فيليب أليغريا – برشلونة ✍🏾
عندما اعتلى ماركو روبيوِ منصبه وزيرا للخارجية في إدارة دونالد ترمب، لم يتردد في القول إن “الصين تعد أخطر وأقوى خصم واجهته الولايات المتحدة في تاريخها”. ولم يختلف أنتوني بلينكن، وزير الخارجية في إدارة جو بايدن، عن هذا التوصيف حين صرح قبل عامين في جامعة جورج واشنطن بأن “أخطر تحد طويل الأمد يواجه النظام الدولي هو ذاك الذي تمثله الصين؛ الدولة الوحيدة التي تمتلك الإرادة لإعادة تشكيل النظام العالمي، وكذلك القدرة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية التي تمكنها من القيام بذلك”.
هذه التصريحات تعكس القلق المتزايد في واشنطن، حول التحول الجذري الذي يشهده العالم فيما يتعلق بموازين القوى الإمبريالية؛ فالإمبراطورية الأميركية، التي بسطت هيمنتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تواجه اليوم صعود إمبريالية جديدة مصدرها الشرق، وتحديدا الصين التي باتت تزاحمها في الاقتصاد والتكنولوجيا والجغرافيا السياسية.
هذا الصراع كان قد تجسد بصورة رمزية في الآونة الأخيرة مع بروز شركة “ديب سيك” الصينية للذكاء الاصطناعي، والتي دخلت في منافسة مفتوحة مع الشركات الأميركية العملاقة في مجال التكنولوجيا المتقدمة. غير أن هذه المواجهة التكنولوجية ليست سوى إحدى مظاهر الصراع البنيوي الأعمق بين الإمبرياليتين الأميركية والصينية، وهو صراع من شأنه إعادة تشكيل النظام الاقتصادي والسياسي العالمي برمّته.
منذ أن خرجت الصين من أزمة العام 2008 العالمية بوصفها قوة صاعدة، في حين كان العالم يعيش مرحلة طويلة من حالة الاستقطاب الإمبريالي، إذا بات النظام الاقتصادي الدولي القائم على العولمة المتمركزة في الغرب، مهددا بخلخلات متواصلة في تقسيم العمل العالمي وتوازن القوى بين الدول، أصبح التناحر الأميركي – الصيني أحد المحاور الأساسية للسياسة الدولية المعاصرة.
ومع عودة ترمب إلى البيت الأبيض، بدأت ملامح “أزمة النظام العالمي” تبدو أكثر حدة، لاسيما وأن إدارته الجديدة تسعى إلى تصعيد المواجهة التجارية والتكنولوجية مع بكين، إذ شرعت في تغذية سباق التسلح العالمي، ما يرفع منسوب التوترات ويزيد خطر الانزلاق نحو مواجهات عسكرية مباشرة أو غير مباشرة.
في هذا السياق، يحاول هذا المقال تفكيك المسار التاريخي لتحول الصين إلى قوة إمبريالية، عبر تتبع صيرورة استعادة الرأسمالية التي قادها الحزب الشيوعي الصيني منذ أواخر السبعينيات، وكيف تمكن من الجمع بين سلطته البيروقراطية الصارمة والانفتاح على رأس المال العالمي، وصولا إلى اللحظة الراهنة التي تجد فيها الصين نفسها في قلب مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة.
استعادة الرأسمالية في الصين
صيرورة إعادة إدماج الصين في النظام الرأسمالي العالمي بدأت عبر مصالحة أبرمها الحزب الشيوعي الصيني مع الإمبريالية الأميركية، تلك المصالحة لم تكن مجرد مناورة دبلوماسية، بل خطوة استراتيجية غيرت الموازين الجيوسياسية، وأتاحت للصين التحول من دولة اشتراكية مغلقة إلى مركز صناعي عالمي. والمفارقة أن هذه المصالحة كانت وراء ما نعرفه اليوم بـ “العولمة”، إذ تحولت الصين إلى ما أُطلق عليه لاحقا “مصنع العالم”.
بيد أن الأزمة المالية الكبرى عامي 2007–2008 عصفت بهذا النظام، ودفعته إلى تبني توجه اقتصادي داخلي يهدف إلى حماية النموذج الصيني الإنتاجي، وتوسيع نفوذ البلاد في الخارج. وقد كانت تلك هي اللحظة المفصلية التي دشنت ولادة الإمبريالية الصينية المعاصرة، بوصفها قوة تسعى لمنافسة الهيمنة الأميركية، وليس مجرد التكامل معها.
غير أن هذا التحوّل لم يكن ليحدث لولا الدور المركزي الذي لعبه الحزب الشيوعي الصيني، وهو الحزب الذي مثل منذ ثورة العام 1949 بيروقراطية ماوية- ستالينية تمكنت من احتكار الدولة والثورة معا، فقد اغتصب هذا الحزب منجزات الثورة الشعبية، وارتقى فوقها كجهاز إداري متغول، حكم البلاد باسم الاشتراكية، بينما مهد لاستعادة الرأسمالية.
لقد كانت الديكتاتورية البيروقراطية التي فرضها الحزب هي الضامن الأكبر لنجاح الاستثمارات الأجنبية، فالشركات العالمية لم تكن لتغامر بضخ مئات المليارات في الصين لولا وجود نظام قادر على ضبط العمال، وسحق النقابات المستقلة، وتأمين بنية تحتية ضخمة، وإعفاءات ضريبية سخية. وهكذا وفر الحزب بيئة مثالية لتراكم رأس المال على حساب طبقة عاملة خاضعة، ومحرومة من حقوقها السياسية والنقابية.
في ذات الوقت، لم يكتفِ الحزب بفتح الأبواب أمام رأس المال الأجنبي، بل سعى إلى أن يكون هو ذاته القلب النابض للرأسمالية الصينية، متحالفا مع البرجوازية المحلية الجديدة التي نمت تحت مظلة الاستثمارات الخارجية. لقد أراد الحزب أن يملك الدولة والسوق على حد سواء، وأن يبقى السيد المطلق لكليهما.
تحت قيادة دنغ شياو بينغ، اتبعت البيروقراطية الحزبية سياسة حذرة قائمة على ما كان يسميه دنغ: “عبور النهر بتحسس الحجارة تحت الماء”؛ أي التحرك التدريجي من الاشتراكية إلى الرأسمالية دون إعلان قطيعة أيديولوجية واضحة. وبخلاف الاتحاد السوفييتي الذي تفكك لاحقا، حافظت الصين على تماسك جهازها البيروقراطي واستقلال نظامها السياسي، لتتحول إلى ما يمكن وصفه بـ “رأسمالية دولة بقناع اشتراكي”.
إنّ قرار إعادة بناء الرأسمالية لم يكن وليد لحظة الانفتاح في أواخر السبعينيات فحسب، بل كان ثمرة لانتصار الجناح البيروقراطي في الثورة الثقافية (1966–1976). فهذه الثورة، التي أطلقها ماو تسي تونغ لاستعادة سلطته بعد فشل “القفزة الكبرى إلى الأمام”، تحوّلت بسرعة إلى ثورة مضادة. فحين خرجت الجماهير العمالية والشبابية عن السيطرة، تدخل الجيش بقيادة الحزب لقمعها بعنف دموي أنهى ما تبقى من ديناميكية الثورة.
من “الإصلاح والانفتاح” إلى مجزرة تيانانمن (1978–1989)
عملية التحول نحو الرأسمالية في الصين بدأت في أواخر عام 1978 وبداية عام 1979، بالتزامن مع زيارة دنغ شياو بينغ إلى الولايات المتحدة. وقد تركزت الخطوات الأولى لسياسة الإصلاح والانفتاح الاقتصادي على المناطق الريفية، التي كان يعيش فيها نحو ثمانين بالمئة من سكان البلاد آنذاك.
لقد ألغت الحكومة نظام الكوميونات الشعبية والمزارع الجماعية، واستبدلته بما اتفق على تسميته بنظام المسؤولية الأسرية، الذي منح كل أسرة فلاحية حق إدارة قطعة الأرض الخاصة بها ضمن شروط محددة. وقد تقدمت عملية تفكيك النظام الجماعي الزراعي بسرعة لافتة، إثر رفع أسعار الحبوب، وتسهيل القروض الزراعية، وتطوير الأساليب التقنية للإنتاج.
في ذات الوقت، نشأت مشاريع البلدات والقرى الريفية، التي تركزت في المناطق الساحلية وأصبحت المحرك الرئيسي لتراكم رأس المال المحلي خلال العقد الأول من سياسة الإصلاح، فبين عامي 1978 و1993 ارتفع عدد العاملين في تلك المشاريع من ثمانية وعشرين مليون عامل إلى مئة وخمسة وعشرين مليونا، وباتت هذه الشريحة تسهم بنحو ربع الناتج المحلي الإجمالي للصين.
لكن بعد مجزرة ساحة تيانانمن عام 1989، ومع تسارع التحول الرأسمالي، تحول اهتمام الدولة إلى المدن الساحلية الكبرى، فانكمش دور المشاريع الريفية ودخلت في أزمة مفتوحة.
ثم في عام 1992، ومع تعميق سياسات “التحرير الاقتصادي”، تم إهمال الريف تماما، ما أدى إلى أزمة دفعت ملايين الفلاحين إلى النزوح الجماعي نحو المدن. وفي الوقت نفسه، شجعت الحكومة عمليات بيع وشراء حقوق استخدام الأراضي، وتركيز ملكيتها في أيدي قلة من المتنفذين. كما تم الاستيلاء على الإدارات المحلية في مساحات شاسعة، ما أدى إلى نشوء طبقة برجوازية زراعية جديدة.
هذه الإجراءات كانت ضرورية من وجهة نظر الدولة لـ تحرير ما يقارب مئتي مليون فلاح ودفعهم إلى العمل في المدن كعمال مهاجرين. وقد أصبحت هذه العمالة تشكل العمود الفقري للطبقة العاملة الحديثة في الصين، لكنها كانت تعمل في ظروف قاسية داخل مصانع ضخمة أشبه بالثكنات العسكرية، بأجور منخفضة، ووظائف غير مستقرة، دون حقوق في التقاعد، أو التأمين الصحي أو التعليم لأبنائهم، بسبب نظام السجل الحضري الذي يُعرف باسم “هوكو”، والذي يقسم المواطنين إلى سكان حضر وسكان ريف. وقد نتج عن هذا نوع من التمييز الطبقي المؤسسي، يشبه نظام الفصل العنصري، حتى بات العمال الريفيون مواطنون من الدرجة الثانية، يحملون هوية ريفية موروثة.
إن السر الحقيقي وراء “المعجزة الاقتصادية الصينية” خلال العقود الأربعة الماضية يكمن إلى حد بعيد في فائض القيمة المنتزع من عمل هؤلاء العمال المهاجرين، الذين باتوا يمثلون القسم الأكبر من الطبقة العاملة الصينية.
كما أنشأت الحكومة في إطار سياسة الإصلاح تلك أربع مناطق اقتصادية خاصة، من أبرزها مدينة شنجن، بهدف تشجيع الاستثمارات الأجنبية. وفي عام 1984، سمح الحزب الشيوعي الصيني بدخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى أربع عشرة مدينة ساحلية إضافية بامتيازات مماثلة، بالتعاون مع السلطات المحلية.
هذه الخطوة جاءت في سياق اندماج الصين المتسارع في سلاسل الإنتاج الآسيوية، لاسيما في مجالات صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، الموجهة للتصدير، والتي اعتمدت على الاستثمارات القادمة من اليابان وبلدان ما يعرف بالنمور الآسيوية (كوريا الجنوبية، وتايوان، وهونغ كونغ، وسنغافورة).
لكن سياسة تحرير الأسعار، وخاصة أسعار السلع الاستهلاكية، قادت إلى موجة تضخم حادة بلغت نسبتها واحدا وعشرين في المئة عام 1988، ترافق معها اتساع الفوارق الاجتماعية، وانتشار الفساد على نطاق واسع.
على خلفية هذا الوضع المتأزم، اندلعت في عام 1989 انتفاضة شعبية كبرى قادها الطلبة، واتخذت من ساحة تيانانمن في العاصمة بكين مركزا لها، قبل أن تمتد إلى مختلف أنحاء البلاد، مطالبة بالحرية، ومكافحة الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وفي الرابع من حزيران 1989، ومع اتساع الحراك وانخراط الطبقة العاملة فيه، رأت القيادة الشيوعية أن الانتفاضة تمثل تهديدا مباشرا لسلطتها، فأمرت الجيش الشعبي الصيني بالتدخل لقمعها بالقوة. وأسفر ذلك عن مجزرة دموية واسعة النطاق، أودت بحياة الآلاف، وفتحت الباب أمام مرحلة من القمع السياسي العنيف، أنهت أي أمل في تحقيق أي إصلاح سياسي حقيقي داخل البلاد.
بعد تيانانمن: تسارع عملية استعادة الرأسمالية بخطى حثيثة
بعد مجزرة ساحة تيانانمن، تسارعت عملية استعادة النظام الرأسمالي في الصين بخطوات واسعة، رغم فترة قصيرة من التوقف الداخلي بسبب الخلافات بين أجنحة الحزب الشيوعي الصيني حول وتيرة التحول وطبيعته، وكيفية الحفاظ على احتكار الحزب لسلطته المطلقة.
غير أنّ «الرحلة الجنوبية» التي قام بها الزعيم دنغ شياو بينغ في شباط عام 1992، وهو في الثامنة والثمانين من عمره، أنهت تلك المرحلة الانتقالية القصيرة، وأطلقت ما تم تسميته بـ«التسوية الكبرى» التي تمت خلالها تسوية الأمور بين مختلف أجنحة الحزب. ومع هذه الخطوة، أعلن دنغ بوضوح أنه بعد تيانانمن لم يعد هناك مجال للعودة إلى الوراء.
من ثم، شرعت الحكومة بخصخصة الشركات الحكومية الصغيرة والمتوسطة، لتقع في أيدي البيروقراطيين المحليين والإقليميين، وشركائهم من رجال الأعمال. أما الشركات الحكومية الكبرى فقد خضعت لعملية إعادة هيكلة شاملة؛ إذ جرى طرح جزء من رأسمالها للاكتتاب العام، وتمّ تسريح ما بين ثلاثين وأربعين مليون عامل (أي نحو 60 في المئة من القوة العاملة)، في الوقت الذي تدهورت فيه أوضاع من تبقى من العمال بشكل حاد. وفي المقابل، تجاوز تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى الصين كل التوقعات.
القفزة الاقتصادية بعد الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية
انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 سرع من وتيرة إجراءات التحرير الاقتصادي، وحسّن بيئة الاستثمار الأجنبي، وفتح العديد من الأبواب أمام السوق الصينية، ما وفر دفعة قوية للصادرات. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع كبير في حجم الاستثمارات الأجنبية، لكن هذه المرة كانت بقيادة الولايات المتحدة والدول الإمبريالية الكبرى الأخرى، ففي عام 2009 كانت الصين تستحوذ على 27% من إجمالي الاستثمارات العالمية.
لقد بدأت الشركات متعددة الجنسية الغربية باستخدام الصين على نطاق واسع، سواء من خلال الاستثمارات المباشرة، أو عبر عقود التصنيع لإنتاج المكونات وتجميع المنتجات النهائية، وهو ما تسبب في نقل واسع للأنشطة الصناعية من بلدانها الأصلية إلى الصين. وفي الوقت نفسه، فرضت البرجوازية الأميركية انخفاضا حادا في الأجور وشروط العمل داخل الولايات المتحدة (الأمر الذي امتد لاحقا إلى معظم أنحاء العالم). هذه هي، باختصار، جوهر ما تمت تسميته بـ “تشايميريكا” — أي التزاوج بين الرأسمال الأميركي والعمل الصيني.
خلال هذا المسار، وخلال عقدين فقط، تحوّلت الصين إلى “مصنع العالم”، متجاوزةً الولايات المتحدة عام 2011 كأكبر قوة صناعية في العالم.
البرجوازية الصينية نشأت ورسخت قوتها عبر اندماجها في سلاسل التوريد التابعة للمصانع التي أنشأها الاستثمار الأجنبي، من خلال صادرات ضخمة، ومشاريع بنية تحتية هائلة، وعملية تحضر واسعة النطاق، شملت كافة أنحاء البلاد. وقد تمكّنت من تقوية موقعها في مراحل محددة من العملية الصناعية، واستغلال السوق الريفية الهائلة في الداخل. والمفارقة أن تخلّف الصين النسبي مكّنها من القفز على مراحل كاملة من التطور. فعلى سبيل المثال، لم تمرّ في مجال الاتصالات بكل المراحل التي عرفتها الدول الرأسمالية المتقدمة، بل انتقلت مباشرة إلى تركيب شبكة الألياف الضوئية على نطاق وطني واسع. ويمكن قول الشيء نفسه حول السيارات الكهربائية والألواح الشمسية، إذ أصبحت الصين القوة الأولى عالميا في المجالين تقنيا وتجاريا.
مسار التراكم الرأسمالي المستقل، الذي تميّز بظهور أوليغارشيات خاصة قوية، حظي بدعم واسع من الدولة، التي احتفظت بسيطرتها على النظام الائتماني، وقطاعات الطاقة، والصناعات الأساسية، وطوّرت البنى التحتية. كما قدّمت للأوليغارشيات الخاصة — التي تتركّز في قطاعات السلع الاستهلاكية النهائية — القروض والمساعدات والمساهمات في رأس المال، فضلا عن الطاقة الرخيصة، ووسائل الإنتاج منخفضة التكلفة، ونظاما ضريبيا ميسّرا. وفي المقابل، فرضت على الشركات الغربية نقل التكنولوجيا إلى الصين من خلال مشاريع مشتركة، مقابل السماح لها بالوصول إلى قوة عاملة شبه مستعبدة، وإلى السوق الصينية المتنامية.
هذا التحكم في عملية “استعادة الرأسمالية” أتاح للدولة الحفاظ على معدلات استثمار بلغت نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي لعقود طويلة (على حساب خفض استهلاك السكان)، كما شجّع — خصوصا منذ تولي شي جين بينغ الحكم — على توجيه استثمارات ضخمة إلى الخارج. أما بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، فبحسب مكتب الإحصاءات الوطني، حققت الصين بين عامي 1980 و2014 معدل نمو سنوي بلغ 9.5% في المتوسط، لكنه بدأ بالتراجع لاحقا: إذ بلغ 6.9% عام 2017، وانخفض إلى نحو 5% عام 2024، مع توقعات بأن يتراوح في 2025 بين 4 و5%.
صعود البرجوازية الصينية والتحول البنيوي في الدولة
البرجوازية الصينية انبثقت من رحم هذا التحول، وقد اشتد عودها عبر اندماجها في سلاسل التوريد العالمية التي أنشأتها الشركات الأجنبية، ومن خلال التصدير الضخم، والمشروعات العملاقة للبنية التحتية، ناهيك بالتوسع العمراني الهائل.
كما تمكنت الطبقة الرأسمالية الجديدة من التمركز في قطاعات صناعية محددة، واستثمار السوق الداخلية الواسعة، لا سيما في الأرياف. بيد أن المفارقة تكمن في قدرة الصين النسبية على تجاوز مراحل تاريخية من التطور الصناعي التي مرت بها الدول الرأسمالية المتقدمة؛ فمثلاً، لم تمر البلاد بكل مراحل تطور الاتصالات التقليدية، بل انتقلت مباشرة إلى تركيب شبكات الألياف الضوئية الحديثة في عموم البلاد دفعة واحدة. وينطبق الأمر ذاته على صناعة المركبات الكهربائية والطاقة الشمسية، إذ أصبحت الصين القوة التقنية والتجارية الأولى في هذين القطاعين على مستوى العالم.
الدولة كمحرك رئيسي للتراكم الرأسمالي
لقد تولت الدولة الصينية دورا مركزيا في دعم عملية التراكم الرأسمالي، من خلال احتكارات خاصة راسخة مدعومة بسياساتها. فقد احتفظت الدولة بسيطرتها على النظام المصرفي، وكذلك قطاعي الطاقة والصناعات الأساسية، كما تولت تمويل وتطوير مشاريع البنية التحتية الكبرى.
إضافة إلى ذلك، قدمت الدولة دعما واسعا للشركات الخاصة الكبرى التي تهيمن على قطاعات السلع الاستهلاكية، عبر القروض والمساعدات والمشاركة في الأسهم، إلى جانب توفير الطاقة بأسعار مخفضة، ناهيك بالإعفاءات الضريبية، وتوفير سلع الإنتاج بأسعار تفضيلية. وفي المقابل، فرضت على الشركات الغربية نقل التكنولوجيا إلى الصين عبر المشاريع الاستثمارية المشتركة، مقابل السماح لها بالاستفادة من قوة العمل الصينية منخفضة الأجور، والوصول إلى السوق المحلية الواسعة والمتنامية.
هذه السيطرة الصارمة أتاحت للدولة الحفاظ على معدل استثمار بلغ نحو 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لعدة عقود، ما انعكس سلبا على مستويات الاستهلاك الشعبي. ومع صعود شي جين بينغ إلى سدة الحكم، توسع النشاط الاستثماري الخارجي للصين بشكل كبير ضمن ما بات يعرف بـ«استراتيجية الحزام والطريق».
وفقا لبيانات المكتب الوطني للإحصاء في الصين، فقد بلغ متوسط النمو الاقتصادي بين عامي 1980 و2014 نحو 9.5 في المئة سنويا، لكنه بدأ بالتراجع لاحقا؛ إذ بلغ 6.9 في المئة عام 2017، ثم 5 في المئة عام 2024، مع توقعات تتراوح بين 4 و5 في المئة لعام 2025.
التشابك بين رأس المال الحكومي والخاص
النظام الرأسمالي الصيني يتسم بمزج فريد بين رأس المال الحكومي والخاص، فالشركات الخاصة الكبرى العاملة في مجالات الإنترنت، والتكنولوجيا المتقدمة، والسيارات الكهربائية، والاتصالات، والإلكترونيات، والصناعات الدوائية، والروبوتات، تستفيد من حملات تمويل ضخمة، وعقود ميسرة تمنحها الدولة، التي تؤدي دورا محوريا في دعم التوسع الخارجي.
في المقابل، تضم المؤسسات المملوكة للدولة والبنوك الحكومية حصصا من رؤوس الأموال الخاصة، كما تدرج أسهمها في البورصات الصينية، لا سيما في بورصة هونغ كونغ وغيرها من الأسواق المالية الدولية. وبهذا التداخل البنيوي، تتكون تكتلات اقتصادية ضخمة تضم الشركات الحكومية والخاصة معا في شبكة واحدة من المصالح المتبادلة.
وفقا للبيانات الرسمية لعام 2017، ساهم القطاع الخاص بأكثر من ستين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وحافظ على النسبة ذاتها تقريبا في حجم الاستثمارات الثابتة والاستثمارات الخارجية. كما شكل أكثر من سبعين في المئة من الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا العالية، وأسهم في أكثر من ثمانين في المئة من فرص العمل في المدن، ووفر أكثر من تسعين في المئة من الوظائف الجديدة.
في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2020، وفي ذروة جائحة كورونا، بلغت الثروات المتراكمة لأثرياء الصين نحو أربعة تريليونات دولار أميركي، أي ما يزيد على الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا. وقد تصدرت عائلة رجل الأعمال جاك ما – مؤسس خدمة الدفع الإلكتروني «علي باي» – القائمة بثروة توازي تقريبا حجم الاقتصاد الروسي. وفي الفترة نفسها، أفرزت سوق التكنولوجيا في مدينة شنغهاي، التي تعد النظير الصيني لسوق «ناسداك» الأميركية، ثلاثة عشر مليارديرا جديدا، من بينهم مالك تطبيق «تيك توك» ومؤسس منصة التجارة الإلكترونية «بين دُو دُو».
اندلاعة الإمبريالية الصينية
في مؤلفه الشهير الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية (1916)، ربط لينين صعود ألمانيا كقوة إمبريالية برد الفعل الذي أبداه رأس المال الجرماني إزاء الأزمة الاقتصادية الكبرى التي اجتاحت أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وعلى المنوال ذاته، مثلت استجابة الصين للأزمة المالية العالمية عامي 2007–2008 — التي كبحت صادراتها وأدت إلى انخفاض هائل في قيمة رأسمالها — الشرارة التي أطلقت اندفاعها الإمبريالي، في محاولةٍ للحفاظ على سلطة احتكاراتها الكبرى وتوسيع نفوذها، وصون استقلال نظامها السياسي في وجه الضغوط الخارجية.
لقد فرضت البيروقراطية الماوية ـ الستالينية توسيع آلة الائتمان المالي، فارتفعت نسبة الاستثمار إلى 45% من الناتج المحلي الإجمالي، وطرحت مشروع “تغيير نموذج التنمية” الذي اتخذ ملامحه الواضحة مع وصول شي جين بينغ إلى السلطة عام 2012.
يشير ديفيد هارفي، في كتابه ماركس، رأس المال وجنون المنطق الاقتصادي (2017)، إلى أنّه “في عام 2007 لم يكن في الصين كيلومتر واحد من السكك الحديدية فائقة السرعة، أما في عام 2015 فقد بلغ طولها 20 ألف كيلومتر… وبين عامي 1900 و1999 استهلكت الولايات المتحدة 4.5 ملايين طن من الإسمنت، بينما استهلكت الصين بين 2011 و2013 نحو 6.5 ملايين طن. في عامين فقط استهلك الصينيون من الإسمنت ما استهلكه الأمريكيون خلال قرن كامل… وخلال السنوات الأخيرة، تجاوزت الصين نصف إنتاج واستهلاك العالم من الفولاذ”. كلّ ذلك جعل الناتج المحلي الصيني يحتل المرتبة الثانية عالميا في عام 2011.
خلال تلك الحقبة، قفز قطاع العقارات من 9% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2000 إلى 21% في عام 2020، فيما تفاقمت ظاهرة الإفراط في الاستثمار في مجالات عدة: مثل الفولاذ والإسمنت، مقابل تراجع الصناعات التحويلية والاتصالات والتكنولوجيا المتقدمة، وانخفاض معدل الربح والإنتاجية.
الرد على هذا الاختلال جاء عبر حزمة مزدوجة: أولها برنامج “صنع في الصين 2025” الذي أطلقه شي عام 2015، محددا عشرة قطاعات رئيسة وتقنيات محورية مثل الجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي، والموصلات البديلة. هذا البرنامج عمد إلى خلق “أبطال وطنيين” من الاحتكارات الصينية التي تهيمن على السوق الداخلي، تمهيدا لتثبيت ريادتها عالميا. ثم تبع ذلك برنامج “المعايير الصينية 2035” الذي يسعى إلى فرض المعايير الصينية على التقنيات الجديدة حول العالم.
أما المكون الثاني فكان التوجه نحو تصدير رأس المال، فبعد أن كانت صادرات السلع تنمو بوتيرة متسارعة، شهد عهد شي جين بينغ انطلاقة غير مسبوقة لتصدير الرساميل الصينية، ففي عام 1990 كانت الصين تحتل المرتبة السادسة عشرة بين الدول المصدرة لرأس المال، ثم ارتقت إلى الرابعة عام 2010، وإلى الثانية عام 2018. وفي عام 2019 بلغت استثماراتها الخارجية المباشرة 117 مليار دولار مقابل 125 مليار دولار للولايات المتحدة، وفي عام 2020 تجاوزت الاستثمارات الصينية الخارجة حجم الاستثمارات الأجنبية الداخلة.
هذا التوجه تم اختزاله في صيغة واحدة: مبادرة الحزام التي أُطلقت عام 2013 والتي تحولت إلى كونها الأداة الرئيسة للتوسع الإمبريالي الصيني، فهذه المبادرة كانت محض وسيلة للسيطرة على مصادر الطاقة والمواد الخام، وتصريف فائض الإنتاج المحلي وغزو الأسواق — خاصة في البلدان شبه المستعمَرة في “الجنوب” — فضلا عن توسيع نفوذ الاحتكارات الصينية، ونقل الصناعات كثيفة العمالة إلى الخارج. وكامتداد “طبيعي” لتلك المبادرة، ضخت الصين استثمارات ضخمة في أمريكا اللاتينية، التي غدت شريكها التجاري الأول.
كما ضخت الصين، خلال السنوات الأخيرة، استثماراتٍ هائلة في الأسواق الآسيوية والإفريقية، وذلك بدعم من جهاز الدولة، لتصبح الدائن الأكبر في القارة (والثاني عالميا). كما عززت علاقاتها مع روسيا، استراتيجيا واقتصاديا، خصوصا في مجال الطاقة. وقد توغلت بكين بقوة في الشرق الأوسط، حيث أصبحت الشريك التجاري الرئيس لعدد من الدول. أما في إفريقيا، فقد أطاحت الصين بالقوى التقليدية كفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. وقد تجلى ذلك بوضوح في منتدى التعاون الصيني–الإفريقي الذي استضافته بكين في أيلول/ سبتمبر 2024، بمشاركة رؤساء دول وحكومات من أكثر من خمسين دولة إفريقية.
اليوم، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لأمريكا اللاتينية (حيث انضمت 21 دولة إلى مبادرة الحزام والطريق)، كما أصبحت ثاني أكبر مصدر لرأس المال في المنطقة بعد الولايات المتحدة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك: مصنع السيارات الكهربائية لشركة بي واي دي في البرازيل، واستثمار شركة كاتل (أكبر منتج للبطاريات في العالم) في بوليفيا لاستخراج الليثيوم من صحراء أويوني، وبناء موانئ تشانكاي في بيرو وإنسينادا في المكسيك.
لقد باتت الاحتكارات الصينية قوى هجومية صريحة في الصراع العالمي على الموارد والأسواق ومناطق النفوذ، وتعد مبادرة الحزام والطريق رأس الحربة لهذا التمدد. كما يشكل التعاظم العسكري الصيني، ولا سيما البحري في بحر الصين الجنوبي، جزء لا يتجزأ من هذا المسار.
وهكذا، فإن الاندفاع الإمبريالي الصيني هو ما أدخل العولمة — ومعها مفهوم “تشايميريكا” (الترابط الصيني–الأمريكي) — والنظام العالمي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة بلا منازع، في أزمة بنيوية عميقة.
الصراع بين الصين والولايات المتحدة اليوم
بعد فترة قصيرة من تولي ترمب الرئاسة في الولايات المتحدة، أعلنت كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية في البيت الأبيض عن استثمار ضخم بقيمة 500 مليار دولار أمريكي. كان الهدف من هذا الاستثمار ضمان الاحتكار الأمريكي للذكاء الاصطناعي، الضروري للاستيلاء على الأرباح التكنولوجية الفائقة عالميا وللحفاظ على الهيمنة الأمريكية على مستوى العالم. غير أن ظهور منصة الدردشة الصينية للذكاء الاصطناعي “ديب سيك”، بعد أيام قليلة، شكك في هذه الخطط، وأثار تساؤلات حول التفوق الأمريكي في هذا المجال الحيوي، والدور الذي يمكن أن تلعبه الصين.
الولايات المتحدة تواصل السعي للحفاظ على هيمنتها الاقتصادية العالمية، مدعومة بإنتاجية إجمالية تفوق بوضوح إنتاجية الصين، بالإضافة إلى تفوقها المالي العالمي (وكذلك الجيوسياسي والعسكري). تظل الولايات المتحدة القوة الرائدة في مجال السلع الاستهلاكية النهائية، مثل الصناعة الرقمية، والإلكترونيات المتقدمة، والأدوية، وصناعة الطيران. ومع ذلك، تحقق الصين بالفعل نسبة 12.24% من السوق العالمية في هذا المجال، وهي في الوقت نفسه أكبر منتج عالمي لوسائل الإنتاج بنسبة 30.83% في عام 2023. كما تعتبر الصين بلا شك “القوة العظمى في التصنيع العالمي”، وفي نهاية عام 2024، تصدرت الاقتصاديات العالمية من حيث الناتج المحلي الإجمالي.
قبل أيام قليلة من ظهور “ديب سيك”، أشارت وكالة بلومبرغ الأمريكية إلى أن الصين تتصدر العالم في مجالات السيارات الكهربائية، والطائرات المسيرة، والألواح الشمسية، والقطارات فائقة السرعة، وتسعى لتكون رائدة عالميا في صناعة الروبوتات والأدوية. كما أن طائرة “سي 919” تتنافس بالفعل مع شركتي “بوينغ” و:إيرباص”. وجدير بالإشارة إلى أن المعركة على قيادة صناعة المواصلات البديلة، (المهيمن عليها حاليا من قبل الولايات المتحدة) قد يحدث موجة زلزالية بعواقب هائلة.
لاتزال الصين أقل قوة من الإمبريالية الأمريكية في المجال المالي، فالولايات المتحدة هي القوة المالية الكبرى، بنظامها المصرفي، ومؤسساتها المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ودور الدولار كعملة عالمية. ومع ذلك، تعمل الصين بجد لتصبح قوة مالية عالمية بالتوازي مع استثماراتها الخارجية. في هذا المجال، يهدف تحالف دول البريكس، بقيادة الصين، إلى اتخاذ خطوات نحو إنشاء هيكل مالي ونقدي بديل للهيمنة الأمريكية.
تولي ترامب لمنصب الرئاسة الأمريكية، وما رافقه من تهديدات وتهويل، لا يعكس قوة الإمبريالية الأمريكية بقدر ما يعكس تدهورها. لعقود عديدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تضطر الولايات المتحدة عادة إلى اللجوء إلى الإجراءات غير الاقتصادية لفرض هيمنتها الاقتصادية المطلقة، بل كانت تعتمد على “القوة الناعمة” المستندة إلى إنتاجيتها العالية وهيمنتها المالية. وقد بلغ هذا النظام ذروته في العولمة الليبرالية الجديدة، مع ما عرف بـ “إجماع واشنطن” الذي فرض حرية كاملة لحركة رأس المال والبضائع، بينما ظل الجيش الأمريكي في الخلفية تماما، بمخزونه الضخم من الأسلحة، وأكثر من 700 قاعدة حول العالم، وتدخلاته الانتقائية.
لكن الوضع العام بدأ يتغير، واليوم يظهر إفلاس هذا النظام بوضوح في فترة ترامب الثانية، مع “حرب التعريفات” وبقية الإجراءات غير الاقتصادية، بما في ذلك الاستفزازات. يعكس هذا النمط الجديد لتصرفات ترامب تراجع التفوق الاقتصادي الأمريكي في القطاعات الرئيسية ويشير إلى فقدان الولايات المتحدة لتأثيرها العالمي، خاصة في مواجهة صعود الصين. ولإعادة الهيمنة المفقودة، يلجأ ترامب إلى إجراءات غير اقتصادية، على حساب التشكيك العلني في أسس النظام العالمي التي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وتبلور بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
الصراع بين الولايات المتحدة والصين يتخذ بالفعل منحى حادا، ومن المتوقع أن يتفاقم هذا الوضع أكثر فأكثر. كل المؤشرات تشير إلى أن ترامب، إلى جانب الحفاظ على الحظر التكنولوجي، يستعد لخوض معركة تعريفات ضخمة ضد الصادرات الصينية، ما سيكون له تأثير على دول أخرى. وتعتبر قوة الصين الصناعية الكبيرة نقطة ضعف أيضا في هذا المجال، بسبب اعتمادها على الصادرات وفائض الإنتاج الحالي. وبالمثل، يعتمد الاقتصاد الأمريكي بدرجة كبيرة على الواردات الصينية، وإغلاق هذه الواردات قد يترتب عليه عواقب وخيمة.
في مواجهة الهجوم الأمريكي، ستكثف الصين توسعها الخارجي، خاصة نحو دول الجنوب، بينما تحاول الولايات المتحدة استعادة مناطق النفوذ التي اكتسبتها الصين ومنعها من إقامة تحالفات جديدة، وفرض حصار عسكري إقليمي على بكين.
في الواقع، نحن أمام عملية غير مسبوقة تجمع بين عناصر اقتصادية (تكنولوجية وتجارية)، وقضايا جيوسياسية، فضلا عن الوضع الداخلي للدولتين. وستعتمد نتائج هذه العملية على هذا المزيج وتأثيراته على المدى الطويل، في عملية ستختبر فيها جميع المعطيات.
سبق أن أشرنا إلى تزايد خطر الاحتكاكات العسكرية. في الحقيقة، هذه الإمكانية تعتمد على مجرى الصراع العام في السنوات القادمة. وفي حالة هذا النزاع، فإن أكثر النقاط الساخنة احتمالا تقع في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي. وكانت الأدميرال ليزا فرانشتي، رئيسة القوات البحرية الأمريكية، أشارت في سبتمبر 2024 إلى أن الاشتباكات البحرية في البحر الأحمر والبحر الأسود ساعدت بشكل كبير في “الاستعداد لهجوم صيني على تايوان”، قائلة: “تركيزنا ينصب على عام 2027”.
الوضع الاقتصادي الصعب في الصين
منذ نهاية جائحة كوفيد، لم يتمكن الاقتصاد الصيني من التعافي، فيما هناك تباطؤ في النمو، أسوأ من معدلات العقود السابقة، مع وجود توجهات انكماشية، ناجمة عن ضعف الاستهلاك وحرب الأسعار بين الشركات المصنعة، والتي يحفزها الإنتاج الزائد القائم، وهو ما يتضح في حالة السيارات الكهربائية. يصل معدل البطالة بين الشباب إلى 20%، الأمر الذي يسد أفق توقعاتهم، ويزيد من سوء ظروف عملهم. كما تعاني الحكومات المحلية من أزمة مالية شديدة، تنبع من انفجار فقاعة العقارات، مثل إفلاس شركة إيفرغراند، عام 2021، والتي تم تركها دون مصدرها الرئيسي للموارد، وهو بيع الأراضي، مع ديون هائلة. هناك أماكن لا تستطيع فيها الحكومات المحلية حتى دفع رواتب موظفيها والمقاولين.
أزمة العقارات بعيدة عن الحل، فالاستثمارات الحكومية لم تخفف الأزمة إلا بشكل مؤقت، ونفس الأمر ينطبق الآن على الإجراءات الأخيرة، مثل الموافقة على إنشاء صناديق لاستكمال المباني غير المكتملة. وتستمر أسعار المساكن وعدد المعاملات في الانخفاض، ففي شباط 2025 قامت سلطات شنتشن بإنقاذ شركة فانكي العقارية، ويواجه ما لا يقل عن عشرة مطورين عجزوا عن سداد ديونهم طلبات تصفية. تأثير هذه الأزمة على الاقتصاد الصيني ككل محبط للغاية.
كل هذا يحدث في ظل الهجمة الأمريكية الجمركية (والحصار التكنولوجي) الذي يشنه ترامب ضد اقتصاد يعتمد بشكل كبير على الصادرات (حتى لو كان نصفها حاليا يذهب إلى ما يسمى بالجنوب العالمي)، في وضع عالمي يتميز بالركود، والذي قد تزيد الحرب الجمركية من حدته.
يحذر كبار الاقتصاديين في المؤسسة الصينية من خطر الدخول في ركود مالي عميق يشبه ذلك الذي أثر بشدة على اليابان في التسعينيات. وتتمثل مقترحاتهم في إطلاق، على غرار 2008، حزمة ضخمة من الإنفاق العام لإحياء القطاع الخاص وتنشيط الاستهلاك (على الرغم من أن الدين العام الحالي، الذي يبلغ 100% من الناتج المحلي الإجمالي، ليس بالأمر الجيد). وبالمثل، ولأسباب أكبر مما كانت عليه في 2008، يقترحون دفع عجلة التوسع الخارجي مجدداً. ويتحدثون عن برنامج التنمية الخضراء للجنوب العالمي، والذي يقولون إنه سيكون المعادل الصيني لخطة مارشال الأمريكية التي تبعت الحرب العالمية الثانية. ويأتي هذا البرنامج استجابة لحقيقة أن السوق المحلية غير قادرة على استيعاب الإنتاج الزائد المرتبط بالطاقة الجديدة، وأولها السيارات الكهربائية. من ناحية أخرى، سيساعد التركيز على الجنوب العالمي على تجاوز الحواجز التجارية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتوطيد مناطق النفوذ.
مخاوف شي بشأن الوضع الصيني تنعكس بشكل غير مباشر على حملته ضد الفساد، والتي تؤثر على كبار المسؤولين في الأعمال والدولة، بما في ذلك بعض الوزراء وضباط الجيش رفيعي المستوى. ومن علامات مخاوفه إعادة نشر إحدى خطاباته عام 2023 في صحيفة الحزب الشيوعي الصيني “تشيوشي”، حيث قال: “أصغر خطأ قد يفجر تأثير الفراشة، بحيث تتحول المخاطر الصغيرة إلى تهديدات كبيرة، وتصبح المخاطر المحلية واسعة الانتشار، وتتحول المخاطر الاقتصادية والاجتماعية إلى مخاطر سياسية”.
هذه العبارة تعكس خوف شي من تدهور خطير في الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وإن هذا بدوره قد يؤدي إلى دخول الطبقة العاملة الصينية إلى المشهد، متجاوزة “النقابات” الرسمية، وهي أداة لإطار السيطرة على النقابات العمالية المستقلة.
أوضاع العمال في الصين
حتى الآن، تعد التحركات التي اندلعت في أواخر عام 2022 ضد التطبيق الوحشي والمهين لسياسة «صفر كوفيد»، والتي قادها العمال المهاجرون والطلاب الجامعيون، أهم موجة احتجاجات شهدتها الصين منذ قمع انتفاضة ساحة تيانانمن عام 1989، فقد طالب المحتجون بإنهاء الإغلاق القاسي، وواجهوا سياسة القمع الحكومي، كما رفعوا شعارات تطالب بالحريات الديمقراطية.
في وقت لاحق، اندلعت احتجاجات واسعة للمتقاعدين في مدينة ووهان ومدن أخرى، اعتراضا على تقليص المزايا الصحية. كما يجب التذكير بنضالات القوميات المضطهدة في الصين، مثل أبناء منطقة شينجيانغ ذاتية الحكم التي تضم أقلية الإيغور، وكذلك سكان منطقة التبت الذين يواصلون كفاحهم ضد التمييز والاضطهاد.
أما في عام 2024، فقد تمركزت التحركات العمالية عبر سلسلة من الإضرابات في المصانع، خاصة في قطاع البناء وصناعة الفولاذ، بسبب تأخر دفع الأجور، وفي بعض الحالات بسبب نقل مواقع العمل أو تسريح العمال. ووفقا لتقارير المرصد العمالي الصيني، فقد تم تسجيل ألف وخمسمئة وثمانية إضرابا في مختلف القطاعات.
أما فيما يتعلق بظروف العمل، فقد ذكرت صحيفة «الصباح الصيني الجنوبي» الصادرة من هونغ كونغ، أن ما يعرف بـ نظام «تسعة تسعة ستة» بات منتشرا على نطاق واسع في شركات الإنترنت والتكنولوجيا. ويقصد بهذا النظام العمل من الساعة التاسعة صباحا حتى التاسعة مساء، ستة أيام في الأسبوع، رغم أن قانون العمل الصيني يمنع ذلك صراحة.
وعندما اندلعت احتجاجات ضد هذا النظام في شهر آذار/ مارس عام 2019، صرح الملياردير ما يون، مؤسس شركة علي بابا، قائلًا:
«نظام تسعة تسعة ستة نعمة… من يأتي إلى علي بابا يجب أن يكون مستعدا للعمل اثنتي عشرة ساعة في اليوم، وإلا فلماذا يأتي؟».
كما كشفت الصحيفة نفسها عن فضيحة حديثة تتعلق بـ مئة وثلاثة وستين عامل بناء صيني كانوا يعملون في تشييد مصنع تابع لشركة السيارات الصينية بي واي دي في ولاية باهيا البرازيلية، ضمن ظروف أشبه بالعبودية: ساعات عمل طويلة، أسِرّة بلا فرش، حمّام مشترك لعشرات العمال، دون أي يوم راحة أسبوعي، بل إن جوازات سفرهم كانت محتجزة. وأوضحت الصحيفة أن هذه الممارسات لا تختلف كثيرا عن واقع العمال في هذا القطاع داخل الصين نفسها، ومعظمهم من العمال المهاجرين القادمين من الأرياف، الذين تُنتهك حقوقهم القانونية بشكل ممنهج، مثل الحق في ثماني ساعات عمل يوميا، وأربعٍ وأربعين ساعة أسبوعيا، ويوم راحة واحد في الأسبوع.
قسوة ظروف العمل لدى العاملين في شركات الأزياء، مثل شركة شي إن، لا تقل عن تلك السابقة، إذ يتكوّن معظم عمالها أيضا من المهاجرين الريفيين. ويُعرف حي بانيو في مدينة غوانغجو باسم «قرية شي إن»، حيث يضم نحو خمسة آلاف مصنع وورشة صغيرة. ويعمل معظم هؤلاء العمال خمسة وسبعين ساعة أسبوعيا (بمعدل عشر إلى اثنتي عشرة ساعة يوميا، وثلاث ساعات أقل يوم الأحد فقط)، ولا يحصلون إلا على يوم إجازة واحد في الشهر، ويتقاضون أجورهم وفق نظام الأجر على القطعة.
ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس بيان شمس



