا بما لا يقارن لناحية التقنية والتنظيم، بواسطة القوة العسكرية. ولكن يقف بمواجهة إنجلترا خصم منتصر وأكثر تهديدا من ألمانيا، تمثله الولايات المتحدة، سيدة الأميركيتين اقتصاديا. إن مردود العمل في الصناعات في الولايات المتحدة، بفعل تنظيم أفضل وتقنية أفضل، أعلى بما لا يقارن مما هو عليه في إنكلترا. فالولايات المتحدة تنتج 65 إلى 70 بالمائة من النفط المستهلك في العالم أجمع، الذي يتوقف عليه استخدام السيارات والجرارات، والأسطول والطيران. إن الموقع العريق في القدم وشبه الاحتكاري لإنجلترا في سوق الفحم قد تحطّم نهائيا، واحتلت أميركا المركز الأول. فصادراتها إلى أوروبا تتزايد بشكل مهدِّد، وأسطولها التجاري يضاهي تقريبا الأسطول الإنجليزي، وهي لم تعد تريد الإذعان لاحتكار إنجلترا العالمي. وعلى الصعيد الصناعي، تنتقل بريطانيا العظمى إلى موقع الدفاع، وتحت حجة محاربة المنافسة الألمانية «الخبيثة» تتسلح بإجراءات حماية بمواجهة الولايات المتحدة. وأخيرا في حين توقف عن التطور أسطول إنجلترا العسكري، الذي يضم عددا كبيرا من الوحدات القديمة، استعادت حكومة هاردينغ برنامج حكومة ويلسون فيما يختص بالإنشاءات البحرية، التي ستمنح أميركا، خلال السنتين أو الثلاث سنوات القادمة، الهيمنة على البحار.
إن الوضع هو على الصورة التالية: إمّا أن تُدفع إنجلترا إلى موقع ثانوي وعلى الرغم من انتصارها على ألمانيا، تصبح قوة من الدرجة الثانية، وإمّا ـ وهو ما باتت ترى نفسها مجبرة عليه – أن تجند فعلا، في مستقبل قريب جدا، كل القوى التي اكتسبتها في الماضي في صراع مستميت مع الولايات المتحدة.
وضمن هذا المنظور تحافظ إنجلترا على تحالفها مع اليابان وتسعى، لقاء تنازلات تتزايد باستمرار، لكسب دعم فرنسا أو على الأقل حيادها.
إن تنامي دور هذه الأخيرة الدولي ـ في حدود القارة – خلال العام الجاري لا يعود إلى ضعف اعترى فرنسا، بل إلى الضعف الدولي لإنجلترا.
إن استسلام ألمانيا في أيار / مايو الماضي في مسألة تعويضات الحرب، يشير إلى الانتصار الظرفي لإنجلترا في كل مكان، ويؤكد الانهيار الاقتصادي اللاحق لأوروبا الوسطى، دون استبعاد احتلال فرنسا لأحواض الروهر وسيليزيا العليا، في مستقبل قريب.

30- إن العداء بين اليابان والولايات المتحدة، الذي كان مستقرا ظرفيا بسبب مشاركتهما في الحرب ضد ألمانيا، ينمّي اتجاهاته علنا في هذه المرحلة، فقد اقتربت اليابان من شواطئ الولايات المتحدة بعد أن استولت على جزر ذات أهمية استراتيجية كبيرة في المحيط الهادي.
لقد أيقظت الأزمة الصناعية التي تطورت بسرعة في اليابان، مسألة الهجرة من جديد؛ فاليابان بلد ذو كثافة سكانية، وفقير بالموارد الطبيعية، مجبر على تصدير السلع أو الأشخاص. وفي الحالة الأولى كما في الثانية يصطدم بالولايات المتحدة، في كاليفورنيا وفي الصين وعلى جزيرة جاب.
تنفق اليابان أكثر من نصف ميزانيتها على الجيش وعلى الأسطول. وتلعب اليابان في البحر، بسبب النزاع بين إنكلترا وأميركا الدور الذي تلعبه فرنسا على الأرض في الحرب مع ألمانيا. وتستفيد اليابان حاليا من العداء بين بريطانيا العظمى وأميركا، غير أن الصراع النهائي بين هذين العملاقين على السيطرة على العالم، سيتقرر في النهاية على حسابها.

31- لقد كانت المجزرة الأخيرة أوروبية بأسبابها وبالمشتركين بها. وكان محور الصراع هو العداء بين إنكلترا وألمانيا، وقد وسّع تدخل الولايات المتحدة أُطُرَه، دون أن يحوله عن اتجاهه الأساسي؛ لقد تم حل النزاع الأوروبي على مستوى العالم أجمع. إن الحرب التي أنهت على طريقتها الخلاف بين إنجلترا وألمانيا، ليس فقط لم تحل مسألة العلاقات بين الولايات المتحدة وإنجلترا بل، على العكس، فقد وضعتها من جديد في الواجهة، بكل أبعادها، باعتبارها مسألة أساسية في السياسة الدولية. كما طرحت مسألة من الدرجة الثانية، وهي مسألة العلاقات بين الولايات المتحدة واليابان. وبهذا المعنى كانت الحرب الأخيرة مقدمة أوربية للحرب العالمية حقا التي ستقرر السيطرة الإمبريالية المطلقة.

32- ولكن هذا ليس إلاّ محورا من محاور السياسة الدولية. وهناك محور آخر أيضا: فاتحاد السوفيتات الروسية والأممية الثالثة قد ولدتها نتائج الحرب الأخيرة. وتجمع القوى الثورية العالمية موجه كليا ضد كل التجمعات الإمبريالية.
إن للحفاظ على التحالف بين إنجلترا وفرنسا أو على العكس، فرط هذا التحالف، الثمن نفسه من وجهة نظر مصالح البروليتاريا ومن وجهة نظر السلام، وسواء تجدّد أو لم يتجدد التحالف الإنجليزي – الياباني، وسواء دخلت الولايات المتحدة (أو رفضت الدخول) إلى عصبة الأمم، فالبروليتاريا لن تجد ضمانة كبرى للسلام في التجمع العابر والجشع وغير الموثوق به بين الدول الرأسمالية، الذي تتعهده سياستها المتطورة باستمرار حول التضاد الإنجليزي – الأميركي، فيما تعدّ لانفجار دموي.

إن إبرام بعض الدول الرأسمالية معاهدات سلمية واتفاقات تجارية مع روسيا السوفياتية هو أبعد من أن يعني أن البرجوازية العالمية قد تخلت عن هدف تدمير الجمهورية السوفياتية. إننا لا نستطيع أن نرى في ذلك إلاّ تحولا ربما كان عابرا لأشكال وأساليب الصراع. وربما دلّ الانقلاب الياباني في الشرق الأقصى على بداية مرحلة جديدة من التدخل المسلح.
ومن الواضح بشكل مطلق، أنه كلما تباطأت الحركة البروليتارية الثورية العالمية كلما دفعت تناقضات الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي البرجوازية كي تحاول مجددا إيجاد حل بقوة السلاح على المستوى العالمي. وهذا يعني أن «إعادة التوازن الرأسمالي» سترتكز بعد الحرب الجديدة على إنهاك اقتصادي وانكفاء للحضارة بحيث تبدو لدى المقارنة مع الوضع الحالي أوروبا، ذروة الرخاء.

33- وعلى الرغم من أن تجربة الحرب الأخيرة قد أثبتت بيقين مرعب أن «الحرب هي حساب خادع» – حقيقة تشمل كل نزعة سلمية، سواء كانت اشتراكية أو برجوازية – فإن الإعداد لحرب جديدة، الإعداد الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي والتقني، يستمر بخطوات حثيثة في العالم الرأسمالي بأكمله. إن النزعة السلمية الإنسانية المعادية للثورة قد أصبحت قوة داعمة للنزعة العسكرية.
إن الاشتراكيين – الديمقراطيين بمختلف تلاوينهم ونقابويي أمستردام يوحون للبروليتاريا العالمية بالقناعة بضرورة التكيف مع القواعد الاقتصادية والحق الدولي للدول كما جرى إقرارها بنتيجة الحرب، ويبدون بذلك كمعاونين باهرين للبرجوازية الإمبريالية في الإعداد لمجزرة جديدة تهدد بتدمير الحضارة الإنسانية نهائيا.

سادسا: الطبقة العاملة بعد الحرب

34- تتلخص بالواقع مسألة إحياء الرأسمالية على الأسس المذكورة أعلاه، على الشكل التالي: هل الطبقة العاملة مستعدة، وضمن شروط جديدة أصعب بما لا يقارن مما في السابق، لتقديم التضحيات اللازمة من أجل ضمان شروط استعبادها الخاص، الأكثر قساوة وتضييقا مما كان عليه قبل الحرب؟
من أجل ترميم الاقتصاد الرأسمالي، عبر استبدال جهاز الإنتاج المهدم خلال الحرب، هناك ضرورة لتأسيس قوى جديدة لرأس المال. ولن يكون ذلك ممكنا إلاّ إذا كانت البروليتاريا مستعدة للعمل أكثر وبشروط معيشية متدنية جدا. هذا ما يطلبه الرأسماليون، وهذا ما يشير عليها به قادة الأممية الصفراء الخونة: دعم ترميم الرأسمالية في البداية ومن ثم النضال من أجل تحسين وضع العمال. ولكن البروليتاريا الأوروبية غير مستعدة للتضحية، وتطالب بتحسين شروطها المعيشية، الأمر الذي يتعارض تعارضا مطلقا حاليا مع الإمكانات الموضوعية للرأسمالية. من هنا الإضرابات والانتفاضات المتواصلة واستحالة إحياء الاقتصاد الأوروبي. إن إعادة سعر الصرف إلى ما كان عليه، بالنسبة للعديد من الدول الأوروبية (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، النمسا، المجر، بولندا، البلقان) هو قبل كل شيء التخلص من الأعباء التي تتخطى إمكاناتها، أي أن تعلن إفلاسها. ويعني كذلك إعطاء دفعة قوية لصراع الطبقات من أجل توزيع جديد للعائد الوطني. إن إعادة سعر الصرف إلى ما كان عليه، تعني مستقبلا خفض مصاريف الدولة على حساب الجماهير (رفض تثبيت الحدّ الأدنى للأجور، وأسعار السلع الاستهلاكية الأساسية) ومنع وصول السلع الضرورية الرخيصة الآتية من الخارج، وإنعاش التصدير بخفض تكاليف الإنتاج، أي، مرة أخرى، تعزيز استغلال الجمهور العمالي بالدرجة الأولى. إن كلّ إجراء جدّي، يتجه إلى إعادة التوازن الرأسمالي سيزعزع التوازن المختل أصلا بين الطبقات أكثر مما هو مزعزع وسيعطي النضال الثوري اندفاعة جديدة. وبالتالي تصبح مسألة معرفة ما إذا كان بالإمكان إحياء الرأسمالية من جديد، مسألة صراع بين القوى الحية: القوى الطبقية والحزبية. ومن بين الطبقتين الأساسيتين، البرجوازية والبروليتاريا، إذا تخلت إحداهما، أي الأخيرة، عن النضال الثوري، فإن الثانية، أي البرجوازية، ستجد بلا ريب بنهاية الأمر، توازنا رأسماليا جديدا ـ توازن تفكك مادي ومعنوي – بواسطة أزمات جديدة وحروب جديدة، وإفقار مستمر لبلدان بأكملها، وموت عشرات الملايين من الشغيلة.
غير أن الوضع الحالي للبروليتاريا العالمية لا يقدّم أبدا أسبابا لتوقع هذا التوازن.

35- لقد فقدت العناصر الاجتماعية المتمثلة بالاستقرار والنزعة المحافظة والتقاليد جزءا كبيرا من تأثيرها على عقول الجماهير الكادحة. وإذا كانت الاشتراكية – الديمقراطية والنقابات لا تزال تحتفظ ببعض التأثير على جزء هام من البروليتاريا بفضل إرث الجهاز التنظيمي وإرث الماضي، فإن هذا التأثير ضعيف كليا. فالحرب لم تغير عقلية البروليتاريا وحسب بل وتشكيلها. وهذه التغييرات تتعارض كليا مع التنظيم التدريجي لما قبل الحرب.
وفي أغلب البلدان لا زالت تسيطر في قمة البروليتاريا بيروقراطية عمالية متطورة جدا، وموحدة بشكل وثيق، تعدُّ طرائقها وأساليبها الخاصة للسيطرة. وترتبط بآلاف الروابط بمؤسسات الدولة الرأسمالية وأجهزتها.
تأتي بعد ذلك مجموعة من العمال، الأفضل موقعا في الإنتاج، الذين يشتغلون أو يسعون لشغل مراكز إدارية، والذين يشكلون الدعامة الأكثر ضمانة للبيروقراطية العمالية.
ومن ثم الجيل القديم من الاشتراكيين الديمقراطيين، والعمال النقابيين المتخصصين بأغلبيتهم، المرتبطين بمنظمتهم بعقود من النضال، والذين لا يستطيعون أن يقرروا القطع معها، على الرغم من خياناتها وإفلاسها. مع ذلك، وفي فروع عديدة للإنتاج يختلط العمال المتخصصون بالعمال غير المتخصصين، وخاصة النساء منهم.
وهناك أيضا ملايين العمال الذين تعلموا الحرب، وتعودوا استخدام السلاح وهم مستعدون، بغالبيتهم، لأن يستخدموه ضد العدو الطبقي لكن بشرط إعداد جدي مسبق وقيادة صلبة وهما أمران ضروريان لإحراز الانتصارات.
وكذلك ملايين العمال الجدد، والعاملات بشكل خاص، الذين جذبوا إلى الصناعة أثناء الحرب وحملوا إلى البروليتاريا ليس فقط أفكارهم المسبقة البرجوازية الصغيرة، بل أيضا تطلعاتهم المتلهفة إلى شروط معيشية أفضل.
وأخيرا هناك ملايين العمال والعاملات الشباب الذين تربوا أثناء العاصفة الثورية، وهم أكثر تقبلا للخطاب الشيوعي ويشتعلون رغبة بالتحرك.
وهناك بالدرجة الأخيرة جيش ضخم من العاطلين عن العمل وهم بغالبيتهم مقتلعون من جذورهم الطبقية أو شبه مقتلعين، وتعكس تقلبات هذا الجيش، بالشكل الأكثر عمقا، مسار انحطاط الاقتصاد الرأسمالي، وتضع النظام البرجوازي تحت تهديدها المستمر.
لم تنجذب هذه العناصر بعد الحرب على اختلاف أصولها وسماتها إلى الحركة في آن واحد وبالطريقة نفسها. من هنا تعثر النضال الثوري وتقلبه وتقدمه وتراجعه. غير أن الجمهور البروليتاري، بأغلبيته العظمى، يرص صفوفه بسرعة على أنقاض كل الأوهام القديمة، وعدم استقرار الحياة اليومية المخيف، وأمام كل قوة الرأسمال الممركَز، وأمام الأساليب اللصوصية للدولة المعسكرة. ويبحث هذا الجمهور الذي يضم عدة ملايين من الأشخاص عن قيادة حازمة وواضحة، وبرنامج عمل واضح، ويخلق بذلك بالذات قاعدة الدور الحاسم المدعو للعبه الحزب الشيوعي المتماسك والممركز.

36- لقد تفاقم وضع الطبقة العاملة بالتأكيد خلال الحرب وازدهر وضع بعض المجموعات العمالية، ونجحت بعض العائلات التي استطاع عدد من أفرادها العمل في المصانع خلال الحرب أن تحافظ على مستوى معيشتها أو ترفع منه. ولكن بشكل عام، لم تزدد الأجور بالتناسب مع غلاء المعيشة.
في أوروبا الشرقية حُكم على الطبقة العاملة بعوز يتزايد باستمرار. أمّا في البلدان القارية المتحالفة، فكان انخفاض مستوى المعيشة أقل عنفا في هذه السنوات الأخيرة. ففي إنكلترا أوقفت الطبقة العاملة سيرورة تدهور شروط معيشتها عن طريق نضال نشط خلال المرحلة الأخيرة من الحرب.
وتحسّن وضع بعض شرائح الطبقة العاملة في الولايات المتحدة، فيما حافظت بعض الشرائح على وضعها القديم أو تعرضت لانخفاض بمستوى معيشتها.
لقد انقضّت الأزمة على البروليتاريا في العالم أجمع بقوة مخيفة. وتخطى انخفاض الأجور انخفاض الأسعار، وأصبح عدد العاطلين عن العمل وأنصاف العاطلين عن العمل ضخما، بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ. إن التحولات المتلاحقة في شروط المعيشة الفردية تؤثر بشكل سلبي جدا على مردود العمل ولكنها تستبعد إمكانية إقامة التوازن الطبقي على الأرضية الأساسية، أي أرضية الإنتاج. إن عدم استقرار الشروط المعيشية، الذي يعكس الضعف العام للظروف الاقتصادية الوطنية والعالمية، يشكل في الوقت الحاضر العامل الأكثر ثورية.

سابعا: الآفاق والمهمات

37- لم تسبب الحرب مباشرة الثورة البروليتارية. وقد اعتبرت البرجوازية ذلك ـ مع بعض الحق في الظاهر- أحد أكبر انتصاراتها.
ليس إلاّ صاحب العقلية البرجوازية الصغيرة قصير النظر من يمكنه أن يرى إفلاس برنامج الأممية الشيوعية في واقع أن البروليتاريا الأوروبية لم تطح البرجوازية خلال الحرب أو بعدها مباشرة. فتطور الأممية الشيوعية في الثورة البروليتارية لا يفترض تحديدا دوغمائيا لتاريخ معين على روزنامة الثورة، ولا ضرورة قيام الثورة آليا في التاريخ المحدد. لقد كانت الثورة وستبقى نضالا لقوى حيّة على الأسس التاريخية المعطاة. إن تحطيم التوازن الرأسمالي بواسطة الحرب على الصعيد العالمي قد خلق الشروط الملائمة للقوى الأساسية للثورة، للبروليتاريا. وجهود الأممية الشيوعية كانت ولا تزال موجهة نحو استغلال هذا الوضع استغلالا تاما.
إن التعارضات بين الأممية الشيوعية والاشتراكيين الديمقراطيين من المجموعتين لا تقوم على أننا قد حددنا تاريخا معينا للثورة، فيما لم يقم الاشتراكيون الديمقراطيون وزنا للطوباوية و«النزعة الانقلابية»؛ فهذه التعارضات تكمن في أن الاشتراكيين الديمقراطيين يتحركون ضد التطور الثوري الفعلي، بدعمهم لإعادة توازن الدولة البرجوازية بكل قواهم سواء كانوا في الحكومة، أو في المعارضة، فيما يستغل الشيوعيون الفرص كافة، وبكل الطرق والأساليب من أجل إطاحة الدولة البرجوازية وسحقها بواسطة دكتاتورية البروليتاريا.
لقد أظهرت البروليتاريا في شتى البلدان خلال عامين ونصف انقضيا على الحرب، الكثير من الطاقة والاستعداد للنضال وروح التضحية بحيث كان أمكنها أن تضطلع بمهمتها إلى حد بعيد وتنجز ثورة ظافرة، لو أنها وجدت على رأسها حزبا شيوعيا أمميا حقا، حسن الإعداد وممركزا بقوة. غير أن ظروفا تاريخية عديدة وتأثيرات الماضي وضعت على رأس البروليتاريا الأوروبية، خلال الحرب ومنذ ذلك الحين، منظمة الأممية الثانية التي أصبحت وستبقى أداة سياسية لا تقدر بثمن بين يدي البرجوازية.

38- كانت السلطة في ألمانيا، نحو نهاية عام 1918 وبداية عام 1919 بين يدي الطبقة العاملة. لقد حرّك الاشتراكيون – الديمقراطيون والنقابات كل تأثيرهم التقليدي وكل جهازهم من أجل إعادة السلطة إلى البرجوازية.
وفي إيطاليا، نمت حركة البروليتاريا الثورية المندفعة، بشكل متزايد خلال الثمانية عشر شهرا الماضية وليس غير فقدان الحزم لدى حزب اشتراكي برجوازي – صغير، والسياسة الخيانية للكتلة البرلمانية والانتهازية الجبانة للمنظمات النقابية، هو ما سمح للبرجوازية بتجديد جهازها وتعبئة حرسها الأبيض، والانتقال إلى الهجوم ضد البروليتاريا المحبطة ظرفيا بسبب إفلاس أجهزتها القيادية الهرمة.
لقد تحطمت حركة الإضراب القوية، باستمرار، في السنوات الأخيرة، في إنكلترا بمواجهة القوة المسلحة للدولة، التي كانت تقوم بتخويف قادة النقابات. فلو بقي هؤلاء القادة أوفياء لقضية الطبقة العاملة، لكان من الممكن، مع ذلك، وعلى الرغم من كل أخطائهم، وضع آلية النقابات في خدمة المعارك الثورية. لقد ظهرت خلال أزمة «الحلف الثلاثي» الأخيرة إمكانية تصادم ثوري مع البرجوازية، غير أن العقلية المحافظة للقادة النقابيين وجبنهم وخيانتهم قد منعت هذا التصادم. ولو كان جهاز النقابات الإنكليزي يعمل لمصلحة الاشتراكية فقط بمعدل نصف العمل الذي يقوم به الآن لمصلحة رأس المال، لاستولت البروليتاريا على السلطة بأقصى التضحيات ولكان بإمكانها أن تأخذ على عاتقها مهمة إعادة تنظيم البلد بشكل منهجي.
وينطبق ما ذكرناه، إلى هذا الحد أو ذاك، على كل البلدان الرأسمالية.

39- مما لا ريب فيه أن نضال البروليتاريا الثوري من أجل السلطة، يُبدي في الظرف الحالي، وعلى المستوى العالمي، بعض التراجع، وبعض التباطؤ. ولكن، في واقع الأمر، لم يكن من الممكن أن نتوقع تطورا غير منقطع للهجمة الثورية لما بعد الحرب بمقدار ما لم تؤد دفعة واحدة إلى النصر ـ فللتطور السياسي دوراته أيضا، وطلعاته ونزلاته. والعدو لا يظل سلبيا، فهو يقاتل أيضا، فإذا لم يكلل هجوم البروليتاريا بالنجاح، فإن البرجوازية تنتقل عند أول فرصة إلى الهجوم المضاد. إن خسارة البروليتاريا لبعض المواقع التي سبق أن احتلتها دون صعوبة، تنشر بعض الإحباط في صفوفها. ولكن إذا كان مما لا ريب فيه، في العصر الذي نعيشه، أن منحنى التطور الرأسمالي هابط بشكل عام، مع مؤشرات صعود عابرة، فإن منحنى الثورة صاعد مع بعض الانحناءات.
إن الشرط الذي لا بد منه لإحياء الرأسمالية هو تكثيف الاستغلال، وخسارة ملايين البشر إلى ما دون الحد الأدنى (Existenzminimum) للشروط المتوسطة للمعيشة، وعدم الاستقرار الدائم للبروليتاريا، الأمر الذي يشكّل عاملا ثابتا للإضراب والتمرد. وتحت ضغط هذه الأسباب وفي المعارك التي تولدها ينمو عزم الجماهير على إطاحة المجتمع الرأسمالي.

40- إن المهمة الرئيسية للحزب الشيوعي خلال الأزمة التي نجتازها هي قيادة المعارك الدفاعية للبروليتاريا وتوسيعها وتعميقها وجمعها وتحويلها ـ تبعا لسيرورة التطور- إلى معارك سياسية من أجل الهدف النهائي. ولكن إذا تطورت الأحداث ببطء أكبر، وتبعت الأزمة الاقتصادية الحالية مرحلة صعود في عدد كبير إلى هذا الحد أو ذاك من البلدان، فلا يمكن تفسير ذلك باعتباره مجيئا لمرحلة «تنظيم». فطالما بقيت الرأسمالية، لا مفر من تقلبات في التطور. وهذه التقلبات سترافق الرأسمالية في احتضارها كما رافقتها في شبابها ونضوجها.
وفي حال أدى هجوم رأس المال في الأزمة الحالية إلى دفع البروليتاريا إلى الوراء، فهي ستنتقل إلى الهجوم ما أن يظهر بعض التحسن في الوضع. وإن هجومها الاقتصادي الذي ستقوم به حتما في هذه الحالة الأخيرة، تحت شعار الرد على كل مخادعات زمن الحرب، وضد كل النهب وكل الإهانات التي مورست خلال الأزمة، سيكون له، لهذا السبب بالذات، الميل نفسه، الذي يتخذه النضال الدفاعي الحالي، للتحول إلى حرب أهلية مفتوحة.

41- سواء تبعت الحركة الثورية خلال المرحلة المقبلة مجرى أكثر تسارعا أو أكثر بطئا، فعلى الحزب الشيوعي، في الحالتين، أن يصبح حزب فعل. عليه أن يقود الجماهير المقاتلة، ويصوغ بحزم ووضوح شعارات قتالية، ويفضح الشعارات الملتبسة للاشتراكية – الديمقراطية، المرتكزة دائما على المساومات. 
وينبغي أن يسعى الحزب الشيوعي، خلال كل خيارات المعركة، لكي يعزز نقاط استناده الجديد عبر وسائل تنظيمية، وأن يدرّب الجماهير على المناورات القتالية النشطة ويسلحها بأساليب وطرائق جديدة ترتكز على الاصطدام المباشر والمفتوح بقوات العدو. وإذ يستغل الحزب الشيوعي كل استراحة من أجل استيعاب تجربة المرحلة السابقة من النضال، عليه أن يبذل جهده من أجل تعميق الصراعات الطبقية وتوسيعها والربط فيما بينها على الصعيدين الوطني والعالمي، ضمن فكرة الهدف والنشاط العملي، بشكل يمكن معه تحطيم كل مقاومة، في المستويات العليا للبروليتاريا، تعترض طريق الدكتاتورية والثورة الاجتماعية.

__________________

– الإشراف العام على التدقيق والمراجعة والتصحيح والتنضيد الإلكتروني منيف ملحم
– مراجعة فيكتوريوس بيان شمس بالتعاون مع صفحة التراث الأممي الثوري
– نقله إلى العربية لينا عاصي
– راجع الترجمة ودقّقها كميل قيصر داغر

لمراجعة الفصل السابق يرجى الدخول من خلال الرابط أدناه:
المؤتمرات العالمية الأربعة الأولى للأمميـــــــــــة الشيوعيــــــــــــــة (13)

Check out our other content

Check out other tags:

Most Popular Articles