✍🏾 فابيو بوسكو
في الأول من كانون الثاني الجاري أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، عن سحب لواءين من قطاع غزة، حيث كان كل لواء منهما يضم نحو 4000 جندي. وقال إن تكاليف الحرب ضد الفلسطينيين باتت عبئا على الاقتصاد الإسرائيلي. كما أعلن أن ثلاثة ألوية أخرى ستنسحب للتدريب. لكنه استدرك بالقول إن حملة الحرب الإجرامية ستستمر لعدة أشهر.
في الواقع، لقد انكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنحو 2% في الربع الأخير من عام 2023 وحده، إثر ارتفاع التكاليف العسكرية، وكذلك تأثير استدعاء جنود الاحتياط وإفراغ أماكن عملهم. لكن الوزير لم يذكر السببين الآخرين الأكثر أهمية: الضغوط الدولية لوقف إطلاق النار، والتي أجبرت الإدارة الأمريكية على الضغط على إسرائيل لتغيير استراتيجيتها العسكرية في غزة، والمقاومة الفلسطينية التي أوقعت 170 قتيلا إسرائيليا في القطاع، ودمرت عددا كبيرا من الدبابات والمعدات العسكرية.
التغيير في الاستراتيجية العسكرية الذي ترغب فيه الولايات المتحدة بإجرائه يتمثل بالتراجع عن ما يسمى بمبدأ الضاحية، والمتمثل في شن هجمات عشوائية على كامل السكان الفلسطينيين، وإحداث تدمير واسع النطاق، يهدف إلى تأليب الفلسطينيين ضد حماس. وكان الصهاينة قد طبقوا هذا المبدأ في الضاحية الجنوبية لبيروت أثناء غزو لبنان عام 2006. وفي الوقت الحالي، وافق الرئيس جو بايدن على الإبقاء على الاحتلال العنيف لغزة، لكنه يريد أن تتركز الهجمات على حماس وقادتها من أجل الحفاظ على الاحتلال، وذلك لتفريغ الضغوط الدولية وتوصيف “الانتصار” الإسرائيلي على المقاومة الفلسطينية.
نقطة خلاف أخرى تتعلق بمحاولة طرد الفلسطينيين من غزة: الصهاينة يريدون فرض “الحل النهائي”، المتمثل بطرد كل، أو معظم السكان الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء أو حتى إلى بلدان مختلفة. ولتحقيق هذه الغاية، تسعى إلى جعل مجرد البقاء في غزة أمرا مستحيلا. الإدارة الأمريكية قد توافق على طرد جزء صغير من سكان غزة البالغ عددهم 2,4 مليون فلسطيني من خلال منح تأشيرات دخول إلى عدد من الدول، لكنها تدرك أنه من غير المجدي سياسيا طرد السكان بالكامل، وخاصة إلى سيناء، حيث قد يمثل ذلك مشكلة بالنسبة للنظام المصري.
الخلاف الأخير المعلن هو حول مستقبل غزة. الصهاينة يريدون غزة من دون فلسطينيين، ولا يقبلون الاقتراح الأميركي حول قيام السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة محمود عباس بحكم القطاع، الأمر الذي من شأنه تمهيد الطريق عمليا لإقامة دويلة فلسطينية صغيرة في غزة والضفة الغربية.
على أي حال، دولة إسرائيل عبارة عن جيب إمبريالي في الشرق الأوسط، وتعتمد، من أجل بقائها، على المساعدة الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية التي تقدمها الولايات المتحدة. ولهذا السبب صدر إعلان متحفظ عن خفض القوات في غزة عشية وصول وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى تل أبيب، دون أن يمثل ذلك أي تنازل أمام الضغوط الأمريكية.
المحكمة العليا تلغي تعديلات الإصلاح القضائي
في اليوم نفسه، قررت المحكمة العليا الإسرائيلية بأغلبية 8 أصوات مقابل 7 إلغاء تعديلات الإصلاح القضائي التي أقرها الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، والتي كان من شأنها تجريد المحكمة من صلاحياتها في إلغاء أي قرارات تتخذها الحكومة والبرلمان الصهيوني.
المحكمة العليا اتخذت هذا القرار الآن، مستفيدة من عدم شعبية الحكومة التي يقودها نتنياهو، مع الأخذ في الاعتبار أيضا قرب انتهاء ولاية اثنين من أعضاء هذه المحكمة. دون هذا، كان من الممكن أن تتغير نتيجة التصويت المتقارب.
مسألة الإصلاح القضائي أدت إلى تقسيم الدولة الصهيونية وسكانها، بل وحتى الحركة الصهيونية خارج فلسطين المحتلة. وكانت قد تمت الموافقة على هذا الإصلاح العام الماضي من قبل أغلبية برلمانية وحدت مواقف كل من كتلة المستوطنين التي يمثلها الحزب الصهيوني الديني بقيادة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وحزب القوة اليهودية بقيادة وزير الأمن القومي إيتامار بن جفير، والأصولية الدينية (حزب شاس ويهدوت هتوراة)، وحزب الليكود اليميني المتطرف بزعامة بنيامين نتنياهو.
المستوطنون يريدون امتلاك كامل الحرية لطرد الفلسطينيين واستعمار القدس كلها (القدس العربية) والضفة الغربية وغزة. كما يريد الأصوليون الحفاظ على الدعم المالي الحكومي لأعضاء حركاتهم حتى يتسنى لهم تكريس أنفسهم للدراسات الدينية حصرا، وتجنب الخدمة العسكرية. علاوة على ذلك، يريدون أن ينتزعوا من المحكمة العليا حق منع تعيين الوزراء المدانين بالفساد، كما حدث مع زعيم شاس أرييه درعي. وفي المقابل، يريد نتنياهو إسقاط ثلاث دعاوى قضائية ضده بتهمة الفساد.
من ناحية أخرى، قوبلت هذه التعديلات بمعارضة واسعة من مختلف قطاعات بيروقراطية الدولة نفسها (بما في ذلك قطاعات القوات المسلحة وأجهزة المخابرات)، والطبقة الوسطى الصهيونية القلقة من آثار الخطاب العنصري الصريح المناهض للعرب، والذي تبنته الحكومة الحالية، وعلى صورة إسرائيل الدولية، فضلا عن قلق القطاعات البرجوازية من الخسائر التي تسببت بها حملات حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. إنهم يعتبرون استقلال القضاء بمثابة ثقل موازن لحكومة عنصرية وأصولية بشكل علني. علاوة على ذلك، كانت هناك معارضة واسعة النطاق لهذا الأمر في أوساط أكبر جالية يهودية في العالم، والتي تتواجد في الولايات المتحدة.
تحركات مطالبة باستقالة الحكومة وإجراء انتخابات جديدة
رئيس الوزراء الصهيوني، بنيامين نتنياهو، يقضي أسوأ لحظاته، فبالإضافة إلى إدانته المحتملة بالفساد، بات يواجه احتجاجات في الشوارع تطالب بإسقاط حكومته. كما تشير استطلاعات الرأي العام إلى أن كتلته البرلمانية ستخسر نحو ثلث أعضائها عند إجراء انتخابات جديدة، وبالتالي ستتمكن المعارضة بقيادة بيني غانتس ويائير لابيد، وكلاهما من مجرمي الحرب الصهاينة، من تشكيل الحكومة القادمة. في الواقع، إن الهجوم المضاد الذي شنته المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس في السابع من تشرين الأول كان سببا في تضييق الخناق على مستقبل نتنياهو السياسي. السكان الصهاينة الإسرائيليون يدركون أن نتنياهو تجاهل التحذيرات المتكررة بشأن هذا الهجوم، وترك السكان الإسرائيليين دون حماية. أضف إلى ذلك أن عائلات الأسرى الإسرائيليين في غزة يريدون قبول نتنياهو بشروط المقاومة الفلسطينية المتمثلة في إجراء صفقة تبادل الأسرى، وهو ما سيبذل نتنياهو قصارى جهده لعدم تلبيته.
مستقبل غزة
المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس تمكنت من إعادة فرض قضية فلسطين على الساحة الدولية، ما أدى إلى شل عملية تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين الدول العربية وإسرائيل (ثلاث دول عربية فقط لم تقم بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهي: الكويت والجزائر وتونس)، كما تمكنت من حسم مستقبل نتنياهو.
هذه الإنجازات في غاية الأهمية، لكنها غير كافية. لا بد من إنهاء العدوان على غزة والضفة الغربية، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وإنهاء الحصار المفروض عليها، وإعادة إعمارها. بيد أن ما تحقق يعد خطوات نحو هزيمة دولة إسرائيل سياسيا وعسكريا، وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
على أي حال، هناك العديد من الأعداء، أولهم دولة إسرائيل – سواء بشقها العنصري الصريح الذي يدعو إلى طرد الفلسطينيين، أو ذلك “المعتدل” الذي يسعى إلى طرد الفلسطينيين في الوقت الذي يتحدث فيه عن السلام وحل الدولتين – المدعومة من الإمبرياليتين الأمريكية والأوروبية، واللتان قامتا بتمويل الفصل العنصري والتطهير العرقي.
أما روسيا والصين، فقد اقتصر دورهما على التصويت لصالح وقف إطلاق النار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ولطالما دعم بوتين دولة إسرائيل، كما أنه أبرم اتفاقا معها يسمح للقوات الإسرائيلية بقصف الأراضي السورية دون أن يقوم الروس بتفعيل بطارياتهم المضادة للطائرات المثبتة في سورية.
وأما الدول العربية، وكذلك إيران، فقد اقتصر دورها على الإدلاء ببيانات دبلوماسية ضد الإبادة الجماعية في غزة، سواء الدول المتحالفة مباشرة مع الإمبريالية الأمريكية، كالمملكة العربية السعودية أو مصر، أو دول ما يسمى بـ “محور المقاومة” بقيادة النظام الإيراني. في الواقع، الحوثيين في اليمن هم فقط من قام بدور نشط عبر منع عبور السفن إلى الموانئ الإسرائيلية من مضيق باب المندب. كما نفذت الميليشيات الشيعية العراقية بعض الهجمات على القوات الأمريكية في البلاد. واقتصر دور حزب الله اللبناني، الذي كان من المتوقع أن يفتح جبهة حرب جديدة في شمال فلسطين المحتلة، على تبادل الرصاص والصواريخ مع الجيش الإسرائيلي على شريط حدودي قصير، على الرغم من سعي الصهاينة إلى تعميم القتال كما تبين من خلال اغتيال صالح العاروري، القيادي المهم في حركة حماس، في بيروت في 2 كانون الثاني 2024، وكذلك تفجيرات مدينة كرمان في إيران في 3 كانون الثاني 2024.
الحليف الحقيقي للشعب الفلسطيني ليس الأنظمة العربية، بل العمال والشباب العرب والأمميين. هذه هي القوى التي، عبر انتفاضة فلسطينية وموجة جديدة من الثورات في العالم العربي، معززة بالتضامن الأممي، ستكون لديها الظروف اللازمة لهزيمة القوات العسكرية، وإنهاء وجود دولة إسرائيل، وبناء دولة فلسطين العلمانية الديمقراطية من النهر إلى البحر.
ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس بيان شمس