الأثنين سبتمبر 09, 2024
الإثنين, سبتمبر 9, 2024

استعادة الرأسمالية في كوبا

النظرية الماركسيةاستعادة الرأسمالية في كوبا

 

مناظرة بين الرابطة الأممية للعمال- الأممية الرابعة والوفد الكوبي في المنتدى الاشتراكي العالمي لعام 2001

مارتن هيرنانديز، القيادي في الرابطة الأممية للعمال- الأممية الرابعة، عقد ورشة عمل حول استعادة الرأسمالية في كوبا بالمنتدي الاشتراكي العالمي في بورتو أليغيري.

بحضور أكثر من 200 شخص، هذه المناظرة توقعتها “ساعة الصفر” الصحيفة الرئيسية في بورتو أليغيري، والتي نقلت تصريحات من كلا الجانبين: ريكاردو ألاركون، رئيس الجمعية القومية الكوبية، أعلن أنه في كوبا “لم نقم بخصخصة أي شيء”، فأجاب مارتن هيرناندز “هذا ليس صحيحاً”، وبعد الاقتباس من نماذج عديدة خلص إلى أن “إدارة كاسترو لديها ازدواجية في المعايير: يطلقون التصريحات في صالح الاشتراكية ولكن يتخذون خطوات باتجاه استعادة الرأسمالية”.

في مقدمة الرابطة الأممية للعمال- الأممية الرابعة، و 20 منظمة أخرى من دول مختلفة، فإن نصف أعضاء الوفد الكوبي الرسمي (6 من 12) شاركوا في المناظرة.

وتاليا نسخة عن مداخلة مارتين هيرنانديز وبعض أبرز الخطابات لكل من المؤيدين والمعارضين.

تنشر بالعربية لأول مرة. وإننا نؤمن أن كل مناضل من أجل الحرية سيحصل على دروس من هذه المناظرة من أجل النضالات القادمة للتحرير.

مقدمة مارتين هيرنانديز

الموضوع الذي سنتطرق إليه في ورشة العمل هذه بغاية الأهمية، وهذا هو سبب اعتقادي بأنه كان هنالك خطأ من قبل منظّمي المنتدى يتمثّل بعدم تسليطهم الضوء على المسألة الكوبية بكلّ عمقها خلال المؤتمرات المركزيّة.

أقول هذا لأسباب مختلفة. بداية لأننا نتمتع بامتياز الحصول على عدّة ممثّلين للدولة الكوبية بيننا، كريكاردو ألاركون، رئيس الجمعية الوطنية في كوبا، بالإضافة إلى تواجد رفاق آخرين. وإن هذه فرصة فريدة لآلاف الرفاق الذين يشاركون في هذه الفعالية لمناقشة كوبا في العمق. هذا ما نفعله الآن، في ورشة العمل هذه، ولكنه غير كاف.

ولكن لماذا مناقشة كوبا بالغة الأهمية بالنسبة لهذا المؤتمر؟ لأن من اهتمامات المنتدى الاشتراكي العالمي الردّ على سلسلة من القضايا التي تشكل مصدر قلق كبير للنشطاء الاجتماعيين والسياسيين والعماليين. هنالك ثمة قضايا كالجوع، والعنف، والإسكان، والبطالة، والاستغلال. لأنها قضايا دراماتيكية، حيث أننا نشهد تدمير قطاعات سكانية بأكملها. وقد عقد المؤتمر تحديداً ليتجاوب، أو على الأقلّ يحاول الاستجابة لهذه المعضلات التي تواجه البشرية، وبأخذ هذا بعين الاعتبار فإنه لا يمكن الفشل في تحليل مثال كوبا.

 حل المشاكل التي تواجهنا

كانت كوبا إحدى البلدان الأكثر فقرا، والأكثر بؤسا في أميركا اللاتينية. وقد أثبتت الثورة الكوبية على أية حال أن هذه المشاكل، التي لا تمكن معالجتها من قبل الدول الأخرى في المنطقة، بل إن بعضها -كمشكلة البطالة- لا يمكن حتى للدول العظمى معالجتها، كل هذه المشاكل بدأت بإيجاد حلول لها بعد الثورة.

لم يعد هنالك مكان للبطالة بعد الثورة في كوبا، بعد الثورة في كوبا لم تعد هنالك مشاكل صحية، التأمين الصحي الذي نرغب جميعا بالحصول عليه، تأمين لكل الجماهير وليس فقط لأصحاب الامتيازات، تم تحقيقه في كوبا، وأكثر من ذلك فقد تم إحراز تقدم هائل في مجال الأبحاث الطبية والدوائية. وقد تم إحراز الشيء ذاته في مجالات أخرى، كالإسكان والتعليم. كما انعكس هذا التقدم في مجالات أخرى، كالرياضة.

بعد الثورة أصبحت كوبا قوة عالمية للرياضة

لقد قيل إنه نظرا لقيام الدولة الكوبية باختيار الرياضيين، وإخضاعهم لتدريب مكثف، وإعطائهم كل أنواع المنشطات التي تتيح لهم  التنافس بما يوازي ظروف رياضيي الولايات المتحدة الـ 152. إذا كان الأمر بهذه السهولة فلماذا لا تفعل البرازيل الشيء ذاته؟ بحيث تحصل على أكوام من الميداليات الأولومبية. لماذا لا تفعل فرنسا أيضا نفس الشيء، لماذا تعدّ كوبا قوة رياضية أفضل من فرنسا أو إسبانيا أو إنجلترا؟

بإمكاننا الحديث أيضا عن الأمية، التي تفشت في العالم كله خلال الخمسين سنة الأخيرة. الدول التي لم تسجل معدلات أمية كما هو الحال في الأرجنتين اليوم، بعكس كوبا، حيث أن هنالك مئات الآلاف من الأميين. وفي المقابل كانت كوبا قد شهدت إحدى أعلى معدلات الأمية،  ولكنها اليوم تكاد أن تتخلص منها تماما.

نظرا لكل هذا فإن كوبا تستحق أن تعدّ قضية أساسية في هذا المنتدى، لم تحقق كوبا كل ما حققته بسبب معجزة، وإنما نتيجة الثورة. الثورة التي لم تقتصر على هزيمة باتيستا، بل تجاوزت ما هو أبعد من ذلك وقطعت ارتباطها بالرأسمالية، وقطعت ارتباطها بالإمبريالية، ثورة جردتهم من الملكية الخاصة، وبهذا وضعت الاقتصاد نفسه في خدمة البلاد، الاقتصاد المخطط هو الذي يفسر ما قد يبدو معجزة.

ومن الجدير بالاهتمام على أية حال أن نشهد معظم الذين يقودون هذا المنتدى وهم يقولون لنا: “اليوم من المثالية أن نحاول أو نفعل ما فعلته كوبا في الستينيات”، حسنا، دعونا نتناقش، أنا أعتقد أن محاولة أو إنجاز ما حققته كوبا منذ العام 1959 وما تلاه، مهمة صعبة بالنسبة لأي بلد. لا يؤمن أحد بسهولة القضاء على الجوع والبطالة، الاستمرار بثورة اشتراكية ليست مهمة سهلة، ولكن لم ندعوا هذا بالطوبوية مادام الواقع قد أثبت إمكانية إنجازه؟

ما أعتقده طوبويا هو الاعتقاد بأنه عبر إضفاء الطابع الديمقراطي على الأمم المتحدة -المنظمة العالمية التي تتحكم بها الإمبريالية- فإن كل الدول ستبلغ ذات الظروف، دول العالم المضطهدة تشكل الأغلبية الساحقة بينما تشكال الدول المضطهدة الأقلية. كم قوة إمبريالية توجد هناك؟ سبعة أو ثمانية؟ الدول المضطَهدة تبلغ نحو المائتين. الحلم بأمم متحدة ديمقراطية هو كالحلم بقيام الدول المضطَهدة بفرض شروطها على الدول المضطهِدة. إن هذه فكرة خيالية بل ومستحيلة. لماذا؟ لأنه لا تتخلى أية قوة إمبريالية عن مصالحها، بصرف النظر عن كيفية تصويت أية دولة بشكل “ديمقراطي”. الامبريالية لن تقبل شروطا على الإطلاق. هذه الأمم”الديمقراطية” يمكنها التصويت على حل صندوق النقد الدولي، ولكن هل سيتم حل الصندوق بهذه الطريقة؟ بإمكانهم التصويت على أنه لا ينبغي للولايات المتحدة استغلال أو مهاجمة أية أمة أخرى. بالتأكيد يمكنهم التصويت على ذلك، ولكن هل ستلتزم الو لايات المتحدة بنتائج مثل هذا التصويت؟ لا أعتقد ذلك. لذا فإن هذا الحلم طوبويا للغاية. لم يحدث مثل هذا الشيء على الإطلاق، ولا توجد أي مؤشرات على إمكانية حدوثه ذات يوم. هل باستطاعتك تسمية أية دولة إمبريالية تخلت عن كونها إمبريالية نتيجة تصويت؟

وفي المقابل فإن الرؤية الكوبية ليست طوبوية على الإطلاق. إنه عمل صعب ويتطلب جرأة، ولكن هل هناك طريقة أخرى لتجاوز الجوع والبطالة؟ ما هي الدول الرأسمالية وما هي القوى العظمى التي تدبرت أمرها لوضع حد للبطالة؟ لا يوجد، لأن البطالة متأصلة في الرأسمالية. طالما أن هنالك رأسمالية ستكون هناك بطالة. إذا كانت حماية الثورة الكوبية وديمومتها الراهنة طوبوية فأنا طوبوي، مع أني لا أعتقد ذلك. يبدو لي أنه لحماية الثورة الكوبية ينبغي أن تكون واقعيا، واقعيا للغاية.

تغيير عميق جدا تشهده كوبا

ومع ذلك، فإن هذا هو جوهر النقاش على وجه التحديد، ما نشهده اليوم هو وجود تغيير كبير جدا في كوبا. تلك الإنجازات العظيمة التي كنا نتحدث عنها -والتي لا يمكن تفسيرها إلا بالثورة وبتجريد البرجوازية من الملكية الخاصة- يجري فقدانها اليوم. كثير منها تمت خسارته بالفعل، وبعضها بدأ بالذبول.على سبيل المثال حالة توفير فرص العمل الكاملة التي كانت قائمة في كوبا لم تعد موجودة على الإطلاق. بيانات العام 1994 تخبرنا بأنه وقتها كان هناك 160000 عاطل عن العمل، وأكثر من  400000 عامل تنبغي إعادة تصنيفهم. التأمين الصحي والتعليم كلاهما -المجالان اللذان كانا مصدر فخر ليس للكوبيين فحسب، بل لكل الثوريين الذين دافعوا وسيبقون يدافعون عن الثورة الكوبية- يتدهوران تدريجيا أكثر فأكثر.

هناك حالات درامية تشهدها كوبا اليوم وتحزن الثوار الذين يزورون الجزيرة هذه الأيام، كعودة الدعارة على نطاق واسع. لماذا يحزننا هذا؟ لأنه آفة الرأسمالية وكل المجتمعات الطبقية، هذه الدراما للرجال والنساء الذين أرغموا على بيع أجسادهم ليتمكنوا من البقاء، كانت سمة مميزة لكوبا قبل الثورة. أظن أن الجميع هنا يعلمون أنه في فترة باتيستا كانت كوبا تدعى ببيت دعارة الولايات المتحدة. كبار رجال الأعمال الأميركيين كانوا يمارسون في كوبا شيء يتطور اليوم بسرعة في البرازيل، هو السياحة الجنسية. الثورة الكوبية أنهت هذا ليس بقتل المومسات، بل بتحقيق الإمكانية لآلاف النساء للبقاء بوسائل أخرى. ولكن هذه المعضلة التي اختفت بمخرجات الثورة تعاود الظهور اليوم بشدة في كوبا وبشكل كبير لدرجة أن الحكومة الكوبية عندما تتحدث عن الدعارة عادة تصفها بـ “امتطاء النساء”.

وكيف يمكننا تفسير هذا الوضع الجديد في كوبا؟ أبلغت مرارا بهذه القضايا. البيانات ليست محط نقاش. أودّ أن أوضح أمرا واحدا، أن كل البيانات التي اقتبستها في هذا التقرير -بلا استثناء- هي إما من تقارير الإدارة الكوبية أو تقارير صدرت عن منظمات كوبية تساند الحكومة. لذا فإن هذه الحقائق ليست محط نقاش. قد ينشأ النقاش عند محاولة تفسير سبب حدوث هذه الأمور.

أعذار الحكومة الكوبية

هناك حجتان قدمتهما الحكومة الكوبية والمدافعين عنها لتبرير ما يحدث اليوم هناك. الحجة الأولى هي الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة والقوانين الجديدة لتعزيز هذا الحصار، كقوانين توريسيلي وهيلمز بارتون. أما الحجة الثانية فهي حقيقة الأمر امتداد للأولى، وهي انهيار الاتحاد السوفياتي، فالحقيقة تقول أن هذا هزّ الاقتصاد الكوبي إذا ما أخذنا الصادرات والواردات بعين الاعتبار. هذه هي الحقيقة الكامنة وراء الانخفاض الحاد للناتج المحلي الإجمالي.

باعتقادي أن كلتا الحجتين تحتملان شيء من الحقيقة، فما هو هذا الجزء من الحقيقة؟ كلاهما الحصار وانهيار الاتحاد السوفياتي كان لهما أثرهما الكبير على الاقتصاد الكوبي، ولكن باعتقادي أن هاتين الحجتين ليستا سوى أنصاف حقائق، كونها لا تفسر الوضع الراهن في كوبا. أولا صحيح أن الحصار مفروض ويهدف إلى وضع نهاية للثورة، كما هو الحال دائما، وفوق الحصار كان هناك الغزو في خليج الخنازير كما حاولت وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية اغتيال فيديل كاسترو. إذا لماذا أقول إنها مجرد أنصاف حقائق؟ لأن الحصار موجود منذ أربعين سنة إلى الآن، وكانت كوبا قد حققت “المعجزات” التي ذكرتها خلال الحصار ورغم الحصار. الحصار ليس مسألة بزغت في هذه السنوات السبع أو الثمان الماضية.

أما فيما يتصل بانهيار الاتحاد السوفياتي، فإنه أثر بلا شك على الاقتصاد الكوبي لدرجة أن الناتج المحلي الإجمالي بدأ بالانخفاض بمعدل 18% سنويا، هذه مسألة منطقية وخاصة في الاقتصاد المخطط، حيث سيتأثر السكان بأسرهم جراء هذا الوضع كما أن كثيرا من المنجزات يمكن أن تضيع. ولكن ما هي المشكلة التي تدفعني إلى القول بأن هذا أيضا هو نصف الحقيقة؟ المشكلة أن هذا الانخفاض للناتج المحلي الإجمالي الذي قد يفسر الوضع الراهن في كوبا قد توقف منذ وقت بعيد، فخلال هذه السنوات الخمس الأخيرة بات هناك نموا مطردا في الاقتصاد الكوبي، وسأقتبس بعض الأرقام: في العام 1995 بلغ النمو الاقتصادي 2.5% وفي 1997 بلغ هذا النمو نحو 8% وفي 1999 وصل إلى 6.2%، هنا يبدأ النقاش: طالما أن هناك نمو مطرد للاقتصاد، لماذا ينخفض المستوى المعيشي للسكان والاقتصاد المحلي للعمال بشكل مستمر؟ هذا لن يكون مفاجأ في دولة رأسمالية. في البرازيل، على سبيل المثال، قد يكون هنالك نموا ملحوظا في الاقتصاد وسيقول منظرو البرجوازية: “إننا في حالة جيدة للغاية”، هذا ما حدث في سنوات “المعجزة”، ولكن العمال نظروا في جيوبهم وتساءلوا: “أين هو هذا النمو الاقتصادي”؟ في دولة مثل كوبا كان من المنطقي أن ينزلق اقتصاد الناس عندما كان هنالك انخفاض في الاقتصاد العام للبلاد، ولكن العكس سيكون منطقيا أيضا. عندما يكون هناك نمو اقتصادي كلي وعندما يرتفع الناتج المحلي الاجمالي، ينبغي أن تكون هناك بداية لعملية إنقاذ المنجزات التي تواجه التهديد، وهذا تحديدا هو ما لا يحدث. هذا ما علينا مناقشته. ينبغي أن يكون هناك تفسير واضح، تفسير موضوعي، لحقيقة موضوعية على حد سواء.

دور رأس المال الأجنبي

ما هو هذا التفسير؟ سأستعرض جملة من النظم التي شهدتها كوبا خلال السنوات الماضية لاسناد وجهة نظري، في العام 1995، أصدرت الحكومة الكوبية مشروع قانون الاستثمارات الأجنبية. وتنص المادة 10 من هذا القانون على أنه: “يمكن السماح بالاستثمار الأجنبي في كافة المجالات باستثناء الرعاية الصحية والتعليم والمؤسسات المسلحة، سأقولها مرة أخرى: هناك قانون يسمح بالاستثمارات الأجنبية في كل هذه القطاعات، فما هي الشروط؟ المادة 3 من هذا القانون تنص: “الاستثمارات الأجنبية على الأراضي الوطنية ستستفيد من الحماية والأمن بشكل كامل، ولا تمكن مصادرتها إلا في حالة أن مثل هذا الإجراء قد اتّخذ لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة أو المصلحة الاجتماعية”. في هذه الحالة، ينبغي القول، في حال أنه ثبتت ضرورة المصادرة يفيد مشروع القانون بأنه ينبغي دفع تعويض “بالعملة القابلة للتحويل بحرية بقيمة تجارية محددة ضمن اتفاق مشترك”. والآن دعونا نلقي نظرة على المسألة الثالثة، والتي هي الأخطر باعتقادي. المادة 3 من مشروع القانون ذاته تنص على أنه:

“تكفل الدولة للمستثمر الأجنبي الحق في حرية التحويلات المالية إلى خارج البلاد لأي من المنافع التي حققها باستثماره، بعملة قابلة للتحويل بحرية، ومعفاة من الضرائب ومن أية التزامات أخرى”، بمعنى أن هذا القانون يجيز للشركات الأجنبية أن ترسل لخارج البلاد أية مكتسبات يمكن الحصول عليها وأن هذه العملية معفاة من الضرائب وأنه لا يوجد ما يلزم بإعادة استثمار تلك المكتسبات المالية في البلاد. ولكن الأسوأ لم نأت على ذكره بعد. المادة 29 تنص على أنه للمستثمرين الأجانب “الحق -وفقا للأحكام القانونية- تصدير منتجاتهم مباشرة، واستيراد -أيضا بشكل مباشر- كل ما يلزم لبلوغ هذا الهدف”.

ماذا يعني هذا؟ في السابق كان هناك احتكار للتجارة الخارجية التي تتولاها الدولة الكوبية، كانت الدولة هي التي تستورد وتصدر وتتحكم بتدفقات العملة. مشروع القانون الجديد هذا وضع نهاية للأمر بالسماح لأية شركة بالاستيراد والتصدير بشكل مستقل عن الدولة.

لماذا أقرأ هذه المواد؟ لأنه إذا ما فرض مشروع القانون هذا سيكون هو التفسير لسبب وجود نمو اقتصادي لا يسهم في تحقيق مصالح الناس. وقد قيل أن مثل هذه التدابير، التي تهدف إلى تشجيع الاستثمارات الأجنبية، مبررة بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي، هذا جيد جدا إلى حد ما، ولكن هناك مشكلة. هذه الخطوات اتخذت أول مرة قبل عشر سنوات من انهيار الاتحاد السوفياتي. انهيار الاتحاد السوفياتي كان في العام  1992 وأول مشروع قانون للاستثمار الأجنبي في كوبا كان سنة 1982 والقانون الذي قرأته للتو كان منذ العام 1995، وهو ليس إلا نسخة محسنة عن الرسوم رقم 50 للعام 1982، الذي يتناول تماما القضية ذاتها. عليّ التشديد على أن مرسوم 1982 مضى عليه 10 سنوات قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، بل وخمس سنوات قبل البيروسترويكا. المرسوم رقم 50 يستهدف جلب الاستثمارات الأجنبية في قطاع يشكل أهمية استراتيجية للاقتصاد الكوبي، وهو السياحة. واعتبارا من 1992 تم توسيع النطاق ليشمل مجالات أخرى، من بينها الصناعات الدوائية. وهنا أود أن أطرح تساؤلا آخرا، رئيس الجمعية الوطنية لكوبا، ريكاردو ألاركون، الذي تحدث في جلسة الأمس الرئيسية، قال إنه لا توجد خصخصة في كوبا، بيد أن الحقائق تثبت ما هو مغاير لذلك تماما. وعلاوة على ذلك في العام 1991 أقرت الجمعية التي يقودها إصلاح الدستور، ما يهدف جوهريا إلى التمهيد للحق في الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، لذا فإنه في سنة 1993 كانت هناك إمكانية حتى للبنوك الأجنبية لتمارس عملها. في 1994 أعلن أنه لا يوجد قطاع إنتاجي، باستثناء الرعاية الصحية والتعليم، إلا ويمكنه استقبال الاستثمار الأجنبي، وفي تلك السنة ذاتها أعلن عن إنهاء احتكار الدولة للتجارة الخارجية.

وبالعودة إلى 1993 كانت هناك بداية لنمط اقتصادي جديد في الريف الكوبي: الوحدات الأساسية للإنتاج التعاوني، ما الذي تغير؟ سابقا كانت الدولة هي المالكة للأرض، بحيث يسلم المزارعون محاصيلهم للدولة التي تتابع توزيع الإنتاج بناء على خطة. الآن وجود هذه الوحدات الأساسية للإنتاج يعني أن الدولة مازالت هي المالكة للأرض، ولكن تسلمها إلى الحاصلين على التراخيص الخاصة والذين هم ملاك الإنتاج. وكما تعلمون فإن كوبا بلد يستند إلى زراعة قصب السكر، وفي عام 1994 كان 80% من الأراضي المخصصة لإنتاج قصب السكر مملوكة من قبل الوحدات الأساسية، يعني هذا أن 80% من الأراضي استغلت وفقا للمعايير الرأسمالية، حيث يعود الإنتاج لملاك من القطاع الخاص، وجزء كبير منه يذهب إلى الأسواق الزراعية الجديدة، التي يتم فيها تحديد الأسعار بناء على قوانين العرض والطلب.

في الأوقات السابقة كنا نتناقش مع المجموعات اليسارية الماركسية المتنوعة حول طبيعة الدولة الكوبية، مثلا أنا جزء من منظمة كانت تؤمن بأن الدولة الكوبية هي دولة عمال، في حين عدّها آخرون دولة اقتصاد شعبي، فيما عدها غيرهم دولة اشتراكية. كانت هناك آراء مختلفة، ولكننا اتفقنا جميعا على أية حال أن الدولة كانت مختلفة كليا عن الدول الرأسمالية. لماذا كان هذا الإجماع اليساري على اعتبار أن كوبا ليست دولة رأسمالية؟ لأننا اتفقنا جميعا على أن كل وسائل الإنتاج، من مصانع وأرض وما إلى ذلك، لا تعود لطبقة اجتماعية، البرجوازية، بل كانت ملكا للدولة. وبعيدا عن هذا كان هنالك مسألة أساسية، موجودة أيضا في الدول الاشتراكية الأخرى التي جردت البرجوازية من الملكية الخاصة، هي التخطيط المركزي. وعلاوة على ذلك كانت توجد في كوبا هيئة للتخطيط، هي هيئة التخطيط المركزي، والتي كانت مسؤولة عن التخطيط لما يتم إنتاجه، وكيفية إنتاجه وتوزيعه. والمسألة الثالثة التي تحدثت حولها هي احتكار التجارة الخارجية.

استعادة الرأسمالية تجري اليوم في كوبا

حسن أيها الرفاق، بين يدي بعض الأرقام التي قدمتها الحكومة الكوبية، من قبل اقتصاديين يعملون لدى الحكومة. وفقا لهذه الأرقام فإن الركائز الأساسية الثلاث تلك لم يعد لها أي وجود. لم يعد هنالك اقتصاد مخطط. لم يعد احتكار الدولة للتجارة الخارجية موجودا. ولم يعد هناك اقتصاد تعود ملكيته للدولة. النقطة الأخيرة مازالت موجودة فقط بشكل جزئي وهي آخذة بالتلاشي. وهذا هو سبب اعتقادي بأن ما حدث في كوبا -بعكس ما قاله الاركون أمس- هو استعادة الرأسمالية. استعادة لم تتم نتيجة غزو “الغوزانوس”، بل تم استحضارها من قبل الحكومة الكوبية ذاتها. وبالطبع هناك تناقض. كل القيادة الكوبية تقول شيء مختلفا تماما: “لن نتخلى أبدا عن الاشتراكية”. هذه التصريحات غير مدعومة بحقائق، وهذا ليس مفاجئا في كل تلك البلدان التي تشهد استعادة للرأسمالية، فالاستعادة يجري التمهيد لها باسم الاشتراكية. مثلا، عندما بدأت البيروسترويكا في الاتحاد السوفياتي السابق، كان غورباتشوف يقول تماما ما يقوله فيديل اليوم. يقول في كتابه “البيروسترويكا، أفكار جديدة لبلدي وللعالم”: “هدفنا هو تقوية الاشتراكية.. ما يعرضه الغرب علينا على الصعيد الاقتصادي غير مقبول بالنسبة لنا، وبينما كان يقول هذا انهمك في استحضار الرأسمالية.

أرى أن ما نشهده في كوبا اليوم هو استعادة للرأسمالية. بالطبع هذه نقطة قابلة للنقاش، ولكن على أولئك الذين يعتقدون أن ما يجري ليس ارتدادا أن يخبروني ما هو. مثلا هنالك أولئك الرفاق الذين يدرسون القضية بجدية ويقولون أن ما يجري في كوبا اليوم هو ما كان يجري في السنوات الأولى للثورة الروسية، في زمن لينين، عند تطبيق السياسة الاقتصادية الجديدة. والآن هذا نقاش هام. لن يكون لدي الوقت الكافي للغوص في التفاصيل، ولكن أود أن أقول أمرا واحدا حول القضية: السياسة الاقتصادية الجديدة تعني (وهو ما قالته القيادة البلشفية) تنازلات تمنح للرأسمالية من أجل تطوير بعض المناطق التي لا تستطيع دولة العمال الحديثة تولي مسألة تطويرها. هذا ما كان عليه الأمر. ولكن ما هو الفرق النوعي بين هذا وبين ما يجري اليوم في كوبا؟ الفرق أن هذه التنازلات قدمت في إطار التخطيط المركزي، الذي لم يتم التخلي عنه أبدا، وفي إطار احتكار الدولة للتجارة الخارجية. بعبارة أخرى إن ما حدث حينها كان استخدام آلايات الرأسمالية لصالح تطوير دولة العمال الحديثة، وهو ما أثبتته النتائج. يمكننا اقتباس الاحصائيات، مثلا خلال فترة السياسة الاقتصادية الحديثة ما تعزز -رغم التنازلات للرأسمالية- كانت ملكية الدولة، لذلك فإن الفروقات بين التجربتين نوعية.

لماذا يستمر الحصار؟

هذه مسألة أخرى تتطلب نقاشا واسعا. خلال المحاضرات السابقة أشار عديد من الرفاق إلى ما يلي: إذا كان صحيحا أن الرأسمالية تجري استعادتها في كوبا فلماذا مازال الحصار قائما؟ وأكثر من ذلك كيف تم تمرير قانون هيلمز برتون؟ هنالك نقطتان تنبغي معالجتهما هنا: هل صحيح أن الامبريالية تستمر في مهاجمة ومحاولة تدمير الدولة الكوبية؟ هذه أيضا نصف حقيقة. صحيح أن الحصار الاميركي مازال مستمرا. هذا صحيح. ولكن الولايات المتحدة ليست القوة الامبريالية الوحيدة. الامبريالية الأوروبية لا تهاجم الدولة الكوبية. إسبانيا على سبيل المثال هي المستثمر الأول في كوبا. هل يمكننا القول بأن اسبانيا تهاجم كوبا؟ هل يمكننا القول إن الاتحاد الأوروبي يهاجم كوبا؟ هل يمكننا القول إن الدول الرأسمالية في أميركا اللاتينية تهاجم كوبا؟ هل يمكننا القول إن البرجوازية الفنزويلية أو المكسيكية تقوم بذلك؟ طبعا يتوقف على هذه النقطة نقاش آخر طرح علي في مناسبات أخرى.

هنالك رفاق سبق وأن قالوا: “الامبريالية الاميركية شيء والحكومات الأوروبية شيء آخر”. لا أوافق على هذا. هل يمكن للامبريالية الأوروبية، اسبانيا، فرنسا، انجلترا أو ألمانيا أن تجلب أي خير لكوبا؟ هل الرأسماليين الأوروبيين أكثر تقدمية من نظرائهم الأميركيين؟ لا أظن هذا. الامبريالية الأوروبية تحاول إعادة استعمار كوبا، وفقط لندرك أي مستقبل سيكون لكوبا في حال حصل هذا يكفي إلقاء نظرة لرؤية كيف يعاملون مستعمراتهم. دعونا نسأل رفاقنا في الهند كيف تعاملوا مع الوضع عندما كانوا مستعمرة أوروبية. دعونا نسأل رفاقنا في شمال افريقيا، أو -دون أن نبتعد كثيرا- اخوتنا في أميركا اللاتينية حول ماهية الدور الاسباني. دعونا نسأل المستعمرات البرتغالية السابقة، بما فيها البرازيل، حول تجربتهم. السؤال الثاني: ألا تواصل الولايات المتحدة سياستها القديمة وكأن شيئا لم يحدث؟ كلا إنهم لا يقومون بذلك. هنالك برجوازية أميركية قوية تصارع لإنهاء الحصار حتى يتسنى لهم ممارسة أعمالهم في كوبا. لقد تم تشكيل مجلس تجاري أميركي- كوبي وتهيمن عليه قطاعات من البرجوازية الاميركية التي تصارع ضد الحصار. لماذا لم ينته الحصار؟ لأن هناك في الولايات المتحدة تناقض مع برجوازية “الغوزانو” القديمة، برجوازية الثورة المضادة التي هربت من الثورة، والتي تقف ضد إنهاء الحصار. لماذا؟ لأن مصلحة هذا القطاع البرجوازي لا تكمن في استعادة الرأسمالية فحسب، بل وفي استعادة ممتلكاتهم القديمة، ولهذا تدبروا أمرهم لتمرير مشروع قانون هيلمز برتون. البرجوازية الكوبية التي تعيش في فلوريدا -والتي هي جزء من البرجوازية الامريكية- لن يتم اسنادها باستعادة الرأسمالية في كوبا، فهم يصرون على استعادة أملاكهم السابقة وهذا هو سبب وجود التناقض مع القطاعات الأخرى للبرجوازية الاميركية التي تتوقع القيام بأعمال تجارية مع كوبا، كما هو حال الصناعات الدوائية القوية التي أقامت مؤخرا -بتصريح من كلنتون- سوقا في كوبا، استعدادا لإنهاء الحصار.

مسألة الديمقراطية في كوبا

في النهاية أيها الرفاق أود تناول موضوع آخر: مسألة الديمقراطية. عندما أتحدث عن الديمقراطية فأنا لا أتحدث عن الأجندة الانتخابية. أنا أتحدث عن شيء مختلف تماما. أنا أتحدث عن الديمقراطية بين أولئك الذين يدافعون عن الثورة. أولئك الذين ناضلوا في مواجهة كل من البرجوازية والامبريالية. في هذا المنتدى شاركت في مؤتمر عرض فيه ممثل اليسار الاسباني الموحد، مانيويل مونيريو، فيما يتصل بكوبا ما يلي: “لا يمكنني نقد كوبا طالما أن كوبا تحت حصار الامبريالية”. ببساطة لا أستطيع أن أتفق مع هذا المعيار، أنه عندما يعاني بلد ما هجوما فإن لا أحد يستطيع أن ينقد قيادته. إنها طريقة فظيعة للتفكير، لأن كوبا -وليست كوبا وحدها لأنه للحظة يمكن أن نتحدث عن بولندا أو روسيا- كانت تواجه الهجمة منذ اللحظات الأولى لتأميم البرجوازية. كوبا تتعرض للهجوم منذ الأربعين سنة الماضية. الاتحاد السوفياتي السابق كان يتعرض للهجوم منذ 1917. إذا اعتمدنا معيار أنه لا يمكن انتقاد قيادة بلد تتم مهاجمته، عندها سيكون قد حكم على هذا البلد بالهزيمة. حق النقد ليس مسألة خاصة بي فحسب، بل بالبلد. أعني أن ما يحدث الآن في كوبا ينبغي أن يكون موضوعا للنقاش ليس في هذا المنتدى فحسب، ولكن أيضا -وفي المقام الأول- في كوبا نفسها. وما أود معرفته هو ما إذا كان مثل هذا النوع من النقاش ممكنا في أي جزء من كوبا. هل هو ممكن؟ أنا لا أتكلم عن “الغوزانوس”، أنا أتكلم عن هؤلاء الذين يدافعون عن الثورة، سواء بشكل صحيح أو غير صحيح. وعلاوة على ذلك، يقال -وهو صحيح- أن كوبا تم عزلها. والسؤال هنا لماذا عزلت كوبا مادامت ثورة أميركا الوسطى قد تعلقت بها. علينا هنا تسمية الأشياء بمسمياتها. الحكومة الكوبية ضغطت على القيادات النقابية لضمان أن لا تصبح نيكاراغوا كوبا الجديدة. طبعا كانت للحكومة حجتها للدفاع عن هذا الموقف. القضية، على أي حال، هل كان هنالك نقاشا ديمقراطيا حول هذه المسألة؟ هل تمت مناقشة وجهة نظر تشي غيفارا القديمة حول هذه النقطة؟ غيفارا كانت له وجهة نظر مختلفة، وكان يصر على القول إنه من أجل حماية الثورة الكوبية يجب إقامة ثورة في أميركا اللاتينية. هذا هو جوهر مطلبه الشهير: “من أجل فيتنام أخرى وثانية وثالثة”. تشي غيفارا لم يقتل في بوليفيا صدفة. لذا أثير ذلك السؤال مرة أخرى: هل حظي العمال والمناضلون الكوبيون بالفرصة لإثارة بديلين أو ثلاثة للتعامل مع تلك الأحداث؟ السؤال نفسه يعرض علينا الآن: اليوم بين أولئك الذين يدعمون الثورة الكوبية داخل البلاد، والذين يفكرون بنفس الطريقة، أسأل مرة أخرى: هل هناك أية فرصة لمنتدى مفتوح داخل البلاد لمعالجة البدائل من أجل حرية كوبا الكاملة”؟

Check out our other content

Check out other tags:

Most Popular Articles