الأحد نوفمبر 17, 2024
الأحد, نوفمبر 17, 2024

التعبئة في جورجيا والحرب في أوكرانيا

دول العالمالتعبئة في جورجيا والحرب في أوكرانيا

الصحافة العالمية نقلت أحداث صيرورة التعبئة الشعبية التي شهدتها دولة جورجيا (ساكارتفيلوس بلغة أهل البلاد)– والتي كان مركزها الأساسي في العاصمة تبليسي. ومن أجل التوصل إلى موقف سياسي موفق بالنسبة للصراع الذي نشهده اليوم في ذلك البلد، نقترح قراءة الوضع من منظور الصراع الطبقي الذي يعيشه هذا البلد الصغير في القوقاز منذ زمن، ولاسيما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. وكذلك لا بد من النظر إلى صيرورة الأحداث الجارية ضمن إطار الأزمة المتنامية للنظام العالمي، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، والتي تنخرط اليوم في نزاع مع القوى الإمبريالية الناشئة، مثل الصين وروسيا. لأن الاستقطاب الحالي في جورجيا له نفس نشأة الغزو والاحتلال والحرب في أوكرانيا.

✍🏾  بافل بولسكا

طالما كانت منطقة القوقاز وسلسلة جبالها، التي تفصل أوروبا جغرافيا عن آسيا، مركزا دائما للاضطرابات الاجتماعية والحروب على مدار الأربعين سنة الماضية. وحتى في إطار الاتحاد السوفييتي، بدأ صراع ناجورنو كاراباخ المطول بين أرمينيا وأذربيجان منذ عام 1988. وبعد تفكك اتحاد الجمهوريات الإشتراكية، اندلعت حربان في المنطقة، إحداهما كانت من أجل استقلال الشيشان داخل الاتحاد الروسي، وقد استمرت منذ العام 1994 إلى العام 1996، وانتهت بانتصار الشيشان بشكل مؤقت، وإعلان جمهورية إشكيريا المستقلة. أما الحرب الثانية فقد اندلعت عام 1999 واستمرت حتى عام 2009، وقد آلت إلى تدمير الشيشان وسحق شعبها على يد قوات بوتين، وهو ما أطلق عليه النظام الروسي آنذاك اسم “عملية مكافحة الإرهاب”. هذا ولا يزال العدد الدقيق للضحايا الذين أسفر عنهم ذلك الصراع غير معروف. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن هناك نحو 50 ألف قتيل أو مفقود – معظمهم من المدنيين في الشيشان. كما بلغ عدد الضحايا الروس نحو 11 ألفا، وفقًا للجنة أمهات الجنود الروس.

الاستقلال، الحرب الأهلية الجورجية، وحرب أبخازيا (1992-1993)

  التطلعات الوطنية، والتعبئة من أجل الاستقلال في العديد من الجمهوريات السوفيتية السابقة، نجم عنها إعلان استقلال جورجيا في التاسع من شهر نيسان عام 1991، أي قبل وقت قصير من تفكك الاتحاد السوفيتي. وفي 26 أيار 1991، تم انتخاب زفياد غامساجورديا، زعيم الحركة الوطنية، في أول انتخابات متعددة المشاركة الحزبية داخل دول الاتحاد السوفيتي السابق، وقد فاز بمنصبه باعتباره أول رئيس لجورجيا المستقلة. ولكن، تمت إزاحته خلال الأحداث التي وقعت ما بين 22 كانون الأول 1991 و6 كانون الثاني 1992، عبر انقلاب دموي، حرض عليه الحرس الوطني، ومنظمة شبه عسكرية تابعة له، بدعم من الوحدات العسكرية الروسية المتمركزة في تبليسي، حاول غامساجورديا اللجوء إلى أذربيجان، بيد أنه لم يوفق في ذلك. وفي النهاية، بعد إجراء المفاوضات، حصل على اللجوء في الشيشان، التي كان يحكمها الجنرال زوجار دوداييف.
إثر تلك الأحداث، اندلعت حرب أهلية مطولة استمرت حتى عام 1995 تقريبا. بعدها، قام إدوارد شيفرنادزه، آخر مستشاري اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، ومروجي نظرية البيريسترويكا التي صاغها الإصلاحي الروسي غورباتشوف، والذي شغل منصبه في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي آنذاك، بالعودة إلى جورجيا في عام 1992 وانضم إلى قادة الانقلاب – وهم: تنغيز كيتوفاني، ودجابا إيوسيلياني – وتشكلت وقتها حكومة رئاسة  ثلاثية كانت تسمى ب “مجلس الدولة”. كما عاد غامساجورديا سرا للتدخل في تلك الحرب الأهلية. وفي 31 كانون الأول 1993، تم العثور عليه ميتا إثر إصابته بطلق ناري في الرأس. وحتى يومنا هذا، تتضارب الروايات حول ما إذا كان قد انتحر أم أنه قد تم اغتياله، وعلى يد من؟.
عام 1995، تم “انتخاب” شيفرنادزه رسميا رئيسا للبلاد، وذلك أثناء الحرب التي كانت مستمرة، والتي تخللتها حالة عنف عرقي دموي، بدعم من روسيا الاتحادية، في كل من إقليم أبخازيا ومنطقة أوسيتيا الجنوبية. وحتى الآن لاتزال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية مستقلتين فعليا عن جورجيا، ومعترف بهما من قبل النظام الروسي. وقد تعرض أكثر من 250 ألف جورجي للتطهير العرقي في إقليم أبخازيا على يد الانفصاليين خلال عامي 1992 و1993، كما تم طرد أكثر من ألفي جورجي من تسخينفال في أوسيتيا الجنوبية. واضطرت العديد من العائلات الأوسيتية إلى ترك منازلها في منطقة بورجومي ونزحت إلى روسيا. وتشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 10 آلاف شخص تم قتلهم آنذاك، معظمهم من المدنيين، وذلك كان نتيجة عمليات التطهير العرقي.

“الثورة الوردية” عام 2003

 بعد ذلك، آلت صيرورة التعبئة الجماهيرية التي شهدتها البلادإلى الإطاحة بالزعيم القديم للحزب الشيوعي السوفييتي شيفرنادزه في نهاية عام 2003. ورغم أن ذلك التغيير لم يحصل عن طريق الانتخابات، إلا أن العديد من وسائل الإعلام وصفته بأنه “انقلاب سلمي وغير دموي”. لكن هذا الحدث معروف في كافة أنحاء العالم باسم “الثورة الوردية”. وقد قاد عملية التعبئة آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي، وحزبه الحركة الوطنية المتحدة. وجدير بالذكر أن الرجل كان قد انضم، بعد حصوله على درجة الدكتوراه في القانون في كييف عام 1992، إلى حكومة شيفرنادزه كوزير.
رغم ذلك، فقد تولى السلطة المؤقتة زعيم آخر من حركة الوحدة الوطنية، وهو نيو بوردزهانادزه، حتى انتخاب ساكاشفيلي في وقت لاحق، والذي تولى منصبه كرئيس في 25 كانون الثاني 2004. وكانت وعود ساكاشفيلي قبل الانتخابات تتلخص في استعادة السلامة الإقليمية الوطنية، وإزالة آثار التطهير العرقي، وإعادة اللاجئين إلى ديارهم.
بعد الثورة، تم المضي في إصلاحات اقتصادية نيوليبرالية واسعة. خلال فترة ولايته، قدم البلاد كمطية للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. كما اتخذ تدابيرا خاصة لتعزيز القوات المسلحة. وقد أدت جهود حكومته إلى استعادة مركزية جورجيا في المناطق التي كانت تتمتع بحكم ذاتي، بيد أن ذلك قاد إلى أزمات كبرى. علاوة على ذلك، لم ينجح ساكاشفيلي فيما يتعلق بقضية أوسيتيا الجنوبية الانفصالية، وبهدف “استعادة الوفاق والاستقرار الضروريين”، كانت لديه تكهنات هذيانية، مثل تلك التي طرحها زعيم الكنيسة الأرثوذكسية حول إعادة تأسيس الملكية مع قدوم الأرستقراطي الجورجي المنفي في إسبانيا، كوسيلة “لتشعر المناطق الانفصالية بالأمان في جورجيا المتنوعة ولكن القوية والموحدة”. وفي نهاية عام 2007، حتى هذا الوهم كان مقبولا جماهيريا على نطاق واسع، لكن تمت الاستفاقة منه أخيرا بعد وفاة “الوريث” في عام 2008.

الحرب الروسية الجورجية

الأدق أن نسميه غزو روسيا لجورجيا. في 7 من شهر آب عام 2008، بدأ الصراع المسلح الذي لم يستغرق فترة طويلة بين جورجيا من ناحية وروسيا بدعم من جمهوريتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا اللتين اعترفت بهما روسيا من ناحية أخرى. وقد بدأ القتال في أوسيتيا الجنوبية بمعركة تسخينفال، ثم امتدت التطورات بعد ذلك إلى مناطق أخرى في جورجيا وساحل البحر الأسود.
لقد وقعت الاشتباكات الأولى عندما أمر الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي جيشه باستعادة السيطرة على جيب أوسيتيا، المستقل بحكم الأمر الواقع منذ عام 1992، لكن جورجيا تصنفه على أنه متمرد وينتمي بحكم القانون إلى أراضيها. وعلى مدى عدة أعوام، كانت قوات حفظ السلام الروسية حاضرة في تلك الجمهورية الانفصالية، وذلك بموجب اتفاقيات السلام التي أنهت الحرب الأهلية الجورجية عام 1995. وبطبيعة الحال، نقلت القوات الروسية السلاح إلى أوسيتيا بعد وقت قصير من اندلاع المعارك. وعلى الفور عبرت فرق جديدة من الجيش الروسي الحدود الدولية. وشاركت قوات من جمهورية أبخازيا الانفصالية إلى جانب مع الروس وأوسيتيا الجنوبية في قتال الجورجيين، سواء في أوسيتيا الجنوبية أو في أبخازيا نفسها.
وفي 12 آب 2008، أصدرت الحكومة الروسية مرسوما يقضي بإنهاء عملياتها العسكرية في الأراضي الجورجية. ولاحقا قبلت روسيا خطة السلام التي اقترحها الاتحاد الأوروبي، والتي تضمنت انسحاب الطرفين إلى مواقعهما قبل بداية الصراع. في 26 آب 2008، ردا على اعتراف روسيا بأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، أعلنت جورجيا أنها قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع روسيا.

عمليات مماثلة في الفضاء ما بعد السوفييتي: أوكرانيا، جورجيا، قيرغيزستان

رغم الاختلافات وتنوع الظروف في الجمهوريات الخمس عشرة التي كانت تشكل الاتحاد السوفييتي، إلا أن هناك بعض الصيرورات المماثلة للصراع الطبقي. وخلال كل تلك الصيرورات كانت الإمبريالية الروسية، وكذلك الإمبريالية الصينية، والقوى الإمبريالية الغربية، تستغل تلك الصراعات في إطار التنافس على النفوذ والهيمنة، بطرق مختلفة.
في السنوات التي سبقت وتلك التي تلت مباشرة ما نسميه بـ “الصيرورات الشرقية”، شهدنا استعادة الرأسمالية، والتحولات الديمقراطية.
كان لدى أولئك الذين انخرطوا في التعبئة تفاعل متبادل، وقد شملت موجة التعبئة بشكل أساسي كل من روسيا وأوكرانيا وبيلاروس. ومن ناحية أخرى، كانت هناك جورجيا في جنوب القوقاز، وفي آسيا الوسطى كانت قيرغيزستان. وفي بقية البلدان، استمرت الأنظمة الديكتاتورية، مثل كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان وأذربيجان، أو ذات السمات البونابرتية القوية مثل أرمينيا. أما في مولدوفا، فقد كان للصراع الذي لم يتم حله مع منطقة سيسنيستر الانفصالية الموالية لروسيا تأثيره، والذي مازال مستمرا حتى يومنا هذا. ولايزال هذا الأمر منعكسا في الوضع المتوتر المزمن بين روسيا والاتحاد الأوروبي.
في كل من روسيا وبيلاروس، سادت الرجعية من خلال وسائل مختلفة حتى اليوم، وقد شكلت دكتاتوريات الثورة المضادة، ففي روسيا، سادت سياسة بوتين البونابرتية بعد المذبحة التي تعرض لها الشعب الشيشاني وهزيمة شعوب شمال القوقاز داخل الاتحاد الروسي. وفي بيلاروس، بعد تدخل نظام بوتين في عام 2020، تمكنوا من هزيمة وتفكيك الصيرورة الثورية ضد نظام لوكاشينكو، وتقدمت روسيا في تحويل ذلك البلد إلى مستعمرة تقريبا. أما في كازاخستان، فقد تم إخماد عمليتين تمرديتين كان مركزهما في مناطق الطبقة العاملة خلال عامي 2011 و2021 بتدخل قوات الصدمة الروسية.

أوكرانيا وجورجيا.. الاضطرابات الاجتماعية المتكررة

من بين الظروف والخصائص شديدة التنوع، كانت هناك أعظم أوجه التشابه بين الصيرورات التي شهدتهما كل من أوكرانيا وجورجيا، ففي أوكرانيا، كانت هناك ثلاث عمليات للصعود العمالي والشعبي تم توجيهها وتحويلها عبر “ردة الفعل الديمقراطية”، وكذلك الإضراب العام في قطاع التعدين عام 1993، والذي كان مركزه في منطقة دونباس، والذي حفز على استقالة الرئيس كرافتشوك وانتخاب ليونيد كوتشما؛ “الثورة البرتقالية”، التي تألفت إثر تعبئة واسعة النطاق تخللتها العديد من الاضطرابات، والتي أثارتها تزوير الانتخابات الرئاسية، خلال تشرين الثاني 2004 حتى الانتخابات الجديدة في كانون الثاني 2005، والتي أوصلت فيكتور يوشينكو إلى الرئاسة، وقد كانت صيرورة الأحداث شبه تمردية. وفي أوكرانيا، كان هناك استقطاب اجتماعي كبير ومركز في “ميدان” كييف منذ نهاية العام 2013 إلى آذار 2014، وقد آل إلى الإطاحة بفيكتور يانوكوفيتش. وقد وصف بوتين هذه العملية برمتها بأنها “انقلاب”، واتخذ الأمر ذريعة لضم شبه جزيرة القرم عبر عملية كوماندوز قامت بها القوات الخاصة، وهكذا كانت بداية الأنشطة الانفصالية في دونباس. وبعد تراجع القوات شبه العسكرية والمرتزقة الروس إلى المناطق ذاتية الحكم، تم إعلان “الجمهوريتين الشعبيتين” في دونيتسك ولوغانسك، حتى تطور الوضع إلى بدء الغزو الروسي واسع النطاق في 24 شباط عام 2022.
الشيء نفسه نشهده في جورجيا، حيث لاتزال التعبئة، والانحرافات الرجعية، والغزوات، والحروب الناجمة عن العمليات الانفصالية – مع خصائص القوقاز النموذجية – تتراكم حتى يومنا هذا. وليس من قبيل الصدفة أن يسعى سياسي برجوازي مغامر من أصل جورجي، مثل ساكاشفيلي، الذي تم اتهامه خلال فترة ولايته بمحاباة أسرته أثناء عملية خصخصة ممتلكات الدولة، وباستغلال إدارة السلطة في سبيل تحقيق مكاسب شخصية، ما دفعه إلى طلب اللجوء في أوكرانيا، بعد اقترافه لعمليات اضطهاد إجرامية في بلاده. رغم ذلك، حصل على الجنسية الأوكرانية، وتقلد مناصب سياسية إقليمية كانت سريعة الزوال، لكنها مهمة، من قبل حكومة الرئيس بوروشينكو، بعد أحداث الميدان.
من ناحية أخرى، كان بيدزينا إيفانيشفيلي، مؤسس حزب “الحلم الجورجي”، والذي أصبح رمزا لأكبر أقلية حاكمة في جورجيا اليوم، يجمع رأس ماله المرتبط بشركات روسية. خلال تلك الأثناء، كان حزب الأمين العام ينمو، ويقدم نفسه على أنه حزب “الدفاع عن السيادة”. ومع ذلك، في كانون الثاني 2008، وبعد عملية انتخابية تخللتها تعبئة المعارضة والقمع الوحشي والشكاوى من التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان، أعيد انتخاب ساكاشفيلي لولاية ثانية، وقد اتسمت السنوات التي تلت ذلك بسياسة أكثر التزاما بالمضي تجاه الاقتصاد الأوروبي و”التحديث”، مصحوبة بعيش قطاع أكبر من السكان تحت مستوى الفقر، وتنامي الفساد الرسمي.
اشتدت الضغوط على ساكاشفيلي منذ عام 2009. فنظمت المعارضة مظاهرات حاشدة ضد حكومته. وفي أيار 2009، قالت الشرطة إنه تم التخطيط لاضطرابات واسعة النطاق. حتى أن تلك المخططات شملت تمردا عسكريا لم يكتب له النجاح، بل ومحاولة لاغتيال ساكاشفيلي… وتقول المعارضة آنذاك أن “التمرد” المفترض كان بسبب رفض القوات أمرا غير قانوني باستخدام القوة ضد متظاهري المعارضة. وفي عامي 2011 و2012، انتشرت الاحتجاجات ضد ساكاشفيلي في كافة أنحاء جورجيا.
في 2 تشرين الأول 2012، تعرض ساكاشفيلي لهزيمة حركة الوحدة الوطنية في الانتخابات البرلمانية على يد الأمين العام للحلم الجورجي بيدزينا إيفانيشفيلي. وقد منع البرلمان الجديد ساكاشفيلي من الترشح لولاية ثالثة في الانتخابات الرئاسية عام 2013. وذلك نتيجة لنضال الجماهير المفقرة بسبب الاستغلال ونهب الثروات والنزاعات في أوساط الإمبريالية.
مع ذلك، يمكننا التأكيد على أن مختلف العشائر الأوليغارشية المتعارضة، والكتل الإمبريالية التي تتنازع على الهيمنة عبر استعمار البلاد، تتفق على خنق تطلعات السيادة الوطنية التي تتوق إليها الأغلبية الشعبية، وعلى تغيير موازين القوى بين القوى الشعبية بشكل جذري، لصالح البرجوازية ضد الجماهير، والتي تعبر عن نفسها عبر الانتفاضات والتعبئة الكبرى ضد المصاعب والحروب. وبالتالي، فإن قانون “العملاء الأجانب” يعبر عن هدف الرجعية العميق، والمظاهرات الحاشدة ضد هذا القانون تحمل طابعا تقدميا.
علاوة على ذلك، فإن الوضع العالمي، المتعلق بالحرب في أوكرانيا والإبادة الجماعية للفلسطينيين، يضع جورجيا وجنوب القوقاز ــ شمال القوقاز جزء من الاتحاد الروسي، الذي يعد أيضا معقلا للقوميات والأديان المضطهدة مثل داغستان ــ في موضع كونها طريقا ثمينا لعبور المواد الهيدروكربونية والتجارة بين الصين وأوروبا. وتنشط فرنسا والصين بشكل خاص في هذه المنطقة. لقد نما الاقتصاد في العام الماضي، لكن مستوى المعيشة وظروف الجماهير وخدمات الصحة العامة تدهورت. وتعيش مئات الآلاف من الأسر بالكاد على قيد الحياة، وتعتمد على التحويلات المالية من أقاربها المهاجرين.
منذ كانون الأول عام 2018 وحتى اليوم، تشغل سالومي زورابيشفيلي منصب رئيس البلاد. وهي أول امرأة تشغل هذا المنصب يتم انتخابها عن طريق التصويت المباشر – قبل ذلك تم تعيين نيو بوردزهانادزه على أساس مؤقت. ولدت سالومي في باريس، وهي ابنة لأبوين جورجيين منفيين منذ عام 1921، إبان الثورة. كانت دبلوماسية فرنسية طوال حياتها المهنية. وقد وصلت إلى جورجيا عام 1986. وفي عام 2003 تم تعيينها وزيرة للخارجية في عهد ساكاشفيلي. وبعد سنوات انفصلت عنه ووصفت ولايته بأنها “محاكاة ساخرة للديمقراطية”. ومن هنا أسس حزب “الطريق الجورجي”. ومن المثير للاهتمام أن ساكاشفيلي يقبع اليوم في السجن، في ظل رئاسة سالومي زورابيشفيلي.
بيدزينا إيفانيشفيلي هو أحد أبناء الأقلية الجورجية الذي جمع رأس ماله في أوائل التسعينيات في روسيا، من خلال شركة كانت تدير مصالحه الصناعية في التعدين والمعادن والبناء العقاري والمجموعات المالية. وفي عام 1990 تم تعيينه رئيسا لـ “بنك الائتمان الروسي” الذي يقع مقره الرئيسي في موسكو، ولايزال عضوا في مجلس الإدارة. وتقدر مجلة فوربس ثروته بنحو 6.4 مليار دولار. وقد شغل منصب رئيس وزراء جورجيا منذ تشرين الأول 2012 إلى تشرين الثاني 2013.
في النهاية، تمثل دوره السياسي الرئيسي بالسيطرة على السلطة البرلمانية عبر تحالف الحلم الجورجي، الذي عين رئيس الوزراء إيراكلي غاريباشفيلي. ويؤثر حتى على نواب من حزب ساكاشفيلي. ويشغل حاليا منصب رئيس الوزراء الشاب بالنيابة، إيراكلي كوباجيدزه، نائب الأمين العام السابق، وهو خريج جامعة دوسلدورف، ومؤلف للعديد من الأعمال باللغة الألمانية. وقد رد كوباجيدزه بقسوة على الانتقادات التي وجهها سفير الولايات المتحدة لاتفاق جورجيا مع الصين على بناء أول ميناء للمياه العميقة في أناكليا، في إطار العلاقة الاقتصادية المتنامية بين الصين وجورجيا.
علامة على القلق البرجوازي بشأن انحياز ميزان القوى لصالح الجماهير، كان اتهام إيراكلي كوباجيدزه وحزب الحركة الوطنية المتحدة الذي يتزعمه ساكاشفيلي بالمضي في البلاد إلى “نفس الوضع الذي تطور، للأسف، في أوكرانيا”. هذا الاتهام ، الذي صدر عن رئيس الوزراء بشكل أقرب ما يكون إلى التهديد، لم يأت بمحض الصدفة. كما أضاف كوباجيدزه بقوله إن “المجتمع الجورجي ينتظر ظهور فولوديمير زيلينسكي المحلي”. واختتم: “أريد أن أؤكد لممثلي الحركة الوطنية أن السيناريو الأوكراني لن يتطور في جورجيا، وأن “أوكرنة” جورجيا لن تحدث تحت أي ظرف من الظروف”… “سنبذل كل ما في وسعنا لمنع ذلك”.
وتابع بأنه سيبذل كل ما في وسعه “لمنع التحركات الحاشدة الحالية ضد قانون العملاء الأجانب من أن تتحول إلى ميدان العام 2014” في جورجيا.

برنامجنا وسياستنا

نظرا لما أسلفنا، ولأسباب أخرى كثيرة، فإن دعمنا للتحركات الجماهيرية ضد هذا القانون المعمول به رغم الفيتو الرئاسي، يقترن بالإدانة القاطعة لجميع الفصائل البرجوازية والكتل الإمبريالية التي تناهض التطلعات العادلة للحقوق الديمقراطية للجماهير، في سبيل تحقيق السيادة الجورجية الحقيقية وسلامة أراضي البلاد، والتي تسعى إلى تمزيق الشعب عبر خلق اشتباكات عنيفة مثل تلك التي حدثت منذ أكثر من 30 سنة.
إن وحدة جورجيا وسلامتها لا يمكن أن تتحققان باحتلال القوات الروسية لأبخازيا وأوسيتيا، وهو الوضع الذي يدعم في واقع الأمر حزب الحلم الجورجي. كما أن ذلك لن يتحقق من خلال فرض التطهير العسكري أو العرقي على جيش تبليسي، تحت حماية حلف شمال الأطلسي، كما كانت تنوي الحركة الوطنية متعددة الجنسية. تقرير مصير هذه الشعوب، واستقلالها، لن يتحققان عبر أية قوة إمبريالية.
إن سياسات “الحلم الجورجي” أو “المسار الجورجي” أو “الحركة الوطنية” مماثلة لسياسات “العملاء الأجانب” الحقيقيين: ساكاشفيلي، وزورابيشفيلي، وإيفانيشفيلي! يجب إيقاف هؤلاء الأوليغارشيين، عملاء الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، أو روسيا أو الصين، على حد سواء، عن الاستمرار في استغلال وقمع الجورجيين والأبخاز والأوسيتيين والأدزاريين. وكذلك عن إجبار آلاف العمال الشباب الذين يتطلعون إلى حياة أفضل على الهجرة. كما يركز برنامجنا على تعزيز الاستقلال السياسي للعمال  لاستعادة استقلال جورجيا الذي أُعلن عنه_ ولكن لم يتم نقله إلى الواقعية الفعلية_ في عام 1991.

** الاسم الرسمي للبلاد هو ساكارتفيلوس، كما هو محدد في دستور جورجيا. ولها أبجدية خاصة بها، وقد استخدمت كلمة “جورجيا” في الغرب منذ العصور الوسطى. (1170-1240). وهذا الاسم إشارة إلى القديس جورجيوس، وذلك بسبب التبجيل الخاص الذي يكنه الجورجيون لذلك القديس. كانت الممالك الجورجية من أوائل الممالك التي اعتنقت المسيحية عام 317 م.





ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس بيان شمس

Check out our other content

Check out other tags:

Most Popular Articles