السبت سبتمبر 07, 2024
السبت, سبتمبر 7, 2024

القوى الإمبريالية المتنافسة تستغل أمريكا اللاتينية

أميركا اللاتينيةالقوى الإمبريالية المتنافسة تستغل أمريكا اللاتينية

✍🏾 خوسيه مونتيروجو

التنافس الدائر بين القوى الإمبريالية، والذي تسعى عبره القوى المهيمنة (الولايات المتحدة والصين في المقام الأول) إلى إعادة تأسيس قواعد السيطرة الاجتماعية، السياسية، ومراكمة أرباح رأس المال، يعيد تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في أمريكا اللاتينية. اللهاث خلف الربح في كافة أنحاء العالم يسهم في تعميق اعتماد أمريكا اللاتينية على القوى الإمبريالية، ما يرسي الظروف الاجتماعية المواتية لتفريخ حركات اليمين المتطرف، وتفجير تمردات الطبقة العاملة، وخلق امتدادات جديدة للحكومات الإصلاحية، أو ما يسمى بحكومات “المد الوردي”.
في كل أنحاء أمريكا اللاتينية، تعمل القوى الإمبريالية على تفعيل دور المنطقة باعتبارها موردا للمواد الخام رخيصة الثمن، ومستوردة للمنتجات المصنعة والتكنولوجية باهظة الكلفة البشرية والبيئية. وفي ذات الوقت الذي تعد فيه الولايات المتحدة وأوروبا المستغلين الرئيسيين لموارد القارة على مر التاريخ، فإن بزوغ الصين كقوة إمبريالية صاعدة حفزها على التوسع في أمريكا اللاتينية من أجل تلبية احتياجاتها المتزايدة من الطاقة والغذاء. واليوم، باتت الصين أكبر شريك تجاري في جميع أرجاء أمريكا الجنوبية، بما فيها الدول الأكثر قوة اقتصادية، مثل البرازيل والأرجنتين – إضافة إلى تحقيق نجاحات كبيرة في أمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي والمكسيك. وقد أدى هذا إلى تحييد دور الولايات المتحدة التي أصبحت متورطة بشكل أكبر في الصراعات الدائرة في كل من أوروبا، والشرق الأوسط، والمحيط الهادئ.
لقد تطورت علاقة الصين بأميركا اللاتينية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. وبعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، سارعت الصين إلى تسريع توطيد علاقاتها التجارية مع القارة عبر استخدام أمريكا اللاتينية كسوق لبضائعها المصنعة الرخيصة، ومصدر للطاقة والغذاء، لتغذية سوقها المحلية المتنامية. وخلال تلك السنوات، بدأت الصين في شق طريقها إلى قطاعات الزراعة والنفط والطاقة في أمريكا الجنوبية، فعلى سبيل المثال، لعب تدفق المنتجات الصينية في بعض المناطق، كالمكسيك، دورا هاما في إزاحة الرأسماليين المحليين الأصغر حجما، عبر صيرورة مراكمة رأس المال وإحكام المركزية، والتي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
عام 2008، أعلنت الصين عن خطة استراتيجية تهدف إلى توسيع قوتها الاقتصادية في كافة أنحاء العالم. وهكذا بدأت فورة الإقراض في مختلف أنحاء المناطق شبه المستعمرة، حيث قدمت هذه القوة الإمبريالية قروضا بفوائد قليلة، مقابل الحصول على المواد الخام، في الوقت الذي كانت ترفض فيه المؤسسات المالية المهيمنة، مثل صندوق النقد الدولي، القيام بذلك، أو تمنح القروض بعد اشتراط إجراء تعديلات هيكلية جذرية. وقد أدت الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت عام 2008 إلى جعل القروض الصينية جذابة للدول المثقلة بالديون في أمريكا اللاتينية، مثل الإكوادور والأرجنتين والبرازيل وفنزويلا، حيث أصبحت الأخيرة في الوقت الراهن أكبر مدينة للصين. ومنذ ذلك الحين، جعلت الأزمات الاقتصادية المتنامية، وجائحة كوفيد- 19، من الصعب على هذه الدول شبه المستعمرة سداد هذه القروض. وفي عام 2013 تقريبا، بدأت الصين في تطوير مشاريع البنية التحتية الضخمة سيئة السمعة، بما فيها بناء الموانئ، والسدود الكهرومائية، والسكك الحديدية.
ولكن منذ عام 2017 تقريبا، غيرت الصين نهجها، فعوضا عن مشاريع البنية التحتية ومنح القروض الكبيرة، باتت تتجه نحو استثمارات أصغر ذات عوائد أسرع، عبر ما يسمى بالتكنولوجيا الخضراء، والذكاء الاصطناعي، والاتصالات، وذلك في خضم التنافس الإمبريالي مع الولايات المتحدة. وفي حالة البرازيل والأرجنتين والمكسيك، تعمل شركات السيارات الكهربائية الصينية مثل شركة “بي واي دي”، و”جيلي”، و”ستيلانتيس” على زيادة الاستثمارات في المواد الخام، وإنتاج السيارات الكهربائية الصناعية، ساعية إلى الاستفادة من هذه الدول باعتبارها موطئ قدم رئيسي يمكنها من الوصول إلى أسواق السيارات الكهربائية الأوسع في نصف الكرة الغربي، مع الاستفادة من سحب الاستثمارات الأمريكية في كافة أنحاء المنطقة. وأحد مشاريع البنية التحتية التي تدشنها الصين حاليا لاستكمال ودعم استثماراتها هو ميناء تشانكاي في البيرو، والذي من المقرر أن يصبح أكبر ميناء في أمريكا الجنوبية ومنطقة المحيط الهادئ، والذي ستمتلك الصين أغلبية أسهمه.
أما في الولايات المتحدة، فيعد قانون “تشيبس”، وقوانين الحد من التضخم، التي سنتها إدارة بايدن، محاولة أمريكية لتطوير نظام محلي للتكنولوجيا والطاقة منفصل عن الصين. وتولي هذه السياسة أهمية أكبر لدول أمريكا اللاتينية مثل المكسيك، التي أصبحت محور التركيز على “الاقتراب من الداخل”، وهو مصطلح يستخدم لوصف انتقال الشركات الصناعية الأمريكية إلى المكسيك بسبب موقع المكسيك الاستراتيجي الذي يفضي إلى زيادة ربحية تلك الشركات. على سبيل المثال، اعتبرت حكومة الولايات المتحدة المكسيك وكوستاريكا وبنما مواقع محتملة لإنتاج وتوزيع تكنولوجيا أشباه الموصلات، على الرغم من أن التركيز لا يزال منصبا على تطوير قاعدة وطنية داخل الولايات المتحدة. كما أن البرازيل هي الدولة الوحيدة في أمريكا اللاتينية التي لديها  منشآت كبيرة لتصنيع أشباه الموصلات، وإنها تتطلع اليوم إلى الصين لجلب المزيد من الاستثمارات في هذا المجال.
الإمبريالية الأمريكية تراقب بقلق الاستثمارات الكبرى الذي تقوم بها الصين في أمريكا اللاتينية،  فهي تعتبر البنية التحتية للصين – من الموانئ والسكك الحديدية إلى أنظمة الأقمار الصناعية – بمثابة تهديدات للأمن القومي الأمريكي، ونمو البلاد الاقتصادي، أي تحديا لرأس المال الأمريكي. وتستخدم الإمبريالية الأمريكية أدوات مختلفة لكبح جماح تقدم الصين؛ ففي الإكوادور، على سبيل المثال، وعدت الولايات المتحدة بتوفير الائتمان لسداد ديون البلاد المستحقة للصين مقابل قيام حكومة الإكوادور بمنع شركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي من ممارسة الأعمال التجارية في البلاد. وفي حالة المكسيك، أجبر نظام بايدن – الذي كان يأمل في تنمية قاعدة صناعية أمريكية – المسؤولين المكسيكيين على حرمان شركات السيارات الكهربائية الصينية من الحصول على موطئ قدم صناعي في البلاد، الأمر الذي تقول الولايات المتحدة إن الصين تستخدمه للتهرب من الرسوم الجمركية الأمريكية المفروضة على المنتجات الصينية.
إلى جانب المناورات الرامية إلى مواجهة النمو الصيني – الذي عجزت الولايات المتحدة عن وقفه في نهاية المطاف – اقترحت الإمبريالية الأمريكية مشاريعها الاقتصادية الخاصة مع أمريكا اللاتينية ردا على مبادرة الحزام والطريق التي تشمل 20 دولة في أمريكا اللاتينية. وقد حاول ترامب القيام بذلك عبر “أمريكا كريس”، وكذلك حاول بايدن من خلال الشراكة الأمريكية من أجل الرخاء الاقتصادي، ولم يحقق أي منهما نتائج إيجابية، مقابل استمرار الصين في تطوير علاقات اقتصادية أوثق مع برجوازيات أمريكا اللاتينية.
الاندفاع الإمبريالي نحو السلطة وتحقيق الربح في أمريكا اللاتينية أدى إلى إحداث تغييرات هيكلية تدمر الظروف المعيشية للعمال، والحريات السياسية، والوضع البيئي بشكل مستمر. وقد أنتجت الأزمات الاجتماعية الناجمة عن تزايد الهشاشة والعنف استقطابا في المجتمع بين الحركات والأحزاب اليمينية المتطرفة من جهة، والتعبئة اليسارية والأحزاب الإصلاحية من جهة أخرى. ومن الأمثلة على ذلك معشوق اليمين المتطرف في كافة أنحاء العالم، نجيب بوكيلة، رئيس السلفادور الذي أعيد انتخابه مؤخرا. وقد تميزت فترة ولايته الأولى بإعلان حالة الطوارئ التي لا تزال سارية، وسجن عشرات الآلاف من السلفادوريين – الذين لا يمكن التحقق من أن معظمهم أعضاء في عصابات إجرامية – وبناء سجون ضخمة، وتقليص مساحة الحريات الديمقراطية والسياسية للنشطاء ووسائل الإعلام. وبعد تنصيبه في حزيران عام 2024 – عندما قام بالتلاعب بدستور بلاده – برزت شخصيات يمينية متطرفة أخرى، من أمثال تاكر كارلسون (من فوكس نيوز سابقا)، ودونالد ترامب جونيور، وخافيير ميلي من الأرجنتين، وسيناتور فلوريدا مات جايتز.
هذه الشخصيات تمثل شريحة عرضية من جناح البرجوازية الدولية اليميني المتطرف، والذي يستجيب للأزمة التي تنتجها الرأسمالية عبر المشاريع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأكثر رجعية، بما فيها التدابير الاستبدادية التي تتجنب المعايير الديمقراطية البرجوازية، مثل  حالة الطوارئ في السلفادور والإكوادور، والتشريعات المناهضة للمرأة وللمغايرين في توجهاتهم الجنسانية، والتراجعات الهائلة في الخدمات العامة، كما حدث في حالة ميلي في الأرجنتين؛ وتكثيف استغلال الوقود الأحفوري، كما أعلن دونالد ترامب بسعادة في اجتماعه الأخير في نيفادا. كما يبين صعود اليمين المتطرف عبر انتخابات الإتحاد الأوروبي نمطاً من النمو الذي يعد خطرا على العمال والمضطهدين والمنظمات التي تنتمي إلى طبقتنا.
من ناحية أخرى، فإن ظروف الاستغلال والهمجية التي أنتجتها أزمة الرأسمالية تولد أيضا المقاومة والتمرد لدى المضطهدين في أمريكا اللاتينية، حيث تعبر موجات الانتفاضات في تشيلي وكولومبيا والإكوادور والأرجنتين وبوليفيا والبيرو عن استقطاب يساري يشير إلى إمكانية قيام ثورات ديمقراطية واشتراكية لا تهدف إلى تحدي الظروف المباشرة للقمع والفقر فحسب، بل أيضا إلى تحدي الواقع البنيوي للهيمنة الإمبريالية. وقد أدخلت هذه الثورات ملايين الأمريكيين اللاتينيين في صراع حاد مع مضطهديهم، وأنشأت العديد من المنظمات المستقلة للطبقة العاملة، وألهمت العمال في كافة أنحاء العالم.
لكن الافتقار إلى قيادة سياسية ثورية سمح للأحزاب الإصلاحية بتوجيه هذه التمردات في سياق مصالح الدولة البرجوازية من خلال ما يسميه الماركسيون بـ “الرجعية الديمقراطية”، التي تنقذ البرجوازيات الموجودة في السلطة نفسها من خلال تقديم طرق تشريعية وانتخابية لمعالجة مطالب الجماهير من أجل تجنب تطور الوضع الثوري، ففي شيلي وكولومبيا، على سبيل المثال، تم قمع التمردات، التي كانت تهدف إلى الإطاحة بسيباستيان بينييرا وإيفان دوكي على التوالي، بعنف، وقد تم تفكيكها بنجاح من خلال وعود الأحزاب الإصلاحية بالإصلاح الانتخابي.
جوستافو بيترو وجابرييل بوريتش، اللذين يمثلان النظامين “التقدميين” الجديدين في كولومبيا وتشيلي، يستخدمان خطابا يساريا وقوميا، ولكنهما غير قادرين في الواقع على تغيير الوضع الأساسي الذي يواجهه أهل أميركا اللاتينية، ففي حين قدمت الموجة السابقة من الحكومات “الاشتراكية”، مثل حكومة شافيز في فنزويلا وموراليس في بوليفيا، تنازلات كبيرة للعمال والفقراء عبر إعانات الدعم الناتجة عن ارتفاع أسعار السلع الأساسية، فإن الأزمات الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم منعت هذه الإمكانية أمام هذه الأنظمة الأحدث. وقد أدى فوز كلوديا شينمباوم في الانتخابات الرئاسية في المكسيك إلى إشعال الأوضاع من جديد في مختلف أنحاء اليسار الإصلاحي، لكن خطابها القومي والنسوي لا يستطيع أن يفعل الكثير ــ كما حدث مع سلفها لوبيز أوبرادور («أملو») ــ فيما يتعلق بتغيير واقع استغلال رأس المال الأجنبي للمكسيك؛ وتجارة المخدرات الوحشية، والأوضاع السياسة، والعنف الاجتماعي؛  وعدم المساواة، والفقر الذي يسم البلاد.
رغم أن الرأسمالية المكسيكية والبرازيلية (أكبر اقتصادين في أميركا اللاتينية) تعيشان لحظة من السلام الاجتماعي النسبي في علاقتهما بالدول الأخرى، فإن هذه مجرد فترة انتقالية لا تستطيع البرجوازية الحفاظ عليها إلى ما لا نهاية. وفي المكسيك، نجحت سياسات أملو الكينزية في تحسين ظروف النصف الأفقر من السكان المكسيكيين، في حين أن ولاية لولا الجديدة نسبيا لم تسفر بعد عن أرقام قابلة للمقارنة. ومع ذلك، استفادت كلتا البرجوازيتين من تدفق رأس المال الصيني لأنهما تمكنتا من الاستفادة من هذا التدفق ضد رأس المال الأمريكي، ما أدى إلى تعزيز عملتيهما الوطنيتين مؤقتا، وتنمية طبقة متوسطة مرتبطة بالاستثمارات الصينية والأمريكية في إطار التكنولوجيا واستخراج الموارد. إن الاتجاه التنازلي المستمر منذ عقود في الربحية الرأسمالية في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى الاستغلال المكثف والتقشف الذي ستستمر هذه الحكومات في تطبيقه، ينذر بفترات جديدة من حالة عدم الاستقرار السياسي والاستقطاب الثوري.
بصفتها اشتراكية في مواجهة الإمبريالية، تقف منظمة صوت العمال مع نضالات العمال والمضطهدين والسكان الأصليين في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، والذين يواجهون هجمة الإفقار وعدم الاستقرار والقمع والتدهور البيئي. إننا لا نثق في أنظمة المد الوردي، التي تخفي الطبيعة الاستغلالية لدولها بالخطاب اليساري لاسترضاء النبضات الثورية للجماهير العاملة. وإننا ندعم المعارك المستمرة ضد التقشف في الأرجنتين، وتدمير البيئة في بنما، والعنف الرأسمالي والمخدرات في المكسيك، وما إلى ذلك.
كما أن النشاط المتزايد للصين في أميركا اللاتينية لا يجعلنا نشعر بالتفاؤل؛ فإننا ندرك الديناميكيات المتغيرة في سياق التنافس المكثف بين الإمبريالية الصينية والأمريكية، لكننا لا نقف إلى جانب الإمبريالية الصينية لأنها لا تمثل، كما تريد بعض الأحزاب الإصلاحية منا أن نعتقد، حلا تقدميا للعالم شبه المستعمر. إن الصين مستعمر جديد ذو أسلوب وخطاب مختلفين. وأخيرا، نحن نناضل من أجل وضع حد للديون الخارجية الاستعمارية التي تقيد اقتصادات أمريكا اللاتينية، ومن أجل وضع حد لآفة العنف الناجم عن المخدرات المتفشية بين الملايين من سكان أمريكا اللاتينية.




ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس بيان شمس

Check out our other content

Check out other tags:

Most Popular Articles