النسبة إلى الولايات المتّحدة، كما شهدنا على أرض الواقع، لا يتمثّل الهدف من حربها على الشعب الفلسطينيّ، وكلّ من يقف بجانبه، بفرض “نظام أميركيّ” جديد، بل استمرار حالة الحرب والصراعات وانعدام الاستقرار…
مع مرور سنة على حرب الإبادة، وغياب أيّ أفق لوقف المجازر الّتي ترتكب يوميًّا بحقّ سكّان قطاع غزّة، واتّساع الهجوم على لبنان بكلّ وحشيّته، يبدو أنّ هذه المآسي أصبحت هي “الحالة الطبيعيّة” لمنطقتنا. من الطبيعيّ أن نكون في حالة هلع، وأن نشعر بالعجز والشلل أمام وحشيّة المجازر والدمار غير المسبوق حتّى في تاريخ الصراع المليء بالقتل والنكبات على مدى أكثر من مئة عام. وبرأيي، فإنّ أحد أسباب العجز والشلل وغضبنا على أنفسنا يتمثّل في ما نلاقيه من مصاعب في تحليل الأحداث، وعدم استيعاب مفهوم المرحلة الراهنة من المواجهة التاريخيّة؛ بسبب كثرة التفاصيل المؤلمة.
حرب إقليميّة وكونيّة
هذه هي المرّة الأولى منذ 1973 الّتي تشمل فيها الحرب بين إسرائيل ومحيطها العربيّ عدّة جبهات بشكل متزامن، وإن كان البعض يشتكون من أنّ حزب اللّه “يكتفي بدور جبهة إسناد” أمام مآسي غزّة، فقد بادرت إسرائيل أخيرًا إلى تحويل لبنان إلى مسرح آخر لسفك الدماء بالجملة واستعراض قدراتها التدميريّة، ومن ثمّ تتراكم الاستفزازات الإسرائيليّة ضدّ إيران عبر محاولة جرّها إلى تعميق وتوسيع المواجهة. من جهة أخرى، بادرت كلّ من الولايات المتّحدة وبريطانيا، وأستراليا، والبحرين، وكندا، والدنمارك، وهولندا، ونيوزيلندا، جميعًا للتطوّع لقصف اليمن الفقير، عقابًا له على تضامنه مع الشعب الفلسطينيّ.
هذه أطول الحروب في تاريخ الصراع، منذ الثورة العربيّة الكبرى في فلسطين، الّتي استمرّت أربع سنوات (1936-1939). وإن بدأت الحرب بتوجيه أكبر ضربة عسكريّة للدولة الصهيونيّة من قبل المقاومة الفلسطينيّة في هجوم السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، فقد حدّدت حركة حماس للحرب أهدافًا تكتيكيّة محدّدة، كقطع الطريق أمام صفقات التطبيع على حساب تجاهل حقوق الشعب الفلسطينيّ، وفكّ حصار قطاع غزّة، وتبادل الأسرى، والحفاظ على الطابع الإسلاميّ لمسجد الأقصى.
أمّا إسرائيل، وبالاستناد إلى منطق مناف لشرعيّة الوجود الفلسطينيّ على “أرضها”، فهي ترفض حتّى تحديد أهداف سياسيّة لحربها، وترفض النظر في أيّ تصوّر لليوم الّذي يلي الحرب، ومن هنا تبنّت نظريّة “الحسم العسكريّ” ومحو الطرف الآخر، مع البيئة البشريّة الحاضنة له، ومن ثمّ لجأت إلى حرب الإبادة والتدمير لكافّة مقوّمات الحياة البشريّة. وها هي تطبّق العقليّة الإجراميّة ذاتها في حربها على لبنان أيضًا.
يقصف الفلسطينيّون واللبنانيّون وغيرهم من شعوب المنطقة بواسطة مقاتلات أميركيّة وباستخدام قنابل أميركيّة الصنع، ويمارس الإبادة الجماعيّة جنود تدفع رواتبهم من ميزانيّة الولايات المتّحدة، وتوفّر لهم هذه القوّة العظمى الحصانة من العقاب في جميع المحافل الدوليّة. فإن كانت الولايات المتّحدة قد طرحت نفسها، في المراحل الأولى، كوسيط يسعى إلى وقف الحرب، فقد كشفت عن وجهها الحقيقيّ أخيرًا، ولم تكلّف نفسها حتّى باقتراح “آخر فرصة لوقف إطلاق النار في غزّة” الّتي وعدت بها إعلاميًّا، كما ترفض اليوم الحديث عن وقف إطلاق نار في لبنان.
من يحدّد مسار الحرب؟
يميل المحلّلون في وسائل الإعلام إلى رسم صورة شبه كاريكاتوريّة للمحاور السياسيّة الّتي تتحكّم في مسارات هذه المواجهة. ويتحدّثون في كلّ مرّة، ومن جديد، عن محاولات أميركيّة لتهدئة الأوضاع أو لوقف إطلاق النار وإبرام صفقة تبادل للأسرى، ومن ثمّ نسمع صراخ وصياح بن غفير وسموتريتش وتهديدهما بإسقاط الحكومة، يليها تنكّر نتنياهو لأيّ وعود قطعها سابقًا وإعلانه عن خطوات أعنف لتوسيع العدوان، وينتهي الأمر بتوفير المزيد من الأسلحة والمال والتغطية السياسيّة والأمنيّة من قبل الولايات المتّحدة لأيّة مغامرة جديدة. والمطلوب منّا أن نصدّق أنّها حالة متطرّفة غريبة من التعبير الشعبيّ القائل بأنّ “الذيل هو الّذي يهزّ الكلب”، أو حتّى “القراد على ذيل الكلب هو ما يهزّه”، أو أنّ بن غفير يملي على أميركا المسكينة والضعيفة سياساته.
كان من الممكن أن نصدّق هذه المسرحيّة السخيفة لو كان الأمر يتعلّق بشخصيّة جو بايدن الصهيونيّ الخرف، ولكن دعونا لا ننسى أنّ الولايات المتّحدة هي دولة مؤسّسات، وأنّ هذه السياسة مدعومة وبقوّة وعناد من قبل جميع فروع حكومتها وأحزابها والأغلبيّة الساحقة في مجلس الشيوخ ومجلس النواب، وتروّج لها وتبرّرها صحفها المحافظة والليبراليّة على حدّ سواء، ويتجنّد لتنفيذها جيشها، وشركاتها العابرة للقارّات، وحلفاؤها الأوروبّيّين… فهل بن غفير فعلًا قادر على تحريكها جميعًا؟ ألم يحن بعد، أوان التعامل مع أميركا على محمل الجدّ، واعتبار أنّها قادرة على تشخيص مصالحها، ونحكم عليها من خلال أفعالها، وليس من خلال أقوالها الكاذبة؟
في كلّ محافل السياسة العالميّة تكرّر أميركا وحلفاؤها تأكيدها على ضرورة الحفاظ على “النظام العالميّ”، هذا النظام الّذي ينفي إمكانيّة وجود مكان آمن على وجه الأرض للشعب الفلسطينيّ… ويضمن هذا النظام، بركائزه الأهمّ، “التفوّق الإستراتيجيّ” لإسرائيل في وجه أيّ تحالف محتمل بين دول وشعوب المنطقة، ومن ثمّ ضرورة إبقاء شعوب المنطقة في حالة من القهر والتخلّف والفتنة. وفي محاولتهم لتمجيد وتبرير النظام العالميّ الإمبرياليّ، على النقيض من البدائل المعروضة، يفتخر أنصار هذا النظام بأنّه “نظام مبنيّ على الأخلاق”. فقد كشفت حرب الإبادة الإمبرياليّة – الصهيونيّة ضدّ الشعب الفلسطينيّ زيف هذه “الأخلاق” المزعومة، الّتي تعتمد على تفوّق “العرق الأبيض”، واسترخاص دماء الشعوب المضطهدة، بل واستباحتها.
لماذا تسعى أميركا إلى نشر الحروب؟
لقد تعوّدنا على النظر إلى أميركا بوصفها القوّة العظمى الوحيدة الّتي تتحكّم بمصير الإنسانيّة. إلّا أنّ الأمور قد تطوّرت، وبمعايير المنافسة الاقتصاديّة نافست الصين أميركا، بل تفوّقت عليها من عدّة نواح. وبحسب أحدث المعلومات، كانت الصين مسؤولة عن 31.6% من الناتج الصناعيّ العالميّ، مقابل 15.9% للولايات المتّحدة. وكانت الصين أيضًا المصدر الأوّل بفارق كبير، وهذا يعني أنّها تنتج السلع الّتي أراد الآخرون شراءها. وتعدّ الصين أيضًا الشريك التجاريّ الرائد لمعظم دول العالم.
ولكن، وحتّى مع تراجع القوّة الإنتاجيّة للاقتصاد الأميركيّ، فإنّ الولايات المتّحدة تحافظ على تفوّقها العسكريّ. في عام 2023، أنفقت الولايات المتّحدة على بناء جيشها 916 مليار دولار، مقابل 296 مليار دولار في حالة الصين. ولا يزال الجيش الأميركيّ منتشرًا في مختلف أنحاء العالم، باعتباره بقايا من مكانة الولايات المتّحدة كـ”شرطيّ العالم”. وللولايات المتّحدة (بحسب تقرير مؤسّسة أيبون) اتّفاقيّات عسكريّة ثنائيّة مع 179 دولة، و742 قاعدة عسكريّة في 82 دولة ومنطقة، و171736 عسكريًّا منتشرين في 177 دولة ومنطقة، فضلًا عن 1.2 مليون جنديّ متمركزين في الولايات المتّحدة نفسها. ورغم أنّها تنتج القليل من المنتجات المفيدة، فإنّ الولايات المتّحدة تحتفظ بمكانتها كأكبر مصدر للأسلحة بفارق كبير، مع أكثر من 40% من سوق الأسلحة الفتّاكة العالميّة.
ويفتخر المحلّلون الأميركيّون أنّ الولايات المتّحدة، حتّى لو كانت الصين الشريك الاقتصاديّ المفضّل لدى غالبيّة دول العالم، هي “الشريك الأمنيّ” المفضّل والأقوى الّذي لا بديل عنه. إلّا أنّ الإنسانيّة تميل إلى الاهتمام بقضاياها الحيويّة والبناء، والتطوير، والصحّة، والتعليم، وعدم صرف المبالغ الهائلة على “الأمن”، إلّا في حالة انعدام الأمن. ولكي تعزّز مكانها كشرطي العالم، وبوصفها الشريك الضروريّ والأهمّ، تعمل الولايات المتّحدة جاهدة على تفشّي عدم الاستقرار، وزرع الخلافات، ونشر الحروب. لقد نجحت الولايات المتّحدة، بفضل الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، في القضاء على أحلام الأوروبّيّين في الاستقلال وجعل القوى الأوروبّيّة “العظمى” خاضعة لها. كما أنّها تعمل اليوم على بناء شبكة من التحالفات العسكريّة في شرق وجنوب آسيا، تحضيرًا لحرب شاملة محتملة ضدّ الصين.
بالنسبة للولايات المتّحدة، كما شهدنا على أرض الواقع، لا يتمثّل الهدف من حربها على الشعب الفلسطينيّ، وكلّ من يقف بجانبه، بفرض “نظام أميركيّ” جديد، بل استمرار حالة الحرب والصراعات وانعدام الاستقرار، وإثبات تفوّق سلاحها وتكنولوجيّاتها للقتل والقمع، ومن ثمّ اصطفاف “أصدقائها” لطلب حمايتها وشراء سلاحها. ولا يختلف مشروعها عن مشاريع باقي عصابات الإجرام إلّا بمساحته الكونيّة وبقدراته غير المحدودة على الفتك.