✍🏾 فابيو بوسكو
سيشهد التاريخ أن يوم 24 أيلول 2023 كان بداية التطهير العرقي للشعب الأرمني الذي عاش في منطقة ناغورنو كاراباخ لعدة قرون. خلال خمسة أيام فقط، “فرّ” نحو 78,000 من أصل 120,000 أرمني يعيشون في المنطقة إلى دولة أرمينيا، إثر خشيتهم من النظام الأذربيجاني بعد نزع سلاح قوات الدفاع الذاتي الأرمنية، والتي تخلى عنها النظام الروسي والقوى الغربية وحكومة أرمينيا. بدعم مباشر من النظام التركي، وبشكل غير مباشر من روسيا، ومجهز بأسلحة إسرائيلية، ارتكب النظام الأذربيجاني جرائم ضد الإنسانية. يستحيل النظر إلى مشاهد السكان المذعورين الذين يحاولون الهرب دون تذكر الإبادة الجماعية للأرمن في القرن الماضي، والتي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية بمساعدة جزء من السكان الأكراد.
في مواجهة التفسير السطحي لوسائل الإعلام الدولية، والذي يعزو هذه المذبحة إلى الكراهية العرقية بين الشعوب، لا بد من أن نتذكر أن تلك الدول المختلفة عاشت في سلام بمنطقة القوقاز لعدة قرون. أي أن هناك تفسيرا آخرا خارج إطار الرؤية الإمبريالية “المستشرقة”، ما يعني أيضا أن هناك حلا آخرا.
تعد منطقة جنوب القوقاز، أو ما وراء القوقاز، حيث تقع كل من أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، منطقة استراتيجية بين البحر الأسود وبحر قزوين. وإضافة إلى كونها تمثل طريقا بالغ الأهمية بين أوروبا الشرقية وغرب آسيا، فقد باتت مركزا مهما لاستخراج النفط والغاز في نهاية القرن التاسع عشر.
في تلك المنطقة، عاش الناس تاريخيا في سلام، رغم أن ثلاث إمبراطوريات عظمى فرضت نفوذا ثقافيا ولغويا ودينيا عليهم: الإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية العثمانية (تركيا حاليا)، والإمبراطورية الفارسية (إيران حاليا).
في بداية القرن التاسع عشر، حاربت الإمبراطورية الروسية من أجل السيطرة على المنطقة ضد بلاد فارس خلال حربين (1804-1813 و1826-1828). وانتهت تلك الحروب بتوقيع معاهدتي (جولستان عام 1813، وتركمانجاي عام 1828)، ما أدى إلى الهيمنة الروسية على المنطقة حتى قيام الثورة البلشفية عام 1917.
دعم الثورة أم الثورة المضادة؟
عندما استولى البلاشفة على السلطة في أكتوبر 1917، قرر القادة المحليون للحزب المنشفي الجورجي والاتحاد الثوري الأرمني وحزب المساواة (أذربيجان)، الذين عارضوا المثل الأممية والثورية للبلاشفة، تشكيل جمهورية القوقاز الفيدرالية الديمقراطية في 22 أبريل 1918. كانوا على يقين من أنهم سيحصلون على دعم القوى الدولية مثل المملكة المتحدة وألمانيا والولايات المتحدة، والتي كانت كلها مهتمة بإحباط الثورة الروسية.
ولكن، في مواجهة الهجوم العسكري للجيش العثماني، انفصل القادة الجورجيون عن الجمهورية الفيدرالية في 26 أيار 1918. وتحالفوا مع الإمبراطورية الألمانية، وبعد ذلك مع الإمبراطورية البريطانية، قبل انحدار المنطقة إلى شكل متدهور للقومية التي أثارت نزاعات إقليمية بين أرمينيا وأذربيجان.
هذه القومية الرجعية لوّثت الزعماء القوميين الأرمن والأذربيجانيين، الذين سلكوا نفس الطريق وبدأوا في قتال بعضهم البعض على تلك الأرض. وقد طلبت النخب الأرمنية المساعدة من المملكة المتحدة والولايات المتحدة لإعادة بناء أرمينيا الكبرى، فيما طلبت النخب الأذرية الدعم العثماني ومن ثم البريطاني.
الحرب ضد الجيش العثماني وبين الجمهوريات الناشئة انتهت بظهور الجيش الأحمر الذي سيطر على المنطقة في 1920-1921. وفي عام 1922، تم إنشاء جمهورية القوقاز الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، التي وحدت الجمهوريات الثلاث. وفي وقت لاحق، أصبح اتحاد القوقاز جزء من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، إلى جانب روسيا الاتحادية وجمهوريتي أوكرانيا وبيلاروس.
مسألة القوميات
طالما كان الحق في تقرير المصير بالنسبة للشعوب المضطهدة، بما في ذلك الحق في الانفصال، جزء من برنامج الحزب البلشفي في عهد لينين. ومن الأمثلة على ذلك فنلندا، فبعد فترة وجيزة من استيلاء البلاشفة على السلطة، أرسل مجلس الشيوخ الفنلندي وفدا إلى بتروغراد يلتمس لاستقلال فنلندا، وقد قام لينين بتوقيع ذلك القرار على الفور.
ولكن، بعد سنوات قليلة من استيلاء السوفييت على السلطة، ارتد ستالين عن البرنامج البلشفي، وعارض حق تقرير المصير، واقترح عوضا عن ذلك الحكم الذاتي تحت وصاية الاتحاد السوفياتي.
كان هذا الجدال موضوع نقاش مكثف بين البلاشفة، وانتهى بهزيمة ستالين وانتصار لينين وتروتسكي وغيرهم من القادة. وكانت النتيجة إدراج حق تقرير المصير للشعوب المضطهدة في الدستور السوفياتي الأول.
بعد وفاة لينين، وبهزيمة الثورات الأوروبية وإضعاف الثورة الروسية، سيطر ستالين على الحزب الشيوعي والدولة السوفياتية، التي أصبحت بيروقراطية. ولم يعد حق تقرير المصير نافدا، وبات الاتحاد السوفييتي “سجنا” لمختلف القوميات.
مسألة ناجورنو كاراباخ
تاريخيا، اختلط الناس الذين يعيشون في جنوب القوقاز ببعضهم البعض وعاشوا ذلك في سلام نسبي. والمناطق التي كانت تعيش فيها أغلبية من عرق معين ضمت أيضا أقليات مهمة من أعراق أخرى. وهذا هو حال ناجورنو كاراباخ.
في مناطق كاراباخ المرتفعة (ناغورنو كاراباخ) يشكل الأرمن معظم السكان بنسبة 80٪. بينما تاريخيا، عاشت أغلبية أذربيجانية في الأراضي المنخفضة من كاراباخ. وقد عاشت كلتا المجموعتين في تلك المناطق معا لعدة قرون.
بين عامي 1921 و1923 كان هناك نقاش داخل الحزب البلشفي حول ناغورنو كاراباخ. وكان موقف وفد القوقاز بأكمله (الذي شكله الأرمن والأذريون والجورجيون) هو دمج ناغورنو كاراباخ بأرمينيا. لكن ستالين فرض حلا آخرا، حيث أعطى منطقة زانجيزور لأرمينيا ومنطقتي ناختشيفان وكاراباخ (العلوية والمنخفضة) لأذربيجان.
ما زاد الأمور سوءاً، قيام ستالين في عام 1936 بحل جمهورية القوقاز الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، وتقسيمها مرة أخرى إلى جمهوريات أرمينيا وأذربيجان وجورجيا السوفياتية، وقد وضع هذا الأساس للصراع الذي عاد للظهور، بعد نصف قرن من ذلك الوقت، عام 1988.
نهاية «سجن الشعوب» وسموم الخصومات القومية
في الثمانينيات، صعد ميخائيل جورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفياتي، ودشن الصيرورة السياسية المتمثلة بالعودة إلى الرأسمالية عبر برامجي البيريسترويكا (إعادة الهيكلة) والجلاسنوست (الشفافية).
الأمم المضطهدة بدأت في محاربة دكتاتورية الحزب الشيوعي السوفياتي، ما أدى إلى قيام دولة رأسمالية ذات قبضة حديدية.
في 20 شباط 1988، صوت سوفييت كاراباخ لصالح استقلال ناغورنو كاراباخ (التي يطلق عليها السكان المحليون اسم آرتساخ) وتوحيدها مع أرمينيا بأغلبية 110 أصوات مقابل 17 صوتا معارضا، وقد عارض غورباتشوف هذا القرار، ما أدى إلى الصراع العسكري بين أذربيجان وسكان ناغورنو كاراباخ المدعومين من أرمينيا.
عام 1991، أصبحت جمهوريتا أرمينيا وأذربيجان مستقلتين، وفي استفتاء أجري في ناجورنو كاراباخ، صوّت السكان لصالح الاستقلال.
استمر الصراع، وقد أجّجه نفوذ الجيش الروسي على كلا الجانبين، ما أدى إلى مقتل 30 ألف شخص، وتشريد مليون إنسان.
عام 1994، وضعت هدنة بوساطة روسية حدّاً للأعمال العسكرية وأصبحت ناجورنو كاراباخ مستقلة بحكم الأمر الواقع، ولكن دون منحها الحق في الاستقلال. أي أن السكان الأرمن المحليين كانوا يسيطرون على المنطقة، لكن استقلالها لم يتم الاعتراف به من قبل أذربيجان ولا من قبل الأمم المتحدة.
منذ ذلك الحين، كانت الهجمات العسكرية والقمع ضد الأقليات القومية تحدث بشكل دوري، الأمر الذي أدى إلى استمرار تخلف منطقة ناجورنو كاراباخ.
مصالح من على المحك في هذا الصراع؟
العداء الإقليمي بين أرمينيا وأذربيجان يهم روسيا والقوى الإقليمية والدولية الأخرى بشكل مباشر.
روسيا تبيع الأسلحة لكلا البلدين، وتحتفظ بقواعد عسكرية فيهما، ما يبقيهما تحت نفوذها؛ وهذا يضمن استمرار السيطرة على منطقة القوقاز وثرواتها.
بدء من عام 1991، أقامت تركيا علاقة وثيقة مع أذربيجان، حيث تتركز احتياطيات المنطقة من النفط والغاز.
عام 1993، وصل عميل الكيه جي بي السابق حيدر علييف إلى السلطة في أذربيجان، وخلفه ابنه إلهام علييف في عام 2003. وقد روج هذا النظام الرأسمالي الاستبدادي لشكل من أشكال القومية السامة ضد الأقلية الأرمنية، في الوقت الذي تخلى فيه عن السيطرة على استخراج النفط والغاز للشركات الغربية والروسية متعددة الجنسية. وفي الهجوم الحالي ضد ناجورنو كاراباخ، اشترى النظام الأذري الأسلحة الإسرائيلية والروسية، متمتعا بدعم تركيا، التي أغلقت حدودها مع أرمينيا منذ عام 1993.
كانت أرمينيا تخضع لنظام استبدادي، أطاحت به ثورة شعبية في عام 2018. ومع ذلك، فإن النظام الديمقراطي البرجوازي الحالي روّج أيضا لقومية سامّة ضد أذربيجان، وبات يراهن على بناء علاقات مميزة مع كل من روسيا وأوروبا والولايات المتحدة.
علينا العودة إلى لينين
ما يقوم به نظاما أرمينيا وأذربيجان الآن هو حرب أبدية متقطعة، وقمع قومي ضد الأقليات في بلديهما. وفي الوقت نفسه، سلّما اقتصاديهما للرأسماليين الدوليين، مبقين نفسيهما في دائرة النفوذ السياسي الروسي.
هذا الوضع لا يساعد على حل مشاكل الطبقة العاملة، التي تعاني من البطالة، واللامساواة الاجتماعية، والصراع القومي، والهيمنة الأجنبية.
على العكس، مصالح واحتياجات الطبقة العاملة الأرمنية والأذربيجانية تبدأ بحق تقرير المصير للقوميات المضطهدة، واحترام الأقليات القومية، كما دافع عنها لينين. في نهاية المطاف، ما المغزى من سيطرة النظام الأذربيجاني عسكريا على ناجورنو كاراباخ، حيث عاش الأرمن لقرون من الزمن؟ لتعزيز المزيد من القمع والتطهير العرقي؟ لا بد من أن يتمتع سكان ناجورنو كاراباخ بالحق في تقرير المصير، كما يجب أن يتمتع السكان الأذريون في منطقة كاراباخ السفلى، التي كانت تحت السيطرة الأرمينية، بنفس الحق. لا يوجد شعب حر إذا اضطهد شعبا آخر. إن الطريق إلى الحرية يبدأ بالاحترام المتبادل، والاعتراف بحقوق الأمم المضطهدة.
هذا الأمر يمكن تحقيقه في ظل جمهورية سوفييتات اتحادية اشتراكية جديدة لمنطقة القوقاز، تضم أرمينيا وأذربيجان وجورجيا. وبإزالة كافة القوات العسكرية الأجنبية، ووقف التدخلات الخارجية، يصبح بإمكان شعوب المنطقة العيش معا في سلام مرة أخرى.
لجعل هذا البديل واقعا حقيقيا، يتعين على الطبقة العاملة في البلدين الإطاحة بكلا النظامين، وتجاوز القومية السامة، والمضي في طريق سلطة الطبقة العاملة. هذا هو الطريق الوحيد نحو العدالة الاجتماعية والسلام والاستقلال الوطني.
ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس شمس