الأثنين يوليو 22, 2024
الإثنين, يوليو 22, 2024

قراءة أولية في كتاب “قصة حزب العمل الشيوعي في سورية” (5)

سورياقراءة أولية في كتاب “قصة حزب العمل الشيوعي في سورية” (5)

✍️ منيف ملحم

محاربة السحرة وتشويه الأقلية اليسارية

ما كتبته في المقالات الأربعة السابقة كملاحظات على كتاب الصديق راتب شعبو تحت عنوان “قراءة أولية في كتاب قصة حزب العمل الشيوعي في سورية” لم يكن أكثر من تأريخ لبعض المحطات التي لعبت فيها المعارضة دوراً باعتبارها تيارات سياسية ضمن الرابطة/ الحزب مستندة إلى الحياة الديمقراطية التي كانت من أهم وأبرز ما ميز الرابطة/ الحزب عن كل التيارات والأحزاب التي كانت قبلها، ولاسيما الشيوعية منها. وقد لعبت المعارضة دورا إيجابيا في الحفاظ على الخط الثوري منذ التأسيس الأول عام 1976 وحتى انعقاد المؤتمر التأسيسي لحزب العمل الشيوعي في آب 1981.
في هذا المقال سيتم التركيز على تاريخ حضور المعارضة في الرابطة/ الحزب بعد أن أتاح لها انعقاد المؤتمر التأسيسي عام 1981 أن تتوحد ضمن تيار متماسك طوال جلسات المؤتمر مطلقة على نفسها اسم “التيار اليساري في الحزب”(1). وسوف أمعن النظر في تطور وضع المعارضة وكيف تعامل رفاق قيادة/ قواعد الحزب معها بالتركيز على مرحلة ما بعد اعتقالي في 9 آب 1981، بعد ثلاثة أيام من انتهاء أعمال المؤتمر.
قبل الحديث عن المعارضة وتاريخها، أرغب أن أقول إن وعيي السياسي بدأ وأنا طالب ضابط في الكلية العسكرية لم أبلغ بعد العشرين من العمر. وكان عليّ أن أنتظر بضعة أشهر لأصبح ضابطاً في الجيش العربي السوري. وجدت نفسي في صفوف المعارضة إبان الصراع على السلطة ضمن حزب البعث الحاكم عام 1970 بين وزير الدفاع في حينها، الفريق حافظ الأسد، وما عُرف لاحقا بالقيادة القطرية للحزب أو “جماعة صلاح جديد”. وقد انتهى الصراع في تشرين عام 1970 بانقلاب الأسد (عرف بالحركة التصحيحية فيما بعد) على القيادة القطرية وإرسال أعضائها إلى المعتقل.
إن ما شغلني إبان هذا الصراع لم يكن لأي طرف أنحاز (كنت معارضاً لانقلاب الأسد وأعلنتُ ذلك في حينها متعاطفا مع الذين أرسلهم إلى المعتقل). لكن ما شغلني كان أن غياب الديمقراطية في الأحزاب وفي بنية الدولة وغياب الحرية في المجتمع، هذا الغياب لن يقود إلا إلى نتائج كارثية على الأحزاب والدولة والمجتمع. فالانقلاب الذي تم لم يظهر تجاهه أي رد فعل جدي وملموس لا في حزب البعث ولا في المجتمع. وهو ما جاء نتيجة لغياب الحرية ضمن حزب البعث وغيابها في المجتمع كنتاج لغياب الديمقراطية في بنية الدولة. بالطبع هذا الوعي لقضية الحريات والديمقراطية لم يأت إلي من نتاج ما حصل في الواقع فقط، وإنما شاءت الصدف أن زرت معرض دمشق الدولي، فشاهدت في أحد الأجنحة كتباً ماركسية من إصدارات دار التقدم السوفييتية. ابتعت بعض الكتب وكان من “أضخمها” كتاب ماركس أنجلز لينين فكرهم وأعمالهم. فتحولت أوقاتي من لعب الورق أثناء مناوباتي عندما لا يكون هناك طارئ للعمل على السلاح إلى القراءة. ترافق ذلك بمحض المصادفة (أو أن الأمر كان مقصوداً) مع كون قائد اللواء أهداني لتفوقي بالمسابقات الثقافية التي كانت تقام في حينها كتابين: الأول للمفكر الفرنسي روجيه غارودي، والثاني لصحفي فرنسي على ما أعتقد يتحدث عن التجربة الماوية في الصين.
أكثر ما لفت انتباهي بكتب دار التقدم انه كلما ورد اسم تروتسكي يكون دائماً هناك هامش يصفه بأقذع الصفات (متآمر، معادي للينين، عميل للإمبريالية، الخ). لم أستطع أن أتفهم كيف كان أحد قادة ثورة أكتوبر 1917 وكيف أصبح ذلك؟! بعد فترة ليس ببعيدة حصلت على كتاب إسحاق دويتشر، ستالين سيرة سياسية. توضحت الصورة لدي وأصبحت كارهاً لستالين ومتعاطفاً مع تروتسكي.
من خلال هذه الكتب وتحديدا من خلال الهوامش التي تتحدث عن تروتسكي وكتاب دويتشر اقتنعت بأن ما يكتبه المنتصرون عن تاريخ المهزومين لا يعول عليه إذ إنه في معظمه كذب وافتراء على هذا التاريخ. ولم يخطر في عقلي أنني سأمر بنفس التجربة بعد أكثر من عقد أثناء وجودي في حزب العمل الشيوعي وتحديدا بعد اعتقالي.

عودة على بدء: تاريخ المعارضة اليسارية داخل حزب العمل الشيوعي

كانت قضية الديمقراطية والحريات أحد هواجسي منذ تشكل حلقتنا الماركسية في عام 1975 (اللاذقية) حيث كنت اعمل في معمل المحركات بصفة عامل فني بعد تسريحي من الجيش عام 1973 لكوني ماركسيا. وقد عملنا كحلقة ضمن المعمل على ممارسة الديمقراطية في كل الانتخابات التي شاركنا فيها داخل النقابة العمالية. كما مارسناها بعد توحد الحلقات الماركسية في اللاذقية في انتخابات مندوبينا إلى الاجتماع الثالث الموسع للحلقات الماركسية الذي أفضى إلى تشكيل “رابطة العمل الشيوعي” في عام 1976.
بعد حملة أذار 1977 انكشف وضعي التنظيمي بسبب الحملة التي طالت منظمة اللاذقية. فانتقلت إلى العمل السري في دمشق حيث صرت على احتكاك بقيادة المنظمة بشكل مباشر مما أدى إلى توتر بيني وبين بعض أعضاء القيادة بسبب بعض الملاحظات الأمنية. في دمشق التقيت بعدد قليل من الرفاق لم يحدث أن التقيت بهم من قبل، والتقيت بناشطين من قوى سياسية أخرى. كان من نتيجة ذلك أن وُسمت من قبل الرفاق بالتروتسكية. وربما كانت حواراتي مع من ناشطين من قوى سياسية أخرى من الأسباب التي وسمت الرابطة كلها بالتروتسكية. هذا مع أنني لم استشهد بتروتسكي أبدا أثناء حواراتي (كنت وما زلت ابتعد عن الاستشهاد بنصوص كبار المفكرين الماركسيين لدعم وجهة نظري في حوار أو لتبيان صحة موقفي. ولم أزل أنظر إلى مثل هذه الاستشهادات باعتبارها شكل من أشكال الإيمان الديني). لكن كان يكفي أن تقول لمحاورك إن حالة الديمقراطية والحريات في الاتحاد السوفييتي بائسة وأن النظام هناك ليس اشتراكيا حتى تتهم بالتروتسكية، هذا إذا لم تتبع التهمة بوصفك عميلا للإمبريالية.
في أواخر عام 1977، أبلغت بأن “الجبهة الشعبية لتحرير عمان” تطلب متطوعين للعمل في صفوفها (خدمة ثورية). فوافقت على الذهاب. ولذلك غبت عن العمل في الساحة السورية ولم أعد إليها حتى تموز 1978. في أيلول من نفس العام، تم تنظيم ما عُرف بدورة الكادر وكنت واحدا من الرفاق المشاركين فيها ومن خلالها تعرفت على عدد من الرفاق الجدد. و من فوائد الدورة رغم مدتها القصيرة أنني تعرفت على الآراء السياسية والطبيعة الشخصية لرفاق عملت معهم بعدها طوال نصف عقد من العمل السري وعقد ونصف في المعتقلات التي مررنا بها. كما كانت فرصة للرفاق المشاركين في الدورة للتعرف على أول ناشط سياسي ينسب نفسه إلى التروتسكية بفخر. وقد كان هناك قبول عام لوجودي بينهم، بل تم اعتبار أن ذلك يغني المنظمة من خلال تعدد الأفكار ووجود تيارات مختلفة. وقد برز هذا القبول عندما تم توسيع الهيئة المركزية وتم انتخابي عضوا في لجنة العمل في كانون الأول 1978.
كانت دورة الكادر البداية الأولى لنشوب خلافات مع الرفاق في بعض القضايا الدولية وتقييم بعض التجارب “الاشتراكية”، تركزت حينها حول تقييم التجارب في كل من أثيوبيا (المجلس العسكري) واليمن الجنوبي (انقلاب عبد الفتاح إسماعيل)، وأنغولا وغيرها، وموقف الاتحاد السوفييتي الداعم لأنظمة ديكتاتورية برجوازية صغيرة ومتخلفة على حساب القوى الشيوعية الراديكالية في بلدانها(2). في الواقع كان خلافي حول تقييم هذه التجارب يدور ليس مع رفاقنا في الرابطة فقط وإنما كذلك مع الرفاق في “التجمع الشيوعي الثوري” في لبنان (منظمة تروتسكية).
أمضينا عام 1979 حتى مجيء شهر أيلول بدون أي خلافات سياسية تُذكر. فقد كان همنا الأساسي الحفاظ على ما تبقى من التنظيم وإعادة ترتيب أوضاع الرفاق التي انقطعت معهم سبل الاتصال بسبب اتساع حملة القمع في نيسان 1979، وإعادة ترتيب وضع الخلايا المتبقية والاستعاضة عن لجان المناطق بمنسق عام في كل منظمة من منظماتنا. بل كنت الرفيق الذي كلف بهذه المهمة بعد القرار الذي افضى إلى سفر خمسة من أعضاء الهيئة المركزية إلى بيروت كقيادة احتياط. وقد استطعنا نحن المتواجدون في دمشق كقيادة ميدانية (فاتح جاموس، منيف ملحم، زياد مشهور، علي الكردي) بالتعاون مع الرفاق المتبقين بعد حملة نيسان 1979 أن نعيد ترتيب الوضع التنظيمي بشكل أفضل مما كان عليه قبل الحملة، سواء من حيث الكوادر أو اتساع وانتشار المنظمات والخلايا.

بداية الخلافات النظرية – السياسية بيني وبين أكثرية القيادة (الهيئة المركزية)
“كان اجتماع الهيئة المركزية في أواخر أيلول 1979 ببيروت أكثر الاجتماعات هدوءاً وحميميةً وثقةً بالتنظيم. فنحن إلى حد ما بعيدون عن قبضة النظام، والتقينا بعد طول غياب، ووضع البنية التنظيمية استقر ونما. واستطاعت أعداد “الراية الحمراء” التي صدرت بالأشهر الأخيرة أن توحد الآراء حول المهام القادمة وخطة العمل القادمة. وتمت الموافقة على برنامج انتقالي، النقطة المركزية فيه إسقاط النظام وإقامة حكومة ثورية”(3).
الخلاف الوحيد في هذا الاجتماع بيني وبين أكثرية الهيئة المركزية تركز حول طبيعة الحكومة الثورية (هل هي حكومة بورجوازية صغيرة كما رأى الرفاق أم حكومة عمال وفلاحين ديمقراطية ثورية كما كنت أرى) في البرنامج الانتقالي الذي أُقر حينها. وهو نسخة محلية عن البرنامج الانتقالي الذي وضعه تروتسكي للبلدان ضعيفة التطور الرأسمالي. وقد اعتبره تروتسكي بمثابة تدريبات أولية من أجل الثورة الاشتراكية، وليس برنامجا للتنفيذ بكليته باعتباره مرحلة تسبق الثورة الاشتراكية بالضرورة. فقد يتحقق بعض هذه المطالب بما يسهل عمل الثوريين باتجاه برنامج الثورة الاشتراكية، وقد لا يتحقق منها شيئا. هذا ولم يؤدي الخلاف إلى أي مشاحنات أو تمترس. فبالرغم من أننا كنا متفائلين برحيل النظام، أدركنا أن لا داعي للخلاف حول جلد الدب قبل اصطياده.
في نهاية عام 1979 وبداية عام 1980، شهد الوضع الدولي والساحة السورية أحداثا وتحولات كبرى (التدخل السوفييتي في أفغانستان، معاهدة الصداقة بين النظام والاتحاد السوفييتي، الصراع بين النظام والقوى الإسلامية المسلحة إلى درجة كسر العظم كما وصفته الرابطة/ الحزب، إطلاق سراح عدد من المعتقلين (104 رفيق ورفيقة من تنظيمنا). كل ذلك استدعى رفع شعارات تخدم المهام التي حددناها في البرنامج الانتقالي ورسم تكتيك يتفق أو يتماشى مع هذه الشعارات. اختلفت مع الرفاق بكل الموضوعات التي ناقشناها في حينها تقريبا. مما أدى إلى خلق جو من التوتر ساد حتى خروج الرفاق من المعتقل واجتماع الهيئة المركزية بكامل أعضائها.
ففي الوقت الذي حيّا فيه الرفاق التدخل في أفغانستان، أدنت الموقف السوفييتي باعتباره غزوا على غرار ما حدث في المجر وتشيكوسلوفاكيا. وقد رحب الرفاق بمعاهدة الصداقة مع بعض التحفظ بينما نظرت اليها باعتبارها تعزز مركز النظام دون أن تقدم أي دعم للشعب السوري، مثلها مثل المعاهدات التي اعتاد الاتحاد السوفييتي على توقيعها مع أنظمة ديكتاتورية تسمى “اشتراكية” وهي ليست سوى مسوخ عن النظام الذي أرساه ستالين. فطالبت برفع شعار “الحرية للشعب اولاً” بدلا عن شعار “الحرية للقوى الوطنية” الذي عاد الحزب إلى رفعه بعد عدة سنوات. كما رفضت تجميد شعار إسقاط النظام، وهو تجميد حاول بعض الرفاق تمريره في اجتماع الهيئة المركزية المنعقد في أواخر شباط 1980. وكانت هي المرة الأولى والأخيرة التي كسبت فيها أكثرية الهيئة المركزية لصالح وجهة نظري(4).

الاعتقال ومطاردة السحرة وتشويه المعارضة: موت التجربة الديمقراطية

على الرغم من الأجواء المتوترة التي سادت جلسات المؤتمر من قبل بعض الرفاق، خرجت من المؤتمر متفائلا باستمرار الحياة الديمقراطية في بنية ونهج الحزب، معزياً التوتر الذي حدث إلى التحريض والافتراء الذي مارسه ضدي فاتح جاموس بين الرفاق منذ الجلسة الأولى للمؤتمر. والشيء الوحيد الذي أسفت له هو مشروع قرار قدمه أصلان عبد الكريم (وقد نال موافقة المؤتمر) تضمن منع تمثيل الأقلية في المكتب السياسي، وهو قرار ينقض أهم ركائز الديمقراطية، وهي حرية الانتخاب والترشح للمكتب السياسي للحزب ضمن اللجنة المركزية.
قضيت في بيروت ليلتان ضيفاً على الرفاق في “التجمع الشيوعي الثوري” ناقشنا خلالها إمكانية مساعدتي للسفر إلى فرنسا للعلاج بعد أن أغلقت إمكانية العلاج في بيروت ودمشق. وقد وعدوا خيراً وهكذا عدت إلى دمشق ما بعد ظهر يوم الثامن من آب 1981. لكن في صباح اليوم التالي، تم اعتقالي من بيتي (باعتراف من وائل السواح الذي كان قد اعتقل على الحدود أثناء عودتنا من بيروت. بيتي هو بيت مخصص لاجتماعات لجنة العمل) وبرفقتي الرفيقة حنان الشريف، التي كانت منتمية إلى التيار اليساري في المؤتمر. وبعد حوالي أكثر من شهر تم إطلاق سراحها لتحمل رسالة إلى “حزب العمل الشيوعي” تدعوه للحوار. ثم عادت لزيارتي (بطلب من الحزب) باعتبارها زوجتي بعد حوالي شهر جالبة بعض مستلزمات السجين التي خبرتها أثناء اعتقالها. وقد طلبت منها في وداعها أن تحذر مجموعة الرفاق في الأقلية اليسارية ضد القيام بأي عمل تكتلي ضمن الحزب لأن ذلك سيكون ذريعة لطردهم من الحزب لأسباب مختلفة، وأن تدعوهم إلى أن يستمروا بالعمل من خلال الصحيفة الداخلية (البروليتاري)، فوعدت أن يتم ذلك.
استمر التحقيق معي منذ اعتقالي في 9 آب 1981 حتى انتهاء حملة آذار 1982، ولم أتسبب للحزب بأي ضرر، مهما كان صغيراً (التقيت مع الرفاق نزيه نحاس وعباس عباس – أبو حسين – بعد حوالي شهر من اعتقالي ويعرفون كيف كان وضعي الصحي جراء التعذيب).
ومع ذلك عندما تم جمعي مع بعض معتقلي حملة أذار بادرني أحد الرفاق وهو عضو في اللجنة المركزية لحزب العمل الشيوعي وقبل أن يسلم علي بالقول: “لماذا جبت كل هؤلاء الرفاق؟!”. لم أرد عليه.
تم في تموز 1982 على ما أذكر ترحيل كل معتقلي حزب العمل الشيوعي (حوالي 32 معتقل) إلى معتقل تدمر باستثنائي بسبب وضعي الصحي حيث التحقت بهم في كانون أول عام 1983.
لم يكن الانقسام حصل ضمن الهيئة العامة لمعتقلي الحزب في تدمر عام 1983 ولكن وصلتنا أخبار عن مشاركة حزبنا بالقتال مع القوات المنشقة عن فتح (جماعة أبو موسى) ضد عرفات. أعلنت إدانتي لموقف الحزب من الصراع الجاري. منذ ذلك التاريخ أصبح فاتح جاموس وبأي خلاف مع موقف من مواقف الحزب يحرض الرفاق بالقول: “الحزب يخوض صراع مع التروتسكيين في الخارج ونحن في المعتقل نخوض نفس الصراع”. هكذا وبتصريح منه أصبحنا خارج الحزب. مما انعكس على موقف بعض الرفاق مني. ومع ذلك اعتبرت أن موقف فاتح جاموس هو موقف شخصي ولا يمثل رأي قيادة الحزب حتى انتقلنا إلى سجن صيدنايا في أواخر عام 1987حيث جاءنا معتقلين جدد من رفاقنا فلاحظت مزيداً من الحذر بينهم تجاهي حتى أن بعضهم لم يحاول التواصل معي لعدة أشهر حتى جاءت لحظة اقترب مني أحد الرفاق قائلاً: أنا اسف من موقفي منك فقد كنا في سهرة في إحدى قواعد الحزب في لبنان بوجود بعض قيادة الحزب وكان الحديث يدور حول التروتسكيين. يومها تحمست وأعلنت “أنا جاهز لتصفية منيف ملحم إذا أمر الحزب بذلك”.
سألت الرفيق ماذا كانت ردة فعل الرفاق على كلامك. قال: ضحكوا فقط.
كانت القشة التي قصمت ظهر البعير وجعلتني أعتبر نفسي خارج الحزب دون أن أُعلن ذلك، الاحتفالية التي دعيت إليها عام 1990 في معتقل صيدنا ط2 ج يسار لإقامة ندوة(5) في مهجعي بمناسبة الذكرى الخمسين لاغتيال تروتسكي على يد عميل ستالين في المكسيك عام 1940. فقبل الندوة بأسبوع لاحظت أن الرفاق يتداولون أوراقا على شكل كُرّاس بينهم. فطلبت من أحدهم أن يريني ما يتداولون واكتشفت أنه مقال طويل بعنوان “تاريخ التروتسكيين في الحزب” كتبه فاتح جاموس.
وقد وصفني الكاتب بأنني خائن للأمانة منذ أن كنت في قيادة الحزب (لجنة العمل)، وأنني استغليت موقعي في قيادة الحزب باعتباري مسؤول التنظيم والأمن لبناء خلايا مرتبطة بي شخصياً، وقمت بالتلاعب في انتخابات المؤتمرات المنطقية تحضيرا للمؤتمر العام التأسيسي(6) بحيث أوصلت “جماعتي” إلى المؤتمر، وهكذا تشكل ما عُرف بالمعارضة اليسارية المؤلفة من خمسة عشر من الرفاق سماهم فاتح جاموس “التروتسكيين”. لكن عندما سألت فاتح جاموس “هل لديك أي دليل ملموس على أنني فعلت ذلك؟”، رد بالقول “كلا، ولكن هكذا اعتقد”!!! فقلت له “لا تبنى كتابة التاريخ على الاعتقاد”.
كان ملجأي الأخير والحكَم بيننا أصلان عبد الكريم. لكن عندما سألته “هل قرأت ما كتبه فاتح جاموس حول تاريخ التروتسكيين في الحزب؟” أجابني “نعم”. فقلت له “هل أنت موافق عليه؟” قال “نعم”! أعدت عليه نفس السؤال الذي طرحته على فاتح جاموس: “هل لديك أي دليل على ذلك؟”، فردّ “كلا، ليس لدي دليل، ولكن كيف تشكلت المعارضة في المؤتمر من خمسة عشر عضواً؟”. فقلت له “ترون نفسكم كبارا ويجب أن لا يوجد من يخالفكم الرأي، أي أنا ما شايفك ولا شايف فاتح جاموس”. كان ذلك آخر حديث لي معهم بالسياسة منذ ذلك التاريخ.
لم أتحدث عن كيف تعاملت قيادة “حزب العمل الشيوعي” مع المعارضة في الحزب أثناء وجودي في المعتقل، سواء منها المعارضة اليسارية أو التي تشكلت لاحقا باسم المعارضة التروتسكية، مع أنني سمعت كثيرا من الروايات حول الأمر. فلا أرغب أن أنقلها وأترك لأصحاب التجربة أن يقوموا بذلك سواء بالتعليق أو بكتابات خاصة بهم. أما الوثيقة الوحيدة عن الموضوع التي اطلعت عليها فهي كراس الرفيق نور الدين بدران الذي أورد بعض مقتطفات منه مؤلف كتاب “قصة حزب العمل الشيوعي في سورية” في الصفحات 119 حتى 122. وهو ما أكد لي أن ما كان يقوله فاتح جاموس عن صراع الحزب مع التروتسكيين داخله وفي المعتقل لم يكن رأيا شخصيا، إنما كان سياسة قيادة الحزب.

ملاحظات أولية:

بالرغم من الملاحظات التي أوردتها، ما زلت أنظر إلى تجربة “حزب العمل الشيوعي في سوريا” على أنها من اغنى التجارب التي مرت على الساحة السورية بنجاحاتها وإخفاقاتها. وبنفس الوقت ورغم أنني قضيت فترة ليست بالقليلة في العمل السري بسبب الديكتاتورية التي بسطت وحشيتها على المجتمع، علمتني التجربة أن الخوف الأمني على بقاء الحزب باستمرار الديمقراطية الداخلية ما هو إلا ذريعة لبقرطة الحزب. والحزب المبقرط هو ميت لا محالة في النهاية.

*************************

هوامش

1-  منذ الجلسة الأولى للمؤتمر وبتحريض من فاتح جاموس، جرت تسمية التيار بالتيار التروتسكي مع اتهامه بالتنسيق مع “التجمع الشيوعي الثوري” في لبنان.

“في الواقع نحن منذ الانقسام الأول وحتى نهاية المؤتمر لم نتعامل مع بعضنا باعتبارنا تروتسكيين وإنما باعتبار أننا تيار يساري في مواجهة تيار يميني يحاول أن يجر الحزب بعيدا عن الخط الثوري الذي انطلق مع تشكيل الرابطة، من خلال التقرب من السوفييت” من شهادة منيف ملحم للصديق راتب شعبو في كتابه قصة حزب العمل الشيوعي في سورية.

2-  في الوقت الذي كان السوفييت يرمون بكل ثقلهم خلف قائد المجلس العسكري الأثيوبي منغستو هيلا مريام كان الأخير يعلق الرفاق الشيوعيين على حبال المشانق.

3-  من شهادة منيف ملحم، المصدر سابق الذكر.

4-  يمكن الاطلاع على الملابسات التي حدثت حول هذا الموضوع (والذي اتهمت بسببها الرابطة/ الحزب بالتحالف مع النظام من قبل قوى معارضة) من خلال قراءة مقالي: “قراءة أولية في كتاب قصة حزب العمل الشيوعي في سورية-2-…. لغز شعار إسقاط النظام”. كما يمكن الاطلاع على كل الخلافات التي تمت بما فيها خلافاتنا في المؤتمر التأسيسي لحزب العمل الشيوعي من خلال قراءة المقالات 3 و4 المنشورة على صفحتي في الفيس بوك، أو عبر الرابط التالي:

5-  بالإضافة إلى أكثر من مئة رفيق من حزب العمل الشيوعي، كان معنا في الجناح عدد من الرفاق من الحزب الشيوعي (المكتب السياسي) بالإضافة لوجود معتقلين من حركة فتح في الجناح ط2 ج يمين. وقد وجهت الدعوة للجميع لحضور الندوة، ولكن لم يحضر من الرفاق في “حزب العمل الشيوعي” سوى خمسة، وقد قاطع البقية الندوة. وفي هذه المناسبة، أقدم كل الشكر للصديق الفنان طلال أبو دان للملصق الذي صممه لهذه الندوة والذي كان في غاية الروعة والجمال، واعتذر منه لفقداني للملصق بسبب إهمال أهلي عندما أرسلته إلى الخارج وأنا في المعتقل.

6-  يمكن الاطلاع على الكيفية التي تم فيها التحضير للمؤتمر والانتخابات في مؤتمرات المنطقيات من خلال مقالي رقم -4- على صفحتي فيس بوك أو من خلال الرابط التالي:

مراجعة فيكتوريوس بيان شمس

يمكن قراءة المقالة السابقة من خلال الرابط أدناه:
قراءة أولية في كتاب “قصة حزب العمل الشيوعي في سورية” (4)

Check out our other content

Check out other tags:

Most Popular Articles