✍️تامر خرمه
في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني 1989 سقط جدار برلين، الذي كان يفصل بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. وبعد ذلك بنحو سنتين؛ وتحديدا في 26 ديسمبر/كانون الأول 1991 انهار الاتحاد السوفييتي، واكتسحت صيرورة استعادة الرأسمالية كافة الدول، التي شكلت ذات يوم ما يسمى بالمعسكر الشرقي. وهكذا؛ فقدت حركات التحرر الوطني الفلسطيني أهم حلفائها على المستوى الدولي، وتفردت الولايات المتحدة حينها بإدارة عالم “القطب الواحد”، استنادا إلى نظرية “نهاية التاريخ”.
لكن انهيار الاتحاد السوفييتي لم يكتمل قبل وضع قادته بصماتهم الأخيرة على معادلة الصراع في الشرق الأوسط، من خلال التعاون مع الإمبريالية الأميركية، لتدشين مفاوضات مدريد، قبل نحو شهرين من انهيار المارد الأحمر، والتي أسفرت في النهاية عن عقد اتفاقية أوسلو عام 1993، التي اعترفت وفقها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل كدولة على الأراضي المحتلة في عام 1948، الأمر الذي يعد كارثة على القضية الفلسطينية، لا تقل في خطورتها عن نكسة عام 1967، إذ تخلت القيادة الفلسطينية الرسمية عن وحدة الأرض المحتلة، وعن مبدأ الكفاح المسلح، مراهنة على مفاوضات عبثية مع الاحتلال، لم تفض سوى إلى انتزاع المزيد من الأراضي، وبناء المزيد من المستوطنات.
في البداية، لم يكن الكومنترن (الأممية الثالثة)، التي اختطف قيادتها جوزيف ستالين، بعد تصفيته لقادة الثورة البلشفية، حليفاً للنضال الفلسطيني، بل على العكس تماماً، “لم تكن إسرائيل لتظهر إلى الوجود، لو لم يرد ستالين قيامها”، على حد تعبير الكاتب اليهودي الروسي ليونيد مليتشين، في كتابه الذي أصدره عام 2005 بعنوان “لماذا أنشأ ستالين إسرائيل؟”.
كما أن الاتحاد السوفييتي، والدول التي كانت تدور في فلك الستالينية، صوتت لصالح قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وكان ستالين أول من اعترف بدولة إسرائيل، معتبراً أن هذه الدولة الجديدة ستكون اشتراكية، وتقوض النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط! غير أن هذه السياسة سرعان ما اصطدمت بالواقع، وسرعان ما بدأت الحكومة السوفييتية في دعم العرب، بعد أن تبلور الموقف الرسمي للاتحاد السوفييتي، وكافة دول الكتلة الاشتراكية آنذاك، باعتبار الصهيونية أداة بيد “الإمبريالية العنصرية”، وقد وصفها الحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي بأنها “شوفينية مسلحة، وعنصرية، مناهضة للشيوعية، ومعادية للسوفييت”.
هذا التحول الجذري في موقف الاتحاد السوفييتي، الذي كان يقود المعسكر الاشتراكي في مواجهة الإمبريالية الغربية، كان له بالغ الأثر على معادلة الصراع العربي- الإسرائيلي، وخدم بالتأكيد حركات التحرر الوطني الفلسطيني في نضالها ضد الصهيونية والإمبريالية، وكذلك الرجعية العربية، لكن في الوقت ذاته، كان للدوران الأعمى في فلك موسكو آثاره التدميرية على المستوى الاستراتيجي، فالأيديولوجيا الستالينية، المرتدة عن مبدأ الثورة الدائمة، لصالح وهم “الثورة على مراحل”، والتي اعتنقتها بعض فصائل اليسار الفلسطيني، أفضت في النهاية إلى سياسة “الحل المرحلي”، ما يعني الاعتراف الرسمي بدولة الاحتلال و”حقها” في الوجود على الأراضي التي انتزعتها بقوة السلاح!
شهد عام 1968 زيارة ياسر عرفات الأولى لموسكو، برفقة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، لكن كانت الزيارة الأكثر أهمية في 4 أغسطس/آب 1974، والتي قام بها رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بناء على دعوة رسمية من الحزب الشيوعي السوفييتي والحكومة السوفييتية، والتي أسفرت عن فتح مكتب تمثيل للمنظمة في موسكو، التي اعترفت بأنها “ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني”. لكن في المقابل، حثّ الاتحاد السوفييتي منظمة التحرير الفلسطينية، وياسر عرفات على القبول بالقرار 242، والاعتراف بإسرائيل، وبدء “محادثات السلام”.
وهكذا، فإن دعم المعسكر الاشتراكي للنضال التحرري الفلسطيني كان يستند بالأساس إلى مبدأ “حل الدولتين”، المنسجم مع الأيديولوجيا الستالينية، التي أفضت بالمناسبة إلى استعادة الرأسمالية في دول الاتحاد السوفييتي السابق، ودول أوروبا الشرقية، إضافة إلى ما نشهده اليوم من اختزال لدور القيادة الفلسطينية الرسمية في حدود التنسيق الأمني مع الاحتلال، إثر إمعانها في المضي بسياسة “الحل المرحلي”، التي عززتها موسكو.
رغم هذا، كان الدعم السياسي والمالي والعسكري، الذي تلقته حركات النضال الفلسطيني من المعسكر الشرقي، هو ما مكن فصائل منظمة التحرير من توجيه ضربات موجعة للعدو الصهيوني، بل حتى للإمبريالية الغربية، ولا سيما خلال مرحلة عمليات خطف الطائرات، التي نفذتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالتنسيق مع الـ “كي جي بي”، وفقا لوثائق الكولونيل فاسيلي ميتروخين، أمين المحفوظات السابق لجهاز المخابرات السوفييتي، والتي نشرتها العربي الجديد في إبريل/نيسان 2018.
تشير تلك الوثائق إلى اتصالات بين عناصر الـ “كي جي بي”، وأبرز قادة الفصائل الفلسطينية، مثل الشهيدين وديع حداد وماجد أبو شرار، كما تكشف عن جانب من المساعدات العسكرية، التي حصلت عليها المقاومة الفلسطينية من الاتحاد السوفييتي، لكن لا توجد أرقام محددة لحجم تلك المساعدات، أو لمقدار الدعم المالي الذي تلقته فصائل منظمة التحرير من المعسكر الاشتراكي.
في النهاية؛ الدعم السياسي والعسكري والمالي الذي كان يقدمه المعسكر الاشتراكي للفصائل الفلسطينية، كان يرتكز جوهرياً على مصالح موسكو ورؤية الكرملين، التي تتبدل وفقاً للتطورات السياسية على المستوى الدولي، وهو ما يفسر تراجع الدعم السوفييتي للجبهة الشعبية في محطات مختلفة، ما دفعها في مرحلة ما إلى تبني الأيديولوجيا الماوية، وانحيازها إلى الصين.
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وانهيار المعسكر الاشتراكي، حسمت القيادة اليمينية لمنظمة التحرير خيارها بعيداً عن نهج الكفاح المسلح، وانحسر دور اليسار الفلسطيني إلى حدوده الدنيا، ما مهد الطريق لتنامي دور المقاومة الإسلامية ممثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، في الوقت الذي عززت فيه إيران دورها الإقليمي، متذرعة بدعمها المقاومة، من أجل تثبيت نفوذها في سورية ولبنان والعراق.
هنا، بدأت فصائل المقاومة الفلسطينية، التي لم تتخل عن نهج الكفاح المسلح باعتباره خياراً استراتيجياً، تنظر إلى النظامين القمعيين في سورية وإيران على أنهما “الحليف” الذي يشكل “محور الممانعة”، الأمر الذي وصل إلى تأييد اليسار الفلسطيني النظام الدموي في سورية خلال قمعه للثورة!
الدعم الذي قدمه “محور الممانعة” للنضال التحرري الفلسطيني كان له ثمن باهظ للغاية، وهو تصوير ثورات الشعوب العربية ضد الأنظمة الدكتاتورية الرجعية على أنها في حالة تناقض مع الكفاح من أجل تحرير فلسطين، عوضاً عن حقيقة أن هذا الكفاح هو في طليعة نضالات الشعوب العربية ضد كل من الصهيونية والإمبريالية والرجعية.
إذا كان دعم المعسكر الاشتراكي لفصائل المقاومة الفلسطينية قد أسهم في فرض مقاربة “حل الدولتين”، التي تعد كارثة سياسية، فإن دعم هذا “الحليف الجديد” أفضى إلى كارثة فكرية- أخلاقية، تتمثل في محاولة فصل النضال الوطني الفلسطيني عن مجمل نضالات شعوب المنطقة من أجل الحرية والعدالة، والتي بات يعتبرها بعضهم؛ مع الأسف، مؤامرة كونية ضد “محور الممانعة”.
صحيح أن من حق أي فصيل مقاوم على وجه الأرض تلقي الدعم من أية جهة كانت، للمضي في كفاحه ونضاله، لكن دون أن يكون لهذا الدعم مثل تلك النتائج الكارثية. الفصائل الفلسطينية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تمتلك مساحة مناسبة للمناورة، بسبب ما تحتله القضية الفلسطينية من أهمية قصوى على المستويين الإقليمي والدولي، ما يعني أنها غير مضطرة لقبول دعم مشروط، يتناقض مع ما تطرحه من مشروع كفاحي تحرري.
بوادر الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، التي تبلورت مع هبة كل فلسطين، وما سبقها وتبعها من عمليات فدائية بطولية نفذها أبناء الشعب الفلسطيني بعيدا عن الأطر التنظيمية التقليدية، تعبر عن الإرادة الحقيقية لهذا الشعب المتمسك بخيار الكفاح المسلح، باعتباره خياراً استراتيجياً لتحرير كامل التراب الفلسطيني. ومن الطبيعي أن يفرز هذا الشعب قيادات بديلة تعبر عن إرادته، في حال فشل القيادات الحالية في ذلك. أما الحليف الاستراتيجي الوحيد للشعب الفلسطيني فلا يمكن أن يكون سوى شعوب المنطقة العربية، التي لا يمكن النظر إلى النضال الفلسطيني بمعزل عن ثوراتها المستمرة حتى نيل الحرية بمعناها الحقيقي.
الآراء الواردة لا تعبّر بالضرورة عن آراء ومواقف “الرابطة الأممية للعمال – الأممية الرابعة”