الثلاثاء نوفمبر 12, 2024
الثلاثاء, نوفمبر 12, 2024

المؤتمرات العالمية الأربعة الأولى للأممية الشيوعية – الكتاب كاملاً

كُتُبالمؤتمرات العالمية الأربعة الأولى للأممية الشيوعية - الكتاب كاملاً

البــــــــــيانات

والموضوعات

والقراراتــــــــ

الصادرة عـــن

المؤتمرات العالمية الأربعة الأولى

للأمميـــــــــــة الشيوعيــــــــــــــة

                       1919-1923

                       نصوص كاملة

نقلته إلى العربية                           راجعه ودقٌقه

لينا عاصي                                    كميل داغر

– الإشراف العام على التدقيق والمراجعة والتصحيح والتنضيد الإلكتروني منيف ملحم
– مراجعة فيكتوريوس بيان شمس بالتعاون مع صفحة التراث الأممي الثوري

                        تـنـبـيـه

يضم هذا الكتاب كل البيانات، والموضوعات، والقرارات التي تبنّتها المؤتمرات الأربع الأولى للأممية الشيوعية، بين عامي 1919-1923.

وإزاء ضخامة كمية الوقائع والأحداث التي ترجع إليها هذه النصوص، كان لابد من إرفاقها بوفرة من الهوامش. ذلك أنه بالنسبة للأجيال الشابّة، لا تزال المهمة التي اضطلعت بها الأممية الشيوعية أيام لينين وبالمشاركة النشيطة من جانب تروتسكي، مجهولة كليا حتى أيامنا هذه.

وإذا لم تكن للاشتراكية – الديموقراطية يوما أية مصلحة في إبراز هذه النصوص، فهذا أمر يسهل فهمه: ففيها نتعرف إلى طريقة إنزال الهزيمة بالإصلاحية، وتنظيم الانتفاضة البروليتارية مع الجماهير الكادحة الغفيرة.

أما الصمت المحتفظ به داخل صفوف الأممية الشيوعية، فله تفسير آخر: ذلك أن كل تجربة الأممية الشيوعية بين عامي 1919 و1923 تتناقض كليا مع المسار السياسي الذي اتبعته منذ عام 1924، والذي انطبع بالإخفاق في ألمانيا عام 1923، وفي بلغاريا واستونيا عام 1924، وبالدعم الممنوح للإصلاحية الإنكليزية عام 1926. وبسحق الثورة الصينية الكبرى عامي 1926-1927، وبالعجز في الثورة الإسبانية، وبالاستسلام أمام الفاشية الألمانية في عامي 1932-1933.

إلاّ أننا اضطررنا للاستغناء عن الهوامش، لأنه كان مستحيلا بالنسبة إلينا أن نضخم هكذا مصنفا كهذا يتصف هو ذاته بالضخامة، لا بل اضطررنا حتى للتخلي عن فكرة مقدمة عامة، وهو أمر كان مع ذلك ضروريا.

لكننا، نحن المنتمين إلى العصبة الشيوعية الأممية (المعارضة اليسارية القديمة)، نعتبر أن التجربة الهائلة للحركات الثورية أثناء الحرب وبعدها، كما لخصتها الأممية الشيوعية بين عامي 1919 و1923، وحللتها، وبلورتها، وجعلتها واعية، تشكل المكسب الأساسي للماركسية المعاصرة.

لهذا أعدنا اليوم نشر هذه الوثائق، كأساس للماركسية – اللينينية المعاصرة.

تقدم البيانات (وبخاصة بيان المؤتمر الثاني)، والقرارات العامة، لوحة دقيقة كفاية عن الوضع السياسي والاقتصادي.

إن عددا من الموضوعات (حول المسألة القومية والمسألة الزراعية، والديمقراطية البرجوازية الديموقراطية البروليتارية)، التي بلورها المؤتمران الأول والثاني، لا تزال القاعدة الأساسية للماركسية في الحقبة الراهنة. وتقدم موضوعات أخرى دروسا في الاستراتيجية والتكتيك لا تقدر بثمن.

جرى إيراد النصوص نقلا عن الترجمات التي تمت في فترة صدورها، وهي ترجمات سيئة أحيانا. ولم يكن في وسعنا القيام بمراجعة كاملة، الأمر الذي كان يتطلب جهدا طويلا. والحال أن هدفنا كان وضع الوثائق بين يدي المناضلين في أسرع وقت ممكن. وقد قمنا بترجمة بعض تلك الوثائق، التي لم يتم نشرها سابقا بالفرنسية.

فلنضف أخيرا أن وثائق المؤتمرين الخامس والسادس للأممية (1925 و1928) سهلة المنال. إن ما سيكون على القارئ أن يراجعه حول الفترة التي تلت وفاة لينين عام 1924، إنما هو قبل كل شيء نقد مشروع برنامج الأممية الشيوعية، لليون تروتسكي، حيث تم تفحص كل التجربة التاريخية والنشاط الثوري لسنوات 1923-1928 على ضوء مبادئ المؤتمرات الأربع الأولى.

إننا مقتنعون أن هذا المصنّف سوف يلقى استقبالا جيدا في صفوف الجيل الصاعد، الذي سيجد فيه التوجه الماركسي والدروس الثمينة التي هو بحاجة إليها.



الناشر الفرنسي

1934

                         ملخص تاريخي

هذه لمحة عامة عن التطورات الأولى للأممية الشيوعية كتبها ماتياس راكوزي عشية المؤتمر الرابع، لأجل الدليل السنوي للعمل، الذي وضعته الأممية عام 1923.

                       الأممية الثالثة الشيوعية

كان لا بد أن تبين الأممية الثانية حقيقتها وإمكاناتها خلال الحرب الإمبريالية. وقد كانت معدة لذلك فكريا. كان جرى سلفا وضع تحليل دقيق للغاية لطابع الحرب. ومرارا، كانت المؤتمرات الأممية قررت خوض أشد النضال قوة، وحتى استخدام الإضراب العام الأممي ضد الحرب.

إلاّ أنه حين انفجرت الحرب، حصل العكس تماما. لم تكن الأممية حتى قادرة على تقديم احتجاج. وبدل إعلان الإضراب العام أو النضال ضد الحرب الإمبريالية هرع القادة الاشتراكيون- الديمقراطيون لدعم برجوازيتهم الخاصة بهم، بحجة الدفاع الوطني. كانت تلتهمهم الانتهازية والشوفينية وتربطهم آلاف الروابط بالبورجوازية. ما كان بإمكان الأممية الثانية بطبيعة الحال، أن تكون مختلفة عن الأحزاب التي تتشكل منها. ولم تكن الجمل الثورية قادرة على طمس الواقع إلاّ طالما لم يحن الوقت الذي سيتم خلاله فرض التطابق بين الأفعال والأقوال. لذلك شكلت بداية الحرب العالمية إيذانا بانهيار الأممية الثانية.

لهذا حُرمت الحركة العمالية العالمية من قيادتها، وتحديدا، في لحظة البلبلة الفكرية والأخلاقية الأشد. إن قلة من الرجال، الذين لم يفقدوا صوابهم، حتى وسط موجة الانتهازية والشوفينية التي بدأ، في آب 1914، أنها استحوذت على كافة العقول، سعوا على الفور إلى إفهام هذا الواقع للعمال، وهم بشكل خاص، البلاشفة الروس الذين كانوا، إبّان نضالهم الشرس ضد القيصرية، خاصة خلال عامي 1905-1906، قد تعلموا أن يميزوا بين الأقوال والأفعال الثورية، والذين كانوا قد شكلوا جناحا يساريا داخل الأممية الثانية، التي ينتقدون عملها. كتب الرفيق لينين، في العدد الأول من جريدة البلاشفة المركزية التي صدرت في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1914: «لقد ماتت الأممية الثانية، قضت عليها الانتهازية. فلتسقط الانتهازية ولتحيَ الأممية الثالثة، متخلصة من المرتدين ولكن أيضا من الإنتهازية!».

إن الأممية الثانية قد قامت بعمل مفيد في تنظيم الجماهير البروليتارية أثناء «مرحلة سلمية» طويلة من أسوأ عبودية رأسمالية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. إن مهمة الأممية الثالثة ستكون تحضير البروليتاريا للنضال الثوري ضد الحكومات الرأسمالية، وللحرب الأهلية ضد البرجوازية في البلدان كافة، بهدف الاستيلاء على السلطات العامة وانتصار الاشتراكية».

وبعد عدة أسابيع، كتب الرفيق زينوفييف حول «الاشتراكية – الديموقراطية الثورية»: «علينا أن نرفع راية الحرب الأهلية، ستتبنى الأممية هذا الشعار وستكون جديرة باسمها، وإلاّ سيكون نموّها بائساً. إن واجبنا هو التحضير للمعارك القادمة، وهو أن نعتاد نحن والحركة العمالية بمجملها على هذه الفكرة: إمّا أن نموت أو ننتصر تحت راية الحرب الأهلية».

إن نشر أفكار كهذه كان يصطدم بصعوبات هائلة. فقد استخدمت البرجوازية في البلدان كافة، وساندها الاشتراكيون – الوطنيون في مسعاها، شتى الوسائل لمنع هذه الأفكار من التغلغل بين الجماهير.

جرت أول محاولة لإعادة تشكيل الأممية الثورية في بداية أيلول/ سبتمبر 1915 في زيمرفالد بسويسرا، وقد دُعيت إليها «كل التنظيمات العمالية التي بقيت أمينة لمبدأ الصراع الطبقي والتضامن الأممي» بمبادرة من الاشتراكيين الإيطاليين، وحضرها مندوبون من ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، دول البلقان، السويد، النروج، بولندا، روسيا، هولندا وسويسرا، وتمثلت فيها الاتجاهات كافة، بدءا بالإصلاحيين السلميين وانتهاء بالماركسيين الثوريين. وقد تبنى الكونغرس بيانا يفضح الحرب الإمبريالية، ويطالب بالاقتداء بمثال كل أولئك الذين اضطُهدوا لأنهم حاولوا إيقاظ الروح الثورية في صفوف الطبقة العاملة. لقد شكل هذا البيان، على الرغم من غموضه، خطوة كبيرة إلى الأمام. هذا، ونشرت المجموعة المدعوة بـ يسار زيمرفالد قرارا أكثر وضوحا ونقاء بكثير، وتضمن هذا القرار المقطع التالي: «رفض كل القروض من أجل الحرب، خروج الوزراء الاشتراكيين من الحكومات البرجوازية، ضرورة فضح الطابع الإمبريالي للحرب من على منصة البرلمان وفي أعمدة الصحف الشرعية وغير الشرعية عند الحاجة، تنظيم التظاهرات ضد الحكومات، الدعاوة داخل الخنادق لصالح التضامن الأممي، حماية الإضرابات الاقتصادية والعمل في الوقت نفسه على تحويلها إلى إضرابات سياسية، حرب أهلية لا سلم اجتماعي».

إن رفض هذا القرار من قبل الكونفرنس يدل بشكل كاف على عقلية الذين شاركوا فيه. هذا وشكل الكونفرنس «لجنة اشتراكية عالمية»، وعلى الرغم من الإعلان الشكلي من قبل أكثرية الكونفرنس عن عدم نيتهم خلق أممية ثالثة، فإن اللجنة أصبحت، انطلاقا من معارضتها للـ «مكتب الاشتراكي العالمي» (الهيئة التنفيذية للأممية الثانية)، نقطة التقاء المعارضة ومنظِّمة الأممية الجديدة. إن ما ميّز الكونفرنس الثاني، كونفرنس كينتال، في نيسان / أبريل 1916 الذي تبع كونفرنس زيمرفالد، كان واقع أن فكرة النضال الثوري الأممي ضد الحرب، وكنتيجة لذلك، ضرورة أممية جديدة، برز في الصدارة أكثر وأكثر، فيما تزايد تأثير «اليسار الزيمرفالدي»، وجرى العمل باندفاع، فطبعت الكراريس والبيانات التي أرسلت إلى مختلف البلدان في أصعب الشروط، وتمت لقاءات صغيرة واجتماعات موسعة، استمرت في نشر فكرة الصراع الطبقي الثوري.

عندما انفجرت الثورة في روسيا، رجعت إليها العناصر الأكثر نشاطا في «اليسار الزيمرفالدي»، وهكذا تم انتقال مركز النضال من أجل الأممية الثالثة إلى روسيا، ولهذا كان زينوفييف على حق عندما كتب: «لقد ربطت الأممية الثالثة مصيرها، منذ نشأتها، بمصير الثورة الروسية، فبانتصار الثورة في روسيا، يفرض شعار «من أجل الأممية الثالثة» نفسه. وبقدر ما تتعزز الثورة الروسية، يتعزز أيضا «وضع الأممية الشيوعية في العالم أجمع».

خلال تظاهرات أول أيار / مايو 1917، كان شعار بناء الأممية الشيوعية أحد الشعارات الأساسية التي رفعتها الجماهير البروليتارية. وقد غدت هذه الأممية أكثر حرارة عندما استلمت البروليتاريا الروسية السلطة، وعندما وقفت الأممية الثانية – كما في الحرب العالمية – إلى جانب البرجوازية أثناء النضال ضد الإمبريالية العالمية.
بعد مضي عدة شهور على هزيمة دول المحور، بادر الحزب الشيوعي الروسي إلى تأسيس الأممية الثالثة، وأظهرت الثورات التي تلت الحرب إفلاس «الدفاع الوطني» وأنصاره الاشتراكيين – الديموقراطيين، ومرت موجة ثورية عارمة للطبقة العاملة في البلدان كافة، فظهرت في أوروبا الوسطى انتفاضات عمالية في كل حدب وصوب. ولم تكن الأرضية خصبة كفاية من أجل تشكيل الأممية الشيوعية فحسب، بل إن هذه الأخيرة أصبحت ضرورة من أجل تحضير النضالات الثورية وتنظيمها.

المؤتمر الأول – أذار/ مارس 1919

في 24 كانون الثاني / يناير 1919 قامت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي والمكاتب الخارجية للأحزاب الشيوعية في بولندا وهنغاريا وألمانيا والنمسا وليتوانيا واللجان المركزية للحزب الشيوعي الفنلندي والاتحاد الاشتراكي البلقاني والحزب الاشتراكي العمالي الأمريكي بتوجيه النداء التالي: «إن الأحزاب والتنظيمات الموقعة أدناه تعتبر اجتماع المؤتمر الأول للأممية الثورية الجديدة ضرورة ملحة. خلال الحرب والثورة، لم يظهر فقط الإفلاس الكامل للأحزاب الاشتراكية والاشتراكية – الديموقراطية الهرمة ومعها الأممية الثانية، ولكن أيضا عجز العناصر الوسطية في الاشتراكية – الديموقراطية الهرمة عن العمل الثوري، فيما بدأت ترتسم بوضوح معالم أممية ثورية حقيقية».

يصف النداء، في اثنتي عشرة نقطة، هدف الأحزاب «الاشتراكية» وتكتيكها ومسلكها، معتبرا أن العصر الحالي يتميز بتحلل النظام الرأسمالي وانهياره، الذي هو، في الوقت نفسه، انهيار للحضارة الأوروبية إذا لم يتم القضاء على الرأسمالية. إن مهمة البروليتاريا هي الاستيلاء المباشر على السلطات العامة، وهذا يقوم على تدمير جهاز الدولة البرجوازية وتنظيم جهاز الدولة البروليتارية. وعلى الجهاز الجديد أن يجسّد ديكتاتورية الطبقة العاملة وأن يُستخدم كأداة قمع منهجي للطبقة المستغلة ومصادرة ملكيتها. إن النموذج الذي تقدمه الدولة البروليتارية ليس الديموقراطية البرجوازية، هذا القناع الذي تختبئ وراءه سيطرة الطغمة المالية، بل الديموقراطية البروليتارية على صورة مجالس. ومن أجل تحقيق مصادرة الأرض ووسائل الإنتاج، التي يجب أن تنتقل إلى أيدي الشعب بأكمله، ينبغي نزع سلاح البرجوازية وتسليح الطبقة العاملة. إن الأسلوب الرئيسي للنضال هو نشاط الجماهير الثورية وصولا إلى الانتفاضة المسلحة ضد الدولة البرجوازية.

في ما يتعلق بموقف الاشتراكيين، جرى التمييز بين ثلاث مجموعات. فبمواجهة الاشتراكيين – الوطنيين الذين يقاتلون إلى جانب البرجوازية، ينبغي النضال دون هوادة، بينما يجب العمل على شق العناصر الثورية الوسطية ونقد قادتها باستمرار وفضحهم. وفي مرحلة معينة من التطور يفرض الانفصال العضوي عن الوسطيين نفسه، وينبغي تشكيل المجموعة الثالثة المكونة من العناصر الثورية في الحركة العمالية. يتبع ذلك تعداد لتسعة وثلاثين حزبا وتنظيما مدعوا للمؤتمر الأول. وترتكز مهمة المؤتمر على «خلق منظمة مقاتلة مكلفة بتنسيق الحركة الأممية الشيوعية وقيادتها، وتحقيق إخضاع مصالح الحركة في بلدان عديدة للمصالح العامة للثورة العالمية».

انعقد المؤتمر الأول في آذار / مارس 1919. في هذه المرحلة كانت روسيا السوفياتية محاصرة تماما، ومحاطة بالجبهات العسكرية من كل الجوانب بحيث أن عددا قليلا فقط من المندوبين تمكن، وفي أصعب الظروف، من الحضور إلى المؤتمر. وقد كتب الرفيق زينوفييف (في تقريره إلى المؤتمر الثاني)، حول موضوع تشكيل هذا المؤتمر، ما يلي: «لم تكن الحركة الشيوعية، في مختلف بلدان أوروبا وأمريكا، في تلك الفترة، إلاّ في بداياتها. وكانت مهمة المؤتمر الأول نشر راية الشيوعية وإعلان فكرة الأممية الشيوعية، غير أن الوضع العام للأحزاب الشيوعية في مختلف البلدان، وعدد المندوبين للمؤتمر الأول لم يسمحا بنقاش معمق للمسائل العملية الخاصة بتنظيم الأممية الشيوعية».

استمع المؤتمر إلى تقارير المندوبين حول وضع الحركة في بلدانهم، وتبنّى قرارات حول توجهات الأممية الشيوعية وحول الديموقراطية البرجوازية وديكتاتورية البروليتاريا، والموقف إزاء التيارات الاشتراكية والوضع العالمي، وقد صيغت هذه القرارات كافة بروحية نداء التأسيس. وتقرر تأسيس الأممية الشيوعية بالإجماع، عدا امتناع خمسة أصوات. وتركت للمؤتمر الثاني مهمة التشكيل النهائي للأممية الشيوعية، التي أسندت قيادتها إلى لجنة تنفيذية تتمثل فيها أحزاب روسيا وألمانيا وهنغاريا، والاتحاد البلقاني والحزبان السويسري والإسكندنافي، وأنهى المؤتمر أعماله بتوجيه بيان إلى بروليتاريا العالم أجمع.

خلال السنة الأولى، كان على اللجنة التنفيذية أن تقوم بعمل صعب التحقيق، وكونها شبه معزولة عن أوروبا الغربية، بقيت أشهراً كاملة دون صحف، محرومة من غالبية أعضائها الذين لم يستطيعوا المجيء، بسبب الحصار. ولكنها، رغم ذلك اتخذت موقفا من المسائل الهامة كافة. وتحديدا في السنة الأولى التي تبعت الحرب، حيث كان يُفتقد الوضوح إلى حد بعيد، كان لنداءات وكتابات اللجنة التنفيذية قيمة ثمينة جدا.

قدم إنشاء الأممية الشيوعية هدفا وقيادة للجماهير المعارضة لسياسة الأممية الثانية. فقد حدث تدفق حقيقي للعمال الثوريين إلى الأممية الشيوعية. ففي آذار / مارس 1919، أعلن الحزب الاشتراكي الإيطالي انتسابه، وفي أيار / مايو جاء دور حزب العمال النرويجي والحزب الاشتراكي «الضيّق» البلغاري، وفي حزيران / يونيو انتسب الحزب الاشتراكي اليساري السويدي والحزب الاشتراكي الشيوعي الهنغاري، الخ… في الوقت نفسه، كانت الأممية الثانية تفرغ بسرعة من عناصرها، فقد تركتها أحزابها الأكثر أهمية الواحد تلو الآخر. وإذا كانت الأممية الشيوعية، إبان تأسيسها، راية أكثر منها جيشا، فإنها لم تجمع خلال العام الأول لوجودها جيشا حول رايتها فحسب، بل أنزلت هزائم بأعدائها.

                   المؤتمر الثاني – تموز / يوليو 1920

لقد برزت مشاكل جديدة بالترافق مع تطور الأممية الشيوعية، فلم تكن الأحزاب التي انضمت إليها مكوّنة بشكل كاف، ولم يكن هناك وضوح كاف بعد حول موضوع الحزب ودور الشيوعيين في النقابات وموقفهم إزاء المسألة البرلمانية والمسائل الأخرى، فكانت مهمة المؤتمر الثاني تحديد التوجيهات.

أتى المندوبون من البلدان كافة، وافتتح المؤتمر في بتروغراد في 17 تموز / يوليو 1920، وسط تهليل العمال الروس واهتمام العالم البروليتاري بأكمله. لقد جرى تبني قرارات الأممية الشيوعية، التي برز فيها مفهوم الديكتاتورية البروليتارية وسلطة السوفيتات واضحا على قاعدة التجربة العملية، وكذلك شروط تنفيذ هذا الشعار في مختلف البلدان. وتم استعراض سبل تعزيز الحركة الشيوعية، كما جرى أيضا تبني قرارات حول دور الحزب في الثورة البروليتارية، فعلى الحزب الشيوعي أن يشكّل الطليعة، الجزء الأوعى والأكثر ثورية داخل الطليعة العمالية، وعليه أن يتشكّل على قاعدة مبدأ المركزية، ويشكّل، في كافة التنظيمات، أنوية خاضعة لانضباط الحزب.

أما في ما يتعلق بالنقابات، فـ «على الشيوعيين أن يدخلوا إليها لجعلها تشكيلات قتالية ضد الرأسمالية، ومدارس للشيوعيين»، فخروج الشيوعيين من النقابات ستكون نتيجته تسليم الجماهير للقادة الانتهازيين الذين يعملون مع البرجوازية. وجرى تبنّي قرارات أخرى حول موضوع المجالس العمالية ومجالس المصانع، حول البرلمانية وحول المسألة الزراعية والكولونيالية. وجرى أخيرا إقرار النظام الداخلي للأممية الشيوعية.

جرت نقاشات واسعة حول مسألة دور الحزب وحول نشاط الشيوعيين في النقابات والمشاركة في الانتخابات. وهاجم الانتهازيون بعنف الشروط الأحد والعشرين للانضمام إلى الأممية الشيوعية، فالنضال البطولي للبروليتاريا الروسية وإفلاس البرجوازية وحليفتها الأممية الثانية والشعارات والدعوات الثورية للأممية الشيوعية قادت إليها جمهورا من القادة الذين أجبروا على التنازل أمام ضغط الجماهير العمالية. لقد نذروا أنفسهم جسدا وروحا للأممية الثانية ولم يدخلوا الأممية الشيوعية إلاّ كي لا يفقدوا تأثيرهم على الجماهير. وحتى لو كانت الأممية الشيوعية قد أصبحت منظمة قوية ومجرّبة، فإن دخول هذه العناصر الانتهازية كان يحمل خطر إدخال روح الأممية الثانية إلى الأممية الشيوعية.

كانت هذه الشروط تفترض أن تتخذ كل دعاوة وكل تحريض يقوم بهما أي حزب يريد الانتساب إلى الأممية الشيوعية طابعا شيوعيا، وأن تكون الصحافة خاضعة كليا للجنة المركزية للحزب، وأن يبعد الإصلاحيون عن جميع مراكز المسؤولية، وأن يمتلك الحزب جهازا غير شرعي ويقوم بدعاية منظمة في الجيش وفي الأرياف ويقوم بنضال فعال ضد الإصلاحيين والوسطيين. وفي النقابات عليه أن يناضل ضد أممية أمستردام النقابية، وأن يكون شديد المركزية ويتخذ اسم الحزب الشيوعي (فرع الأممية الشيوعية)، كما على كل الأحزاب التي تنتمي إلى الأممية الشيوعية أو تلك التي تريد الدخول إليها، أن تبحث هذه الشروط في مؤتمر استثنائي يعقد في مدة أقصاها أربعة أشهر بعد المؤتمر الثاني، ويطرد من الحزب جميع الأعضاء الذين يرفضون هذه الشروط.

اختتم المؤتمر في 7 آب / أغسطس. وفي شهر أيلول / سبتمبر انشق الحزب الاشتراكي – الديموقراطي التشيكوسلوفاكي، فتبنت أغلبية ساحقة منه الشروط الواحدة والعشرين وشكلت، فيما بعد، حزبا شيوعيا. وفي شهر تشرين الأول / أكتوبر، وخلال مؤتمر هال، أعلنت أكثرية الحزب الاشتراكي – الديموقراطي المستقل انتسابها للأممية الشيوعية. وفي كانون الأول / ديسمبر حصل اندماج بين يسار الحزب المستقل والحزب الشيوعي الألماني (عصبة سبارتكوس) وخرج من ذلك الاندماج الحزب الشيوعي الألماني الموحد. وفي نهاية كانون الأول / ديسمبر انضمت الغالبية العظمى من الحزب الاشتراكي الفرنسي إلى الأممية الشيوعية. وفي شهر كانون الثاني / يناير 1921، حصل انشقاق داخل الحزب الاشتراكي الإيطالي، الذي كان ينتمي آنذاك إلى الأممية الشيوعية غير أن أكثريته الإصلاحية رفضت الشروط الأحد والعشرين. في شتى البلدان التي توجد فيها تنظيمات عمالية حدثت السيرورة نفسها: انفصل الشيوعيون عن الإصلاحيين وشكّلوا فروعا للأممية الشيوعية.

بموازاة تطور وتعزّز الأممية الشيوعية، حصل تفسخ الأممية الثانية، فقد شكلت سلسلة كاملة من الأحزاب التي خرجت من الأممية الثانية ولكنها رفضت الدخول إلى الأممية الشيوعية، «الاتحاد العالمي للأحزاب الاشتراكية»، الذي اصطلح على تسميته بالأممية 2,5، لأنه كان يتذبذب، حول المسائل كافة، بين الأمميتين الثانية والثالثة.

                  المؤتمر الثالث – حزيران / يوليو 1921

كان على المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية، الذي عقد في حزيران / يونيو1921، أن يعالج مهام جديدة، محددة في جزء منها بواقع أن الأممية الشيوعية كانت قد أصبحت تضم أكثر من خمسين فرعا، بينها أحزاب جماهيرية كبيرة في البلدان الأوروبية الأكثر أهمية، الأمر الذي كان يطرح مسائل تكتيكية وتنظيمية، ولكن، خاصة، بواقع أن تطور الثورة وانهيار البرجوازية شهدا نوعا من التباطؤ الذي ما كان بالإمكان توقعه في فترة انعقاد المؤتمرين الأول والثاني.

بعد انهيار قوات المحور، كانت الموجة الثورية هائلة القوة، وكان هناك انطباع بأن الثورات البروليتارية سوف تعقب مباشرة الثورات البرجوازية. وقد نجحت البروليتاريا في هنغاريا وبافيير في الاستيلاء على السلطة لبعض الوقت؛ حتى بعد هزيمة الجمهوريات السوفياتية في هنغاريا وبافيير لم يختف الأمل بانتصار سريع للطبقة العاملة. لنتذكر الفترة التي كان فيها الجيش الأحمر أمام فرصوفيا وكانت البروليتاريا بأكملها تستعد بشكل محموم لنضالات جديدة.

غير أن البرجوازية بدت أكثر قدرة على المقاومة مما كان يعتقد. كانت قوتها ترتكز، بادئ ذي بدء، على واقع أن الاشتراكيين – الخونة الذين قاتلوا البروليتاريا أثناء الحرب، بكل استبسال، قد ظهروا، حتى بعد الحرب، كأفضل حماة للرأسمالية المزعزعة. وفي شتى البلدان التي لم تستطع فيها البرجوازية أن تبقى سيدة الموقف، سلمت السلطة للاشتراكيين – الديموقراطيين. لقد كانت «الحكومات الاشتراكية – الديموقراطية»، مع نوسكه وإيبرت في ألمانيا، رينير وأوتو باور في النمسا، توسار في تشيكوسلوفاكيا، بوهم وغارامي في هنغاريا، هي التي تولت أعمال البرجوازية خلال المرحلة الثورية، وخنقت بشكل دموي محاولات التحرر التي قامت بها البروليتاريا.

إن الازدهار الظاهري الذي تبع الحرب مباشرة، بإتاحته للرأسماليين تشغيل العمال المسرّحين، شكّل هو أيضا عائقا أمام الثورة. ونجحت البرجوازية في تهدئة العمال العاطلين عن العمل، بإعطائهم إعانات مالية، تضاف إلى ذلك أيضا ظاهرة سيكولوجية، وهي تعب جماهير واسعة من الطبقة العاملة التي خرجت لتوها من المعاناة والحرمان اللذين عانت منهما خلال السنوات الأربع من الحرب الإمبريالية. وأخيرا كانت الأحزاب الشيوعية التي تقع عليها مهمة قيادة نضال البروليتاريا وتنسيقه، لا تزال في طريق تكوينها وغالبا ما تبنّت أساليب نضالية خاطئة.

سمحت كل هذه الظروف للبرجوازية بأن تستجمع قواها ببطء وأن تحوز على ثقتها بنفسها وتستعيد جزءا من مواقعها المفقودة، وفي البلدان كافة، حيث شارك الاشتراكيون في الحكومة، طردتهم البرجوازية عندما لم تعد بحاجة لهم. وتولى الرأسماليون بأنفسهم إدارة أعمالهم، وأنشأوا منظمات عسكرية غير شرعية وسلّحوا القسم الواعي من البرجوازية وانتقلوا إلى الهجوم على الطبقة العاملة.

في هذه الأثناء، طرأت تحولات عميقة على الوضع الاقتصادي. وفي ربيع 1920، ظهرت أزمة في اليابان وأمريكا وامتدت شيئا فشيئا إلى جميع الأمم الصناعية، فتضاءل الاستهلاك بسرعة، وانخفض الإنتاج، وتم الإلقاء بمئات الآلاف، وملايين العمال دون مأوى ولا عمل، وانخفضت مجالات العمل بسرعة، وتقلّص الإنتاج. لقد اتخذت النضالات العمالية أبعادا كبيرة ولكنها انتهت بهزائم، مما عزّز وضع البرجوازية.

هكذا كان الوضع، عندما أفتُتح المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية. لقد بحث المؤتمر بادئ ذي بدء، الوضع الاقتصادي العالمي، وتناول، بعد ذلك، مسألة التكتيك الذي يقتضيه الوضع الجديد. كانت البرجوازية تَقْوى، وكذلك خدامها الاشتراكيون – الديموقراطيون. لقد انقضت مرحلة الانتصارات السهلة التي حققتها الأممية الشيوعية خلال السنوات التي تلت الحرب مباشرة. وبانتظار نضالات ثورية جديدة، كان علينا إعادة بناء تنظيماتنا وتعزيزها والاستيلاء على مواقع الإصلاحيين عن طريق العمل المتواصل داخل المنظمات العمالية. إن احتلال المصانع في إيطاليا وإضراب كانون الأول / ديسمبر في تشيكوسلوفاكيا، وانتفاضة آذار / مارس في ألمانيا، كانت تُظهر أن الأحزاب الشيوعية حتى عندما تقاتل بشكل واضح من أجل مصالح البروليتاريا بمجملها لا تستطيع أن تنتصر على القوى الموحدة للبرجوازية والاشتراكية – الديمقراطية، ليس فقط عندما لم تكن تحوز على تعاطف أوسع الجماهير، بل أيضا عندما لم تكن تضم جماهير داخل منظماتها عبر انتزاعها من المنظمات المختلفة. لهذا أطلق المؤتمر شعار «توجهوا إلى الجماهير !».

كان على الأحزاب الشيوعية، في أوروبا الغربية، أن تفعل ما بوسعها لإجبار النقابات والأحزاب المستندة إلى الطبقة العاملة، على القيام بعمل مشترك لأجل المصالح المباشرة للطبقة العاملة في الوقت الذي تتحضر فيه هذه الأخيرة لاحتمال خيانة الأحزاب غير الشيوعية.

ظهر نوع من المعارضة «اليسارية» ضد هذا التكتيك، فقد رأى فيه حزب العمال الشيوعي الألماني(1) تخليا عن النضال الثوري، واتهم الأممية الشيوعية بأنها قامت، على الصعيد السياسي، بالتراجع نفسه الذي وجدت سلطة السوفييتات نفسها مجبرة على القيام به على الصعيد الاقتصادي. كما أن بعض الرفاق الجيدين لم يفهموا، في البداية، ضرورة هذا التكتيك.

وإلى جانب مسائل التكتيك، اتخذت مسألة التنظيم الاهتمام الأكبر. وقد شكّل المكتب النقابي، الذي أنشأه المؤتمر الثاني بالتعاون مع النقابات التي انتسبت في الفترة الفاصلة بين المؤتمرين، الأممية النقابية الحمراء بهدف السيطرة على النقابات. وجرى نقاش مسألة أممية الشباب أيضا والحركة النسائية، والمسألة المرتبطة بالعمل في التعاونيات والاتحادات الرياضية العمالية.

استمع المؤتمر، فيما بعد، إلى تقرير حول روسيا السوفياتية وأقّر بالإجماع التكتيك المُتّبع.

وحصلت نقاشات واسعة حول التقرير المتعلق بنشاط اللجنة التنفيذية، وقد عارض بعض الرفاق سياسة اللجنة التنفيذية بصدد المسألة الإيطالية، وقضية ليفي وقضية حزب العمال الشيوعي الألماني. لكن المؤتمر أيّد في هذه المسائل كافة نشاط اللجنة التنفيذية. وقد أتت الأحداث لتثبت صحة هذه القرارات.

اختتم المؤتمر أعماله في 12 آب / أغسطس بنقاش المسألة الشرقية.

كانت الأشهر التالية هادئة نسبيا، وفسحت المجال أمام مختلف الأحزاب الشيوعية لتنفيذ قرارات المؤتمر الثالث. وقد خضعت المنظمات لامتحان قاس وتوطد الارتباط بين مختلف الفروع واللجنة التنفيذية. لقد أصبحت الأممية الثالثة خلال ثلاث سنوات من وجودها، منظمة عالمية حقا، فلم يكن للأممية الثانية، مثلا، أي حزب في بلدان كفرنسا وإيطاليا، وعلى العكس، لم يكن هناك أي بلد لم يشكل فيه القسم الأكثر وعيا من البروليتاريا، دون تمييز بين العرق أو اللون، فرعا للأممية الشيوعية. كانت هذه الأخيرة تضم 60 فرعا، ويبلغ عدد أعضائها الإجمالي ثلاثة ملايين وتملك 60 صحيفة يومية. وكان يتم كسب جماهير جديدة ومواقع جديدة بنجاح، فمؤتمر عمال الشرق الأقصى، الذي عقد في موسكو في شهر كانون الثاني / يناير 1922، أقام الصلة بين الطبقتين العاملتين الصينية واليابانية والأممية الشيوعية.

الجبهة المتحدة

انعقد المؤتمر الثالث في فترة كان يسودها هبوط كبير بالمعنويات في صفوف الطبقة العاملة. فقد ثبطت همة البروليتاريا بفعل الهزائم التي تلقتها، وتفاقم هذا الوضع أيضا بعد المؤتمر، وعانى العمال في إنجلترا وأمريكا وإيطاليا والبلدان المحايدة من البطالة الدائمة. وفقدت الطبقة العاملة المكتسبات التي حققتها في السنوات الأخيرة، وجرى تمديد يوم العمل وانخفض مستوى معيشة العمال إلى ما دون المستوى الذي كان عليه قبل الحرب. وإذا كانت البطالة أقل اتساعا في البلدان حيث سعر صرف العملة منخفض، مثل ألمانيا، النمسا وبولندا، فإن بؤس الطبقة العاملة كان أشد قساوة، نظرا إلى الهبوط الثابت في الأجور الفعلية العائد إلى الانخفاض الدائم في القيمة الشرائية للعملة، مما كان يضع العمال إزاء استحالة تلبية حاجاتهم، حتى أكثرها أوليّة.

لم يكن هذا الوضع يحتمل، فبدأت الجماهير، تحت ضغط البؤس المتزايد، بالبحث عن علاج لوضعها. لقد فهمت أن الأساليب القديمة كانت عاجزة عن الوصول إلى أي شيء. كانت الإضرابات تفشل، وعندما تنجح، كانت المكتسبات المحققة تلغى بعد فترة قصيرة عن طريق خفض قيمة العملة. ورأت الجماهير أن الطبقة العاملة الموزعة على أحزاب مختلفة كانت تقاتل بعضها البعض، فيما تخوض الطبقة الرأسمالية ضدها هجمة موحدة، وكان الحل الذي يفرض نفسه، في هذا الوضع، هو توحيد القوى المشتتة للبروليتاريا كي تقف بوجه الهجمة الرأسمالية.

بأية طريقة ينبغي أن يتحقق هذا التوحيد لقوى البروليتاريا؟ لم يكن لدى الجماهير العمالية أية فكرة واضحة تماما بهذا الصدد. في شتى الأحوال، كان واقع أن هناك حركة، تنشأ في كل مكان بهذا الاتجاه، دليل على عمقه وضرورته. كان هذا يثبت أن الجماهير قد تحولت لا شعوريا عن السياسة الإصلاحية للأممية الثانية والأممية النقابية لأمستردام؛ فبعد قدر كبير من الأخطاء والهزائم، قررت أخيرا السير في طريق توحيد قوى البروليتاريا.

في الوقت نفسه، كان هذا يعني تحولا في تقويم دور الأحزاب الشيوعية والأممية الشيوعية. لقد كانت البروليتاريا خلال عامي 1918 و1919 قد هُزمت، لأن طليعتها، الحزب الشيوعي، كان يمثل اتجاها أكثر منه تنظيما قادرا على الإمساك بقيادة الصراع الطبقي، وأجبرت تجربة الهزائم الشيوعيين على خلق المنظمات المقاتلة الضرورية وذلك عن طريق الانشقاقات وعبر إنشاء الأحزاب المستقلة. تزامنت هذه المرحلة من الانشقاقات مع مرحلة تراجع الموجة الثورية الكبرى، ومع بدء الهجمة المضادة الرأسمالية. وحتى لو لم يعرف الاشتراكيون – الديموقراطيون كيف يستغلون هذا الظرف بمهارة فإن استياء كان سيحصل في صفوف الجماهير من «الانشقاقيين» لأنها لم تستطع فهم ضرورة هذا التكتيك، كذلك لم تفهم الجماهير جيدا محاولات الاستنهاض التي قام بها الشيوعيون، عندما طالبوا، قبل الطبقة العاملة بمجملها – تحديدا لأنهم يشكلون القسم الأكثر وعيا داخلها – باستخدام أساليب نضال أكثر فعالية. لقد كان إضراب كانون الأول / ديسمبر في تشيكوسلوفاكيا، وحركة آذار / مارس في ألمانيا سيفشلان حتماً حتى لو جرت قيادتهما بشكل أفضل، لأن أوسع الجماهير لم تكن تدرك بعد ضرورة هكذا أسلوب في النضال. غير أن ضغط البؤس جعلها تفهم سريعا ضرورة ما كانت تعتبره في السابق عصيانا مسلحا. إن العمل الذي قام به الشيوعيون لوحدهم، في مرحلة الإحباط، وكلفهم تضحيات هائلة، أصبح ينتج ثماره.

لقد أضيف إلى ذلك واقع أن العمال، خلال النضال، لم يعودوا يبالون بالحدود بين الأحزاب التي حاول الاشتراكيون- الديمقراطيون أن يبعدوهم بواسطتها عن الشيوعيين.

سعى محازبو أمستردام، أعضاء الأممية الثانية والأممية 2,5، إلى استغلال التيار الجديد بإثارتهم حركة لصالح الوحدة، ضد الشيوعيين. غير أن المرحلة، التي كانت هكذا مناورات ممكنة خلالها لأن الاشتراكيين – الديموقراطيين كانوا يمسكون بأيديهم كل التنظيمات العمالية وكل الصحافة العمالية، كانت قد انقضت. وقد فضحت اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية هذا المُخطط، وقامت بحملة «من أجل وحدة البروليتاريا العالمية، ضد الاتحاد مع الاشتراكيين – الخونة». وتوجهت في البداية إلى أممية أمستردام بصدد قضية إغاثة الجياع وإغاثة عمال يوغسلافيا وإسبانيا، دون نتيجة. ولكن عندما أصبحت ملامح الموجة الجديدة أكثر وضوحا وأكثر ظهورا، اتخذت اللجنة التنفيذية، بعد نقاشات طويلة، موقفا بصدد المسألة.

وفي «قرارات حول الجبهة المتحدة للعمال وحول العلاقات مع العمال الذين ينتمون إلى الأممية الثانية، والأممية 2,5، وأممية أمستردام النقابية، والتنظيمات الفوضوية – النقابية»، جرى تحليل الوضع ووضع هدف واضح ومحدد للجهود الأولية في سبيل الجبهة المتحدة، «ليست الجبهة المتحدة سوى اتحاد لكل العمال الذين قرروا النضال ضد الرأسمالية». كان على الشيوعيين التمسك بهذا الشعار حول أكبر وحدة ممكنة لكل التنظيمات العمالية في كل عمل ضد الرأسمالية. لقد خان زعماء الأممية الثانية وكذلك زعماء الأممية 2,5 وزعماء أممية أمستردام النقابية الجماهيرية العمالية في شتى مسائل النضال العمالية ضد الرأسمالية، هذه المرة أيضا فضّلوا الوحدة مع البرجوازية على الوحدة مع البروليتاريا. كان دور الأممية الشيوعية ومختلف فروعها، إقناع الجماهير العمالية، هذه المرة، بنفاق الاشتراكيين – الخونة، الذين تكشفوا كهدّامي وحدة جبهة الطبقة العاملة. ضمن هذا الهدف أصبح الاستقلال المطلق وحرية النقد الكاملة الشرطين الأساسيين للأحزاب الشيوعية.

وشددت القرارات أيضا على المخاطر التي يمكن أن تنشأ، لدى وضع هذا التكتيك موضع التنفيذ، حيث الأحزاب الشيوعية لم تتملك بعد الوضوح الإيديولوجي الضروري والتجانس اللازم.

في منتصف شهر كانون الأول / ديسمبر جرى تبني هذه القرارات، ولاتخاذ القرار النهائي بصددها تمت الدعوة إلى عقد دورة موسعة للجنة التنفيذية في موسكو في أوائل شهر شباط / فبراير اللاحق. وفي نداء حول الجبهة المتحدة العمالية، بتاريخ أول كانون الثاني / يناير 1922، بيّنت اللجنة التنفيذية ضرورة النضال المشترك ردّا على كونفرانس واشنطن والهجمة الشاملة للرأسمالية ضد الطبقة العاملة. لقد انتشرت القرارات ونداء اللجنة التنفيذية بسرعة في كل البلدان، وأصبحت موضوع نقاشات طويلة من جانب الشيوعيين وأعدائهم، وأسهمت في توضيح مسألة الجبهة المتحدة. وأطلق الاشتراكيون – الخونة الصرخات العالية، إذ فهموا أنهم وُضِعوا هنا إزاء مسألة ستجبرهم على كشف أقنعتهم. غير أن سخطهم على هذه «المناورة الشيوعية الجديدة» لم يكن بمقدوره إزالة الانطباع لدى الجماهير بأن الشيوعيين، الذين كان يطلق عليهم حتى ذلك الوقت اسم «الانشقاقيين»، كانوا في الواقع الأنصار الحقيقيين لوحدة جبهة البروليتاريا. وبسبب إضراب عمال سكك الحديد الألمان لم تعقد جلسة اللجنة التنفيذية الموسعة إلاّ في نهاية شباط / فبراير. لقد كانت الجلسة بالواقع مؤتمرا صغيرا ضمّ أكثر من 100 مندوب يمثلون 36 بلدا. كان جدول الأعمال مثقلا بعض الشيء: يتضمن تقارير الأحزاب عن البلدان الأكثر أهمية، ومهام الشيوعيين في النقابات، ومسالة النضال ضد مخاطر الحرب، ومسألة السياسة الاقتصادية الجديدة في روسيا السوفياتية ومسألة النضال ضد بؤس الشبيبة العمالية، غير أن المسألة الأساسية كانت مسألة الجبهة المتحدة والمشاركة في الكونفرانس المشترك الذي اقترحته الأممية 2,5.

أعلن الرفاق الفرنسيون والإيطاليون معارضتهم للوحدة الجبهوية بالشكل الذي قُدِّمت فيه في قرارات اللجنة التنفيذية، فقد عبّر الرفاق الفرنسيين عن خشيتهم من ألاّ تفهم الجماهير العمالية الفرنسية عملاً مشتركا بين الشيوعيين والمنشقين، وأعلنوا عن أنفسهم كمناصرين للجبهة المتحدة للعمال الثوريين كما أعلنوا أن نشاط الشيوعيين، في فرنسا، يتجه إلى تشكيل تكتل العمال الثوريين حول مسألة يوم العمل من ثماني ساعات ومسألة الضريبة على الأجور. كان الحزب الفرنسي لا يزال فتيا جدا ولا يمتلك قدرة كبيرة على المناورة وغير قادر على القيام بعمل مشترك مع الاشتراكيين المنشقين والنقابات الإصلاحية، التي انفصل عنها منذ فترة وجيزة.

وأعلن المندوبون الإيطاليون مناصرتهم لوحدة الجبهة النقابية، لكنهم عارضوا وحدة الجبهة السياسية مع الاشتراكيين، وعبّروا عن رأيهم بأن الجماهير لن تفهم العمل المشترك بين مختلف الأحزاب العمالية، وبأن الأرضية الفعلية، حيث الجبهة المتحدة ممكنة، هي النقابة، حيث يوجد الشيوعيون والاشتراكيون معا.

لقد أبدى جميع المندوبين الآخرين الحاضرين في الكونفرنس رأيا مختلفا. فعلى الرغم من خيانات الزعماء الإصلاحيين التي لا تحصى، فقد نجحوا، حتى الآن، في الحفاظ على تأثيرهم على الجزء الأكبر من التنظيمات العمالية، ولن نستطيع أن نكسب العمال إلينا إذا ما رددنا، مرة أخرى، أن هؤلاء خونة. فالمقصود هنا، إذ تسود بين الجماهير إرادة القتال، أن نظهر لها ليس فقط أن الاشتراكيين – الديموقراطيين لا يريدون النضال من أجل الاشتراكية، بل أنهم لا يريدون كذلك النضال من أجل مطالب الطبقة العاملة الأكثر مباشرة. فحتى الآن لم نكن قد نجحنا بعد في فضحهم، أولا لأننا لم نكن نمتلك الوسائل الضرورية لذلك، ولأن الوضع النفسي، بالتالي، والجو الذي يستطيع فيه العمال أن يفهموا الخيانات التي تستهدفهم، كانا مفقودين. لقد توفرت لنا الفرصة أخيرا لفضحهم، لذلك فإن رفضنا النضال إلى جانب الإصلاحيين لأنهم لا يناضلون أبدا بجدية ضد البرجوازية وهم خدامها، فإننا سنحصل على رضى الرفاق الذين يعرفون ذلك من قبل، لكننا لن نقنع عاملا واحدا من الذين ما زالوا يتبعون الإصلاحيين. وعلى العكس من ذلك، فإن الشيوعيين برفضهم القيام بالنضال المشترك، في فترة تريد فيها الجماهير العمالية هذا النضال، فإنما يقدمون للاشتراكيين – الخونة إمكانية تصويرهم كمخربين لوحدة الجبهة البروليتارية، ولكن إذا اشتركنا في النضال، سترى الجماهير، بعد قليل، من يريد فعليا النضال ضد البرجوازية ومن لا يريده. إن رفاقنا الذين سينظرون إلينا باستياء في البداية ونحن جالسون مع الإصلاحيين على طاولة واحدة، سيفهمون، خلال المفاوضات، أننا نقوم، هنا أيضا، بعمل ثوري.

بعد أن أقرت اللجنة التنفيذية الموسعة التوجهات التي تتضمنها القرارات، بإجماع الأصوات، ما عدا الرفاق الفرنسيين والاسبانيين والإيطاليين، أدلت الوفود الثلاثة المعارضة للجبهة المتحدة بتصريح تؤكد فيه خضوعها لهذه التوجهات.

وقررت اللجنة التنفيذية الموّسعة قبول دعوة أممية فيينا للمشاركة في كونفرانس أممي، مقترحة أن تدعى إلى الكونفرانس ليس فقط الأممية الشيوعية، ولكن أيضا الأممية النقابية الحمراء، وأممية أمستردام النقابية، والتنظيمات الفوضوية – النقابية والتنظيمات النقابية المستقلة، وأن يوضع على جدول أعمال الكونفرانس، إلى جانب النضال ضد الهجمة الرأسمالية وضد الرجعية، مسألة النضال ضد حروب إمبريالية جديدة، وإعادة بناء روسيا السوفياتية، ومسألة التعويضات ومعاهدة فرساي.

اختتم الكونفرنس في 4 آذار / مارس بعد تسوية بعض المسائل الأخرى (تلك الخاصة بالصحافة الشيوعية والمعارضة العمالية في الحزب الشيوعي الروسي الخ…) وبعد انتخاب رئيس اللجنة التنفيذية.

الكونفرنس التمهيدي

للأمميات الثلاث

عقدت في 2 نيسان/  أبريل الجلسة الأولى لوفود الأمميات الثلاث، التي يتشكل كل منها من 10 أعضاء. لقد حاول ممثلو الأممية الثانية مباشرة تخريب الكونفرنس وخنق الجبهة المتحدة في المهد. وضعوا شروطا على الأممية الشيوعية، وطالبوا بـ «ضمانات» ضد تكتيك «الأنوية» وراحوا يناقشون مسالة جورجيا ومسألة الاشتراكيين – الثوريين. وانتهى ذلك إلى وضع يهدد بانفراط الكونفرنس. وبفضل الموقف الحازم لمندوبي الأممية الشيوعية الذين طالبوا بالجبهة المتحدة دون شروط، أيد مندوبو أممية فيينا وجهة نظرهم، مما أجبر مندوبي الأممية الثانية على التراجع. وبعد أربعة أيام من المفاوضات، تقررت الدعوة إلى كونفرنس عام، في أقرب مهلة. وشكلت لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء من كل لجنة تنفيذية كلفت بالتحضير له. وبانتظار اجتماع الكونفرنس العام، تقرر تنظيم تظاهرة مشتركة لكل الأحزاب المنتسبة إلى الأمميات الثلاث في العشرين من نيسان / أبريل، وحيث يتعذر ذلك من الناحية العملية تجري في أول أيار / مايو تحت الشعارات التالية:

– من أجل يوم عمل من ثماني ساعات.

– من أجل النضال ضد البطالة، الناتجة عن سياسة التعويضات التي تنتهجها الدول الرأسمالية الكبرى.

– من أجل العمل الموحد للبروليتاريا ضد الهجمة الرأسمالية.

– من أجل الثورة الروسية، من أجل روسيا الجائعة، من أجل إعادة العلاقات السياسية والاقتصادية مع روسيا.

– من أجل إعادة بناء الجبهة المتحدة الوطنية والأممية.

لقد كُلفت لجنة التنظيم بالتوسط بين ممثلي أممية أمستردام النقابية وممثلي أممية النقابات الحمراء. وصرح مندوبو الأممية الشيوعية بأن محاكمة الاشتراكيين – الثوريين ستحصل بعلنية كاملة، وستنتهي دون أحكام إعدام. ولحظ القرار أيضا أن الكونفرنس العام لا يمكن أن يعقد في نيسان / أبريل، لأن الأممية الثانية كانت ترفضه تحت تبريرات مختلفة. كانت هذه الأخيرة ترفض كذلك وضع معاهدة فرساي وإعادة النظر فيها على جدول أعمال الكونفرنس.

بيّنت تظاهرات 30 نيسان / أبريل وأول أيار / مايو التالي، التي شاركت فيها جماهير عمالية ضخمة، أن البروليتاريا صممت أن تناضل بشكل مشترك من أجل الشعارات التي كانت قد أطلقت. حاولت الأممية الثانية والأحزاب التي تتشكل منها، اليوم كما بالأمس، أن تخرّب الجبهة المتحدة، فقد رفضت تنظيم تظاهرات مشتركة، وأخرت تنفيذ القرارات المتخذة فأسهمت بذلك في فضح نفسها أمام الجماهير.

إنها مهمة الأممية الشيوعية وفروعها القومية أن تُظهر بنشاطها أن النضال ضد الهجمة الرأسمالية وضد الرأسمالية بشكل عام، لا يمكن أن ينجح إلاّ بقيادة الأممية الشيوعية.

وكما كان منتظرا، أطاحت الأممية الثانية وأممية فيينا لجنة التسعة. فبعد أن توصلتا إلى الحيلولة دون اجتماع اللجنة خلال كونفرنس جنوا لكي لا تعكرا صفو البرجوازية في شيء خلال مشاوراتها المعادية لروسيا السوفياتية، عقدت الجلسة الأولى، والتي كانت الأخيرة أيضا، في 23 أيار / مايو في برلين. وفي 21 أيار / مايو كان قد عُقد اجتماع ضم حزب العمال (الإنجليزي) وحزب العمال البلجيكي والحزب الاشتراكي الفرنسي، تقرر خلاله عقد كونفرنس عام لكافة الأحزاب الاشتراكية، باستثناء الأحزاب الشيوعية. كان واضحا أن الأممية الثانية والأممية 2,5 قد عادتا إلى مشروعهما بإنشاء جبهة متحدة ضد الشيوعيين. على الرغم من ذلك، قامت الأممية الشيوعية بكل ما في وسعها لإتاحة انعقاد مؤتمر عالمي لكل الأحزاب الاشتراكية. ومن أجل الوصول إلى أهداف الجبهة المتحدة، أي النضال ضد هجمة الرأسمال، وضد انخفاض الأجور وضد البطالة، أعلنت استعدادها لحذف مسألة دعم روسيا السوفياتية من جدول أعمال المؤتمر وكانت قد أقرت في البرنامج المشترك، وطلبت بالمقابل جوابا محددا عما إذا كانت الأممية الثانية تقبل بالمؤتمر العمالي العالمي. وبمواجهة هذا السؤال برزت الأممية الثانية معادية للجبهة المتحدة، وكذلك أممية فيينا، نصيرتها المتطوعة. وهكذا انفرطت لجنة التسعة.

عند ذلك دعت الأممية الشيوعية لدورة جديدة للجنة التنفيذية الموسعة، فاجتمعت في 7 حزيران / يونيو، وحضرها 60 مندوبا يمثلون 27 بلدا. وقد ناقش الكونفرنس مسالة التكتيك الواجب اتباعه بعد توجهات المرحلة الأولى للنضال لصالح الجبهة المتحدة، وتكتيك الأحزاب التي لا تتفق سياستها مع السياسة العامة للأممية الشيوعية، وأخيرا موقف الأممية الشيوعية تجاه محاكمات الاشتراكيين – الثوريين، والدعوة لمؤتمر عالمي.

في ما يتعلق بتكتيك الجبهة المتحدة، سجّل الكونفرنس أنه بالرغم من فشل لجنة التسعة، فإن المسلمات السياسية والاقتصادية لتكتيك الجبهة المتحدة قائمة كما في السابق وتبعا لذلك يجب أن يقوم تكتيك مختلف فروع الأممية الشيوعية على تحقيق وحدة الجبهة ضد هجمة الرأسمال.

وبما أن الأحزاب الفرنسية والإيطالية والنروجية لم تنفّذ تكتيك الجبهة المتحدة، أو أنها لم تنفذه إلاّ بتردد أو جزئيا، اهتم الكونفرنس تفصيليا بوضع هذه الأحزاب، وعبّر عن أمله بأن يُطبّق هذا التكتيك أيضا في هذه البلدان. وفي ما يتعلق بالحزب الفرنسي، ونظرا لأن وجود يمين انتهازي هام داخله يشكل عائقا أمام نشاطه ونموه، أعلنت اللجنة التنفيذية أن أفضل طريقة لمعالجة الوضع هي وحدة الوسط واليسار ضد اليمين. وبحث الكونفرنس أيضا وضع الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي حيث ظهرت عوارض أزمة قادمة، ورأى سببها في بعض السلبية داخل قيادة الحزب وحدّد التوجيهات الملائمة من أجل إزالتها.

وفي صدد محاكمة الاشتراكيين – الثوريين، سجل أنه في الوقت الذي شرعت فيه الأممية الثانية وأممية فيينا بحملة ضد الأممية الشيوعية وروسيا السوفياتية، وبما أن الأمر، بالإضافة إلى ذلك، يتعلق بقضية هامة تعني في الوقت نفسه روسيا السوفياتية، حصن الثورة العالمية، والأممية الشيوعية، فعلى هذه الأخيرة أن تشارك بفعالية بالمحاكمة وترسل مدّعين، ومحامين، وشهوداً وخبراء.

المؤتمر الرابع – تشرين الثاني / نوفمبر 1922

عيّن المؤتمر العالمي الرابع في 7 تشرين الثاني / نوفمبر 1922، تاريخ الذكرى الخامسة للثورة البروليتارية، مع جدول الأعمال التالي:

1- تقرير اللجنة التنفيذية؛

2- تكتيك الأممية الشيوعية؛

3- برنامج الأممية الشيوعية وفروعها: الألماني، الفرنسي، الإيطالي، التشيكوسلوفاكي، البلغاري، النروجي، الأمريكي والياباني؛

4- المسألة الزراعية؛

5- المسألة النقابية؛

6- التربية؛

7- مسألة الشبيبة؛

8- مسألة الشرق.

تقرر أن ينصب العمل الأساسي للمؤتمر الرابع على النقطة الثالثة. وقد عُيّنت مباشرة لجنة للإعداد لبرنامج الأممية الشيوعية، وكُلفت أيضا بالمساعدة في صياغة برامج مختلف الفروع.

بيّن الكونفرنس نمو الحركة الشيوعية في مختلف البلدان وتعزيزها. وكان أحد أهم مظاهر ذلك العصبية المتزايدة لأنصار أممية أمستردام، الذين كانوا ينظرون بخوف إلى تطور تأثير الشيوعيين في النقابات. وقد أظهرت العديد من الأدلة أنهم في هذه اللحظة، قد صمموا على طرد الشيوعيين من النقابات في كل البلدان، وأنه ضمن هذا الهدف لن يتراجعوا إزاء انشقاق الحركة النقابية. ولذلك كانت المهمة الأساسية للأممية الشيوعية داخل النقابات، تقوم على فضح هذه المناورة والحيلولة دون أن يُضعف أنصار أمستردام البروليتاريا بتحطيمهم للنقابات.

(1) وهو غير الحزب الشيوعي الألماني الموحد.

المؤتمر الأول

رسالة دعوة للحزب الشيوعي الألماني (عصبة سبارتاكوس)

إلى المؤتمر الأول للأممية الشيوعية

أيها الرفاق الأعزاء!

تعتبر الأحزاب والمنظمات الموقّعة أدناه أن الدعوة إلى المؤتمر الأول للأممية الشيوعية الجديدة ذات ضرورة ملحة. لقد ظهرت أثناء الحرب والثورة، ليس فقط الهزيمة الكاملة للأحزاب الاشتراكية والاشتراكية – الديموقراطية القديمة، والأممية الثانية في الوقت نفسه، وليس فقط عجز العناصر الوسطية الاشتراكية – الديموقراطية (المسماة بـ «الوسط») عن الفعل الثوري الفعّال، بل إننا نرى حاليا ارتسام معالم أممية ثورية فعلية. إن الحركة الصاعدة فائقة السرعة للثورة العالمية تطرح، باستمرار، مشاكل جديدة. إن خطر خنق هذه الثورة عبر التحالف بين الدول الرأسمالية المتحدة ضد الثورة تحت راية «عصبة الأمم» المخادعة ومحاولات الأحزاب الاشتراكية – الخائنة أن تتوحد وتعين حكوماتها وبرجوازيتها من جديد على خيانة الطبقة العاملة، بعد أن مُنحت «العفو» مقابل ذلك؛ وأخيرا التجربة الثورية فائقة الغنى التي جرى اكتسابها، وعالمية الحركة الثورية – كل هذه الظروف تجبرنا على اتخاذ المبادرة بوضع مسألة الدعوة إلى مؤتمر عالمي للأحزاب البروليتارية الثورية على جدول أعمال النقاش.

1- الأهداف والتكتيك

إن الاعتراف بالفقرات التالية، المثبّتة هنا كبرنامج، والمبلورة على قاعدة برامج عصبة سبارتاكوس في ألمانيا والحزب الشيوعي (البلشفي) في روسيا، ينبغي أن يُشكل بالنسبة لنا قاعدة للأممية الجديدة.

أ- إن المرحلة الحالية هي مرحلة تحلّل وانهيار النظام الرأسمالي العالمي بمجمله، وستكون مرحلة انهيار الحضارة الأوروبية بشكل عام، إذا لم يتم تحطيم الرأسمالية وتناقضاتها التي لا حل لها.

ب- تقوم مهمة البروليتاريا حاليا على استلام سلطة الدولة، ويعني استلام سلطة الدولة تحطيم جهاز الدولة البرجوازي وتنظيم جهاز جديد للسلطة البروليتارية.

ج- يجب أن يمثل جهاز السلطة الجديد دكتاتورية الطبقة العاملة، وفي بعض المناطق يجب أن يمثل أيضا سلطة صغار الفلاحين والعمال الزراعيين، أي يجب أن يكون أداة الإطاحة المنهجية للطبقة المستغِلة ونزع ملكيتها. ليس الديموقراطية البرجوازية المزيفة – هذا الشكل المخادع لسيطرة الأوليغارشية المالية – بمساواتها الشكلية المحضة، بل الديموقراطية البروليتارية، مع إمكانية تحقيق الحرية للجماهير العاملة، وليس البرلمانية بل الإدارة الذاتية لهذه الجماهير عبر هيئاتها المنتخبة، ليس البيروقراطية الرأسمالية، بل الأجهزة الإدارية التي تخلقها الجماهير بنفسها، بمشاركة حقيقية لهذه الجماهير في إدارة البلد والعمل لأجل البناء الاشتراكي – هذا ما يجب أن يكون عليه نموذج الدولة البروليتارية. إن سلطة المجالس العمالية والمنظمات العمالية هي شكلها الملموس.

د- يجب أن تكون دكتاتورية البروليتاريا الرافعة للمصادرة المباشرة للرأسمال، وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتحويل هذه الملكية إلى ملكية شعبية.

إن المشكلات الأساسية الراهنة تتلخص في تشريك (ونعني بالتشريك هنا إلغاء الملكية الخاصة التي تتسلمها الدولة البروليتارية، والإدارة الاشتراكية للطبقة العاملة) الصناعة الكبيرة والبنوك، مراكز تنظيمها؛ ومصادرة أراضي كبار الملاكين العقاريين وتشريك الإنتاج الزراعي الرأسمالي، واحتكار التجارة؛ وتشريك الأبنية الكبرى في المدن والملكيات الكبرى في الريف؛ وإدخال الإدارة العمالية ومركزة المهام الاقتصادية بين أيدي الهيئات المنبثقة عن الدكتاتورية البروليتارية.

هـ- من أجل أمن الثورة الاشتراكية، ومن أجل الدفاع عنها ضد أعدائها الداخليين والخارجيين، من أجل مساعدة الأجزاء الأخرى القومية في البروليتاريا المناضلة.. الخ، فإن نزع السلاح الكامل للبرجوازية وعملائها، والتسليح العام للبروليتاريا، هما مسألتان ضروريتان.

و- يفترض الوضع العالمي حاليا الاتصال الوثيق جدا بين مختلف أجزاء البروليتاريا الثورية، والوحدة التامة بين البلدان التي انتصرت فيها الثورة الاشتراكية.

ز- إن الوسيلة الأساسية للنضال هي النشاط الجماهيري للبروليتاريا، بما فيه النضال المسلح المفتوح ضد سلطة دولة الرأسمال.

2- العلاقات مع الأحزاب «الاشتراكية»

ح- لقد انقسمت الأممية الثانية إلى ثلاث مجموعات رئيسية: الاشتراكيون – الوطنيون المُعلنون، وهم الذين دعموا، على امتداد الحرب الإمبريالية خلال السنوات 1914- 1918، برجوازيتهم الخاصة وحوّلوا الطبقة العاملة إلى جلاّد الثورة العالمية؛ «الوسط»، وزعيمه النظري حاليا هو كاوتسكي، ويمثل تنظيما مؤلفا من عناصر متذبذبة باستمرار، عاجزة عن اتباع خط موجّه محدد، وهؤلاء يتحركون أحيانا كخونة حقيقيين؛ وأخيرا الجناح اليساري الثوري.

ط- بمواجهة الاشتراكيين – الوطنيين، الذين يجابهون، في كل مكان وفي اللحظات الحاسمة، الثورة البروليتارية بالسلاح، فإن النضال العنيد هو وحده الممكن، وبمواجهة «الوسط»: يجب اتباع تكتيك كسب العناصر الثورية، والنقد القاسي، وفضح القادة. وفي مرحلة معينة من التطور يصبح الانفصال التنظيمي عن الوسطيين ضرورة مطلقة.

ي- من جهة ثانية هناك ضرورة للتكتل مع هذه العناصر من الحركة الثورية التي، بالرغم من عدم انتمائها يوما إلى الحزب الاشتراكي، تقف الآن بمجملها على أرضية دكتاتورية البروليتاريا تحت شكل السلطة السوفياتية، وهؤلاء هم بالدرجة الأولى العناصر النقابية في الحركة العمالية.

ك- وأخيرا، من الضروري جذب كل المجموعات والتنظيمات البروليتارية التي، بالرغم من عدم انضمامها صراحة إلى التيار اليساري الثوري، تُظهر مع ذلك في تطورها ميلا بهذا الاتجاه.

ل- نقترح، وبشكل ملموس، أن يشارك في المؤتمر، ممثلو الأحزاب والتيارات والمجموعات التالية (سيكون الأعضاء كاملو الحقوق في الأممية الثالثة، أحزابا مختلفة تماما، تقف كليا على أرضيتها):

1- عصبة سبارتاكوس (ألمانيا)

2- الحزب الشيوعي (البلاشفة) (روسيا)

3- الحزب الشيوعي في النمسا الألمانية

4- الحزب الشيوعي في هنغاريا

5- الحزب الشيوعي في فنلندا

6- الحزب الشيوعي العمالي البولندي

7- الحزب الشيوعي في استونيا

8- الحزب الشيوعي في ليتونيا

9- الحزب الشيوعي في ليتوانيا

10- الحزب الشيوعي في روسيا البيضاء

11- الحزب الشيوعي في أوكرانيا

12- العناصر الثورية في الحزب الاشتراكي – الديموقراطي التشيكي

13- الحزب الاشتراكي – الديموقراطي البلغاري (الضيق)

14- الحزب الاشتراكي – الديموقراطي الروماني

15- الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي – الديموقراطي في الصرب

16- يسار الحزب الاشتراكي – الديموقراطي في السويد

17- الحزب الاشتراكي – الديموقراطي النروجي

18- عن الدنمارك، تجمع كلاسن كامبن

19- الحزب الشيوعي الهولندي

20- العناصر الثورية في حزب العمال البلجيكي

21- و 22- المجموعات والتنظيمات داخل الحركة الاشتراكية والنقابية الفرنسية التي تتضامن بمجملها مع لوريو

23- يسار الاشتراكية – الديموقراطية في سويسرا

24- الحزب الاشتراكي الإيطالي

25- العناصر الثورية في الحزب الاشتراكي الإسباني

26- العناصر الثورية في الحزب الاشتراكي البرتغالي

27- الأحزاب الاشتراكية البريطانية (وفي مقدمتها التيار الذي يمثله ماك لين)

28- S.L.P (إنجلترا)

29- I.W.W. (إنجلترا)

30- I.W. في بريطانيا العظمى

31- العناصر الثورية في التنظيمات العمالية الإيرلندية

32- العناصر الثورية بين ممثلي شغيلة المتاجر (بريطانيا).

33- S.L.P. (أمريكا)

34- العناصر الثورية في الحزب الشيوعي الأمريكي (الاتجاه الممثل بدبس وعصبة الدعوة الاشتراكية).

35-I.W.W. الأمريكي

36-I.W.W. (أستراليا)

37- الاتحاد الصناعي العالمي للعمال (أمريكا).

38- المجموعات الاشتراكية لتوكي ويوكوهاما (الممثلة بالرفيق كاتاياما)

39- الأممية الاشتراكية للشباب (الممثلة بالرفيق مانزينبرغ).

3- المسألة التنظيمية واسم الحزب

م- يقوم أساس الأممية الثالثة على واقع أن مجموعات وتنظيمات من رفاق في الأفكار كانت قد تشكلت في أنحاء مختلفة من أوروبا، وهي تقف على أرضية برنامج مشترك وتستخدم، إجمالا، الأساليب التكتيكية نفسها، وهؤلاء هم في الدرجة الأولى السبارتاكيون في ألمانيا والأحزاب الشيوعية في العديد من البلدان الأخرى.

ن- يجب أن ينبثق من المؤتمر، بهدف الاتصال الدائم والقيادة النظامية للحركة، جهاز نضال مشترك، يكون مركز الأممية الشيوعية، ويخضع مصالح الحركة في كل بلد للمصالح المشتركة للثورة على الصعيد العالمي. وسيقوم المؤتمر بوضع الأشكال الملموسة للتنظيم والتمثيل.

ص- يتخذ المؤتمر اسم «المؤتمر الأول للأممية الشيوعية» وتصبح مختلف الأحزاب فروعا لهذه الأممية. على الصعيد النظري، وجد ماركس وإنجلز أن تسمية «اشتراكي – ديموقراطي» خاطئة، ويفرض هنا الانهيار المخزي للأممية الاشتراكية – الديموقراطية انفصالا عنها. وبالنهاية فإن النواة الأساسية للحركة الكبرى قد تشكلت من أحزاب اتخذت هذا الاسم.

انطلاقا مما سبق ذكره، نقترح على كل الأحزاب والتنظيمات الشقيقة أن تضع على جدول أعمالها مسألة الدعوة إلى المؤتمر الأممي الشيوعي. مع تحياتنا الاشتراكية.

اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي (لينين، تروتسكي).

المكتب الخارجي لحزب العمال الشيوعي البولندي (كارسكي).

المكتب الخارجي لحزب العمال الشيوعي الهنغاري (رودنيانسكي).

المكتب الخارجي لحزب العمال الشيوعي في النمسا الألمانية (دورا).

المكتب الروسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الليتواني (روزينغ).

اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفنلندي (سيرولا).

اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي – الديموقراطي الثوري البلقاني (راكوفسكي).

عن الـS.L.P. (أمريكا) (رينستين).

كانت الدعوة أعلاه موجهة إلى الشيوعيين في كل البلدان لحضور كونفرنس يعقد في موسكو في 15 شباط / فبراير 1919، غير أن الافتتاح تأخر بسبب الصعوبات الكبيرة في التنقل، ولم يعقد إلاّ في 2 آذار / مارس. وقد افتتح لينين الكونفرنس بكلمة صغيرة في السادسة مساء، واعتمدت اللغة الألمانية في النقاشات، وبالإضافة إليها استخدمت الروسية والفرنسية والإنجليزية.

وقد انتخبت بالإجماع، كرؤساء للمؤتمر، الرفاق: لينين (روسيا)، ألبرت (ألمانيا)، بلاتين (سويسرا)، أمّا الرابع فقد جرى انتدابه، دوريا، من مختلف الأحزاب. وانتخب المؤتمر الرفيق كلينغر كأمين سر للمؤتمر.

وقد سجلت لجنة المندوبين حضور الأحزاب التالية وقامت بتوزيع الأصوات:

المشاركون في مؤتمر الأممية الشيوعية في موسكو
2 – 6 آذار / مارس 1919

  البلد والحزب                     عدد الأصوات

1 الحزب الشيوعي الألماني                   5

2 الحزب الشيوعي الروسي                   5  

3 الحزب الشيوعي في النمسا الألمانية     3    

4 الحزب الشيوعي الهنغاري             3

5 الاشتراكي – الديموقراطي اليساري السويدي  3

6 الحزب الاشتراكي – الديموقراطي النروجي 3

7 الحزب الاشتراكي – الديموقراطي السويدي 3

8 S.L.P. الأمريكي 5

9 الاتحاد البلقاني (تشنياك البلغاري والحزب الشيوعي الروماني) 3

10 الحزب الشيوعي البولندي 3

11 الحزب الشيوعي الفنلندي 3

12 الحزب الشيوعي الأوكراني 3

13 الحزب الشيوعي الليتوني 1

14 الحزب الشيوعي في روسيا البيضاء والليتواني 1

15 الحزب الشيوعي الاستوني 1

16 الحزب الشيوعي الأرميني 1

17 الحزب الشيوعي في فولغا الألمانية 1

18 التجمع الموحد لشعوب روسيا الشرق 1

19 يسار زيمرفالد الفرنسي 5

الأصوات الاستشارية:

20 الحزب الشيوعي التشيكي  

21 الحزب الشيوعي البلغاري  

22 الحزب الشيوعي للبلدان السلافية الجنوبية  

23 الحزب الشيوعي الإنجليزي  

24 الحزب الشيوعي الفرنسي  

25 الحزب الاشتراكي – الديموقراطي الهولندي  

26 عصبة الدعاوة الاشتراكية الأمريكية

فروع المكتب المركزي للبلدان الشرقية:

27 شيوعيون سويسريون  

28 شيوعيون توركستانيون  

29 الفرع التركي  

30 الفرع الجيورجي  

31 الفرع الأذربيجاني  

32 الفرع الإيراني  

33 الحزب العمالي الاشتراكي الصيني  

34 الاتحاد العمالي في كوريا  

35 لجنة زيمرفالد  

خطاب لينين الافتتاحي

نيابة عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي، أفتتح المؤتمر الأممي الأول. قبل أي شيء، أرجوكم أن تقفوا تمجيدا لذكرى أفضل ممثلي الأممية الثالثة، ذكرى كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبرغ.

أيها الرفاق، يكتسي مؤتمرنا أهمية كبرى في التاريخ العالمي، إنه يثبت إفلاس كل أوهام الديموقراطية البرجوازية، لقد أصبحت الحرب الأهلية واقعا ليس في روسيا وحسب بل في البلدان الرأسمالية الأكثر تطورا، ألمانيا مثلا.

لقد جنّت البرجوازية من الذعر أمام الحركة الثورية البروليتارية المتنامية وهذا يمكن فهمه، لأن كل مسار الأحداث منذ نهاية الحرب الإمبريالية، يعزز، حتما، الحركة الثورية البروليتارية، ولأن الثورة الأممية العالمية تبدأ وتنمو في البلدان كافة.

إذ يتبين الشعب عظمة هذا النضال وأهميته، كان يفترض إيجاد الشكل العملي الذي يسمح للبروليتاريا بممارسة سيطرتها. هذا الشكل، هو نظام السوفيتات مع ديكتاتورية البروليتاريا. ديكتاتورية البروليتاريا: هاتان الكلمتان كانتا حتى أيامنا من «اللغة اللاتينية» بالنسبة للجماهير. أمّا الآن، فبفضل نظام السوفيتات، جرت ترجمة هذا التعبير اللاتيني إلى كل اللغات الحديثة؛ لقد أوجدت الجماهير الشعبية الشكل العملي للديكتاتورية، التي أصبحت مفهومة لدى أوسع الجماهير العمالية بفضل سلطة السوفيتات في روسيا، والسبارتاكيين في ألمانيا، وبعض التنظيمات المماثلة في البلدان الأخرى مثل لجان ممثلي شغيلة المتاجر في إنجلترا. كل هذا يثبت أن الشكل الثوري لديكتاتورية البروليتاريا قد وجد، وأن البروليتاريا تقوم بممارسة سيطرتها الفعلية.
أيها الرفاق ! إنني أعتقد أنه بعد الأحداث في روسيا وبعد معارك كانون الثاني / يناير في ألمانيا، ينبغي بشكل خاص الإشارة إلى أن الشكل الجديد لحركة البروليتاريا بدأ يظهر ويشق طريقه في بلدان أخرى أيضا، فقد قرأت اليوم في صحيفة إنجليزية معادية للاشتراكية، برقية تعلن أن الحكومة الإنجليزية استقبلت سوفيتات مندوبي العمال في برمنغهام ووعدته بالاعتراف بالسوفيتات كمنظمات اقتصادية. إن النظام السوفياتي حقق النصر ليس في روسيا المتخلفة فحسب بل في البلدان الأكثر تحضرا في أوروبا كألمانيا، وفي أقدم بلد رأسمالي: إنجلترا.

باستطاعة البرجوازية أن تعاقب بقسوة؛ وباستطاعتها أن تقتل أيضا آلاف العمال – غير أن النصر سيكون لنا. إن انتصار الثورة الشيوعية العالمية مؤكد.

أيها الرفاق! أرحب بكم بحرارة باسم لجنتنا المركزية.

موضوعات لينين

حول الديموقراطية البرجوازية

وديكتاتورية البروليتاريا

1- إن نمو الحركة الثورية البروليتارية في كل البلدان يحفّز الجهود المتشنجة للبرجوازية، وعملائها في التنظيمات العمالية، من أجل اكتشاف الحجج الفلسفية السياسية القادرة على المساعدة في الدفاع عن سيطرة المستغِلين. وتندرج إدانة الدكتاتورية والدفاع عن الديموقراطية في إطار هذه الحجج. إن الكذب والخبث في هكذا حجة أرهقت السامعين من كثرة تردادها في الصحافة الرأسمالية وفي كونفرنس الأممية الصفراء في برن، شباط / فبراير 1919، بديهيان بالنسبة لجميع أولئك الذين لا يسعون إلى خيانة المبادئ الأساسية للاشتراكية.

2- بداية، ترتكز هذه الحجة على مفاهيم الـ «ديموقراطية بشكل عام» والـ «ديكتاتورية بشكل عام» دون تحديد المسألة الطبقية. إن طرح المشكلة بهذا الشكل، خارج المسألة الطبقية، بدعوى مراعاة الأمة بمجملها، هو بالضبط الهزء بالمذهب الرئيسي للاشتراكية، أي مذهب الصراع الطبقي، المسلّم بصحته قولا ولكن ينساه في الواقع الاشتراكيون الذين انتقلوا إلى معسكر البرجوازية، ذلك أنه لا يوجد في أي بلد متحضر، في أي بلد رأسمالي ديموقراطية بشكل عام، لا يوجد إلاّ الديموقراطية البرجوازية. ولا يتعلق الأمر أكثر بالديكتاتورية التي تمارسها الطبقة المضطهَدة، أي البروليتاريا، على المضطهِدين والمستغِلين، أي الطبقة البرجوازية، بهدف التغلب على مقاومة المستغِلين الذين يكافحون من أجل سيطرتهم.

3- يعلّم التاريخ أنه ما من طبقة مضطهَدة توصلت إلى السيطرة، أو استطاعت التوصل إليها دون المرور بمرحلة ديكتاتورية تستولي خلالها على السلطة السياسية وتتغلب عن طريق القوة على المقاومة اليائسة، الساخطة التي يواجِه بها المستغَلون دائما والتي لا ترتدع عن أية جريمة. إن البرجوازية، التي يدعم الاشتراكيون اليوم سيطرتها، خاطبين بإطناب حول الديكتاتورية «بشكل عام»، وضاجّين من أجل الديموقراطية «بشكل عام»، قد استولت على السلطة في البلدان المتحضرة عبر سلسلة انتفاضات وحروب أهلية، وعبر الإطاحة بالملوك والنبلاء ومالكي العبيد بالقوة، وعبر قمع محاولات الردة.

لقد شرح الاشتراكيون في كل البلدان للشعب، آلاف المرات، الطابع الطبقي لهذه الثورات البرجوازية، في كتبهم وكراريسهم، في قرارات مؤتمراتهم وفي خطبهم الدعاوية. لذلك ليس الدفاع الحالي عن الديموقراطية البرجوازية عبر الخطب عن الـ «الديكتاتورية بشكل عام»، وليست كل هذه الصرخات وهذه الدموع ضد ديكتاتورية البروليتاريا تحت حجة إدانة «الديكتاتورية بشكل عام»، إلاّ خيانة فعلية للاشتراكية، وتخلياً مميزا لصالح البرجوازية، ليست إلاّ إنكارا لحق البروليتاريا في ثورتها البروليتارية. إنه الدفاع عن الإصلاحية البرجوازية، وتحديدا في الوقت الذي انهزمت فيه في العالم أجمع، فيما خلقت الحرب حالة ثورية.

4- إن كل الاشتراكيين، إذ أثبتوا الطابع الطبقي للحضارة البرجوازية والديموقراطية البرجوازية والبرلمانية البرجوازية، عبّروا عن هذه الفكرة، التي كان قد صاغها ماركس وإنجلز بأقصى ما يمكن من الصحة العلمية، والقائلة إن أكثر الجمهوريات البرجوازية ديموقراطية ليست شيئا آخر سوى آلة لاضطهاد الطبقة العاملة لصالح البرجوازية، وجماهير الشغيلة لصالح قبضة من الرأسماليين. ليس هناك ثوري واحد، ولا ماركسي واحد بين هؤلاء الذين يصرخون اليوم ضد الديكتاتورية ومن أجل الديموقراطية، لم يكن قد أقسم بأكبر آلهته أمام العمال، بأنه يقبل هذه الحقيقة الأساسية في الاشتراكية. واليوم بينما البروليتاريا الثورية تختمر وتتحرك، وتنزع إلى تحطيم آلة الاضطهاد هذه وتحقيق ديكتاتورية البروليتاريا، يريد هؤلاء الخونة الإيهام بأن البرجوازية قد أعطت الشغيلة الـ «ديموقراطية الصافية» وكأن البرجوازية قد استنكفت عن أية مقاومة وكانت جاهزة لإطاعة غالبية الشغيلة، وكأنه في أية ديموقراطية برجوازية، لم يكن هناك آلة حكومية معدّة لسحق العمل على يد الرأسمال.

5- إن كومونة باريس، التي يجلّها قولا كل الذين يريدون أن يُعتبروا اشتراكيين، لأنهم يعلمون أن الجماهير مفعمة بالتعاطف القوي والصادق معها، قد أثبتت بوضوح مميز النسبية التاريخية والقيمة المحدودة للبرلمانية البرجوازية والديموقراطية البرجوازية، وهما المؤسستان اللتان تسجلان تطوراً كبير الأهمية بالنسبة لمؤسسات القرون الوسطى، ولكنهما تفترضان بالضرورة إصلاحا أساسيا في عصر الثورة البروليتارية. لقد أظهر ماركس، الذي ثمّن أكثر من غيره الأهمية التاريخية للكومونة عبر تحليلها، طابع الاستغلال في الديموقراطية والبرلمانية البرجوازية، وهو النظام الذي تحصل فيه الطبقات المضطهدَة، ليوم واحد، على حق تقرير من سيكون ممثل الطبقات المالكة الذي سيمثل الشعب ويضطهده في البرلمان خلال مرحلة تمتد عدة سنوات. وفي الوقت الذي تشمل الحركة السوفياتية العالم أجمع، وتكمل بنظر الجميع عمل الكومونة، ينسى الخونة الاشتراكيون التجربة الملموسة لكومونة باريس، ويرددون الترهات البرجوازية حول الـ «ديموقراطية بشكل عام». مع ذلك، لم تكن كومونة باريس مؤسسة برلمانية.

6- تتمثل قيمة الكومونة كذلك في أنها حاولت أن تقلب رأسا على عقب الجهاز الحكومي البرجوازي وتحطمه سواء في الإدارة، أو القضاء، أو الجيش أو الشرطة وذلك عن طريق استبداله بالتنظيم الذاتي للجماهير العمالية، دون الاعتراف بأي تمييز بين السلطات التشريعية والتنفيذية.

إن كل الديموقراطيات البرجوازية المعاصرة، ودون استثناء الجمهورية الألمانية التي يسميها خونة الاشتراكية بروليتارية رغما عن الحقيقة، تحفظ على العكس الجهاز الحكومي القديم. وهكذا يتأكد مرة أخرى وبشكل بديهي كليا أن كل هذه الصرخات لصالح الديموقراطية لا تخدم بالواقع إلاّ الدفاع عن البرجوازية وعن امتيازات الطبقة المستغلة.

7- يمكن أخذ حرية الاجتماع مثالا على الديموقراطية الصافية. إن أي عامل واع لم يقطع مع طبقته، يفهم منذ اللحظة الأولى أنه من الحماقة بمكان السماح بحرية الاجتماع للمستغِلين في الوقت والظروف التي يقاوم فيها المستغِلون سقوطهم ويدافعون عن امتيازاتهم. عندما كانت البرجوازية ثورية في إنجلترا عام 1649 أو في فرنسا عام 1793 لم تمنح حرية الاجتماع للملكيين ولا للنبلاء الذين استدعوا القوات الأجنبية و«اجتمعوا» لتنظيم محاولات الردة. إذا كانت البرجوازية اليوم، التي أصبحت رجعية منذ فترة طويلة، تطالب البروليتاريا بأن تضمن لها مسبقاً، وبالرغم من كل المقاومة التي يقوم بها الرأسماليون ضد مصادرة ملكيتهم، حرية الاجتماع للمستغلين، فإن العمال لا يملكون إلاّ أن يضحكوا من نفاق البرجوازية.

من جهة أخرى، يعلم العمال جيدا جدا أن حرية الاجتماع، حتى في الجمهورية البرجوازية الأكثر ديموقراطية، هي جملة لا معنى لها، طالما أن الأغنياء يملكون أفضل العمارات الخاصة والعامة، ووقت الفراغ اللازم للاجتماع تحت حماية هذا الجهاز الحكومي البرجوازي. إن بروليتاريي المدن والأرياف وصغار الفلاحين، أي الأغلبية العظمى من السكان لا تملك لا تلك العمارات ولا ذلك الوقت. وطالما أن الأمر كذلك، فإن المساواة، أي الديموقراطية المحضة ليست إلاّ خديعة. من أجل الحصول على المساواة الفعلية، ومن أجل تحقيق الديموقراطية فعلا لصالح الشغيلة، ينبغي مسبقا انتزاع كل المساكن الغنية العامة والخاصة من المستغِلين، وينبغي مسبقا تأمين أوقات الفراغ للشغيلة، وينبغي أن تتم حماية اجتماعاتهم بواسطة عمال مسلحين، وليس أبدا من قبل الضباط النبلاء الريفيين أو الرأسماليين، والجنود الموالين لهم.

عندئذ فقط يمكننا أن نتكلم على حرية الاجتماع والمساواة، دون أن نهزأ من العمال والشغيلة. والحال، مَنْ باستطاعته إنجاز هذا الإصلاح غير الطبقة العمالية، أي البروليتاريا، عن طريق إطاحة المستغِلين والبرجوازية؟

8- إن حرية الصحافة هي أيضا أحد أكبر شعارات الديموقراطية المحضة. ومرة أخرى يعلم العمال أن الاشتراكيين في كل البلدان قد اعترفوا ملايين المرات بأن هذه الحرية هي أكذوبة، طالما أن أفضل المطابع وأكبر مخازن الورق يستأثر بها الرأسماليون، وطالما بقيت سلطة الرأسمال قائمة في العالم أجمع، وبوضوح وصفاء وصلافة أكبر، كلما كان النظام الديموقراطي والجمهوري أكثر تطورا، كما في أمريكا مثلا. فمن أجل الحصول على المساواة الفعلية والديموقراطية الحقيقية بما يخدم مصالح الشغيلة، العمال والفلاحين، ينبغي أن تنزع من الرأسمال قدرته على استئجار الكتّاب، وشراء الصحف ودور النشر وإفسادها، ومن أجل هذا ينبغي إسقاط نير الرأسمال، إسقاط المستغلين، وتحطيم مقاومتهم. إن الرأسماليين يطلقون اسم حرية الصحافة على قدرة الأغنياء على إفساد الصحافة، وقدرتهم على استخدام ثرواتهم، من أجل فبركة الرأي العام المزعوم والمحافظة عليه. إن المدافعين عن «الديموقراطية المحضة» هم في الواقع، مرة أخرى، مدافعون عن النظام الحقير والفاسد لسيطرة الأغنياء على إعلام الجماهير، إنهم هؤلاء الذين يخدعون الشعب ويضللونه بالجمل الكاذبة، حول هذه الضرورة التاريخية، وهي تحرير الصحافة من خضوعها للرأسمال. إن الحرية الفعلية أو المساواة الفعلية لن توجدا إلاّ في النظام الذي يبنيه الشيوعيون، حيث يستحيل ماديا إخضاع الصحافة بشكل مباشر أو غير مباشر لسلطة المال، وحيث لا شيء يمنع أي شغيل أو مجموعة من الشغيلة في ظل هذا النظام من امتلاك، أو استخدام، حق استعمال مطابع الدولة وورقها، وبمساواة تامة.

لقد بين لنا تاريخ القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حتى قبل الحرب، ما كانت عليه الديموقراطية المحضة الشهيرة في ظل النظام الرأسمالي. ردّد الماركسيون دوما أنه كلما كانت الديموقراطية أكثر تطورا، وكلما كانت أكثر صفاء، كلما وجب أن يكون الصراع الطبقي أكثر حيوية وحدة وشراسة، وكلما ظهر أكثر صفاء نير الرأسمال وديكتاتورية البرجوازية. إن قضية درايفوس في فرنسا الجمهورية، والعنف الدموي للمفارز المستأجرة والمسلّحة من قبل الرأسماليين ضد المضربين في الجمهورية الأمريكية الحرة والديموقراطية، إن هذه الوقائع والآلاف المشابهة غيرها، تكشف هذه الحقيقة التي تسعى البرجوازية عبثا إلى إخفائها، وهي أنه، تحديدا، في الجمهوريات الأكثر ديموقراطية، يسود الرعب وديكتاتورية البرجوازية. رعب ودكتاتورية يظهران بصراحة في كل مرة يبدو فيها للمستغِلين أن سلطة الرأسمال بدأت تتزعزع.

9- أظهرت الحرب الإمبريالية بين عامي 1914 و1918 بشكل نهائي، حتى أمام أعين العمال غير المستنيرين، هذا الطابع الحقيقي للديموقراطية البرجوازية، حتى في الجمهوريات الأكثر حرية – بما هو طابع ديكتاتورية برجوازية. فمن أجل إغناء حفنة من أصحاب الملايين أو المليارات الألمان أو الإنجليز، جرى ذبح عشرات الملايين من الرجال، وتم تأسيس الديكتاتورية العسكرية للبرجوازية في الجمهوريات الأكثر حرية. وما زالت هذه الديكتاتورية العسكرية مستمرة في البلدان الحليفة حتى بعد هزيمة ألمانيا. إن الحرب أكثر من أي شيء آخر، هي التي فتحت أعين الشغيلة ونزعت المغريات الكاذبة للديموقراطية البرجوازية؛ لقد أظهرت للشعب جحيم المضاربة والربح خلال الحرب وبمناسبة الحرب. لقد قامت البرجوازية بهذه الحرب باسم الحرية والمساواة، وباسم الحرية والمساواة جنى مموّنو الجيش ثروات خيالية. ولم تتوصل كل جهود أممية برن الصفراء إلى أن تخفي عن الجماهير طابع الاستغلال، الظاهر حاليا، للحرية البرجوازية، وللمساواة البرجوازية وللديموقراطية البرجوازية.

10- إن الأشهر الأولى من هذه الحرية الجمهورية التامة في ألمانيا، البلد الرأسمالي الأكثر تطورا في أوروبا، هذه الحرية التي حملتها هزيمة ألمانيا الإمبريالية، قد أظهرت للعمال الألمان وللعالم أجمع الطابع الطبقي للجمهورية الديموقراطية البرجوازية. إن اغتيال كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبرغ هو حدث ذو أهمية تاريخية عالمية، ليس فقط بسبب الموت المأساوي لإثنين من أفضل شخصيات وقيادات الأممية البروليتارية والشيوعية الحقيقية، بل أيضا لأنها أظهرت الجوهر الفعلي للنظام البرجوازي في الدولة الأكثر تطورا في أوروبا، لا بل يمكننا القول، في العالم أجمع. إذا كان هناك أشخاص قيد الاعتقال، بمعنى أنهم موضوعون تحت حراسة السلطة الحكومية للاشتراكيين الوطنيين، قد أمكن قتلهم، دون محاكمة، من قبل الضباط والرأسماليين، فهذا يعني أن الجمهورية الديموقراطية التي أمكن أن يتم فيها حدث مماثل ليست إلاّ ديكتاتورية البرجوازية. إن الأشخاص الذين يعبّرون عن نقمتهم بصدد موضوع اغتيال كارل ليـبكنخت وروزا لوكسمبرغ، لكن دون أن يفهموا هذه الحقيقة، لا يثبتون بذلك إلاّ غباءهم أو نفاقهم. إن الحرية، في إحدى أكثر جمهوريات العالم حرية وتقدما، الجمهورية الألمانية، هي حرية قتل قادة البروليتاريا الموقوفين دون محاكمة. ولا يمكن أن يكون الأمر مختلفا طالما بقيت الرأسمالية، لأن تطور المبدأ الديموقراطي، بعيدا عن أن يضعف الصراع الطبقي، زاد من حدته؛ وقد بلغ هذا الصراع نقطة الغليان بفعل مضاعفات الحرب وتأثيرها.

ويجري اليوم، في كل العالم المتحضر طرد البلاشفة، وملاحقتهم وسجنهم، كما حصل مثلا في سويسرا، إحدى الجمهوريات البرجوازية الأكثر حرية، وفي أمريكا حيث يجري ذبح الشيوعيين الخ. ومن وجهة نظر الديموقراطية بشكل عام والديموقراطية المحضة، من السخف تماما أن تخاف الدول المتحضرة والمتقدمة، والديموقراطية المسلحة حتى الأسنان، من وجود بضع عشرات من الأشخاص القادمين من روسيا المتأخرة الجائعة والمهدمة، من روسيا هذه التي يسمونها في ملايين النسخ في الصحف البرجوازية، بالمتوحشة والمجرمة، الخ. من الواضح أن الشروط الاجتماعية التي أمكن أن ينمو فيها تناقض صارخ إلى هذا الحد، تُحقّق في الواقع دكتاتورية البرجوازية.

11- في حالة كهذه، ليست ديكتاتورية البروليتاريا شرعية بشكل مطلق فحسب، كأداة خاصة بالبروليتاريا لإطاحة المستغلين وسحق مقاومتهم، بل إنه لا غنى عنها بالمطلق بالنسبة لكل الجماهير العاملة، كونها الوسيلة الوحيدة للدفاع ضد دكتاتورية البرجوازية التي سبّبت الحرب والتي تُحضّر لحروب جديدة.

إن النقطة الأكثر أهمية، التي لا يفهمها الاشتراكيون، والتي تشكل قصر نظرهم النظري وانحباسهم في الأفكار المسبقة البرجوازية وخيانتهم السياسية تجاه البروليتاريا، هي أنه عندما يحتدم الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي، وهو في أساس هذا المجتمع، لا يعود هناك حل وسط بين ديكتاتورية البرجوازية وديكتاتورية البروليتاريا، فكل الأحلام حول حل وسيط ليست إلاّ نواحا رجعيا من جانب برجوازيين صغار.

لقد حملت البرهان على ذلك تجربة تطور الديموقراطية البرجوازية والحركة العمالية منذ أكثر من قرن في كل البلدان المتحضرة، وبشكل خاص تجربة السنوات الخمس الأخيرة، وهذه أيضا الحقيقة التي يعلّمها كل علم الاقتصاد السياسي، وكل مضمون الماركسية الذي يشرح بحكم أية ضرورة اقتصادية تولد ديكتاتورية البرجوازية، وكيف أنه لا يمكن أن تستبدل إلاّ بطبقة متطورة، مضاعفة، معزّزة، أصبحت شديدة التماسك بفعل تطور الرأسمالية نفسها، أي طبقة البروليتاريين.

12- إن الخطأ النظري والسياسي الآخر للاشتراكيين، يقوم على عدم فهمهم أن أشكال الديموقراطية قد تغيّرت باستمرار خلال القرون التي مرت، منذ بذورها الأولى في العصور القديمة، كلما أستُبدلت طبقةٌ مسيطرة بأخرى. في الجمهوريات اليونانية القديمة، وفي المدن في القرون الوسطى، وفي البلدان الرأسمالية المتحضرة، تتخذ الديموقراطية أشكالا مختلفة وعلى درجة من التكيف مختلفة. وسيكون حماقة لا حماقة بعدها الاعتقادُ بأن الثورة الأكثر عمقا في تاريخ الإنسانية وبأن انتقال السلطة، للمرة الأولى في العالم، من أقلية من المستغِلين إلى أكثرية من المستغَلين، يمكن أن تحدث في الأطر القديمة للديموقراطية البرجوازية والبرلمانية، ويمكن أن تحدث دون شروخ واضحة، دون أن تخلق مؤسسات جديدة تجسد شروط الحياة الجديدة هذه الخ…

13- تشبه ديكتاتورية البروليتاريا ديكتاتورية الطبقات الأخرى، لأنها تَنْتُج مثل كل صنف من الديكتاتورية، عن ضرورة قمع مقاومة الطبقة التي خسرت سيطرتها السياسية، وبشكل عنيف. إن النقطة الأساسية التي تفصل ديكتاتورية البروليتاريا عن تلك الخاصة بالطبقات الأخرى، عن ديكتاتورية العناصر الإقطاعية في القرون الوسطى والديكتاتورية البرجوازية في كل البلدان المتحضرة الرأسمالية، هي أن ديكتاتورية العناصر الإقطاعية وديكتاتورية البرجوازية، تتمثلان بالسحق العنيف لمقاومة الأكثرية الهائلة من السكان ومن الطبقة العاملة، فيما تسحق ديكتاتورية البروليتاريا عن طريق القوة، مقاومة المستغِلين، أي الأقلية الضئيلة من السكان، الملاكين العقاريين والرأسماليين.

ينتج عن هذا أيضا أن ديكتاتورية البروليتاريا تُحدث بشكل حتمي تغييراً ليس فقط في الأشكال والمؤسسات الديموقراطية بشكل عام بل أنها أيضا تُحدث تغييراً يصل إلى حد التوسيع غير المعروف حتى الآن للمبدأ الديموقراطي لصالح الطبقات التي تستغلها الرأسمالية، لصالح الطبقات الكادحة.

في الواقع، إن شكل ديكتاتورية البروليتاريا الذي تم تحقيقه بالفعل، أي سلطة السوفيات في روسيا، والـRaete Système في ألمانيا، والـShop Stewadrs Committees، والمؤسسات الأخرى المشابهة في البلدان الأخرى، يعني للطبقات الكادحة، أي الأغلبية العظمى من السكان، ويحقق لها إمكانية سريعة للإفادة من الحقوق والحريات الديموقراطية كما لم يحصل أبدا من قبل، ولو بشكل مشابه، في الجمهوريات الأفضل والأكثر ديموقراطية.

إن جوهر سلطة السوفيات يقوم على أن الأساس الثابت والوحيد لكل السلطة الحكومية هو منظمة الجماهير المضطَهدة سابقا على يد الرأسماليين، أي العمال وأشباه البروليتاريا (الفلاحين الذين لا يستغلون عمل غيرهم والذين هم بحاجة بشكل ثابت لبيع جزء على الأقل من قوة عملهم). هذه هي الجماهير التي تتمتع حتى في الجمهوريات البرجوازية الأكثر ديموقراطية، بالمساواة تبعا للقانون، فيما هي مبعدة في الواقع، وبواسطة آلاف الأعراف والمناورات، عن كل مشاركة في الحياة السياسية، عن كل استخدام للحقوق والحريات الديموقراطية، وهي المدعوة اليوم إلى اتخاذ نصيب هام وإلزامي، نصيب حاسم، في الإدارة الديموقراطية للدولة.

14- إن المساواة بين المواطنين، بغض النظر عن الجنس والدين والعرق والقومية، التي وعدت بها الديموقراطية البرجوازية دائما وفي كل مكان، لكنها لم تحققها في أي مكان، ولن تستطيع تحقيقها نظرا لسيطرة الرأسمالية، تحققها سلطة السوفيات أو ديكتاتورية البروليتاريا دفعة واحدة وبشكل كامل، لأنها وحدها القادرة على تحقيق سلطة العمال غير المنتفعين من الملكية الخاصة، ووسائل الإنتاج، والصراع من أجل اقتسامها وتوزيعها.

15- كانت الديموقراطية القديمة، أي الديموقراطية البرجوازية والبرلمانية منظمة بطريقة تبعد الجماهير الكادحة، أكثر فأكثر، عن الجهاز الحكومي. إن سلطة السوفيات، أي ديكتاتورية البروليتاريا، مبنية على العكس بحيث تقرّب الجماهير الكادحة من الجهاز الحكومي، وللغاية نفسها بهدف الجمع بين السلطة التشريعية والتنفيذية في التنظيم السوفياتي للدولة، كذلك استبدال الدوائر الانتخابية الإقليمية بوحدات عمل، مثل المصانع والمشاغل.

16- لم يكن الجيش أداة قمع في ظل الملكية فقط، بل بقي كذلك في كل الجمهوريات البرجوازية حتى أكثرها ديموقراطية. إن سلطة السوفيتات وحدها، باعتبارها التنظيم الدائم للطبقات المضطهدة على يد الرأسمالية، هي القادرة على إزالة خضوع الجيش للقيادة البرجوازية، وعلى الدمج الفعلي للبروليتاريا بالجيش، عبر إنجاز تسليح البروليتاريا ونزع سلاح البرجوازية، اللذين بدونهما يستحيل انتصار الاشتراكية.

17- يتكيّف التنظيم السوفياتي للدولة مع الدور القيادي للبروليتاريا، باعتبارها طبقة متمركزة إلى حد بعيد، وقد تربّت على يد البرجوازية. إن تجربة كل الثورات وكل حركات الطبقات المضطهدة، وتجربة الحركة الاشتراكية في العالم أجمع، تعلمنا أن البروليتاريا هي وحدها القادرة على توحيد وقيادة الجماهير المتشتتة والمتخلفة من السكان الكادحين والمستغَلين.

18- إن التنظيم السوفياتي للدولة هو وحده القادر فعليا، وبضربة واحدة، على تحطيم الجهاز الإداري والقضائي البرجوازي القديم وتدميره، بشكل نهائي، هذا الجهاز الذي بقي وكان من المحتم أن يبقى في ظل الرأسمالية حتى في الجمهوريات الأكثر ديموقراطية، لأنه كان بالفعل الحائل الأكبر أمام وضع المبادئ الديموقراطية لصالح العمال والشغيلة موضع التنفيذ. لقد قامت كومونة باريس، في هذا الطريق، بالخطوة الأولى ذات الأهمية التاريخية العالمية، وقامت سلطة السوفيات بالخطوة التالية.

19- إن القضاء على السلطة الحكومية هو الهدف الذي أخذه الاشتراكيون على عاتقهم وكان ماركس أولهم. دون تحقيق هذا الهدف، لا يمكن تحقيق الديموقراطية الحقيقية، أي المساواة والحرية. وعليه فإن الوسيلة الوحيدة لتحقيقه هي الديموقراطية السوفياتية أو البروليتارية، ذلك أنها بدعوتها منظمات الجماهير الكادحة إلى الإسهام الحقيقي والإلزامي بالحكومة، تبدأ من الآن بالإعداد للإزالة التامة لكل حكومة.

20- إن الإفلاس الكامل للاشتراكيين المجتمعين في برن وعدم فهمهم المطلق للديموقراطية البروليتارية الجديدة يظهران بشكل خاص بالتالي: في العاشر من شباط / فبراير 1919، اختتم برانتينغ في برن الكونفرانس العالمي للأممية الصفراء. وفي 11 شباط / فبراير 1919، نُشر في برلين في صحيفة شركاء برانتينغ في العقيدة، صحيفة Die Freiheit، نداء من حزب المستقلين إلى البروليتاريا. يجري الاعتراف في هذا النداء بالطابع البرجوازي لحكومة شيدمان، التي يتهمها بالرغبة في إلغاء السوفيتات، المدعوة بالمبشرة بالثورة والمدافعة عنها، وتجري مطالبة الحكومة باعتبار السوفيتات شرعية ومنحها الحقوق السياسية وحق التصويت ضد قرارات الجمعية التأسيسية، على أن يبقى الاستفتاء الحكم الأخير.

يبيّن هذا النداء السقوط الكامل للمنظرين المدافعين عن الديموقراطية دون فهم طابعها البرجوازي. إن هذه المحاولة السخيفة لدمج نظام السوفيتات، أي ديكتاتورية البروليتاريا بالجمعية التأسيسية، أي دكتاتورية البرجوازية، تفضح بالعمق، وفي آن معا، الفقر الفكري للاشتراكيين الصُّفر والاشتراكيين الديموقراطيين، وطابعهم الرجعي البرجوازي الصغير، وتنازلاتهم الجبانة أمام القوة المتصاعدة باضطراد للديموقراطية البروليتارية الجديدة.

21- إذا أدانت البلشفية أغلبية أممية برن، التي لم تجرؤ على التصويت الشكلي على جدول أعمال يتفق مع فكرها، خوفا من الجماهير العمالية، فإنها تصرفت بالضبط انطلاقا من وجهة نظرها الطبقية. إن هذه الأكثرية متضامنة بالكامل مع المناشفة والاشتراكيين الثوريين الروس، وأنصار شيدمان الألمان.

إن المناشفة والاشتراكيين الثوريين الروس، إذ يشتكون من ملاحقة البلاشفة لهم يحاولون أن يخفوا واقع أن سبب هذه الملاحقة هو مشاركة المناشفة والاشتراكيين الثوريين في الحرب الأهلية إلى جانب البرجوازية ضد البروليتاريا. ولقد كان أنصار شيدمان وحزبهم قد أظهروا بالطريقة نفسها في ألمانيا، أنهم يشاركون في الحرب الأهلية إلى جانب البرجوازية ضد العمال.

من الطبيعي، تبعا لذلك، أن تعلن أغلبية المشاركين في أممية برن الصفراء معاداتها للبلاشفة، وبذلك لا تظهر أبدا الرغبة في الدفاع عن الديموقراطية المحضة بل الحاجة للدفاع عن النفس، لدى أشخاص يحسون ويعلمون أنهم يقفون إلى جانب البرجوازية ضد البروليتاريا في الحرب الأهلية.

لذلك، ومن وجهة نظر الصراع الطبقي، من المستحيل عدم الاعتراف بصحة قرار أكثرية الأممية الصفراء. لا ينبغي للبروليتاريا أن تخشى الحقيقة بل أن تنظر إليها مواجهة وتستخلص النتائج الناجمة عنها.

على قاعدة هذه الموضوعات، ونظرا إلى تقارير المندوبين في مختلف البلدان يعلن مؤتمر الأممية الشيوعية أن المهمة الأساسية للأحزاب الشيوعية في مختلف المناطق حيث لم تتشكل سلطة السوفيتات بعد، تتمثل بالتالي:

أولا: تنوير جماهير الطبقة العاملة، بشكل واسع، حول المعنى التاريخي للضرورة السياسية والعملية لديموقراطية بروليتارية جديدة، ينبغي أن تحل مكان الديموقراطية البرجوازية والبرلمانية.

ثانيا: توسيع وتنظيم السوفيتات في كل ميادين الصناعة والجيش والبحرية وبين العمال الزراعيين وصغار الفلاحين.

ثالثا: كسب أغلبية شيوعية موثوقة وواعية داخل السوفيتات.

خطاب لينين حول موضوعاته

أيها الرفاق

أريد أن أضيف بعض الكلمات على النقطتين الأخيرتين، وأعتقد أن الرفاق الذين سيقدمون لنا التقرير عن كونفرانس أممية برن سيحدثوننا بتفاصيل أكبر.

خلال كونفرانس برن بأكمله لم تُقل كلمة واحدة عن معنى السلطة السوفياتية، فيما نحن نناقش هذه المسألة منذ سنتين في روسيا. كنا في نيسان / أبريل 1917، في مؤتمر الحزب، قد طرحنا المسألة من وجهة نظر نظرية وسياسية: «ما هي السلطة السوفياتية، ما هو جوهرها وما هو معناها التاريخي؟» وها قد مضى حوالي عامين ونحن ندرس هذه المسألة وقد تبنينا قرارا بهذا الصدد في مؤتمر الحزب.

نشرت صحيفة الفرايهايت (Freiheit) في 11 شباط / فبراير نداء إلى البروليتاريا الألمانية لم يوقعه فقط القادة الاشتراكيون – الديموقراطيون المستقلون في ألمانيا، بل كذلك كل أعضاء تكتل المستقلين. وفي آب / أغسطس 1918، كتب كاوتسكي أكبر منظري المستقلين في كراسه «ديكتاتورية البروليتاريا» أنه كان من مناصري الديموقراطية والأجهزة السوفياتية، ولكن ينبغي ألاّ تتخذ السوفيتات إلاّ طابعا اقتصاديا، ولا يمكن اعتبارها كمنظمات لدولة. ويكرر كاوتسكي هذا التأكيد في عدديْ 11 تشرين الثاني / نوفمبر و12 كانون الثاني / يناير من صحيفة الفراهايت. في 9 شباط / فبراير ظهر مقال لرودولف هيلفردينغ، الذي يُعتبر أيضا أحد المنظرين الأساسيين المسؤولين في الأممية الثانية، يقترح فيه دمج نظامي السوفيتات والجمعية التأسيسية حقوقيا، أي بالطريقة الاشتراعية. كان ذلك في التاسع من شباط / فبراير، وتبنى هذا الاقتراح الثاني حزب المستقلين بكامله، ونُشر بشكل نداء.

على الرغم من أن الجمعية الوطنية باتت موجودة بالفعل، حتى بعد أن تجسدت «الديموقراطية المحضة» في الواقع، وبعد أن شرح كبار منظري الاشتراكية – الديموقراطية أن المنظمات السوفياتية لا يمكن أن تكون منظمات دولة، بعد كل ذلك ورغما عنه، لا زال هناك تردد. هذا يثبت أن هؤلاء السادة لم يفهموا حقا أي شيء عن الحركة الجديدة وشروطها النضالية. لكن هذا يثبت، بالإضافة إلى ذلك، شيئا آخر، وهو أنه يجب أن توجد هناك ظروف ودوافع تؤدي إلى هذا التردد. عندما يقترحون علينا بعد كل تلك الأحداث، بعد ما يقارب عامين من الثورة المنتصرة في روسيا، هكذا مقررات، كما جرى تبنيها في كونفرانس برن، مقررات لم يُذكر فيها أي شيء عن السوفيتات ومعناها، وفي كونفرانس لم ينطق خلاله أي مندوب بكلمة، في أي خطاب، عن هذه المسائل، يكون لدينا الحق في التأكيد بأن كل هؤلاء السادة أموات، بالنسبة لنا، كاشتراكيين وكمنظرين.

لكن، في الواقع، فإن هذا يثبت، أيها الرفاق، من وجهة النظر السياسية، أن هناك تقدما كبيرا يتحقق بين الجماهير، بما أن هؤلاء المستقلين المعاد ين من الناحية النظرية ومن حيث المبدأ لمنظمات الدولة هذه، يقترحون علينا فجأة حماقة من مثل الدمج «السلمي» بين الجمعية الوطنية ونظام السوفيتات، أي الدمج بين ديكتاتورية البرجوازية وديكتاتورية البروليتاريا. وهكذا نرى إلى أي درجة أفلست هذه الجماعة من الناحيتين السياسية والنظرية، ونرى التحول الضخم الذي حصل على الصعيد الجماهيري. إن الجماهير المتخلفة من البروليتاريا الألمانية تأتي إلينا، ماذا أقول؟ لقد أتت إلينا. هكذا فإن معنى الحزب الاشتراكي – الديموقراطي الألماني المستقل، الذي شكل الجزء الأفضل من الناحيتين النظرية والاشتراكية، يساوي صفرا، وهو يحتفظ مع ذلك بأهمية معينة، بمعنى أن عناصره تقدم لنا مؤشرا على حالة الجزء الأكثر تخلفا من البروليتاريا. من هنا تنبع برأيي الأهمية التاريخية الضخمة لهذا الكونفرانس. لقد شهدنا شيئا مشابها خلال ثورتنا، إذ خضع المناشفة خطوة خطوة، تقريبا، للتطور ذاته الذي عرفه المنظرون المستقلون في ألمانيا. عندما كانوا يحوزون الأغلبية في السوفيتات كانوا من أنصارها فلم نكن نسمع آنذاك سوى صيحات مثل: «عاشت السوفيتات»، «من أجل السوفيتات»، «السوفيتات و الديموقراطية الثورية!». لكن عندما حزنا نحن الأكثرية في السوفيتات، نحن البلاشفة، أنشدوا أغنيات أخرى، من مثل: «لا ينبغي للسوفيتات أن توجد في الوقت نفسه مع الجمعية التأسيسية»، لا بل إن بعض المنظرين المناشفة اقترحوا شيئا مشابها لدمج نظام السوفيتات مع الجمعية التأسيسية وإدخالها في منظمات الدولة. ويظهر مرة أخرى أن المجرى العام للثورة البروليتارية متشابه في العالم أجمع: تشكل عفوي وأولي للسوفيتات في البداية، وامتدادها فيما بعد وتطورها، ومن ثم ظهور السؤال التالي في الممارسة: سوفيتات، أو جمعية وطنية تأسيسية، أو برلمانية برجوازية ؟، تشويش مطلق لدى القادة، وفي النهاية الثورة البروليتارية. يبدو لي مع ذلك أنه بعد حوالي عامين من الثورة لا يجب أن نطرح السؤال على هذه الشاكلة، بل ينبغي أن نتخذ مقررات ملموسة لأن انتشار نظام السوفيتات هو بالنسبة لنا، وبشكل خاص بالنسبة لغالبية بلدان أوربا الغربية، إحدى المهام الأكثر جوهرية. إن الغريب الذي لم يسمع أي شيء سابقا عن البلشفية، لن يستطيع أن يكوّن رأيا خاصا عن نقاشاتنا إلاّ بصعوبة بالغة. فكل ما يؤكده البلاشفة يناقضه المناشفة والعكس صحيح، وبالطبع لا يمكن أن يكون الأمر مختلفا في مجرى الصراع. كان من الأهمية بمكان أن يتخذ الكونفرنس الأخير للحزب المنشفي المنعقد في شهر كانون الأول / ديسمبر 1918 قرارا طويلا مفصلا، نشر بكامله في جريدة المناشفة «جريدة التيبوغراف». يطرح المناشفة بالذات، في هذا القرار، تاريخ الصراع الطبقي والحرب الأهلية بشكل مختصر. ويذكر القرار أن المناشفة يدينون المجموعات الحزبية المتحالفة مع الطبقات المسيطرة في الأورال والجنوب والقرم وجورجيا، ويشيرون بدقة إلى كل هذه المناطق. إن المجموعات الحزبية المنشفية المتحالفة مع الطبقات المسيطرة والتي حاربت ضد السلطة السوفياتية هي الآن مدانة بهذا القرار، لكن النقطة الأخيرة تدين كذلك الذين انضموا إلى الشيوعيين. وتبعا لذلك فإن المناشفة مضطرون للاعتراف بأنه لم تعد هناك وحدة في حزبهم، فهم إمّا يقفون إلى جانب البرجوازية أو إلى جانب البروليتاريا. إن قسما هاما من المناشفة انضم إلى البرجوازية وقاتل ضدنا خلال الحرب الأهلية، فطبيعي أن نلاحقهم، وحتى أن نغتالهم، حيث أنهم، في الحرب ضدنا، يقاتلون الجيش الأحمر ويغتالون ضباطنا الحمر. لقد رددنا على البرجوازية، التي أعلنت علينا الحرب البروليتارية، ولا يمكن أن يكون هناك مخرج آخر. هكذا إذن فمن وجهة نظر سياسية ليس كل ذلك إلاّ نفاقا منشفيا. تاريخيا، ثمة أمر لا يمكن فهمه هو أن أشخاصا غير معتبرين رسميا مجانين كان بإمكانهم، وبدفع من المناشفة والاشتراكيين الثوريين أن يتحدثوا، في كونفرانس برن، عن نضال البلاشفة ضدهم، فيما يمرون بصمت على نضالهم المشترك مع البرجوازية ضد البروليتاريا.

جميعهم يهاجموننا بشراسة لأننا نلاحقهم، هذا صحيح، لكنهم يحاذرون أن يقولوا كلمة واحدة عن الموقع الذي اتخذوه هم أنفسهم في الحرب الأهلية. أعتقد أنه من المناسب أن يُنشر النص الكامل للقرار في محضر الجلسة وأتمنى على الرفاق الأجانب أن يعيروه كل اهتمامهم، لأنه يمثل وثيقة تاريخية، المسألة مطروحة فيه بالكامل، وتقدم أفضل توثيق حول النقاش بين الاتجاهات «الاشتراكية» المختلفة في روسيا. توجد بين البروليتاريا والبرجوازية طائفة من الناس تميل تارة إلى هذا الجانب وتارة إلى الجانب الآخر. هكذا كان الوضع دائما وفي كل الثورات، ومن المستحيل على الإطلاق في المجتمع البرجوازي، حيث تشكل البروليتاريا والبرجوازية معسكرين عدوين متقابلين، ألاّ توجد بينهما شرائح اجتماعية وسيطة. إن وجود هذه العناصر المترددة أمر حتمي تاريخيا ولسوء الحظ فإن هذه العناصر التي لا تعرف هي نفسها مع من ستقاتل إذا، سوف تبقى موجودة، ولفترة طويلة نسبيا.

إنني أرغب بتقديم اقتراح ملموس نحو تبني قرار تتم الإشارة فيه بشكل خاص إلى ثلاث نقاط:

1- إن إحدى المهمات الأكثر أهمية بالنسبة للرفاق في أوربا الغربية تقوم على شرح معنى نظام السوفيتات للجماهير وأهميته وضرورته. فإننا نلحظ نقصا في الفهم في هذه الناحية. إذا كان صحيحا أن كاوتسكي وهيلفردينغ قد أفلسا كمنظرين، فإن المقالات الأخيرة التي نشرت في ألـ «فرايهايت» تبرهن، مع ذلك، على أنهما قد عرفا أن يعبرا بدقة عن ذهنية الأقسام المتخلفة من البروليتاريا الألمانية. لقد حصل الشيء نفسه عندنا: خلال الأشهر الثمانية الأولى للثورة الروسية نوقشت مسألة النظام السوفياتي كثيرا، ولم يكن العمال يرون بوضوح كبير على ماذا يقوم النظام الجديد، ولا إذا كان بالإمكان تشكيل جهاز الدولة بواسطة السوفيتات. لقد استطعنا التقدم، في ثورتنا، ليس بالطريقة النظرية بل بالطريقة العملية. وهكذا مثلا، لم نطرح أبدا في السابق مسألة الجمعية التأسيسية نظريا ولم نقل أبدا إننا لن نعترف بها. ونحن لم نقرر حلّ الجمعية التأسيسية إلاّ مؤخرا، عندما انتشرت المؤسسات السوفياتية عبر البلد كله واستولت على السلطة السياسية. إننا نشهد في الوقت الحاضر المسألة تطرح بحدة أكبر في المجر وسويسرا. من جهة، شيء ممتاز أن يكون الأمر كذلك، فإننا نستمد من هذه الواقعة القناعة المطلقة بأن الثورة تتقدم بسرعة أكبر في بلدان أوروبا الغربية، وأنها ستحمل إلينا انتصارات كبيرة، ولكن، من جهة ثانية، هناك خطر ما، وهو أن الصراع سيكون من الشراسة والتوتر بحيث أن وعي الجماهير العمالية لن يتمكن من اللحاق بهذا الإيقاع. حتى الآن ما زال معنى نظام السوفيتات غير واضح بالنسبة لأوسع الجماهير العمالية الألمانية المثقفة سياسيا، ذلك أنها تربّت على عقلية برلمانية وعلى أفكار مسبقة برجوازية.

2- ثمة نقطة متعلقة بانتشار نظام السوفيتات. فعندما نرى مدى السرعة التي تنتشر فيها فكرة السوفيتات في ألمانيا وحتى في انجلترا، يمكننا أن نقول لأنفسنا إن هذا برهان أساسي على أن الثورة البروليتارية سوف تنتصر، ولا يمكن إيقاف مجراها إلاّ لقليل من الوقت. ولكن أن يأتي إلينا الرفيقان ألبرت وبلاتين ليصرّحا بأنه لا يوجد سوفيتات عندهما في الريف بين العمال الزراعيين والفلاحين الصغار، فهذه قضية مختلفة. لقد قرأت، في «روت فاهنه» (Rote Fahne) مقالا ضد السوفيتات الفلاحية ولكنه (وهذا صحيح كليا) يدعم سوفيتات العمال الزراعيين والفلاحين الفقراء. إن البرجوازية وخدامها مثل شيدمان وشركائه قد أطلقوا شعار السوفيتات الفلاحية. ولكننا لا نريد إلاّ سوفيتات العمال الزراعيين والفلاحين الفقراء. يتضح لسوء الحظ، من تقريري الرفيقين ألبرت وبلاتين وغيرهما أننا، باستثناء المجر، لا نقوم إلاّ بالشيء القليل من أجل توسع النظام السوفياتي في الأرياف. وهنا ربما يكمن خطر عملي ذو أهمية بوجه البروليتاريا الألمانية الساعية إلى تحقيق الانتصار. وبالفعل لا يمكن أن يُعتبر الانتصار مضمونا إلاّ عندما لا يُنظم العمال في المدن فقط، بل كذلك العمال الزراعيون. وعندما ينظّمون ليس كما في السابق في النقابات والتعاونيات، بل في السوفيتات. لقد أحرزنا الانتصار بسهولة أكبر لأننا في تشرين الأول/  أكتوبر 1917، مشينا معا نحن وكل الفلاحين. بهذا المعنى فإن ثورتنا كانت آنذاك برجوازية. كانت الخطوة الأولى لحكومتنا البروليتارية هي تحقيق المطالب القديمة لكل الفلاحين، التي عبّرت عنها السوفيتات وجمعيات الفلاحين في عهد كيرنسكي، وذلك عن طريق القانون الذي وضعته حكومتنا في 26 تشرين الأول / أكتوبر (التقويم القديم) 1917، غداة الثورة. هنا تكمن قوتنا ولهذا كان بمقدورنا أن نكسب بسهولة تعاطف الأغلبية الساحقة. لقد استمرت ثورتنا في الريف ثورة برجوازية، ولكن، فيما بعد، وبانقضاء ستة أشهر اضطررنا للشروع، ضمن أطر تنظيم الدولة، بالصراع الطبقي في الأرياف، وبتأسيس لجان الفقراء وأنصاف البروليتاريين في كل قرية والنضال بشكل منظم ضد البرجوازية الريفية. كان ذلك أمرا لا مفر منه عندنا لأن روسيا بلد متخلف. وسيكون الأمر مختلفا تماما في أوربا الغربية، لهذا علينا أن نشدد على الضرورة المطلقة لتوسع النظام السوفياتي وسط السكان الريفيين، بأشكال ملائمة وربما جديدة.

3- ينبغي أن نقول إن كسب الأغلبية الشيوعية داخل السوفيتات يشكل المهمة الرئيسية في مختلف البلدان حيث لم تنتصر بعد السلطة السوفياتية. لقد درست لجنة القرارات عندنا هذه المسألة. ربما أراد بعض الرفاق إبداء رأيهم ولكنني أرغب بتقديم اقتراح، وهو أن يجري تبني النقطة التالية بشكل قرار خاص. من البديهي أننا لن نتمكن من تحديد مجرى تطور الثورة، فمن المحتمل جدا أن تنفجر في دول عديدة من أوروبا الغربية قريبا جدا. في كل الأحوال نحن نميل ويجب أن نميل بصفتنا جناحا منظما من العمال، وبصفتنا حزبا، إلى كسب الأغلبية في السوفيتات. عندها، يصبح انتصارنا مضمونا ولن يبقى هناك من قوة قادرة على القيام بأي شيء ضد الثورة الشيوعية. وإلاّ، فلن يكون النصر سهل البلوغ كما لن يكون استمراره طويلا.

قرار حول الموقف من التيارات

الاشتراكية وكونفرانس برن

لقد تبيّن منذ عام 1907، في المؤتمر العالمي الاشتراكي في شتوتغارت، عندما عرضت الأممية الثانية لمسألة السياسة الكولونيالية والحروب الإمبريالية، أن نصف أعضاء الأممية الثانية وغالبية قياداتها كانوا في هذه المسائل أكثر قربا بكثير إلى وجهات نظر البرجوازية منهم إلى وجهات نظر ماركس وإنغلز الشيوعية.

على الرغم من ذلك، فإن مؤتمر شتوتغارت تبنى تعديلا اقترحه ممثلا الجناح الثوري، ن. لينين وروزا لوكسمبرغ، مصوغا بالشكل التالي :

«بيد أنه إذا اندلعت حرب ما، على الاشتراكيين أن يعملوا على وضع نهاية سريعة لها، وأن يستخدموا، بكل الوسائل، الأزمة الاقتصادية والسياسية الناجمة عن الحرب من أجل إيقاظ الشعب والإسراع بذلك في إسقاط السيطرة الرأسمالية».

وفي مؤتمر بال في تشرين الثاني / نوفمبر 1912، الذي دعي للانعقاد أثناء حرب البلقان، أعلنت الأممية الثانية :

«على الحكومات البرجوازية ألاّ تنسى أن الحرب الفرنسية – الألمانية قد خلقت انتفاضة الكومونة الثورية، وأن الحرب الروسية – اليابانية قد حركت القوى الثورية في روسيا. بنظر البروليتاريين، إن التقاتل لأجل الربح الرأسمالي والتنافس بين السلالات الملكية وازدهار المعاهدات الديبلوماسية، إنما هو جريمة».

وفي أواخر تموز / يوليو وأوائل آب / أغسطس 1914، قبل 24 ساعة من بدء الحرب العالمية استمرت الهيئات والمؤسسات المختصة، بإدانة الحرب التي تقترب، على اعتبار أنها أكبر جريمة ترتكبها البرجوازية. إن التصريحات العائدة إلى تلك الأيام، والصادرة عن الأحزاب القيادية في الأممية الثانية تشكل حكم الإدانة الأكثر بلاغة ضد قياديّي الأممية الثانية.

* * * * *

مع طلقة المدفع الأولى التي سقطت على حقول المجزرة الإمبريالية، خانت الأحزاب الرئيسية في الأممية الثانية الطبقة العاملة، وانحاز كل حزب منها، تحت غطاء «الدفاع الوطني»، إلى جانب برجوازيته الخاصة. شيدمان وألبرت في ألمانيا، توماس ورينودل في فرنسا، هندرسون وهايدمان في إنكلترا، فاندرفلد ودي بروكير في بلجيكا، رينير وبرنر ستورفر في النمسا، بليخانوف وروبانوفيتش في روسيا، برانتينغ وحزبه في السويد، غومير ورفاقه في أمريكا، موسوليني وشركاؤه في إيطاليا، كل هؤلاء نصحوا البروليتاريا بـ «هدنة» مع برجوازية بلد «ها»، وبأن تقلع عن الحرب ضد الحرب، بأن تصبح في الواقع وقودا لمدافع الامبرياليين.

كانت هذه هي اللحظة التي أفلست فيها الأممية الثانية إفلاسا نهائيا وهلكت.

* * * * *

لقد تمكنت البرجوازية في البلدان الأكثر ثراء، بفعل التطور الاقتصادي العام، من إفساد قمة الطبقة العاملة، الأرستقراطية العمالية، وإغرائها، عن طريق الصدقات المأخوذة من أرباحها الضخمة. وتوافد «رفاق نضال» الاشتراكية البرجوازيون الصغار إلى صفوف الأحزاب الاشتراكية – الديموقراطية الرسمية، ووجهوا شيئا فشيئا مجرى هذه الأخيرة وجهة البرجوازية. وشكّل قادة الحركة العمالية البرلمانية والسلمية، والقادة النقابيون، وأمناء سرّ الاشتراكية – الديموقراطية ومحرروها ومستخدموها، شريحة بيروقراطية عمالية كاملة، لها مصالحها الخاصة كمجموعة أنانية، شريحة كانت في الواقع معادية للاشتراكية.

بفعل هذه الظروف مجتمعة انحطت الاشتراكية – الديموقراطية الرسمية إلى حزب معاد للاشتراكية وشوفيني.

كانت قد ظهرت داخل الأممية الثانية ثلاثة اتجاهات رئيسية. وخلال الحرب وحتى بداية الثورة البروليتارية في أوروبا تحددت معالم هذه الاتجاهات الثلاثة بوضوح كامل:

1- الاتجاه الاشتراكي – الشوفيني (اتجاه «الأغلبية») وممثلوه الأكثر نموذجية هم الاشتراكيون – الديموقراطيون الألمان الذين يتقاسمون السلطة اليوم مع البرجوازية الألمانية، والذين أصبحوا قتلة زعيمي الأممية الشيوعية، كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبرغ.

لقد انكشف الاشتراكيون – الشوفينيون حاليا كأعداء طبقة البروليتاريا كليا، وهم يتبعون برامج «تصفية» الحرب، الذي أملته عليهم البرجوازية: تحميل الجماهير الكادحة الجزء الأكبر من الضرائب، عدم المساس بالملكية الخاصة، الحفاظ على الجيش بأيدي البرجوازية، حل المجالس العمالية التي تظهر في كل مكان والحفاظ على السلطة السياسية بأيدي البرجوازية – أي برنامج «الديموقراطية» البرجوازية بوجه الاشتراكية.

على الرغم من الشراسة التي قاتل فيها الشيوعيون حتى اليوم «جناح الأكثرية في الاشتراكية – الديموقراطية»، لم يدرك العمال، مع ذلك، بعد كل الخطر الذي يتهدد به هؤلاء الخونة البروليتاريا العالمية، ان فتح أعين العمال كافة على العمل الخياني للاشتراكيين – الشوفينيين وشل قدرة الحزب المعادي للثورة على الأذية، وبقوة السلاح، هو إحدى المهمات الأكثر أهمية للثورة البروليتارية العالمية.

2- الإتجاه الوسطي (الاشتراكيون – السلميون، الكاوتسكيون والمستقلون)، هذا الاتجاه بدأ يتشكل منذ ما قبل الحرب، خاصة في ألمانيا. في بداية الحرب تطابقت بشكل شبه دائم المبادئ العامة للـ «وسط» مع تلك الخاصة بالاشتراكيين – الشوفينيين. ودافع كاوتسكي، الزعيم النظري للـ «وسط» عن سياسة الاشتراكيين – الشوفينيين الألمان والفرنسيين. ولم تكن الأممية سوى «أداة في زمن السلم» و«نضال من أجل السلم»، و«صراع طبقي – في زمن السلم». كانت هذه شعارات كاوتسكي.

منذ بداية الحرب والـ «وسط» داعم لـ «الوحدة» مع الاشتراكيين – الشوفينيين. وبعد اغتيال ليبكنخت ولوكسمبرغ، استمر الـ «وسط» بالتبشير بهذه «الوحدة»، أي وحدة العمال الشيوعيين مع قتلة الزعيمين الشيوعيين، ليبكنخت ولوكسمبرغ.

منذ بداية الحرب والـ «وسط» (كاوتسكي، وفيكتور آدلر، توراتي، ماك دونالد) يروج «للعفو المتبادل»، تجاه زعماء الأحزاب الاشتراكية – الشوفينية في ألمانيا والنمسا من جهة، وفي فرنسا وإنجلترا من جهة ثانية. وما زال «الوسط» حتى اليوم وبعد الحرب ينادي بهذا العفو، معيقا بذلك العمال عن تكوين فكرة واضحة عن أسباب انهيار الأممية الثانية.

لقد أرسل «الوسط» ممثليه إلى برن، إلى الكونفرانس العالمي للاشتراكيين المساومين، مسهلا بذلك مهمة شيدمان ورينودل بخداع العمال.

إنه من الضروري بشكل مطلق فصل العناصر الأكثر ثورية عن «الوسط»، ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ بالنقد الذي لا يرحم لزعماء «الوسط» والتشهير بهم. إن القطيعة التنظيمية مع «الوسط» هي ضرورة تاريخية مطلقة. ومهمة الشيوعيين في كل بلد هي أن يحددوا وقت هذه القطيعة تبعا للمرحلة التي بلغتها الحركة عندهم.

3- الشيوعيون: كان هذا التيار يمثل الأقلية داخل الأممية الثانية، حيث دافع عن المفاهيم الشيوعية – الماركسية حول الحرب ومهام البروليتاريا (شتوتغارت 1907، قرار لينين – لوكسمبرغ). وقد شكل تجمع «اليسار الراديكالي» (عصبة سبارتاكوس فيما بعد) في ألمانيا، والحزب البلشفي في روسيا و«المنبريون» في هولندا، وتجمع الشبيبة في عدد من البلدان، النواة الأولى للأممية الجديدة.

ولما كان هذا الإتجاه مخلصا لمصالح الطبقة العاملة فقد رفع منذ بداية الحرب شعار تحويل الحرب الامبريالية إلى حرب أهلية. لقد تشكل هذا الإتجاه الآن كأممية ثالثة.

* * * * *

كان الكونفرانس الإشتراكي في برن الذي عقد في شباط / فبراير 1919 محاولة لتحنيط جثة الأممية الثانية.

يدل تكوين كونفرانس برن بشكل جلي على أن البروليتاريا الثورية في العالم لا تشترك مع هذا الكونفرانس في أي شيء.

إن البروليتاريا المنتصرة في روسيا، و البروليتاريا البطلة في ألمانيا، والبروليتاريا الإيطالية والحزب الشيوعي البروليتاري النمساوي والمجري، والبروليتاريا السويسرية والطبقة العاملة في بلغاريا، ورومانيا والصرب، والأحزاب العمالية اليسارية في السويد والنرويج وفنلندا، والبروليتاريا الأوكرانية والليتونية والبولندية، والشبيبة الأممية والأممية النسائية، قد رفضت بحزم المشاركة في كونفرنس برن الذي عقده الاشتراكيون – الوطنيون.

إن المشاركين في كونفرنس برن الذين ما زالوا يحفظون شيئا من الصلة مع الحركة العمالية الفعلية في عصرنا، شكلوا تجمعا معارضا، وقف بوجه مكائد الاشتراكيين – الوطنيين، على الأقل بصدد المسألة الجوهرية، مسألة «تقويم الثورة الروسية». إن تصريح الرفيق الفرنسي لوريو، الذي فضح أغلبية كونفرنس برن، يعكس الرأي الفعلي لكل العمال الواعين في العالم أجمع.

لقد كان كونفرنس برن يتحرك دائما، في «قضية المسؤوليات» المزعومة، ضمن أطر الإيديولوجية البرجوازية. وقد تبادل الاشتراكيون – الوطنيون الألمان والفرنسيون التهم نفسها التي تراشقت بها البرجوازيتان الألمانية والفرنسية. وضاع كونفرنس برن في تفاصيل سخيفة حول هذا المسلك أو ذاك لهذا الوزير أو ذاك قبل الحرب، وهم لا يريدون أن يعترفوا بأن الرأسمالية، والرأسمال المالي في مجموعتي القوى وخدامها الاشتراكيين – الوطنيين هم المسؤولون الرئيسيون عن الحرب. لقد كانت أغلبية الاشتراكيين – الوطنيين في برن تريد أن تكتشف من هو المسؤول عن الحرب، وكانت تكفي نظرة واحدة إلى المرآة كي يعترفوا كلهم على أنفسهم كمسؤولين عنها.

إن التصريحات الصادرة عن كونفرنس برن حول المسألة الإقليمية مليئة بالالتباسات. إن هذا الالتباس هو بالضبط ما تحتاج إليه البرجوازية. وقد اعترف السيد كليمنصو ممثل البرجوازية الامبريالية الأكثر رجعية بمزايا الكونفرنس الاشتراكي – الوطني في برن بوجه الرجعية الامبريالية، باستقباله وفدا من كونفرنس برن وبالاقتراح عليه المشاركة في كل لجان الكونفرانس الامبريالية في باريس.

لقد أظهرت المسألة الكولونيالية بوضوح أن كونفرنس برن كان في المؤخرة وراء سياسيي الاستعمار الليبراليين – البرجوازيين هؤلاء، الذين يبررون استغلال البرجوازية الامبريالية للمستعمرات واستعبادها لها، ويسعون فقط إلى تمويه ذينك الاستغلال والاستعباد بجمل خيرية – إنسانية. إن الاشتراكيين – الوطنيين الألمان يطالبون بالإبقاء على انتماء المستعمرات الألمانية للرايخ، أي الإبقاء على استغلال الرأسمال الألماني لهذه المستعمرات. وتبين الاختلافات في وجهات النظر حول هذا الموضوع أن الاشتراكيين – الوطنيين في الدول الحليفة إنما يحملون وجهة نظر تاجر العبيد نفسها، ويعتبرون أنه من الطبيعي جدا أن يستعبد رأس المال الاستعماري المستعمرات الانكليزية والفرنسية. وهكذا يظهر أن كونفرنس برن قد نسي كليا شعار «فلتسقط السياسة الكولونيالية».

في تقويم «جمعية الأمم» أظهر كونفرنس برن أنه يقتفي آثار هذه العناصر البرجوازية، التي تسعى تحت المظهر المخادع لما يسمى بـ «عصبة الأمم» إلى إبعاد الثورة البروليتارية المتعاظمة في العالم أجمع. فبدل أن يفضح كونفرنس برن دسائس مؤتمر الحلفاء المنعقد في باريس، باعتبارها دسائس زمرة تقوم باستنزاف الشعوب الصغيرة التابعة والمجالات الاقتصادية، ساندها في ذلك، إذ جعل من نفسه أداة لها.

إن الموقف الذيلي للكونفرنس الذي ترك لمؤتمر حكومي برجوازي في باريس الاهتمام بحل مسألة التشريع حول حماية العمل، يُظهر أن الاشتراكيين – الوطنيين قد عبّروا بوعي عن دعمهم للإبقاء على عبودية الإجارة الرأسمالية واستعدادهم لخداع الطبقة العاملة بإصلاحات غير مجدية.

إن التحولات، التي أوحت بها السياسة البرجوازية، بأن يتخذ كونفرنس برن قرارا تغطي بموجبه الأممية الثانية أي تدخل عسكري محتمل ضد روسيا، لم تفشل إلاّ بفضل جهود المعارضة. إن النجاحات التي حققتها المعارضة في برن بمواجهة العناصر الشوفينية المعلنة هي بالنسبة لنا دليل غير مباشر على أن البروليتاريا في أوربا الغربية تتعاطف مع الثورة البروليتارية في روسيا، وأنها مستعدة للنضال ضد البرجوازية الامبريالية.

وإزاء خشية خدم البرجوازية هؤلاء من الاهتمام، ولو بالحد الأدنى، بهذه الظاهرة ذات الأهمية التاريخية العالمية، نكتشف الخوف الذي يشعرون به أمام امتداد المجالس العمالية.

تشكل المجالس العمالية الظاهرة الأكثر أهمية منذ كومونة باريس. إن كونفرنس برن بتناسيه هذه المسألة، إنما عبّر عن بؤسه المعنوي وإفلاسه النظري.

يعتبر مؤتمر الأممية الشيوعية أن «الأممية» التي يحاول كونفرانس برن إنشاءها، هي أممية صفراء مشكلة من قامعي الإضرابات، وهي ليست ولن تكون إلاّ أداة للبرجوازية.

إن المؤتمر يدعو عمال العالم أجمع إلى خوض النضال الأكثر حزما ضد الأممية الصفراء، وإلى وقاية أوسع الجماهير من أممية الكذب والخيانة هذه.

إعلان من المشاركين بكونفرانس زيمرفالد

في مؤتمر الأممية الشيوعية


لقد كان لكونفرانسي زيمرفالد وكينتال أهميتهما الخاصة في مرحلة كانت من الضروري فيها توحيد كل العناصر البروليتارية المستعدة، بشكل أو بآخر، للاحتجاج على المجزرة الامبريالية، غير أن بعض العناصر «الوسطية»، السلمية والمترددة، كانت قد دخلت إلى تجمع زيمرفالد إلى جانب العناصر الشيوعية الصرفة. وقد توحدت اليوم، كما ظهر في كونفرانس برن، هذه العناصر الوسطية مع الاشتراكيين الوطنيين من أجل قتال البروليتاريا الثورية، مستخدمة بذلك زيمرفالد لصالح الرجعية.

وكانت الحركة الشيوعية، في الوقت نفسه، تنمو في عدد من البلدان. والآن أصبح النضال ضد العناصر الوسطية، التي تشكل عائقا أمام تطور الثورة الاجتماعية، المهمة الرئيسية للبروليتاريا الثورية. إن تجمع زيمرفالد قد إنتهى، وما تبقى فيه من ثوري بالفعل راح ينحاز وينضم إلى الأممية الشيوعية.

إن المشاركين في زيمرفالد، الموقعين أدناه، يعلنون أنهم يعتبرون تجمع زيمرفالد منحلاًّ، ويطلبون من مكتب كونفرانس زيمرفالد أن يعيد جميع وثائقه إلى اللجنة التنفيذية للأممية الثالثة.

راكوفسكي، لينين، زينوفييف، تروتسكي، بلاتن

قرارات متعلقة بتجمع زيمرفالد

بعد الاستماع إلى تقرير الرفيق بالابانوف، سكرتير اللجنة الاشتراكية العالمية، والرفاق راكوفسكي، بلاتن، لينين، تروتسكي وزينوفييف، أعضاء تجمع زيمرفالد يقرر المؤتمر الشيوعي الأول لزيمرفالد اعتبار تجمع زيمرفالد منحلاً.

********

قرار متعلق بالمسألة التنظيمية

لكي يتمكن المؤتمر من بدء عمله النشط دون تأخير، فإنه يعيّن فورا الهيئات الضرورية، على اعتبار أن التشكيل النهائي للأممية الشيوعية يجب أن يقدمه المؤتمر القادم بناء على اقتراح المكتب.

تُسند قيادة الأممية الشيوعية إلى لجنة تنفيذية، وتتشكل هذه اللجنة من ممثل عن كل حزب شيوعي في البلدان الأكثر أهمية. وعلى الأحزاب في روسيا، وألمانيا، والنمسا الألمانية، وهنغاريا، واتحاد البلقان، وسويسرا وإسكندنافيا، أن ترسل فورا ممثليها إلى أول اجتماع للجنة تنفيذية.

إن الأحزاب في البلدان التي تعلن انتسابها إلى الأممية الشيوعية قبل المؤتمر الثاني تحصل على مقعد في اللجنة التنفيذية.

وحتى وصول ممثلين أجانب يؤمن الرفاق في البلد مركز اللجنة التنفيذية سير العمل، وتنتخب اللجنة التنفيذية مكتبا من خمسة أشخاص.

**********

                      قرار تأسيس الأممية الشيوعية

بلاتن، رئيساً – سأطلعكم الآن على اقتراح تقدم به المندوبون: راكوفسكي، غروبر، غريملاند ورودنيانسكي. هذا الاقتراح وارد بالشكل التالي:

«إن ممثلي الحزب الشيوعي النمساوي الألماني، وحزب اليسار الاشتراكي – الديموقراطي في السويد والاتحاد العمالي الثوري الاشتراكي – الديموقراطي في البلقان، والحزب الشيوعي الهنغاري، يقترحون تأسيس الأممية الشيوعية.

«1- إن ضرورة النضال من أجل ديكتاتورية البروليتاريا تفترض التنظيم الموحد، المشترك والأممي لكل العناصر الشيوعية التي تقف على هذه الأرضية.

«2- إن هذا التأسيس هو الواجب الأكثر إلحاحا في الوقت الذي تجري فيه حاليا في برن، وربما في مكان آخر أيضا، لاحقاً، محاولة لإعادة الأممية الإنتهازية القديمة، وتجميع كل العناصر البروليتارية المشوشة والمترددة. لهذا من الضروري إقامة فصل واضح بين العناصر البروليتارية الثورية والعناصر الاشتراكية – الخائنة.

«3- إذا لم تتأسس الأممية الثالثة في الكونفرانس المنعقد في موسكو، فإن ذلك سيخلق انطباعا بأن الأحزاب الشيوعية غير متفقة، مما يضعف موقفنا ويزيد من البلبلة بين العناصر المترددة من البروليتاريا في كل البلدان.

«4- إن بناء الأممية الثالثة هو إذن واجب تاريخي مطلق، وعلى الكونفرانس الشيوعي العالمي المنعقد في موسكو أن يجعل منه حقيقة».

يفترض هذا الإقتراح اتخاذ قرار بصدد ما إذا كنا نشكل كونفرانسا أو مؤتمرا. إن هذا القرار يهدف إلى بناء الأممية الثالثة والنقاش مفتوح.

بعد النقاش طرح الرفيق بلاتن على التصويت الاقتراح الذي وقّعه كل من راكوفسكي، غروبر، غريملاند ورودنيانسكي.

وقال: «إن هذا الإقتراح قد وُضع بهدف الوصول إلى قرار حول تأسيس الأممية الثالثة».

جرى تبني القرار بالإجماع، ما عدا امتناع خمسة أصوات (الوفد الألماني).

قرار

4 آذار/ مارس 1919

إن الكونفرانس الشيوعي العالمي يقرر تشكيل نفسه كأممية ثالثة ويتبنى اسم الأممية الشيوعية. إن نُسَب الأصوات الممنوحة لن يطرأ عليها أي تغيير، وكل الأحزاب والتنظيمات والتجمعات تحتفظ بحق الإنضمام بشكل نهائي إلى الأممية الثالثة، ضمن مهلة ثمانية أشهر.

برنامج الأممية الشيوعية

لقد انكشفت بقوة لا مثيل لها تناقضات النظام العالمي، التي كانت مخبأة داخله في السابق، بانفجار هائل: الحرب الامبريالية العالمية الكبرى.

سعت الرأسمالية إلى تخطي فوضاها الخاصة بها عبر تنظيم الإنتاج. فعوضا من المشاريع العديدة المتنافسة، نظمت نفسها في جمعيات رأسمالية (نقابات، كارتيلات، تروستات). لقد اندمج الرأسمال المصرفي بالرأسمال الصناعي. ووقعت الحياة الاقتصادية بمجملها تحت سلطة أوليغارشية مالية رأسمالية، اكتسبت سلطة مطلقة بواسطة تنظيم قائم على هذه السلطة، وحل الاحتكار محل المنافسة الحرة. إن الرأسمالي المنعزل تحول إلى عضو في جمعية رأسمالية؛ لقد حل التنظيم محل الفوضى الجنونية.

ولكن، بقدر ما استبدلت الأساليب الفوضوية في الإنتاج الرأسمالي بالتنظيم الرأسمالي، في كل دولة مأخوذة على حدة، بلغت التناقضات والمنافسة والفوضى في الاقتصاد العالمي درجة أكبر من الحدة. إن الصراع بين أكبر الدول المتنافسة يؤدي، بفعل ضرورة صارمة، إلى الحرب الامبريالية الوحشية. إن التعطش للأرباح يدفع الرأسمالية العالمية إلى الصراع من أجل غزو أسواق جديدة ومصادر جديدة للمواد الخام والأيدي العاملة الرخيصة من عبيد المستعمرات. إن الدول الامبريالية التي تقاسمت العالم أجمع وحولت ملايين البروليتاريين والفلاحين الأفارقة والآسيويين والأمريكيين والأوستراليين إلى بهائم بمجموعهم، كان لابد عاجلا أو آجلا أن تكشف، في نزاع هائل، الطبيعة الفوضوية للرأسمال. وهكذا حدثت إحدى أكبر الجرائم – الحرب اللصوصية العالمية.

سعت الرأسمالية إلى تخطي تناقضات بنيتها الاجتماعية. إن المجتمع البرجوازي هو مجتمع طبقي، لكن رأس المال في الدول الكبرى «المتحضرة» سعى إلى خنق التناقضات الاجتماعية، وعلى حساب الشعوب المستعمرة، التي كان يحطمها، اشترى عبيده المأجورين خالقا وحدة مصالح بين المستغَلين والمستغِلين – وحدة مصالح موجهة ضد المستعمرات المضطَهدة والشعوب المستعمرَة الصفراء والسوداء والحمراء، وقيّد العامل الأوروبي أو الأمريكي إلى «الوطن» الإمبريالي.

غير أن هذا المنهج نفسه من الإفساد المستمر، الذي كان يخلق وطنية الطبقة العاملة وخضوعها المعنوي، أحدث، بفضل الحرب، نقيضه الخاص. فالتحطيم والإخضاع الكلي للبروليتاريا والنير الوحشي، والإفقار والانحطاط والجوع في العالم أجمع كل ذلك كان آخر فدية للسلام الإجتماعي. لقد أفلس ذلك السلام، وتحولت الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية.

وُلد عصر جديد، عصر انحلال الرأسمالية وانهيارها الداخلي، عصر ثورة البروليتاريا الشيوعية.

إن النظام الرأسمالي ينهار.اضطرابات في المستعمرات، تخمّر بين القوميات الصغيرة المحرومة من الاستقلال حتى الآن، انتفاضات بروليتارية، ثورات بروليتارية منتصرة في العديد من البلدان، تفكك في الجيوش الامبريالية، وعجز مطلق لدى الطبقات المسيطرة عن التحكم، من الآن وصاعدا، بمصير الشعوب: هذه هي لوحة الوضع الحالي في العالم أجمع.

إن الإنسانية، التي جرى تخريب حضارتها، مهددة بالدمار. لم يعد هناك إلاّ قوة واحدة قادرة على إنقادها، وهذه القوة هي البروليتاريا. إن «النظام» الرأسمالي القديم لم يعد موجودا، ولم يعد بإمكانه أن يوجد. والنتيجة النهائية للأساليب الرأسمالية في الإنتاج هي الفوضى – وهذه الفوضى لا يمكن التغلب عليها إلاّ بواسطة أكبر طبقة منتجة، الطبقة العاملة، وهي التي ينبغي أن تقيم النضال الفعلي، النظام الشيوعي، وينبغي أن تكسر سيطرة الرأسمال، وتجعل الحروب مستحيلة، وتمحو الحدود بين الدول، وتحوّل العالم إلى جماعة واسعة عاملة من أجل نفسها، وتحقق التضامن الأخوي وتحرر الشعوب.

في غضون ذلك، يتسلح الرأسمال العالمي ضد البروليتاريا في معركة أخيرة. وتحت غطاء عصبة الأمم والثرثرة السلمية يجرب جهوده الأخيرة من أجل ضبط الأجزاء المفككة من تلقاء نفسها في النظام الرأسمالي، وتوجيه قواه ضد الثورة البروليتارية المندفعة بشكل لا يقاوم.

على هذا الجديد، على هذه المؤامرة الضخمة للطبقات الرأسمالية، ينبغي أن ترد البروليتاريا باستلام السلطة السياسية وأن توجه هذه السلطة ضد أعدائها، وأن تستخدمها كرافعة للتحويل الاقتصادي للمجتمع. إن الانتصار النهائي للبروليتاريا العالمية سوف يشكل بداية تاريخ الإنسانية المحررة.

الاستيلاء على السلطة السياسية

إن استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية يعني القضاء على السلطة السياسية للبرجوازية. إن الجهاز الحكومي بجيشه الرأسمالي، الموضوع تحت قيادة هيئة من الضباط البرجوازيين واليونكرز، وبشرطته ودركه، بسجانيه وقضاته، وكهنته وموظفيه…الخ، يشكل أقوى أداة للحكم بين أيدي البرجوازية. إن الاستيلاء على السلطة الحكومية لا يمكن أن يقتصر على تغيير الأشخاص في تأليف الحكومات، بل يجب أن يعني القضاء على جهاز دولة غريب، والاستيلاء على القوة الحقيقية، ونزع سلاح البرجوازية وهيئة الضباط المعادين للثورة والحرس الأبيض، وتسليح البروليتاريا والجنود الثوريين والحرس الأحمر العمالي، وعزل القضاة البرجوازيين وتنظيم المحاكم البروليتارية، وتدمير نزعة التوظيف الرجعية وإنشاء أجهزة جديدة للإدارة البروليتارية. إن النصر البروليتاري مضمون بفعل فساد السلطة العدوة وتنظيم السلطة البروليتارية، وهو ما يجب أن يعني انهيار جهاز الدولة البرجوازي وإنشاء جهاز دولة بروليتاري. ولن تستطيع البروليتاريا إجبار أعدائها القدامى على خدمتها بشكل مفيد، عبر وضعهم بشكل تدريجي تحت رقابتها في سياق عملية بناء الشيوعية، إلاّ بعد الانتصار الكامل، أي عندما تكون حطمت المقاومة البرجوازية نهائيا.

ديموقراطية ودكتاتورية

تمثل الدولة البروليتارية، مثل كل دولة، جهاز إكراه، وهذا الجهاز موجه الآن ضد أعداء الطبقة العاملة. مهمته تحطيم مقاومة المستغلين وجعلها مستحيلة، هؤلاء المستغلين الذين يستخدمون في صراعهم اليائس كل الوسائل من أجل خنق الثورة بشكل دموي. ومن جهة أخرى تجعل دكتاتورية البروليتاريا من هذه الطبقة طبقة حاكمة بشكل رسمي، وتخلق بذلك وضعا انتقاليا.

وبالقدر الذي يجري فيه تحطيم مقاومة البرجوازية، يجري نزع ملكيتها وتتحول إلى جماهير كادحة. عندها تختفي دكتاتورية البروليتاريا، وتموت الدولة، وتنتهي معها الطبقات الاجتماعية.

إن ما يسمى بالديموقراطية، أي الديموقراطية البرجوازية ليست سوى دكتاتورية برجوازية مقّنعة. إن «الإرادة الشعبية» التي طالما جرى تمجيدها ليست سوى تلفيق، مثل وحدة الشعب. الواقع أنه توجد طبقات لا يمكن التوفيق بين مصالحها المتعارضة. وبما أن البرجوازية ليست إلاّ أقلية ضئيلة، فإنها تلجأ إلى هذا التلفيق، هذه «الإدارة الشعبية»، المزعومة من أجل تثبيت سيطرتها على الطبقة العاملة بواسطة التعابير الجميلة، ومن أجل أن تفرض عليها إرادة طبقتها. وعلى العكس من ذلك، فإن البروليتاريا التي تشكل الأغلبية العظمى من السكان، تستخدم بشكل صريح قوة منظماتها الجماهيرية وسوفيتاتها من أجل الدفع بالانتقال نحو مجتمع شيوعي بدون طبقات.

إن جوهر الديموقراطية البرجوازية يقوم على الاعتراف الشكلي المحض بالحقوق والحريات، وتحديدا تلك المتعذرة على البروليتاريين وأنصاف البروليتاريين، بسبب افتقارهم للموارد المادية، بينما تملك البرجوازية كل الإمكانات لتفيد من هذه المصادر المادية، ومن صحافتها وتنظيمها لتكذب على الشعب وتخدعه. على العكس من ذلك يقوم جوهر النظام السوفياتي – هذا النموذج الجديد من السلطة الحكومية – على اكتساب البروليتاريا إمكانية تأمين حقوقها وحريتها بالفعل. إن سلطة السوفيات تضع في أيدي الشعب أجمل القصور والبيوت والمطابع ومستودعات الورق، الخ.. من أجل صحافته واجتماعاته ونقاباته، ولا تصبح الديموقراطية البروليتارية ممكنة فعلا إلاّ عند ذلك.

في ظل النظام البرلماني، لا تعطي الديموقراطية البرجوازية السلطة للجماهير إلاّ بالقول، وتكون تنظيماتها مبعدة كليا عن السلطة الفعلية والإدارة الحقيقية للبلاد. أمّا في النظام السوفياتي فتحكم تنظيمات الجماهير، بواسطتها نفسها، وتستقدم السوفيتات إلى إدارة الدولة عددا متزايدا باستمرار من العمال. وبهذه الطريقة فقط سيتمكن الشعب العامل شيئا فشيئا من المساهمة الفعالة في حكم الدولة. بهذا الشكل، يرتكز النظام السوفياتي على تنظيمات الجماهير البروليتارية، الممثلة بالسوفيتات نفسها والاتحادات المهنية الثورية والتعاونيات الخ.

إن الديموقراطية البرجوازية والبرلمانية، إذ تفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وبغياب حق عزل النواب، تستكمل عزل الجماهير عن الدولة. على العكس، فإن النظام السوفياتي، إذ يقر حق العزل ويجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتبعا لذلك، إذ يتيح للسوفيتات القدرة على تشكيل مجموعات عمل، إنما يربط الجماهير بأجهزة الإدارات. ويتعزز هذا الارتباط بواقع أنه لا تجري الانتخابات في النظام السوفياتي تبعا لتقسيمات مناطقية مصطنعة، بل تتوافق مع الوحدات المحلية للإنتاج.

يؤمن النظام السوفياتي بهذا الشكل إمكانية ديموقراطية بروليتارية حقيقية، ديموقراطية من أجل البروليتاريا وداخل البروليتاريا، موجهة ضد البرجوازية. في هذا النظام يتأمن للبروليتاريا الصناعية وضعٌ مسيطر، ويناط بها دور الطبقة القائدة، بسبب تنظيمها الجيد وتطورها السياسي الكبير. وهذا التفوق الآني للبروليتاريا الصناعية يجب أن يُستخدم من أجل انتزاع الجماهير غير المالكة، البرجوازية الصغيرة الفلاحية، من تحت تأثير الملاكين الريفيين الكبار والبرجوازية، ومن أجل تنظيمها ودعوتها إلى المشاركة في البناء الشيوعي.

نزع ملكية البرجوازية

وتشريك وسائل الإنتاج

إن تحليل النظام الرأسمالي والتنظيم الرأسمالي للعمل يجعلان من المستحيل إعادة تشكيل الإنتاج على الأسس القديمة، نظرا إلى العلاقات بين الطبقات. إن نضال العمال من أجل تحسين الأجور، حتى في حال نجاحه، لا يؤدي إلى التحسن المرتجى في ظروف المعيشة. فزيادة أسعار المنتجات تلغي لا محالة كل نجاح. إن النضال الحازم للعمال من أجل زيادة أجورهم في البلدان حيث الحالة ميؤوس منها بداهة، هذا النضال، بطابعه المندفع والحماسي، وبميله إلى التعميم، يجعل من المستحيل من الآن وصاعدا تطور الإنتاج الرأسمالي. إن تحسن ظروف العمال لا يمكن أن يتحقق إلاّ عندما تستولي البروليتاريا بنفسها على الإنتاج. فمن أجل رفع مستوى القوى الإنتاجية الاقتصادية، ومن أجل كسر المقاومة البرجوازية بأقصى سرعة ممكنة، هذه المقاومة التي تطيل احتضار المجتمع القديم، وتخلق بذلك خطر القضاء الكامل على الحياة الاقتصادية، على دكتاتورية البروليتاريا أن تحقق مصادرة ملكية البرجوازية الكبيرة وطبقة النبلاء، وأن تجعل من وسائل الإنتاج والنقل ملكية جماعية للدولة البروليتارية.

إن الشيوعية تولد حاليا على أنقاض المجتمع الرأسمالي، ولن يترك التاريخ مخرجا آخر أمام الإنسانية. إن الانتهازيين، عبر رغبتهم بتأخير التشريك، وعبر مطلبهم الطوباوي بتجديد الاقتصاد الرأسمالي، لا يقومون إلاّ بتأخير حل الأزمة، وخلق التهديد بالخراب الكامل. بينما تظهر الثورة الشيوعية، بالنسبة للقوة الإنتاجية الحقيقية في المجتمع، بالنسبة للبروليتاريا – ومعها بالنسبة لكل المجتمع – كأفضل وسيلة خلاص وأضمنها.

لا تقود ديكتاتورية البروليتاريا إلى أي توزيع لوسائل الإنتاج والنقل، وعلى العكس فإن مهمتها تقوم على تحقيق أكبر مركزة لوسائل الإنتاج، وعلى إدارة الإنتاج وفق خطة واحدة.

إن الخطوة الأولى نحو تشريك الاقتصاد بمجمله ستتضمن بالضرورة الإجراءات التالية: تشريك المصارف الكبرى التي تدير الإنتاج حاليا، واستيلاء السلطة البروليتارية على كل أجهزة الدولة الرأسمالية التي تدير الحياة الاقتصادية، والاستيلاء على كل المشاريع البلدية، وتشريك فروع الصناعة في التروستات أو النقابات، وكذلك تشريك فروع الصناعة التي تجعل درجة تمركزها من التشريك ممكنا من الناحية التقنية، وتشريك الملكيات الزراعية وتحويلها إلى مشاريع زراعية يديرها المجتمع.

أمّا في ما خصّ المشاريع الأقل أهمية، فعلى البروليتاريا أن تشرّكها تدريجيا، آخذة بعين الاعتبار مدى ضخامة هذه المشاريع.

من المهم أن نشير هنا، أنه لا ينبغي مصادرة الملكية الصغيرة، وينبغي ألاّ يتعرض الملاكون الصغار، الذين لا يستغلون عمل غيرهم، لأي عنف. فسوف تُجذب هذه الطبقة شيئا فشيئا إلى دائرة التنظيم الاجتماعي، عبر النموذج والممارسة اللذين يظهران تفوق البنية الاجتماعية الجديدة، التي تحرر طبقة الفلاحين الصغار والبرجوازية الصغيرة من نير الرأسماليين الكبار ومن مجمل طبقة النبلاء ومن الضرائب الفاحشة (أساسا بعد إلغاء ديون الدولة، الخ..).

إن مهمة ديكتاتورية البروليتاريا في المجال الإقتصادي لا يمكن أن تتحقق إلاّ بالقدر الذي تتمكن فيه البروليتاريا من خلق أجهزة إدارة الإنتاج الممركز، وتحقق التسيير من قبل العمال أنفسهم. وللوصول إلى هذه الغاية ستكون مجبرة على الإفادة من منظماتها الجماهيرية، تلك المرتبطة ارتباطا وثيقا بسيرورة الإنتاج.

أمّا في مجال التوزيع، فعلى ديكتاتورية البروليتاريا أن تحقق استبدال التجارة بتوزيع عادل للمنتجات. ومن بين الإجراءات الضرورية للوصول إلى هذه الغاية، تجدر الإشارة إلى تشريك المشاريع التجارية الكبرى، وتسليم البروليتاريا جميع أجهزة التوزيع في الدولة والبلديات البرجوازية، ومراقبة الاتحادات التعاونية الكبرى التي يحتفظ جهازها المنظم بأهمية اقتصادية كبرى، والمركزة التدريجية لكل هذه الأجهزة وتحويلها إلى كل موحد بهدف التوزيع العقلاني للمنتجات.

وكما في مجال الإنتاج، كذلك في مجال التوزيع، من المهم استخدام كل التقنيين والاختصاصيين المهرة – عندما يتم تحطيم مقاومتهم في الميدان السياسي ويصبحون مستعدين لخدمة نظام الإنتاج الجديد بدل خدمة رأس المال.

ليس لدى البروليتاريا نية اضطهادهم. على العكس فإنها أول من يعطيهم إمكانية تطوير نشاطهم الخلاق الأكثر حيوية. إن ديكتاتورية البروليتاريا تستبدل تقسيم العمل الجسدي والفكري الخاص بالرأسمالية، بالوحدة، جامعة بذلك ما بين العمل والعلم.

وفي الوقت نفسه الذي تصادر فيه البروليتاريا المشاغل، والمناجم والملكيات الخ، عليها أن تضع حدا لاستغلال الرأسمال ومالكي البنايات للسكان، وأن تنقل المساكن الكبرى إلى أيدي السوفيتات العمالية المحلية، وتؤمن سَكن الجمهور العامل في الشقق البرجوازية، الخ.

أثناء هذا التحول الضخم، على السلطة السوفياتية، من جهة، أن تبني جهازا حكوميا ضخما يزداد مركزة بشكل دائم من حيث الشكل، وأن تدعو من جهة أخرى الشرائح المتزايدة الاتساع في الشعب العامل إلى العمل الإداري المباشر.

طريق النصر

إن المرحلة الثورية تتطلب من البروليتاريا أن تستخدم طريقة نضالية تعبئ كل طاقتها، ونقصد بذلك العمل المباشر للجماهير وتتمته المنطقية المتمثلة بالصدام المباشر مع الآلة الحكومية البرجوازية والحرب المعلنة ضدها. ومن أجل هذا الهدف يجب أن تلجأ إلى كل الوسائل الأخرى، بما فيها الاستخدام الثوري للبرلمانية البرجوازية.

إن الشروط التمهيدية الضرورية لهذا النضال الظافر هي: القطيعة ليس فقط مع الخدام المباشرين للرأسمال وجلادي الثورة الشيوعية – ويقوم بهذا الدور اليوم الاشتراكيون – الديموقراطيون – ولكن أيضا القطيعة مع «الوسط» (مجموعة كاوتسكي) الذي تخلى، في اللحظة الحرجة، عن البروليتاريا وتحالف مع أعدائها المعلنين.

من جهة ثانية، هناك ضرورة لتحقيق تكتل مع هذه العناصر من الحركة العمالية الثورية التي، بالرغم من عدم انتسابها سابقا إلى الحزب الاشتراكي، تقف الآن كليا على أرضية ديكتاتورية البروليتاريا بشكلها السوفياتي، أي مع العناصر النقابية التي ينطبق عليها هذا الوصف.

إن نمو الحركة الثورية في كل البلدان، وخطر أن تُخنق هذه الثورة على يد عصبة الدول البرجوازية، ومحاولات الوحدة ما بين الأحزاب التي خانت الاشتراكية (تشكيل الأممية الصفراء في برن)، بهدف خدمة عصبة ويلسون بشكل وضيع، وأخيرا الضرورة المطلقة بالنسبة للبروليتاريا لتنسيق جهودها – كل ذلك يقودنا بشكل حتمي إلى تشكيل الأممية الشيوعية، الثورية حقا والبروليتارية حقا.

إن الأممية، التي ستظهر قدرتها على إخضاع المصالح المسماة قومية لمصالح الثورة العالمية، ستحقق بذلك تكاتف البروليتاريين في مختلف البلدان – حيث أنه دون هذه المساعدة المتبادلة، الاقتصادية وغيرها، لن تكون البروليتاريا قادرة على بناء مجتمع جديد. من جهة ثانية، وبعكس الأممية الاشتراكية الصفراء، فإن الأممية البروليتارية والشيوعية ستدعم الشعوب المستغَلة في المستعمرات في نضالها ضد الإمبريالية، ومن أجل الإسراع بالإنهيار النهائي للنظام الإمبريالي العالمي.

في بداية الحرب العالمية، كان أشرار الرأسمالية يؤكدون أنهم لا يقومون بكل ذلك إلاّ من أجل الدفاع عن وطنهم. غير أن الامبريالية الألمانية أ ظهرت طبيعتها الوحشية في سلسلة من الجرائم الدموية التي ارتكبتها في روسيا، وأوكرانيا، وفنلندا. وبدورها، تنكشف الآن، حتى أمام أعين الشرائح الأكثر تخلفا من السكان، القوات الحليفة التي تنهب العالم أجمع وترتكب المجازر بحق البروليتاريا. وهي تسعى، بالاتفاق مع البرجوازية الألمانية والاشتراكيين – الوطنيين، وكلمة السلام على شفتيها، لأن تسحق الثورة البروليتارية الأوروبية، بواسطة دبابات وقوات استعمارية هائلة وهمجية. إن الإرهاب الأبيض للبرجوازيين – آكلي لحوم البشر كان وحشيا بشكل لا يوصف. والضحايا في صفوف الطبقة العاملة لا تحصى. كما انها فقدت خيرة أبطالها: ليبكنخت وروزا لوكسمبرغ.

ينبغي على البروليتاريا أن تدافع عن نفسها بأي حال. إن الأممية الشيوعية تدعو البروليتاريا العالمية إلى هذا النضال الحاسم. السلاح ضد السلاح! القوة بوجه القوة! لتسقط المؤامرة الإمبريالية للرأسمال! عاشت الجمهورية الأممية للسوفيتات البروليتارية!

موضوعات حول الوضع العالمي

وسياسة التحالف

لقد كشفت تجارب الحرب العالمية، السياسة الإمبريالية للـ «ديموقراطيات» البرجوازية باعتبارها سياسة صراع بين القوى العظمى، الساعية إلى تقاسم العالم وتدعيم دكتاتورية الرأسمال المالي الاقتصادية والسياسية على الجماهير المستغَلة والمضطهدة. إن المجزرة بحق مليون بشري، وإفقار البروليتاريا الواقعة تحت العبودية، والثراء الفاحش للشرائح العليا من البرجوازية بفضل التموينات الحربية والقروض.. إلخ، وانتصار الرجعية العسكرية في كل البلدان، كل ذلك لم يلبث أن طوح بالأوهام حول الدفاع عن الوطن، والهدنة والـ «ديموقراطية». وقد فضحت «سياسة السلم» التطلعات الفعلية الإمبريالية في كل البلدان، وذهبت إلى النهاية في تعريتها.

سلام بريست – ليتوفسك ومساومة الإمبريالية الألمانية

لقد كشف سلام بريست – ليتوفسك وفيما بعد سلام بوخارست طابع النهب والرجعية لدى إمبريالية دول المحور. فقد انتزع المنتصرون من روسيا العزلاء ضرائب وأراضي، واستخدموا حق الشعوب في تقرير مصيرها كتبرير لسياسة الضم، خالقين بذلك دولا تابعة، تشجع حكوماتها الرجعية سياسة النهب وتقمع الحركة الثورية للجماهير الكادحة. إن الامبريالية الألمانية التي لم تستطع أن تحرز نصرا كاملا في الصراع العالمي، لم يكن بإمكانها، في تلك اللحظة، أن تظهر نواياها الفعلية بصراحة كلية، فلجأت مضطرة إلى العيش بسلام ظاهري مع روسيا السوفياتية وإلى تغطية سياسة النهب لديها وسياستها الرجعية بجمل خادعة.

مع ذلك، ما أن حقق الحلفاء انتصارا عالميا حتى تركوا أقنعتهم تسقط وكشفوا أمام أعين العالم أجمع الوجه الحقيقي للإمبريالية العالمية.

انتصار الحلفاء

وتجمع الدول ثانيةً

لقد قسم انتصار الحلفاء البلدان المسماة متحضرة في العالم إلى مجموعات مختلفة، تتشكل المجموعة الأولى من قوى العالم الرأسمالي، القوى العظمى الامبريالية المنتصرة (إنكلترا، أمريكا، فرنسا، اليابان وإيطاليا)، وتقف بمواجهتها البلدان الامبريالية المهزومة التي هدمتها الحرب، وصدعت بنيتها الداخلية بداية الثورة البروليتارية (ألمانيا، النمسا – المجر، مع الدول التابعة لها سابقا). وتتشكل المجموعة الثالثة من الدول التابعة لدول الحلفاء وهي تتألف من الدول الرأسمالية الصغيرة التي شاركت في الحرب إلى جانب الحلفاء (بلجيكا، الصرب والبرتغال، الخ)، والجمهوريات «القومية» الصغيرة والدول العازلة التي أنشئت مؤخرا (جمهورية تشيكو – سلوفاكيا، بولندا والجمهوريات الروسية المعادية للثورة، الخ) وتقترب الدول المحايدة، تبعا لوضعها، من الدول التابعة، ولكنها تتعرض لضغط سياسي واقتصادي قوي، يجعل وضعها، أحيانا، متشابها لوضع الدول المهزومة. أمّا الجمهورية الاشتراكية فهي دولة عمال وفلاحين، تقف خارج العالم الرأسمالي وتمثل بالنسبة للإمبريالية المنتصرة خطرا اجتماعيا هائلا، خطر انهيار كل نتائج النصر تحت مطرقة الثورة العالمية.

«السياسة السلمية» للحلفاء

أو الإمبريالية تفضح نفسها بنفسها

إن «السياسة السلمية» للقوى العالمية الخمس، مأخوذةً بمجملها، كانت ولا تزال سياسة تفضح نفسها بنفسها.

على الرغم من كل العبارات حول «سياستها الخارجية الديموقراطية»، فإنها تشكل الانتصار الكامل للديبلوماسية السرية التي، عن طريق التسويات بين وكلاء سلطة التروستات المالية، تقرر مصير العالم من وراء ظهر ملايين العمال في كل البلدان، وعلى حسابهم. فتجري معالجة كل المسائل الأساسية دون استثناء في جلسات سرية من قبل اللجنة الباريسية للقوى العظمى الخمس، بغياب ممثلي الدول المهزومة والمحايدة والدول التابعة نفسها.

إن خطابات لويد جورج وكليمنصو وسونينو، الخ…، تنادي وتسعى لأن تبرر علناً ضرورة ضم الأراضي والغرامات.

على الرغم من العبارات الكاذبة حول «الحرب من أجل نزع السلاح الشامل»، يجري الإعلان عن ضرورة التسلح أيضا والحفاظ قبل كل شيء على القوة البحرية البريطانية من أجل ما يسمى بـ «حماية حرية البحار».

إن حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، الذي نادى به الحلفاء، جرى دوسه علنا واستبدل بتقاسم المناطق المتنازع عليها بين الدول القوية والدول التابعة لها.

لقد جرى ضم الألزاس – اللورين إلى فرنسا دون استشارة السكان، ولم يكن لإيرلندا ومصر والهند أن تقرر مصيرها بنفسها، وجرى إنشاء الدولة السلافية الجنوبية والجمهورية التشيكوسلوفاكية بقوة السلاح، وتجري المساومة بدون حياء حول تقاسم تركيا الأوروبية والآسيوية، هذا وقد بدأ تقاسم المستعمرات الألمانية، الخ، الخ…

لقد دُفعت سياسة الغرامات إلى درجة النهب الكامل للمهزومين، فلا يجري فقط تقديم فواتير لهم تبلغ مليارات ومليارات ولا يجري انتزاع كل وسائل الحرب منهم فحسب – بل إن دول الحلفاء تسلبهم القطارات وسكك الحديد والمراكب والأدوات الزراعية وأرصدة الذهب، الخ.، الخ.. إضافة إلى ذلك يجب على أسرى الحرب أن يصبحوا عبيدا للمنتصرين. وتتم مناقشة اقتراحات تهدف إلى فرض العمل القسري على العمال الألمان، فلدى القوى الحليفة النية في أن تجعل منهم عبيدا بائسين وجائعين لدى رأسمال دول الحلفاء.

إن سياسة الإثارة القومية مدفوعة إلى أقصاها تجد تعبيرها في الإثارة المستمرة ضد الأمم المهزومة في صحافة الحلفاء وإدارات الإحتلال، كما في حصار الجوع، حاكمة بذلك على شعوب ألمانيا والنمسا بالإبادة. إن هذه السياسة تقود إلى مذابح ضد الألمان، منظمة بدعم الحلفاء، من قبل العناصر الشوفينية التشيكية والبولندية، وإلى مذابح ضد اليهود، تتخطى كل «الأعمال الباهرة» للقيصرية الروسية.

إن الدول الحليفة «الديموقراطية» تتبع سياسة رجعية قصوى.

وتنتصر الرجعية داخل الدول الحليفة نفسها، ومن بينها فرنسا التي عادت إلى أسوأ عهود نابوليون الثالث، كما في العالم الرأسمالي بمجمله الواقع تحت سيطرة الحلفاء. فهؤلاء يخنقون الثورة في البلدان المحتلة: ألمانيا، المجر، بلغاريا، الخ.. ويحرضون الحكومات الانتهازية – البرجوازية في الدول المهزومة ضد العمال الثوريين، بتهديدها بقطع سبل عيشها. لقد أعلن الحلفاء أنهم سيغرقون كل السفن الألمانية التي تجرؤ على رفع علم الثورة الأحمر؛ ورفضوا الاعتراف بالمجالس الألمانية؛ وفي المناطق المحتلة ألغوا يوم العمل من ثماني ساعات. وبغض النظر عن دعم السياسة الرجعية في البلدان المحايدة وتشجيع هذه السياسة في البلدان التابعة (نظام بادريفسكي في بولندا)، فقد حرّض الحلفاء العناصر الرجعية في هذه البلدان (في فنلندا وبولندا والسويد، الخ..) ضد روسيا الثورية، وطالبوا بتدخل القوى المسلحة الألمانية.

تناقضات بين الدول الحليفة

على الرغم من تجانس الخطوط الأساسية للسياسة الامبريالية للقوى العظمى التي تسيطر على العالم، فإن سلسلة من التناقضات العميقة تبرز داخلها.

تتركز هذه التناقضات بالأخص حول برنامج الرأسمال المالي الأمريكي للسلام (البرنامج المسمى برنامج ويلسون). إن النقاط الأكثر أهمية في هذا البرنامج هي التالية: «حرية البحار»، و«عصبة الأمم»، و«تدويل المستعمرات». إن شعار «حرية البحار» – بعد نزع قناعه المخادع – يعني في الواقع إلغاء الهيمنة العسكرية البحرية لبعض القوى العظمى (بالدرجة الأولى هيمنة انكلترا) وفتح الطرق البحرية كافة أمام التجارة الأمريكية. وتعني «عصبة الأمم» أن حق الضم الفوري للدول والشعوب الضعيفة سيكون ممنوعا على القوى العظمى الأوروبية (بالدرجة الأولى فرنسا)؛ أمّا «تدويل المستعمرات» فيحدد القاعدة نفسها بالنسبة للمناطق المستعمرَة.

تتحكم بهذا البرنامج الوقائع التالية: إن الرأسمال الأمريكي لا يملك أكبر أسطول في العالم، ولم يعد بإمكانه أن يقوم بضم مباشر في أوربا، لهذا يهدف إلى استغلال الدول والشعوب الضعيفة عبر العلاقات التجارية وتوظيف الرساميل، ولذلك يريد أن يجبر القوى الأخرى على تشكيل نقابة تروستات دولية، ويريدها أن تتقاسم في ما بينها حصص الاستغلال العالمي «بأمانة»، وأن يتحول الصراع بين التروستات الدولية إلى صراع اقتصادي بحث. أمّا في مجال الإستغلال الاقتصادي فسيكتسب الرأسمال المالي الأمريكي المتطور جدا هيمنة فعالة ستؤمن له السيطرة الاقتصادية والسياسية في العالم.
إن «حرية البحار» تتناقض بشكل حاد مع مصالح انجلترا واليابان، وجزئيا مع مصالح إيطاليا (في الأدرياتيك). وتتناقض «عصبة الأمم» و«تدويل المستعمرات» بشكل حاسم مع مصالح فرنسا واليابان – وبقدر أقل مع مصالح كل القوى الامبريالية العظمى الأخرى. إن سياسة الامبرياليين في فرنسا، حيث يتخذ الرأسمال المالي الشكل المرابي المتميز، وحيث الصناعة قليلة التطور وحيث دمرت الحرب القوى المنتجة بشكل كامل، تهدف بوسائل يائسة إلى الإبقاء على النظام الرأسمالي. وهذه الوسائل هي: النهب البربري لألمانيا، القهر المباشر والاستغلال الجشع للدول التابعة (مشروعا اتحاد الدانوب، واتحاد الدول السلافية الجنوبية) واستيفاء الديون المستحقة على روسيا القيصرية لشيلوك الفرنسي بالعنف. إن فرنسا وإيطاليا (وينطبق ذلك بشكل ملطف على اليابان) باعتبارهما دولتين قاريتين، قادرتان أيضا على متابعة سياسة الضم المباشر.
في الوقت الذي تتناقض فيه مصالح القوى العظمى مع مصالح أمريكا، فإن مصالح كل منها تتناقض مع مصالح الأخرى. إن إنجلترا تخشى إزدياد قوة فرنسا في القارة، ولها مصالح في آسيا الصغرى وفي أفريقيا تتناقض مع مصالح فرنسا. إن مصالح إيطاليا في البلقان والتيرول تتناقض مع مصالح فرنسا، فيما تنازع اليابان أستراليا الإنكليزية على الجزر الواقعة في المحيط الهادي.

تجمعات واتجاهات

داخل الدول الحليفة

إن هذه التناقضات بين القوى العظمى سهّلت إمكانية ظهور تجمعات مختلفة داخل الدول الحليفة. ولقد ارتسمت حتى الآن تركيبتان أساسيتان: التركيبة الفرنسية – الإنكليزية – اليابانية الموجهة ضد أمريكا وإيطاليا، والتركيبة الإنكليزية – الأمريكية المواجهة ضد القوى العظمى الأخرى.
كانت التركيبة الأولى متفوقة حتى بداية كانون الثاني / يناير 1918، طالما أن الرئيس ولسون لم يكن قد تنازل عن مطالبته بإلغاء السيطرة البحرية الانكليزية. إن تطور الحركة الثورية للعمال والجنود في إنكلترا، الذي أدّى إلى وفاق بين إمبرياليي مختلف البلدان من أجل تصفية الأسطورة الروسية والإسراع بإتمام السلام عزّز من ميل إنكلترا نحو هذه التركيبة، وأصبحت مسيطرة منذ كانون الثاني / يناير 1919. وتقف الكتلة الإنكليزية – الأمريكية ضد أسبقية فرنسا في نهب ألمانيا وحدّة هذا النهب المبالغ بها، وهي تضع بعض الحدود لمطالب فرنسا وإيطاليا واليابان بخصوص ضم الأراضي المبالغ به. وتمنع من أن تكون الدول التابعة المؤسسة حديثا ملحقة مباشرة بهذه الدول. أمّا في ما يتعلق بالمسألة الروسية فلدى التركيبة الانجليزية – الأمريكية استعدادات سلمية: تريد أن تكون طليقة اليدين لتتمكن من إتمام تقاسم العالم، وخنق الثورة الأوربية والثورة الروسية فيما بعد.

يقابل هاتين التركيبتين من القوى اتجاهان داخل القوى العظمى، أحدهما ذو توجه متطرف بخصوص مسألة ضم الأراضي، والآخر معتدل وهو يدعم تركيبة ويلسون – لويد جورج.

«عصبة الأمم»

نظرا للتناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها والتي ظهرت حتى بين الدول الحليفة فإن عصبة الأمم – حتى لو تحققت على الورق – لن تلعب مع ذلك سوى دور الحلف المقدس بين الرأسماليين من أجل قمع الثورة العالمية. فنشر «عصبة الأمم» هو أفضل وسيلة لبلبلة الوعي الثوري للطبقة العاملة. فبدلاً من شعار أممية الجمهوريات العمالية الثورية، يُطلق شعار جمعية أممية للديموقراطيات المزعومة تتحقق بائتلاف بين البروليتاريا والطبقات البرجوازية.

إن «عصبة الأمم» هي شعار مخادع، يشق بواسطته الاشتراكيون – الخونة القوى البروليتارية بأمر من الرأسمال العالمي، ويشجعون الثورة المضادة الامبريالية.

على البروليتاريين الثوريين في العالم أجمع أن يخوضوا صراعا لا هوادة فيه ضد أفكار عصبة الأمم الخاصة بولسون وأن يحتجوا على الدخول في هذه العصبة: عصبة النهب والاستغلال والثورة المضادة الامبريالية.

السياسة الخارجية والداخلية

للبلدان المهزومة

لقد أدى سحق الإمبرياليتين النمساوية والألمانية العسكري وانهيارهما الداخلي إلى سيطرة النظام البرجوازي الاشتراكي – الانتهازي في دول المحور في المرحلة الأولى من الثورة. إن الاشتراكيين – الخونة، تحت ستار الديموقراطية والاشتراكية، يحمون وينعشون السيطرة الاقتصادية للدكتاتورية السياسية للبرجوازية، وهم يسعون في سياستهم الخارجية إلى ترميم الامبريالية الألمانية عبر طلبهم إعادة المستعمرات وقبول ألمانيا في عصبة النهب. وبقدر ما تتعزز عصابات الحرّاس البيض في ألمانيا وتتطور سيرورة التفسخ في معسكر الحلفاء تتزايد أيضا رغبات البرجوازية والاشتراكيين – الخونة في أن تصبح ألمانيا قوة عظمى. وفي الوقت ذاته، تعمل الحكومات البرجوازية الاشتراكية – الانتهازية أيضا على تلغيم التضامن الأممي البروليتاري وتفصل العمال الألمان عن اخوتهم الطبقيين، بتنفيذها لأوامر الحلفاء المعادية للثورة، وخاصة بتحريضها العمال الألمان ضد الثورة الروسية البروليتارية من أجل إرضاء الحلفاء. إن سياسة البرجوازية والاشتراكيين – الإنتهازيين في النمسا وهنغاريا هي تكرار لسياسة الكتلة البرجوازية الانتهازية في ألمانيا ولكن بشكل ملطَّف.

الدول التابعة للحلفاء

إن سياسة الحلفاء، في الدول التابعة والجمهوريات التي أنشأوها لتوِّهم (تشيكوسلوفاكيا والبلدان السلافية الجنوبية، ويجب أن نضيف أيضا بولندا وفنلندا، الخ)، المستندة إلى الطبقات المسيطرة والاشتراكيين – القوميين، تهدف إلى خلق مراكز حركة قومية معادية للثورة. هذه الحركة مفروض عليها أن توجَِّه ضد الشعوب المهزومة وأن تبقي على توازن قوى الدول الجديدة وتخضعها للحلفاء، وأن تكبح الحركات الثورية التي تنمو داخل الجمهوريات «القومية» الجديدة، وأن تقدّم في نهاية المطاف حرساً أبيض للمواجهة ضد الثورة الأممية وخاصة الثورة الروسية.

في ما يتعلق ببلجيكا والبرتغال واليونان والبلدان الأخرى الصغيرة المتحالفة مع الحلفاء، فإن سياستها محددة كليا بسياسة كبار قطاع الطرق، الذين تخضع لهم بشكل كامل وتطلب عونهم من أجل الحصول على ضم مساحات صغيرة من الأراضي وعلى تعويضات تتعلق بالحرب.

الدول المحايدة

إن وضع الدول المحايد مشابهة لوضع الدول التابعة التي لا تحوز رضى إمبريالية الدول المتحالفة، والتي تتبع الدول الحليفة إزاءها، بشكل ملطّف، الأساليب نفسها التي تستخدمها إزاء الدول المهزومة. أمّا الدول المحايدة الحائزة الرضى، فتتقدم بمطالب مختلفة من أعداء الدول الحليفة (مطامع الدانمارك بفلانسبرغ واقتراح سويسرا تدويل الراين، الخ.) وتنفذ في الوقت نفسه أوامر الدول الحليفة المعادية للثورة (طرد السفير الروسي وتجنيد الحرس الأبيض في البلدان الاسكندنافية، الخ.) فيما تتعرض دول أخرى منها للتجزئة (مشروع ضم مقاطعة ليمسبورغ إلى بلجيكا، وتدويل مصب الأسكوت).

الحلفاء وروسيا السوفياتية

إن السمة النهبية وغير الإنسانية والرجعية الإمبريالية في الدول الحليفة تظهر بأوضح أشكالها تجاه روسيا السوفياتية. فمنذ بداية ثورة أكتوبر وقفت القوى الحليفة إلى جانب الأحزاب والحكومات المعادية للثورة في روسيا، وبمساندة من البرجوازيين المعادين للثورة قامت بضم سيبريا والأورال وشواطئ روسيا الأوربية والقوقاز وجزء من تركستان. وقد اختلست المواد الأولية من المقاطعات التي جرى ضمها (الخشب، النفط والمنغنيز، الخ..)؛ وبمساندة العصابات التشيكوسلوفاكية المأجورة لها سرقت احتياطي الذهب من روسيا، وبقيادة الديبلوماسي الإنكليزي لوكهارت قام العملاء الإنكليز والفرنسيون بنسف الجسور وتحطيم سكك الحديد، وحاولوا إعاقة التموين بالمواد الغذائية. لقد دعم الحلفاء بالأموال والأسلحة والمساعدة العسكرية، الجنرالات الرجعيين: دنكين وكولتشاك وكراسنوف، الذين أعدموا بالرصاص وشنقوا آلاف العمال والفلاحين في روستوف وجوسوفكا ونرفوسيجك وأوسك، الخ.. وأعلن الحلفاء جهارا عبر خطب كليمنصو وبيشون مبدأ «الحصار الاقتصادي»، أي أنهم يريدون تجويع جمهورية العمال والفلاحين الثوريين وتدميرها، ووعدوا بتقديم «الدعم التقني» لعصابات دينيكين وكولتشاك وكراسنوف. هذا ورفض الحلفاء في عدة مناسبات اقتراحات السلام السوفياتية.

في 23 كانون الثاني / يناير 1919 تقدم الحلفاء، الذين تعززت داخلهم الاتجاهات المعتدلة بشكل مؤقت، إلى كل الحكومات الروسية باقتراح إرسال مندوبين إلى جزيرة الأمراء، ولم يخل هذا الاقتراح بالطبع من نية استفزازية حيال الحكومة السوفياتية. وعلى الرغم من أن الحلفاء تلقوا في 4 شباط / فبراير جوابا بالموافقة من قبل الحكومة السوفياتية، جوابا ضمنته هذه الأخيرة استعدادها للبحث في مسألة ضم الأراضي والتعويضات والتنازلات، من أجل إنقاذ العمال والفلاحين الروس من الحرب التي فرضها عليهم الحلفاء، فإن هؤلاء لم يردوا على اقتراح السلام هذا ولا غيره.

إن ذلك يؤكد من جديد صلابة الاتجاهات التوسعية الرجعية لإمبرياليي الدول الحليفة، ويهدد الجمهورية الاشتراكية باقتطاع أجزاء جديدة من أراضيها وبهجمات جديدة معادية للثورة.

وهنا تكشف «سياسة السلم» لدى الحلفاء بشكل قاطع أمام البروليتاريا العالمية طبيعة إمبريالية الدول الحليفة والإمبريالية بشكل عام. وتؤكد في الوقت نفسه أن الحكومات الإمبريالية عاجزة عن الوصول إلى «سلام عادل ودائم»، وأن الرأسمال المالي عاجز عن ترميم الاقتصاد المهدم، وأن الحفاظ على سيطرة رأس المال المالي يؤدي إمّا إلى التحطيم الكامل للمجتمع المتحضر وإمّا إلى زيادة الاستغلال والعبودية والرجعية السياسية والتسلح، وبالنهاية إلى حروب مدمرة جديدة.

قرار حول الإرهاب الأبيض

لقد كان النظام الرأسمالي منذ البداية نظام النهب والاغتيالات الكثيفة؛ ففظاعات التراكم الأولي؛ والسياسة الكولونيالية التي أدت عن طريق الإنجيل والسفلس والكحول إلى القضاء على أجناس وشعوب صغيرة بلا رحمة؛ والبؤس والمجاعة والإنهاك لملايين لا تحصى من البروليتاريين المستغَلين، وموتهم المبكر؛ والقمع الدموي للطبقة العاملة عندما تنتفض ضد مستغليها، وأخيرا المجزرة الهائلة التي لا مثيل لها التي حولت الإنتاج العالمي إلى إنتاج جثث بشرية – هذه هي صورة النظام الرأسمالي.

منذ بداية الحرب قامت الطبقات المسيطرة – التي كانت قد قتلت في ساحات المعارك أكثر من عشرة ملايين إنسان وشوهت أيضا عددا أكبر – بإرساء نظام الديكتاتورية الدموية داخل بلدانها أيضا. لقد أعدمت الحكومة القيصرية بالرصاص العمال وشنقتهم ونظمت المذابح ضد اليهود وأبادت كل ما هو حي في البلاد. وخنقت الملكية النمساوية بشكل دموي انتفاضة الفلاحين والعمال الأوكرانيين والتشيكيين، واغتالت البرجوازية الإنجليزية أفضل ممثلي الشعب الإيرلندي، وهاجت الامبريالية الألمانية داخل بلدها وكان البحارة الثوريون أول ضحايا تلك الفظاظة، وفي فرنسا جرى ذبح الجنود الروس الذين لم يكونوا مستعدين للدفاع عن أرباح أصحاب البنوك الفرنسيين، وأدانت البرجوازية في أمريكا، دون محاكمة، الأمميين وحكمت على المئات من خيرة البروليتاريين بالأعمال الشاقة لمدة عشرين عاما، وذبحت العمال بسبب قيامهم بالإضرابات.

عندما بدأت الحرب الامبريالية بالتحول إلى حرب أهلية وشعرت الطبقات المسيطرة التي لم يعرف التاريخ البشري مثيلا لإجرامها، بأنها مهددة بخطر مباشر وهو انهيار نظامها الدموي، أصبحت وحشيتها أكثر قساوة.

وتستخدم البرجوازية، في صراعها من أجل الحفاظ على النظام الرأسمالي، وسائل لا مثيل لها تبدو إزاءها كل بشاعات القرون الوسطى ومحاكم التفتيش والاستعمار باهتة.

إن الطبقة البرجوازية التي تجد نفسها على حافة القبر تحطم ماديا أهم قوة إنتاجية في المجتمع البشري، أي البروليتاريا، وقد فضحها الآن هذا الإرهاب الأبيض بكل عريها البشع.

إن الجنرالات الروس، الذين يشكلون التجسيد الحي للنظام القيصري قد قتلوا – وهم يقتلون أيضا – العمال بالجملة، بمساندة مباشرة أو غير مباشرة من الاشتراكيين – الخونة. خلال سيطرة الاشتراكيين – الثوريين والمناشفة في روسيا كان الآلاف من العمال والفلاحين يملأون السجون وكان الجنرالات يبيدون فرقا عسكرية بكاملها بسبب عدم الطاعة. في الوقت الحالي، إذ ينعم أنصار كراسنوف ودنيكين بالتعاون الودي من قبل الحلفاء، فهم يقتلون ويشنقون عشرات الآلاف من العمال، ويبقون الجثث معلقة على المشانق لمدة ثلاثة أيام من أجل إرهاب الباقين. وفي الأورال والفولغا تقطع عصابات الحرس الأبيض التشيكوسلوفاكي أيدي المساجين وأرجلهم وتغرقهم في الفولغا وتدفنهم أحياء، فيما يذبح الجنرالات آلاف الشيوعيين وأعدادا لا تحصى من العمال والفلاحين.

إن البرجوازيتين الألمانية والنمساوية، كما الاشتراكيين – الخونة، قد أظهروا بشكل جلي طبيعتهم كآكلي لحوم البشر، عندما علقوا على مشانق الحديد المتنقلة العمال والفلاحين بعد سلبهم، وكذلك فعلوا بالشيوعيين من مواطنيهم، رفاقنا الألمان والنمساويين. وفي فنلندا، بلد الديموقراطية البرجوازية، ساعدوا البرجوازية الفنلندية على إعدام أكثر من 13 إلى 14 ألف بروليتاري رميا بالرصاص، وعلى تعذيب أكثر من 15 ألف حتى الموت في السجون.

في هلسينكي، دفعوا أمامهم النساء والأطفال من أجل حماية أنفسهم من الرشاشات. فبمساعدتهم تمكن الحرس الأبيض الفنلندي والقوى المساعدة السويدية من القيام بتلك العربدات الدامية ضد البروليتاريا الفنلندية المهزومة. وفي تامرفورز أُجبرت النساء المحكوم عليهن بالإعدام على أن يحفرن قبورهن بأيديهن. وفي فيبورغ تم قتل مئات النساء والرجال والأطفال الفنلنديين والروس.

وقد بلغت البرجوازية والاشتراكية – الديموقراطية الألمانية، داخل بلدها، أقصى درجات السعار الرجعي عبر القمع الدموي للانتفاضة العمالية الشيوعية والاغتيال الوحشي لليبكنيخت ولوكسمبرغ، وقتل العمال السبارتاكيين وإبادتهم. الإرهاب الأبيض الجماعي والفردي – هذه هي الراية التي تقود البرجوازية.

وترتسم اللوحة نفسها في بلدان أخرى أمامنا.

في سويسرا الديموقراطية، كل شيء جاهز لإعدام العمال إذا ما تجرأوا على خرق القانون الرأسمالي. وفي أمريكا تظهر الأشغال الشاقة وقانون لينش والكرسي الكهربائي كرموز مختارة للديمقراطية والحرية.(*)

وفي المجر وإنكلترا، وفي بوهميا وبولندا – الشيء نفسه في كل مكان. القتلة البرجوازيون لا يتراجعون عن أية مخزية، ومن أجل تأكيد سيطرتهم يثيرون الشوفينية. فتقوم، مثلا، الديموقراطية البرجوازية الأوكرانية وعلى رأسها المنشفي بتليورا، والديموقراطية البرجوازية البولونية مع الاشتراكي – الوطني بيلسودسكي، وهكذا دواليك… بتنظيم مذابح واسعة ضد اليهود تفوق تلك التي نظمتها شرطة القيصر. وإذا كان الرعاع البولونيون الرجعيون و«الاشتراكيون» قد إغتالوا ممثلي الصليب الأحمر الروسي، فهذه ليست إلاّ نقطة ماء في بحر جرائم وفظاعات البرجوازية آكلة لحوم البشر.

إن «عصبة الأمم»، التي تدعو إلى السلام، حسب تصريحات مؤسسيها، تتجه نحو حرب دموية ضد البروليتاريا في كل البلدان، والقوى الحليفة الراغبة بإنقاذ سيطرتها تشق بجيوش سوداء الطريق أمام إرهاب وحشي لا يُصدق.

إن المؤتمر الأول للأممية الشيوعية، إذ يلعن المجرمين الرأسماليين يدعو العمال في العالم أجمع إلى تجميع قواهم من أجل وضع حد نهائي لنظام الإجرام والنهب، عبر إطاحة النظام الرأسمالي.

(*) قانون لينش: قانون الإعدام من غير محاكمة قانونية، وهو منسوب إلى قاض أميركي بهذا الإسم (المعرّبة).

خطاب الرفيق تروتسكي

الرفيق ليون تروتسكي (روسيا) – لقد قال الرفيق ألبرت إن الجيش الأحمر غالبا ما يكون موضوع نقاش في ألمانيا، وإذا كنت قد فهمته جيدا، فإن الجيش الأحمر يقلق أيضا السيدين إيبرت وشيدمان في ليالي أرقهما، أي إنهما يخافان من خطر اكتساح الجيش الأحمر بروسيا الشرقية. في ما يتعلق بالاكتساح، فإن الرفيق ألبرت يستطيع فعلاً أن يطمئن سادة ألمانيا الحاليين، أننا، لحسن الحظ أو لسوئه – تبعا لوجهة النظر – لم نصل إلى ذلك حاليا. في كل الأحوال، في ما يتعلق بالاجتياحات التي تتهددنا، فإن وضعنا اليوم أفضل بكثير منه خلال مرحلة بريست – ليتوفسك. وهذا شيء أكيد تماما. في تلك المرحلة، كنا ما زلنا أطفالا بالنسبة للتطور العام للحكومة السوفياتية، وكذلك بالنسبة للتطور العام للجيش الأحمر. في تلك المرحلة كان هذا الأخير يسمى بالحرس الأحمر، ومنذ فترة طويلة لم تعد هذه التسمية موجودة عندنا. كان الحرس الأحمر مشكلاً من الفرق الأولى من الأنصار، ومن الفروع المرتجلة من العمال الثوريين الذين نشروا الثورة البروليتارية بدءا من بتروغراد وموسكو في كامل الأرض الروسية، مدفوعين بروحهم الثورية. امتدت هذه المرحلة حتى أول مواجهة لهذا الحرس الأحمر مع الأفواج الألمانية النظامية، حيث رأينا بوضوح أن هذه المجموعات المرتجلة غير قادرة بذاتها على تقديم حماية فعلية للجمهوريات الاشتراكية الثورية، طالما أن المسألة لم تعد مسألة القضاء على الثورة المضادة فحسب بل طرد جيش منظم.

وعندها بدأت تتغير عقلية الطبقة العاملة تجاه الجيش، وتتغير أيضا أساليب تنظيم هذا الجيش. لقد لجأنا، تحت ضغط الوضع، إلى بناء جيش جيد التنظيم، يمتلك وعيا طبقيا، لأن الميليشيا الشعبية كانت موجودة في برنامجنا. لكن الحديث عن المليشيا الشعبية، هذا المطلب السياسي للديمقراطية في بلد تحكمه ديكتاتورية البروليتاريا، هو شيء مستحيل، لأن الجيش مرتبط شديد الارتباط دائما بطابع القوة التي تمسك بالسلطة. إن الحرب، كما يقول العجوز كلاوزفيتش هي استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى. والجيش هو أداة الحرب ويجب أن يتوافق مع السياسة. فالحكومة بروليتارية، والجيش يجب أن يتوافق أيضا بتركيبه الاجتماعي مع هذه الواقعة.

وهكذا أدخلنا التعداد في تشكيل الجيش. منذ شهر أيار / مايو في العام الماضي، انتقلنا من الجيش المتطوع، من الحرس الأحمر إلى الجيش الذي يستند إلى الخدمة العسكرية الإلزامية، ولكننا لم نكن نقبل إلاّ بالبروليتاريين، أو الفلاحين الذين لا يستغلون يدا عاملة خارجية.

من المستحيل الحديث بجدية عن ميليشيا شعبية في روسيا، عندما نأخذ في الاعتبار واقع أنه كان عندنا، ولا يزال هناك أيضا عدة جيوش للطبقات المعادية على أرض الامبراطورية القيصرية القديمة. وعندنا أيضا، مثلا على أرض الدون، جيش ملكيّ، بقيادة ضباط قوزاق، مؤلف من عناصر برجوازية وفلاحين أغنياء قوزاق. ومن ثم، كان لدينا في صقيع الفولغا والأورال جيش الجمعية التأسيسية، الذي كان أيضا، تبعاً لمفهومه، جيشا شعبيا كما كان يسمى. لقد حُلَّ هذا الجيش بسرعة كبيرة، وانهزم سادة الجمعية التأسيسية هؤلاء، وتركوا الساحة الديموقراطية في الفولغا والأورال بشكل قسري تماما، وطلبوا ضيافة الحكومة السوفياتية. وببساطة اعتقل الأميرال كولتشاك حكومة الجمعية التأسيسية، وتطور الجيش إلى جيش ملكيّ. لا يمكن إذا في بلد يعيش حربا أهلية أن يتم بناء جيش إلاّ على أساس المبدأ الطبقي. هذا ما قمنا به فعلا وبنجاح أيضاً.

لقد أثارت لنا مسألة القادة العسكريين صعوبات كبيرة وبالطبع كان الهم الأول هو تربية الضباط الحمر الذين تم تطويعهم من صفوف الطبقة العاملة ومن بين أبناء الفلاحين الميسورين. لقد لجأنا من البداية إلى هذا العمل، وحتى هنا، أمام باب هذه القاعة، يمكنكم أن تروا بعض «الرقباء» الحمر الذين سيدخلون، خلال فترة قصيرة، في الجيش السوفياتي كضباط حمر، ولدينا عدد كبير منهم. لا أريد أن أعطي أرقاما لأن سر الحرب هو دائما سر حرب. قلت إن عددهم كبير ولكننا لم نكن نستطيع أن ننتظر أن يصبح الرقباء الحمر الشباب، جنرالات حمراً، لأن العدو لم يكن يريد أن يترك لنا الوقت الكافي للراحة. فمن أجل الإفادة بنجاح من هذا الاحتياطي، ولكي نأخذ منه الرجال القادرين، يجب أن نتوجه أيضا إلى قدامى القادة العسكريين. إننا لم نبحث بالطبع عن ضباطنا بين الشريحة اللامعة من رجال البلاط العسكريين، بل إننا كسبنا قوى قادرة تماما من بين العناصر الأكثر بساطة، التي تساعدنا حاليا على مقاتلة زملائها السابقين. فمن جهة، لدينا العناصر الجيدة والمخلصة التي تشكل مجموعة الضباط القدامى والتي أضفنا إليها شيوعيين جيدين بصفة مفوضين سياسيين، وهناك من جهة أخرى أفضل العناصر، بين الجنود والعمال والفلاحين، التي تحتل المراكز القيادية الدنيا. وبهذه الطريقة استطعنا تشكيل هيئة الضباط الحمر.

منذ أن وجدت الجمهورية السوفياتية في روسيا كانت مجبرة دائما على خوض الحرب وما زالت تخوضها اليوم. لدينا جبهة تمتد على أكثر من 8 ألف كلم. في الجنوب والشمال، في الشرق والغرب وفي كل مكان. الأسلحة بأيدينا، يحاربوننا ونحن مضطرون للدفاع عن أنفسنا. هذا وكاوتسكي يتهمنا حتى بتنمية النزعة العسكرية. والحال، أعتقد أنه إذا أردنا الاحتفاظ بالسلطة للعمال، علينا أن ندافع عن أنفسنا بجدية. ومن أجل الدفاع عن أنفسنا علينا أن ندرب العمال على استعمال الأسلحة التي صنعوها. لقد بدأنا بنزع سلاح البرجوازية وبتسليح العمال. وإذا كانت هذه نزعة عسكرية، فإننا إذن قد خلقنا النزعة العسكرية الاشتراكية، وسنستمر بحزم في الإعتماد عليها.

وفي هذا الصدد، كان وضعنا في آب / أغسطس الماضي سيئا بالفعل. ليس فقط أننا كنا محاصرين، بل إن الحصار كان قريبا جدا من موسكو. منذ تلك الفترة وسَّعنا دائرة الحصار بشكل متزايد، وفي الأشهر الستة الأخيرة، أعاد الجيش الأحمر إلى روسيا السوفياتية ليس أقل من 700 ألف كلم مربع مع 42 مليونا من السكان و16 حكومة مع 16 مدينة كبرى، حيث كانت الطبقة العاملة ولا تزال تخوض نضالا شرسا. واليوم، إذا مددتم على الخريطة خطّا من موسكو بأي اتجاه كان، فإنكم ستجدون في كل مكان فلاحا روسيا، عاملا روسيا على الجبهة، يقف مع بندقيته في هذه الليلة الباردة على حدود الجمهورية السوفياتية من أجل الدفاع عنها.

وأستطيع أن أؤكد لكم أن العمال الشيوعيين الذين يشكلون حقا نواة هذا الجيش يتصرفون ليس كجيش لحماية الجمهورية الاشتراكية الروسية فحسب، بل أيضا كجيش أحمر للأممية الثالثة. وإذا كنا قد تمكنا اليوم من استضافة هذا الكونفرنس الشيوعي لنشكر، لمرة واحدة، إخواننا في أوربا على الضيافة التي قدموها لنا خلال عشرات السنين، فنحن من جهتنا إنما ندين بذلك لجهود وتضحيات الجيش الأحمر، الذي يتصرف داخله أفضل الرفاق من الطبقة العاملة الشيوعية كجنود عاديين، وكضباط حمر أو مفوضين، أي كممثلين مباشرين لحزبنا وللحكومة السوفياتية؛ وهم في كل كتيبة وفي كل فرقة يقدمون المثال السياسي والأخلاقي، أي يعلمون، بمثالهم، الجنود الحمر كيف نناضل ونموت من أجل الاشتراكية. ليست هذه كلمات فارغة لدى هؤلاء الرجال، لأنها، مرفقة بالأعمال، وقد فقدنا في هذا النضال المئات والآلاف من خيرة العمال الاشتراكيين؛ وأنا أعتقد أنهم لم يسقطوا فقط من أجل الجمهورية السوفياتية بل أيضا من أجل الأممية الثالثة.

وإذا لم يكن يخامرنا اليوم حتى التفكير بالهجوم على بروسيا الشرقية – على العكس فإننا نكون سعداء جدا لو أن السيدين إيبرت وشيدمان يتركاننا بسلام – فصحيح مع ذلك، أنه عندما يدعونا إخوتنا في الغرب إلى نجدتهم فإننا سنجيب «حاضرون ! لقد تعلمنا خلال هذا الوقت استخدام الأسلحة ونحن جاهزون للنضال والموت من أجل مصلحة الثورة العالمية».

خطاب لينين الاختتامي

(7 آذار/ مارس 1919)

هكذا أنهينا عملنا.

إذا كنا قد استطعنا أن نجتمع على الرغم من كل الصعوبات والقمع البوليسي، وإذا كنا قد نجحنا، دون تعارضات أساسية، في أن نتخذ، في وقت قصير من الزمن، قرارات هامة حول كل المسائل الساخنة للمرحلة الثورية الحالية، فذلك لأن الجماهير البروليتارية في العالم أجمع قد وضعت عبر أفعالها كل هذه المسائل العملية على جدول أعمالها وبدأت بحلها فعلا.

ولم نقم هنا إلاّ بتلخيص ما كانت الجماهير قد نجحت باكتسابه في نضالها الثوري.

إن الحركة الداعمة للسوفيتات تمتد دائما إلى الأبعد، ليس فقط في بلدان أوروبا الشرقية بل أيضا في بلدان أوروبا الغربية، ليس فقط في البلدان المهزومة بل أيضا في البلدان المنتصرة كإنكلترا مثلاً، وهذه الحركة ليست أقل من حركة هدفها خلق ديموقراطية بروليتارية جديدة، إنها التطور الأكثر أهمية نحو ديكتاتورية البروليتاريا ونحو الانتصار الكامل للشيوعية.

فلتستمر البرجوازية في العالم أجمع في التخريب، فلتلاحقْ وتعتقلْ وحتى تغتالْ السبارتاكيين والبلاشفة، فإن هذا لن يخدمها بشيء، لن يكون بمقدوره إلاّ توعية الجماهير، وحفز تصميمها على تخطي أفكارها المسبقة البرجوازية الديموقراطية القديمة وعلى الإنخراط في النضال. إن انتصار الثورة البروليتارية مضمون في العالم أجمع: فتشكيل الجمهورية السوفياتية العالمية يسير قدما.

بيان الأممية الشيوعية

إلى بروليتاريي العالم أجمع!

منذ إثنين وسبعين عاما قدم الحزب الشيوعي برنامجه للعالم على شكل بيان كتبه أكبر أنبياء الثورة البروليتارية، كارل ماركس وفريدريك إنجلز. منذ تلك المرحلة، وفيما كانت الشيوعية لا تزال في بدايات نضالها، أثقلت كاهلها الملاحقات والأكاذيب والحقد والاضطهاد من جانب الطبقات المالكة التي رأت فيها، وعن حق، عدوتها القاتلة. خلال ثلاثة أرباع القرن هذه، اتَّبع تطور الشيوعية طرقا معقدة وشهد، بشكل متناوب، عواصف الحماس وفترات الإحباط، وعرف الانتصارات والخيبات القاسية. ولكن الحركة سارت بالواقع تبعا للطريق الذي رسمه البيان الشيوعي. لقد أتت ساعة النضال النهائي والحاسم متأخرة عمّا كان يقدره ويتوقعه رسولا الثورة الاجتماعية. ولكنها أتت. ونحن الشيوعيين، ممثلي البروليتاريا الثورية في مختلف بلدان أوربا وأمريكا وآسيا، المجتمعين في موسكو، عاصمة روسيا السوفياتية، نشعر أننا ورثة العمل الذي أُعلن برنامجه منذ اثنين وسبعين عاما، ومتابعوا هذا العمل.

إن مهمتنا هي تعميم التجربة الثورية للطبقة العاملة، وتخليص الحركة من الخليط العكر من الانتهازية والاشتراكية – الوطنية، وتوحيد قوى كل أحزاب البروليتاريا العالمية الثورية حقا. وانطلاقا من ذلك تسهيل انتصار الثورة الشيوعية في العالم أجمع والإسراع به.

اليوم، وأوروبا مغطاة بالحطام والأنقاض المحترقة، ينهمك مشعلو الحرائق الأكثر إثما في البحث عن المسؤولين عن الحرب، تتبعهم حاشيتهم من أساتذة وبرلمانيين وصحافيين واشتراكيين – وطنيين وغيرهم من الداعمين السياسيين للبرجوازية.

خلال سلسلة طويلة من السنين، تنبأت الاشتراكية بحتمية الحرب الإمبريالية. لقد رأت أسبابها في الرغبة المسعورة بالربح والتملك لدى الطبقات المالكة في المعسكرين المتنافسين، وبشكل عام في جميع البلدان الرأسمالية. قبل عامين من الانفجار، في مؤتمر بال، كان القادة الاشتراكيون المسؤولون في كافة البلدان يشهِّرون بالإمبريالية باعتبارها المحرضة على الحرب المقبلة، ويهددون البرجوازية بإطلاق الثورة الاجتماعية ضدها وبثأر البروليتاريا من جرائم الرأسمالية.

والآن، بعد تجربة امتدت خمس سنوات، وفيما يكشف التاريخ، بعد أن فضح شهوات ألمانيا الجشعة، ممارسات الحلفاء التي لا تقل إجراما، لم يكفّ الاشتراكيون الرسميون في بلدان الحلفاء عن التشهير بالإمبراطور الألماني المخلوع باعتباره مجرم الحرب الأكبر وذلك جريا خطى حكوماتهم. أكثر من ذلك، إن الاشتراكيين الوطنيين الألمان، الذين جعلوا في آب / أغسطس 1914 من الكتاب الديبلوماسي الأبيض لعائلة هوهينزولرن إنجيل الأمم المقدس، هؤلاء الاشتراكيون الوطنيون، في خنوعهم الدنيء، يتهمون بدورهم اليوم الملكية الألمانية المجندلة، التي كانوا خدامها المخلصين، بأنها المسبب الرئيسي للحرب. وهم يأملون، هكذا، نسيان الدور الذي لعبوه وكسب تسامح المنتصرين في آن واحد. ولكن إلى جانب الدور الذي قامت به عائلات رومانوف وهوهنزولرن وهابسبورغ الملكية المخلوعة والزمر الرأسمالية في تلك البلدان، فإن دور الطبقات الحاكمة في فرنسا وإنكلترا وإيطاليا والولايات المتحدة يظهر بكل ضخامته الإجرامية على ضوء الأحداث الحاصلة والإفشاءات الديبلوماسية.

لم ترفع الديبلوماسية الانكليزية قناعها الخفي أبدا حتى انفجار الحرب. كانت حكومة السيتي(*) تخشى إن هي أعلنت بوضوح عن نيتها الاشتراك في الحرب إلى جانب الحلفاء أن تتراجع حكومة برلين ولا تقع الحرب. لهذا كانت، من جهة، تتصرف بشكل يجعل برلين وفيينا تأملان حيادها، وبشكل يجعل باريس وبيتروغراد من جهة ثانية تعتمدان بثقة على تدخلها.

إن الحرب، التي هيأ لها مسار التاريخ خلال عدة عقود، فجرها استفزاز مباشر وواع من جانب بريطانيا العظمى. لقد كانت حكومة هذا البلد تنوي أن تدعم روسيا وفرنسا فقط بالقدر الضروري الذي يسمح بإنهاكهما عبر إنهاك ألمانيا عدوها اللدود. غير أن قوة التنظيم العسكري الألماني بدت خطرة جدا وفرضت على إنكلترا تدخلا حقيقيا وليس فقط ظاهريا كما كانت تنوي.

إن دور المشاهد الباسم، الذي كانت تطمح إليه بريطانيا جريا على عادتها انتقل إلى الولايات المتحدة. وقبلت حكومة ويلسون بسهولة أكبر الحصار الانكليزي الذي كان يضعف إمكانات مضاربة البورصة الأمريكية على الدم الأوربي، لا سيما أن الدول العظمى المتحالفة عوّضت البرجوازية الأمريكية بأرباح ضخمة من جراء ذلك الخرق «للقانون الدولي». مع ذلك فالتفوق العسكري الهائل لألمانيا أجبر حكومة واشنطن بدورها على الخروج من حالة الحياد الزائف حيال أوروبا، وتكلفت بالمهمة التي أدتها بريطانيا في الحروب السابقة والتي حاولت القيام بها، في الحرب الأخيرة، على صعيد القارة: إضعاف أحد المعسكرين باستخدام الآخر وعدم التورط في العمليات العسكرية إلاّ بالقدر الذي لا مفر منه من أجل تأمين كل مكاسب الوضع. إن الرهان المعروض في اليناصيب الأمريكي لم يكن كبيرا، ولكنه كان الخيار الأخير، ولهذا كان يؤمن لها الربح.

لقد ظهرت تناقضات النظام الرأسمالي للإنسانية أثر الحرب على شكل عذابات جسدية: الجوع، البرد، الأمراض السارية وعودة إلى الهمجية. هكذا تم الحكم المبرم على النزاع الأكاديمي القديم بين الاشتراكيين حول نظرية الإفقار والانتقال التدريجي من الرأسمالية إلى الاشتراكية. كان إحصائيو نظرية تدوير الزوايا وأحبارها قد بحثوا خلال عشرات السنوات في جميع أنحاء العالم عن وقائع حقيقية أو خيالية قادرة على إثبات تقدم رفاهية بعض مجموعات الطبقة العاملة أو فئاتها. لقد اعتبرت نظرية الإفقار مدفونة وسط صفير الاحتقار من جانب الخصيان الذين يحتلون المنابر الجامعية البرجوازية وكبار موظفي الانتهازية الاشتراكية. والآن ليس فقط الإفقار الاجتماعي بل الإفقار الفيزيولوجي والبيولوجي هو الذي يظهر لنا بكل واقعه البشع.

لقد كنّست كارثة الحرب الامبريالية كل مكاسب المعارك النقابية والبرلمانية بصورة جذرية. ومع هذا فقد ولدت تلك الحرب من الاتجاهات الداخلية للرأسمالية مثلها مثل المساومات الاقتصادية أو التسويات السياسية التي دفنتها في الوحل والدم.

بعد أن جر الرأسمال المالي الإنسانية إلى هاوية الحرب، تعرّض هو نفسه لتحول كارثي. لقد انقطعت نهائيا تبعية العملة الورقية للأساس المادي للإنتاج، وتحولت العملة الورقية، بفقدانها بشكل متزايد لقيمتها بما هي وسيلة وضابطة لتبادل المنتوجات في النظام الرأسمالي، إلى أداة تسخير وقهر، وبشكل عام، إلى أداة اضطهاد عسكري واقتصادي.

إن الانخفاض الكلي لقيمة أوراق البنوك يشير إلى الأزمة المميتة الشاملة التي يتعرض لها تداول المنتجات في النظام الرأسمالي. وإذا كان قد تم استبدال المنافسة الحرة، كمنظِّمة للإنتاج والتوزيع، بنظام التروستات والاحتكارات في الحقول الرئيسية للاقتصاد قبل بضعة عقود من الحرب، فإن مسار الحرب نفسه قد انتزع من التجمعات الإقتصادية دورها المنظم والموجِّه، ليضعه مباشرة في أيدي السلطة العسكرية والحكومية. فتوزيع المواد الأولية واستغلال نفط باكو أو رومانيا والفحم الحجري في دونتز وقمح أوكرانيا، واستخدام قطارات ألمانيا وحافلاتها وعرباتها، وتموين أوروبا الجائعة بالخبز واللحم، كل هذه المسائل الأساسية في الحياة الاقتصادية للعالم لم تعد تنظَّم بالمنافسة الحرة ولا حتى بواسطة تشكيلات من التروستات أو الاتحادات الوطنية أو العالمية، لقد وقعت تحت نير الطغيان العسكري كي يستخدمها كضمانة من الآن وصاعدا. وإذا كان خضوع السلطة السياسية للرأسمال المالي قد قاد الإنسانية إلى المجزرة الامبريالية، فإن هذه المجزرة قد سمحت للرأسمال المالي ليس فقط بعسكرة الدولة، بل بعسكرة نفسه بالذات، حيث أنه لم يعد قادرا على القيام بوظائفه الاقتصادية إلاّ بواسطة الحديد والدم.

إن الانتهازيين الذين كانوا يدعون العمال، قبل الحرب، إلى الاعتدال في مطالبهم تحت حجة المرور البطيء نحو الاشتراكية، والذين أجبروهم خلال الحرب على التخلي عن الصراع الطبقي، باسم الوحدة المقدسة والدفاع الوطني، يطلبون تضحية جديدة من البروليتاريا، وهذه المرة من أجل التغلب على النتائج المخيفة للحرب. إذا كان لمثل هذه المواعظ أن تؤثر على الجماهير العمالية، فإن تطور الرأسمال سيستمر، مضحيا بأجيال عديدة عبر أشكال جديدة، أكثر تركيزا وبشاعة أيضا، وبمنظور حتمي لحرب عالمية جديدة. ولكن من حظ الإنسانية، أن ذلك لم يعد ممكنا.

إن دولنة الحياة الاقتصادية التي طالما احتجت عليها الليبرالية الرأسمالية أصبحت أمرا واقعا. إن العودة ليس إلى المنافسة الحرة بل فقط إلى سيطرة التروستات والنقابات أو أي أخطبوط رأسمالي آخر، من الآن فصاعدا، باتت أمرا مستحيلا. فالمسألة الوحيدة التي يجب معرفتها من الآن وصاعدا هي من سيستلم الإنتاج الذي تسيطر عليه الدولة: الدولة الامبريالية أو دولة البروليتاريا المنتصرة.

بعبارات أخرى هل ستصبح الإنسانية العاملة بمجملها العبد التابع لزمرة عالمية منتصرة، تنهب البعض وتخنقه، وتتعهد بالرعاية للبعض الآخر، ولكنها دائما وفي كل مكان، تقيّد البروليتاريا ضمن هدف واحد وهو الحفاظ على سيطرتها، وذلك تحت رعاية عصبة الأمم وبواسطة جيش «أممي» وأسطول «أممي»؟ أم أن الطبقة العاملة في أوربا وفي البلدان الأكثر تقدما في الأجزاء الأخرى من العالم ستستولي على الحياة الاقتصادية على الرغم من فوضاها ودمارها من أجل إعادة بنائها على أسس اشتراكية؟

إن اختصار فترة الأزمة التي نمر بها لا يمكن أن يتم إلاّ بأساليب ديكتاتورية البروليتاريا التي لا تنظر إلى الماضي ولا تقيم وزنا للامتيازات الموروثة ولا لحق الملكية، ولا تقيم اعتبارا إلاّ لضرورة إنقاذ الجماهير الجائعة، وتعبئ من أجل ذلك كل الوسائل وكل القوى، وتقرر إلزامية العمل للجميع وتؤسس لنظام الانضباط العمالي، وذلك ليس فقط من أجل شفاء الجروح الفاغرة التي أحدثتها الحرب بل من أجل الارتفاع بالإنسانية إلى علو جديد غير منتظر.

******

لقد أصبحت الدولة القومية، بعد أن أعطت دفعا قويا للتطور الرأسمالي، ضيقة جدا بالنسبة لتوسع القوى المنتجة، وقد جعلت هذه الظاهرة من وضع الدول الصغرى، المحصورة وسط القوى الكبرى الأوروبية والعالمية، أكثر صعوبة. إن هذه الدول الصغرى التي ولدت في فترات مختلفة كأجزاء من تلك الكبرى، وكعملة النحاس المخصصة لتسديد مختلف الضرائب، وكصمامات استراتيجية، لديها أُسرُها الملكية وشرائحها الحاكمة وأطماعها الامبريالية وحيلها الديبلوماسية. لقد كان استقلالها الوهمي مرتكزا، حتى الحرب، على ما كان يرتكز عليه التوازن الأوربي بالضبط أي العداء بين المعسكرين الامبرياليين. لقد جاءت الحرب لتدمر هذا التوازن. وإذا أعطت الحرب في البداية تفوقا هائلا لألمانيا، دفعت الدول الصغرى إلى البحث عن الخلاص في شهامة العسكرية الألمانية، وبعد أن هزمت ألمانيا، استدارت برجوازية الدول الصغرى، بالاتفاق مع «اشتراكييها» الوطنيين، لتحية امبريالية الحلفاء المنتصرة، وانكبت تبحث في البنود المخادعة لبرنامج ويلسون عن ضمانات للمحافظة على وجودها المستقل. وفي الوقت نفسه، كان عدد الدول الصغرى يتزايد: لقد انفصلت عن الملكية النمساوية – المجرية وامبراطورية القياصرة دول جديدة. ما إن ولدت حتى أمسكت الواحدة منها بخناق الأخرى حول مسألة الحدود. وكان الامبرياليون الحلفاء خلال ذلك الوقت، يعدون لتشكيلات من القوى الصغرى، الجديدة والقديمة، من أجل ربطها بعضها ببعض بحقد متبادل وضعف شامل.

لا يكف الحلفاء الامبرياليون، وهم يسحقون ويقهرون الشعوب الصغيرة والضعيفة ويقضون عليها بالجوع والإذلال كما فعل إمبرياليو دول المحور قبلهم بقليل، لا يكفون عن الحديث عن الحقوق القومية، هذه الحقوق التي داسوها بأرجلهم في أوروبا والعالم أجمع.

إن الثورة البروليتارية وحدها تستطيع أن تضمن للشعوب الصغيرة وجودا حرا، لأنها تحرر القوى المنتجة في كل البلدان من الكماشات التي تشدّها الدول القومية، عبر توحيدها للشعوب في تعاون اقتصادي وثيق، انسجاما مع خطة اقتصادية مشتركة. وهي الوحيدة التي تعطي الشعوب الأضعف والأقل عددا إمكانية حكم نفسها، مع حرية واستقلالية مطلقتين، وتمنحها ثقافتها الوطنية دون أن تلحق أدنى ضرر بالحياة الاقتصادية الموحدة والممركزة في أوروبا والعالم.

إن الحرب الأخيرة التي كانت إلى حد بعيد حربا من أجل الاستيلاء على المستعمرات، كانت في الوقت نفسه حربا وقعت بمساعدة المستعمرات. فبنسب لم تكن معروفة حتى ذلك الحين جُرت الشعوب المستعمرة إلى الحرب الأوروبية. لقد تقاتل الهنود والزنوج والعرب والملقيون على أرض أوروبا، ولكن لماذا؟ باسم حقهم بالبقاء مدة أطول عبيدا لانكلترا وفرنسا. فلم يحصل أبدا بالسابق أن كان مشهد انعدام شرف الدولة الرأسمالية في المستعمرات موجبا للعبرة إلى هذا الحد، ولم يحدث من قبل أن طرحت مشكلة العبودية الاستعمارية بحدة مماثلة.

ومن هنا، قامت سلسلة من الانتفاضات والحركات الثورية في كل المستعمرات في أوروبا نفسها، وذكرت إيرلندا في معارك دموية في الشوارع بأنها لا تزال بلدا مستعبدا وأنها تعي ذلك. في مدغشقر وأنام وأماكن أخرى، كان على قوات الجمهورية البرجوازية، والأكثر من مرة، أن تخمد انتفاضات العبيد المستعمرين. وفي الهند لم تتوقف الحركة الثورية يوما واحدا، وقد أدت في الفترة الأخيرة إلى إضرابات عمالية عظيمة ردت عليها الحكومة البريطانية باستخدام العربات المصفحة.

وهكذا طُرحت المسألة الكولونيالية بكل زخمها ليس فقط على البساط الأخضر لمؤتمر دبلوماسيي باريس، بل في المستعمرات نفسها. لقد كان هدف برنامج ويلسون، في تفسيره الأفضل، تغيير مراسم الاستعباد الاستعماري. إن تحرر المستعمرات لا يمكن إحرازه إلاّ إذا تم بالتزامن مع تحرر الطبقة العاملة في الدول المستعمرة. إن العمال والفلاحين، ليس فقط في أنام والجزائر والبنغال، بل أيضا في إيران وأرمينيا، لا يمكنهم أن يتمتعوا بوجود مستقل إلاّ في اليوم الذي يستولي فيه عمال إنكلترا وفرنسا على السلطة الحكومية، بعد أن يطيحوا لويد جورج وكليمنصو. ومنذ الآن، لم يعد يخاض النضال في المستعمرات الأكثر تطورا تحت راية التحرر القومي فقط، بل إنه يتخذ فورا طابعا اجتماعيا بالغ الوضوح إلى هذا الحد أو ذاك. إذا كانت أوربا الرأسمالية قد قادت الأجزاء الأكثر تخلفا في العالم، رغما عنها، إلى دوامة العلاقات الرأسمالية، فإن أوربا الاشتراكية ستأتي بدورها لإنقاذ المستعمرات المحررة، بواسطة تقنيتها وتنظيمها ونفوذها المعنوي، من أجل الإسراع بانتقالها إلى الحياة الاقتصادية المنظمة بإتقان على يد الاشتراكية.

يا عبيد المستعمرات في افريقيا وآسيا، إن ساعة دكتاتورية البروليتاريا في أوربا ستدق من أجلكم، باعتبارها ساعة خلاصكم.

إن العالم البرجوازي بأكمله يتهم الشيوعيين بإلغاء الحرية والديموقراطية السياسية. هذا ليس صحيحا. إن البروليتاريا باستلامها السلطة لا تقوم إلاّ بإظهار الاستحالة التامة لتطبيق أساليب الديموقراطية البرجوازية، وبخلق الشروط والأشكال الخاصة بديمقراطية عمالية جديدة، وأكثر تقدما. لقد نسف كامل مسار التطور الرأسمالي، وبشكل خاص في العصر الإمبريالي الأخير، أسس الديمقراطية السياسية، ليس فقط بتجزئته الأمم إلى طبقتين عدوتين لا مجال للتوفيق بينها، بل أيضا بحكمه بالهلاك الاقتصادي والعجز السياسي على شرائح عديدة من البرجوازية الصغيرة والبروليتاريا، مثلما فعل بالعناصر الأكثر حرمانا من هذه البروليتاريا نفسها.

لقد استخدمت الطبقة العاملة نظام الديموقراطية السياسية من أجل تنظيم نفسها بمواجهة الرأسمال في البلدان حيث سمح لها التطور التاريخي بذلك. وهذا ما سيحصل في المستقبل في البلدان التي لم تتحقق فيها بعد الشروط التمهيدية لثورة عمالية. لكن جماهير السكان المتوسطين ليس فقط في القرى ولكن أيضا في المدن، ما زالت تشدّهم الرأسمالية إلى الوراء، متخلفين مراحل عديدة عن التطور التاريخي.

إن فلاح بافيير أو باد، الذي ما زال وثيق الصلة بمسقط رأسه، ومزارع العنب الفرنسي الصغير الذي دفعه إلى الإفلاس غش كبار تجار الخمور الرأسماليين، والأمريكي صاحب المزرعة الصغيرة الذي أثقله أصحاب البنوك والنواب بالديون وخدعوه، كل هذه الفئات الاجتماعية التي رمتها الرأسمالية خارج طريق التطور التاريخي الكبير، يدعوها نظام الديموقراطية السياسية للمشاركة بحكومة الدولة. والواقع أنه في المسائل الأساسية التي يتوقف عليها مصير الأمم، هناك طغمة مالية تحكم من وراء كواليس الديموقراطية البرلمانية. هذا ما حصل سابقا في مسألة الحرب ويحصل حاليا في مسألة السلم.

وبقدر العناء الذي ما زالت تتكبده الطغمة المالية من أجل تشريع أعمال الطغيان التي تقوم بها عبر التصويتات البرلمانية، فإن الدولة البرجوازية تستخدم للوصول إلى النتائج المتوخاة كل أسلحة الكذب والديماغوجية والتعذيب والافتراء والإفساد والإرهاب التي وضعتها بيدها عصور العبودية البائدة، والتي ضاعفتها معجزات التقنية الرأسمالية.

أن يُطلب من البروليتاريا، في صراعها الأخير حتى الموت ضد الرأسمال، أن تراعي بورع مبادئ الديموقراطية السياسية، فهذا يعادل مطالبة شخص يدافع عن وجوده وحياته ضد قطاع طرق بأن يراعي القواعد الشكلية والمتفق عليها للملاكمة الفرنسية، تلك القواعد التي وضعها خصمه علما أنه لا يحترمها.

وفي مجال الدمار، حيث لم تعد وسائل الإنتاج والنقل، بل وأيضا مؤسسات الديموقراطية السياسية، إلاّ كومة من الحطام الملطخ بالدم، ستضطر البروليتاريا إلى خلق جهازها الخاص الذي يخدم قبل كل شيء بالإبقاء على التماسك الداخلي للطبقة العاملة نفسها ويمنحها القدرة على التدخل بشكل ثوري في التطور اللاحق للإنسانية. هذا الجهاز هو السوفيتات.

عبرت الأحزاب القديمة والمنظمات النقابية القديمة بشخص زعمائها عن عجزها ليس فقط عن اتخاذ القرار بل حتى عن فهم المشاكل التي يطرحها العصر الجديد. إن البروليتاريا خلقت نموذجا جديدا من التنظيم الواسع، الذي يستوعب الجماهير العمالية بغض النظر عن المهنة ودرجة التطور السياسي. جهازا مرنا قادرا على التجدد والتوسع الدائمين، وبإمكانه دائما جذب فئات جديدة واحتضان شرائح الشغيلة القريبة من بروليتاريا المدينة والريف. إن تنظيم الطبقة العاملة هذا، الذي لا يمكن الاستعاضة عنه والذي يحكم نفسه بنفسه، ويناضل ويستولي بالنهاية على السلطة السياسية، قد خضع للتجربة في بلدان مختلفة وهو يشكل المكسب والسلاح الأكثر قوة في يد البروليتاريا في عصرنا.

في البلدان كافة حيث تتمتع البروليتاريا بحياة واعية، تتشكل اليوم وستتشكل في المستقبل سوفيتات النواب العمال والجنود والفلاحين. إن تعزيز السوفيتات ورفع سلطاتها ووضعها بوجه الجهاز الحكومي للبرجوازية، هذا هو حاليا الهدف الأساسي للعمال الواعين والمخلصين في البلدان كافة. بواسطة السوفيتات تستطيع البروليتاريا أن تتخلص من عناصر التفسخ التي تحمل في داخلها آلام الحرب الجهنمية والجوع وطغيان الأغنياء مع خيانة زعمائها السابقين، وبواسطة السوفيتات تستطيع الطبقة العاملة، بالطريقة الأكثر ثقة والأكثر سهولة، أن تصل إلى السلطة في البلدان كافة حيث تجمع السوفيتات حولها غالبية الشغيلة، وبواسطة السوفيتات تستطيع الطبقة العاملة سيدة السلطة، أن تحكم كل ميادين الحياة الاقتصادية والأخلاقية للبلد، كما هو قائم في روسيا.

إن انحلال الدولة الامبريالية، بدءا بأشكالها القيصرية ووصولا إلى أشكالها الأكثر ديموقراطية، يترافق مع انحلال النظام العسكري الإمبريالي. إن الجيوش المؤلفة من عدة ملايين من الرجال والتي تعبئها الامبريالية لن تستطيع الصمود إلاّ طالما بقيت البروليتاريا خاضعة لنير البرجوازية. إن تحطيم الوحدة الوطنية يعني التحطيم الحتمي للجيوش. هذا ما جرى أولا في روسيا، ومن ثم في ألمانيا والنمسا، وهذا ما ينبغي انتظاره في البلدان الامبريالية الأخرى. إن تمرد الفلاح على المالك والعامل على الرأسمالي، وتمرد الإثنين معا على البيروقراطية الملكية أو «الديموقراطية» يقود بشكل حتمي إلى تمرد الجنود على الضباط. ويؤدي إلى انشقاق مميز بين العناصر البروليتارية والبرجوازية في الجيش نفسه. إن الحرب الإمبريالية إذ وضعت الأمم بعضها بمواجهة البعض قد انقلبت وستنقلب بشكل متزايد إلى حرب أهلية تضع الطبقات بعضها بمواجهة البعض.

يشكل نواح العالم البرجوازي حول الحرب الأهلية والإرهاب الأحمر أضخم نفاق سجله تاريخ الصراعات السياسية. فلم يكن هناك حرب أهلية لو أن طغمة المستغِلين، التي قادت البشرية إلى حافة الهاوية، لم تقف في وجه أي تطور للعمال، ولم تنظم المؤامرات والاغتيالات ولم تطلب النجدة العسكرية من الخارج من أجل الحفاظ على امتيازاتها المغتصبة وتجديدها.

لقد فرضت الحرب الأهلية على الطبقات العاملة أعداؤها اللدودون، فإذا لم تكن الطبقة العاملة تريد الانتحار أو التخلي عن مستقبلها الذي هو مستقبل كل البشرية، ليس بإمكانها إلاّ أن ترد بضربات على ضربات المعتدين عليها. إن الأحزاب الشيوعية لا تثير الحرب الأهلية بشكل مصطنع، وتسعى مستطاعها لتقصير مدتها قدر الإمكان، عندما تظهر هذه الحرب كضرورة لا ترد، ولأن تقلص عدد الضحايا إلى حده الأدنى، ولكن، وفوق كل شيء، أنها تسعى لتحقيق انتصار البروليتاريا. من هنا تنبع ضرورة نزع سلاح البرجوازية في الوقت المناسب وتسليح العمال وخلق جيش شيوعي من أجل الدفاع عن سلطة البروليتاريا وحصانة بنائها الاشتراكي. هذا هو الجيش الأحمر، جيش روسيا السوفياتية الذي برز ويرتفع كسور لمكاسب الطبقة العاملة ضد الهجمات كافة في الداخل والخارج. إن جيشا سوفياتيا لا يمكن فصله عن الدولة السوفياتية.

اتجه العمال الأكثر تقدما، واعين الطابع العالمي لقضيتهم، نحو اتحاد أممي للحركة الاشتراكية، منذ الخطوات الأولى للحركة الاشتراكية المنظمة. لقد وضعت أسس هذا الاتحاد عام 1864 في لندن على يد الأممية الأولى. وقد حصدت الحرب الفرنسية الألمانية، التي نشأت عنها ألمانيا هوهنزلرن، الأممية الأولى وأدت في الوقت نفسه إلى ظهور الأحزاب العمالية القومية. ومنذ عام 1889 اجتمعت هذه الأحزاب في باريس وأنشأت منظمة الأممية الثانية. غير أن مركز ثقل الحركة العمالية كان قد انتقل بشكل كامل، في تلك الفترة، إلى الحقل الوطني في إطار الدول القومية، وعلى قاعدة الصناعة الوطنية في ميدان البرلمانية الوطنية. وخلقت بضعة عقود من العمل والتنظيم والإصلاحات، جيلا من القادة كان بأغلبيته يقبل كلاميا برنامج الثورة الاجتماعية ولكنه كان قد تخلى عنها في الواقع وغاص في الاصلاحية عبر تكيف عبودي مع السيطرة البرجوازية. إن الطابع الانتهازي للأحزاب القائدة للأممية الثانية قد انكشف بشكل واضح وأ دى إلى أكبر انهيار للتاريخ العالمي في اللحظة المحددة التي كان مجرى الأحداث التاريخية فيها يتطلب من أحزاب الطبقة العاملة أساليب ثورية في النضال. إذا كانت حرب 1870 قضت على الأممية الأولى وكشفت أنه وراء برنامجها الاجتماعي والثوري لا توجد أي قوة جماهيرية منظمة، فإن حرب 1914 قد قضت على الأممية الثانية وأظهرت أن الأحزاب التي تسيطر على المنظمات القومية للجماهير العمالية قد أصبحت الأداة الطيّعة للسيطرة البرجوازية.

لا تنطبق هذه الملاحظات فقط على الاشتراكيين – الوطنيين الذين انتقلوا بوضوح وعلانية إلى معسكر البرجوازية وأصبحوا مندوبيها المفضلين وعملاءها الموثوقين وجلادي الطبقة العاملة الأكثر أهلا للثقة، بل تنطبق أيضا على التيار الوسطي غير المحدد وغير الواضح الذي يسعى إلى إحياء الأممية الثانية، أي تخليد ضيق الأفق والانتهازية والعجز الثوري لدوائرها القيادية. ويسعى الحزب الألماني المستقل، والأغلبية الحالية في الحزب الاشتراكي الفرنسي، وحزب العمال الإنكليزي المستقل وكل المجموعات الأخرى المماثلة، في الواقع، إلى شغل الموقع الذي كانت تحتله قبل الحرب الأحزاب الرسمية القديمة للأممية الثانية. وهي تقدم نفسها، كما في السابق، بأفكار التسوية والوحدة، مطيلة بذلك الأزمة ومضاعفة آلام أوروبا. إن النضال ضد الوسط الاشتراكي هو الخلاصة التي لا مفر منها لإنجاح النضال ضد الامبريالية.

نحن، الشيوعيون، المتحدين في الأممية الثالثة، إذ نطرح بعيدا عنا أنصاف الإجراءات وكذب الأحزاب الاشتراكية الرسمية التي مر عليها الزمن وكسلها، نعتبر أنفسنا المكملين المباشرين لجهود سلسلة طويلة من الأجيال الثورية ولاستشهادها البطولي الذي تقبلته، بدءا ببابوف وحتى كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبرغ.

إذا كانت الأممية الأولى قد توقعت التطور المقبل ومهدت له الطرق، وإذا كانت الأممية الثانية قد جمّعت ملايين البروليتاريين ونظمتهم، فإن الأممية الثالثة هي أممية العمل الجماهيري، أممية الإنجاز الثوري.

إن النقد الاشتراكي قد أشبع النظام البرجوازي جلدا، ومهمة الحزب الشيوعي الأممي هي قلب نظام الأشياء هذا، وتشييد النظام الاشتراكي مكانه. إننا نطلب من كل العمال والعاملات في كل البلدان أن يتوحدوا تحت الراية الشيوعية التي أصبحت راية الانتصارات البروليتارية الكبرى الأولى في العالم أجمع! فلتتحدوا في النضال ضد الهمجية الامبريالية، ضد الملكية والطبقات صاحبة الامتيازات، ضد الدولة البرجوازية والملكية البرجوازية وضد كل مظاهر الاضطهاد الطبقي والقومي وأشكاله.

تحت راية السوفيتات العمالية، وراية النضال الثوري من أجل السلطة وديكتاتورية البروليتاريا، تحت راية الأممية الثالثة، يا عمال العالم اتحدوا! 

 (**) Gouvernement de la City، المقصود بالسيتي المنطقة التجارية في لندن، وبالتالي حكومة التجار الإنكليز (المعربة)

المؤتمر الثاني

الأنظمة الداخلية للأممية الشيوعية

تأسست في لندن، عام 1864، أول عصبة أممية للشغيلة: العصبة الأممية الأولى. وقد تضمنت الأنظمة الداخلية لهذه العصبة ما يلي:

«لما كانت العصبة تعتبر:

أن تحرر الطبقة العاملة ينبغي أن تحققه الطبقة العاملة نفسها؛
أن النضال من أجل التحرر لا يعني بأي حال نضالا من أجل خلق امتيازات طبقية جديدة واحتكارات جديدة، بل من أجل إقامة المساواة في الحقوق والواجبات ومن أجل إلغاء كل سيطرة طبقية؛

إن خضوع الأنسان الاقتصادي للعمل في ظل نظام مالكي وسائل الإنتاج (أي كل موارد الحياة) والعبودية بأشكالها كافة، هما السببان الرئيسيان للبؤس الاجتماعي والانحطاط الأخلاقي والخضوع السياسي؛

أن التحرر الاقتصادي للطبقة العاملة هو، في كل مكان، الهدف الأساسي الذي يجب أن ترتهن به كل حركة سياسية، بوصفها وسيلة لبلوغه؛

أن كل الجهود لبلوغ هذا الهدف الكبير قد فشلت بسبب غياب التضامن بين الشغيلة في فروع العمل المختلفة في كل بلد، وغياب التحالف الأخوي بين الشغيلة في البلدان المختلفة؛

أن التحرر ليس مشكلة محلية أو وطنية إطلاقا، بل مشكلة اجتماعية تطول جميع البلدان حيث يوجد النظام الاجتماعي الجديد، ويتوقف حلها على التعاون النظري والعملي بين البلدان الأكثر تقدما، وأن تجديد الحركة العمالية الذي يحدث بشكل متزامن في البلدان الأوربية الصناعية يوقظ فينا من جهة، آمالاً جديدة، ولكنه يشكل لنا، من جهة ثانية، تحذيرا صارخا لعدم الوقوع في الأخطاء القديمة، ويدعونا إلى التنسيق الفوري للحركة التي لم تكن تتمتع إلى الآن بالتماسك والانسجام.

إن الأممية الثانية، التي تأسست في باريس عام 1889، كانت تعهدت بأن تكمل عمل الأممية الأولى، ولكنها تعرضت عام 1914، في بداية الحرب العالمية، إلى انهيار كامل. لقد هلكت الأممية الثانية، نخرتها الانتهازية وجندلتها خيانة زعمائها، الذين انتقلوا إلى معسكر البرجوازية؛

لذلك فإن الأممية الثالثة التي تأسست في آذار / مارس 1919 في عاصمة جمهورية السوفيتات الاشتراكية الاتحادية، موسكو، قد أعلنت بوجه العالم أنها تتكفل بمتابعة وإنجاز العمل الذي شرعت به الأممية الأولى للشغيلة.

لقد تشكلت الأممية الثالثة الشيوعية في نهاية المجزرة الإمبريالية بين عامي 1914 و1918، التي زهقت خلالها البرجوازية، في مختلف البلدان، أرواح 20 مليون بشري.

تذكّر الحرب الإمبريالية! هذه هي الكلمة الأولى التي توجهها الأممية الشيوعية إلى كل شغيل مهما كان أصله أو اللغة التي يتكلمها. تذكَّر أنه بفعل وجود النظام الرأسمالي، تمكنت حفنة من الامبرياليين، خلال سنوات أربع طويلة، من إجبار الشغيلة في كل مكان على ذبح بعضهم بعضا ! تذكر أن الحرب البرجوازية قد أغرقت أوربا والعالم أجمع في الجوع والفقر ! تذكر أنه دون إطاحة الرأسمالية فإن تكرار هذه الحروب الإجرامية لن يكون ممكنا فحسب بل هو محتم !.

إن الأممية الشيوعية قد وضعت نصب أعينها الكفاح المسلح من أجل إطاحة البرجوازية العالمية، وخلق الجمهورية الأممية للسوفيتات، المرحلة الأولى على طريق القضاء التام على كل نظام حكومي. وتعتبر الأممية الشيوعية أن دكتاتورية البروليتاريا هي الوسيلة الوحيدة المهيأة لتخليص الإنسانية من فظائع الرأسمالية، وتعتبر سلطة السوفيتات شكل دكتاتورية البروليتاريا الذي يفرضه التاريخ.

لقد خلقت الحرب الإمبريالية صلة وثيقة جدا بين مصير الشغيلة في بلد محدد ومصير البروليتاريا في البلدان الأخرى كافة.

لقد أكدت الحرب الإمبريالية مرة جديدة صحة ما ورد في الأنظمة الداخلية للأممية الأولى: أن تحرر الشغيلة ليس مهمة محلية، ولا وطنية، بل أنه مهمة اجتماعية وأممية.

إن الأممية الشيوعية تقطع إلى الأبد مع تراث الأممية الثانية، التي لم يكن يوجد في الواقع، بالنسبة لها، إلاّ الشعوب ذات العرق الأبيض. فالأممية الشيوعية تتآخى مع الشعوب في كل الأعراق: الأبيض والأصفر، والأسود، ومع شغيلة الأرض أجمع.

إن الأممية الشيوعية تدعم بالكامل، ودون تحفظ، مكاسب الثورة البروليتارية العظمى في روسيا، أول ثورة اشتراكية منتصرة في التاريخ، وتدعو بروليتاريي العالم إلى السير في الطريق نفسه، وتتعهد الأممية الشيوعية بدعم كل جمهورية اشتراكية تنشأ في أي مكان، بكل الوسائل التي تكون بمتناولها.

لا تجهل الأممية الشيوعية أنه، من أجل تسريع النصر، على العصبة الأممية للشغيلة، التي تقاتل لإزالة الرأسمالية وبناء الشيوعية، أن تمتلك تنظيما شديد المركزية، وأن على الآلية المنظمة للأممية الشيوعية أن تؤمن للشغيلة في كل بلد محدد إمكانية تلقي كل نجدة ممكنة، في أي وقت، من جانب العمال المنظمين في البلدان الأخرى.

آخذة بالاعتبار كل ذلك، تتبنى الأممية الشيوعية الأنظمة التالية:

المادة الأولى:

إن العصبة الأممية الجديدة للشغيلة قد تأسست بهدف تنظيم نشاط شامل للبروليتاريا في البلدان كافة، يتجه نحو غاية واحدة ووحيدة وهي: إطاحة الرأسمالية، وبناء دكتاتورية البروليتاريا وجمهورية السوفيتات الأممية، مما يهيئ لإزالة الطبقات بشكل نهائي، وتحقيق الاشتراكية، الدرجة الأولى في المجتمع الشيوعي.

المادة الثانية:

إن العصبة الأممية الجديدة للشغيلة تتبنى اسم الأممية الشيوعية.

المادة الثالثة:

كل الأحزاب والتنظيمات المنتسبة إلى الأممية الشيوعية تحمل الاسم التالي: الحزب الشيوعي لهذا البلد أو ذاك (فرع الأممية الشيوعية).

المادة الرابعة:

ليست الهيئة العليا للأممية الشيوعية إلاّ المؤتمر العالمي لكل الأحزاب والتنظيمات المنتسبة للأممية. ويقوم المؤتمر العالمي بالمصادقة على برامج مختلف الأحزاب المنتسبة. إنه يدرس القضايا البرنامجية والتكتيكية الأساسية المتعلقة بنشاط الأممية الشيوعية ويحلها. ويحدد عدد الأصوات المقررة، لكل حزب أو تنظيم في المؤتمر العالمي، بقرار خاص من المؤتمر، بالاستناد إلى عدد أعضاء كل تنظيم، على أن يؤخذ بالاعتبار التأثير الفعلي للحزب.

المادة الخامسة:

ينتخب المؤتمر العالمي لجنة تنفيذية للأممية الشيوعية، تكون الهيئة العليا للأممية الشيوعية في الفترة التي تفصل بين دورتين للمؤتمر العالمي.

المادة السادسة:

يحدد المؤتمر العالمي في كل دورة جديدة مقر اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية.

المادة السابعة:

يمكن الدعوة لمؤتمر عالمي استثنائي للأممية الشيوعية بقرار من اللجنة التنفيذية أو بطلب من نصف العدد الكلي للأحزاب المنتسبة في آخر مؤتمر عالمي.

المادة الثامنة:

إن العمل الرئيسي والمسؤولية الكبرى داخل اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية يقعان بشكل أساسي على عاتق البلد الذي حدده المؤتمر كمقر للجنة التنفيذية. وينتدب الحزب الشيوعي في هذا البلد خمسة ممثلين عنه على الأقل يتمتعون بحق التصويت، وبالإضافة إلى ذلك، ينتدب كل حزب من الأحزاب الأكثر أهمية (اثنا عشر حزبا) ممثلا عنه إلى اللجنة التنفيذية يتمتع بحق التصويت. يقر المؤتمر العالمي لائحة بهذه الأحزاب. ويحق للأحزاب والتنظيمات الأخرى أن تنتدب ممثلين عنها إلى اللجنة (بنسبة ممثل واحد عن كل حزب) وتكون أصواتهم استشارية.

المادة التاسعة:

تقود اللجنة التنفيذية في الفترة الفاصلة بين دورات المؤتمرات جميع نشاطات الأممية الشيوعية. وتنشر في لغات أربع على الأقل النشرة المركزية (مجلة الأممية الشيوعية) والبيانات التي تعتبرها ضرورية باسم الأممية الشيوعية. وتقدم التوجيهات لكل الأحزاب والتنظيمات المنتسبة ويكون لهذه التوجيهات حكم القانون ويحق للجنة التنفيذية، أن تطلب من الأحزاب المنتسبة أن تطرد أي مجموعة أو فرد يخرق الانضباط البروليتاري، ويحق لها أن تطلب طرد الأحزاب التي تخرق قرارات المؤتمر العالمي، ولهذه الأحزاب حق الاستئناف أمام المؤتمر العالمي. وعند الضرورة تنظم اللجنة التنفيذية في بلدان مختلفة مكاتب تقنية مساعدة وأخرى خاضعة لها تماما.

المادة العاشرة:

يحق للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية أن تعين ممثلين يتمتعون بأصوات استشارية، عن تنظيمات وأحزاب غير مقبولة في الأممية الشيوعية ولكنها نصيرة للشيوعية.

المادة الحادية عشرة:

يجب أن تنشر الصحافة الخاصة بالأحزاب والتنظيمات المنتسبة إلى الأممية الشيوعية أو النصيرة لها، كل الوثائق الرسمية للأممية الشيوعية ولجنتها التنفيذية.

المادة الثانية عشرة:

إن الوضع العام في أوربا وأمريكا يفرض على الشيوعيين أن يخلقوا بموازاة منظماتهم الشرعية، منظمات سرية، وعلى اللجنة التنفيذية أن تسهر على مراعاة هذا البند من بنود النظام الداخلي.

المادة الثالثة عشرة:

إن القاعدة في كل العلاقات السياسية المهمة بين مختلف الأحزاب المنتسبة للأممية الشيوعية، أن تمر عبر اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية. ولكن عند الضرورة الملحة، يمكن أن تكون هذه العلاقات مباشرة، شرط أن تُعلَم اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية بذلك.

المادة الرابعة عشرة:

إن النقابات التي تقف على أرضية الشيوعية والتي تشكل مجموعات عالمية تحت إشراف اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، تشكل فرعا نقابيا للأممية الشيوعية، وترسل النقابات الشيوعية ممثليها إلى المؤتمر العالمي للأممية الشيوعية بواسطة الحزب الشيوعي في بلدانها، وينتدب الفرع النقابي أحد أعضائه إلى اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية حيث يتمتع بحق التصويت وللجنة التنفيذية أن تنتدب ممثلا عنها إلى الفرع النقابي للأممية الشيوعية، يتمتع بحق التصويت.

المادة الخامسة عشرة:

يخضع الاتحاد العالمي للشبيبة الشيوعية للأممية الشيوعية وللجنتها التنفيذية. وينتدب ممثلا عن لجنته التنفيذية إلى اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية حيث يتمتع بحق التصويت، ويحق للجنة التنفيذية أن تنتدب ممثلا عنها إلى اللجنة التنفيذية لاتحاد الشبيبة، يتمتع بحق التصويت. وتقوم العلاقات المتبادلة القائمة بين اتحاد الشبيبة والحزب الشيوعي، باعتبارها تنظيمين في بلد واحد على المبدأ نفسه.

المادة السادسة عشرة:

تصادق اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية على تعيين أمانة سر الحركة النسائية الأممية، وتنظُّم فرعا نسائيا شيوعيا للأممية.

المادة السابعة عشرة:

كل عضو في الأممية الشيوعية ينتقل من بلد لآخر، يجري استقباله بشكل أخوي من قبل أعضاء الأممية الثالثة.

شروط قبول الأحزاب في الأممية الشيوعية

إن المؤتمر التأسيسي الأول للأممية الشيوعية لم يقم بصياغة الشروط الدقيقة لقبول الأحزاب في الأممية الثالثة. فعندما عقدت الأممية مؤتمرها الأول لم يكن يوجد في غالبية البلدان إلاّ اتجاهات وتجمعات الشيوعية.

إن المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية ينعقد في شروط مختلفة تماما. في أغلب البلدان أصبح هناك أحزاب وتنظيمات شيوعية بدل الاتجاهات والتجمعات.

بشكل متزايد، نرى أحزابا وتجمعات، كانت لوقت قريب تنتمي إلى الأممية الثانية، تتجه إلى الأممية الشيوعية راغبة الآن بالانضمام إليها، دون أن تكون قد أصبحت مع ذلك شيوعية حقا. لقد هُزمت الأممية الثانية بشكل نهائي. والأحزاب الوسطية وتجمعات «الوسط»، إذ رأت وضعها اليائس، تسعى للاستناد إلى الأممية الشيوعية التي تزداد قوتها كل يوم، وهي تأمل الاحتفاظ مع ذلك بـ «استقلالية» تسمح لها بمتابعة سياستها الانتهازية أو «الوسطية» القديمة. فالأممية الشيوعية هي، بشكل أو بآخر، «على الموضة».

إن رغبة بعض المجموعات القيادية «الوسطية» بالانتساب إلى الأممية الثالثة تؤكد لنا بشكل غير مباشر أن الأممية الشيوعية قد كسبت تعاطف الأغلبية العظمى من الشغيلة الواعين في العالم أجمع، وأنها تشكل قوة تزداد نموا يوما بعد يوم.

إن الأممية الشيوعية مهددة بأن تغزوها تجمعات متذبذبة ومترددة لم تستطع بعد القطع مع أيديولوجية الأممية الثانية.

يضاف إلى ذلك أن بعض الأحزاب الهامة (الإيطالي، والسويدي) التي تتبنى الغالبية فيها وجهة النظر الشيوعية، مازالت تحتفظ داخلها بالعديد من العناصر الإصلاحية، والاشتراكية – السلمية التي لا تنتظر إلاّ الفرصة من أجل رفع رأسها وتخريب الثورة البروليتارية بشكل نشط، مقدمة بذلك المساعدة للبرجوازية وللأممية الثانية.

ينبغي على أي شيوعي ألاّ ينسى دروس جمهورية السوفيتات الهنغارية، إن اتحاد الشيوعيين الهنغاريين مع الإصلاحيين كلّف البروليتاريا الهنغارية غاليا.

لذلك يرى المؤتمر الثاني العالمي وجوب تحديد شروط قبول الأحزاب الجديدة تحديدا دقيقا للغاية، والإشارة، بالمناسبة عينها، إلى الواجبات التي تقع على عاتق الأحزاب المنتسبة سابقا.

يقرر المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية أن شروط القبول في الأممية هي التالية:

1- ينبغي أن يكون للدعاوة والتحريض اليوميين طابع شيوعي حقا، وأن يتفقا مع برنامج الأممية الثالثة وقراراتها، وأن يحرر كامل صحافة الحزب شيوعيون حقيقيون، أثبتوا تفانيهم في سبيل قضية البروليتاريا. ولا يحْسن الحديث عن الديكتاتورية البروليتارية كصيغة محفوظة ورائجة، بل يجب أن تتم الدعاوة بشكل يظهر ضرورة هذه الديكتاتورية لكل شغيل، لكل جندي، ولكل فلاح، عبر وقائع الحياة اليومية نفسها المدوّنة في صحافتنا. إن الصحافة الدورية أو غيرها وجميع مصالح النشر يجب أن تخضع كليا للجنة المركزية للحزب، أكان هذا الحزب شرعيا أو غير شرعي. فمن غير المقبول أن تسيء أجهزة الدعاوة استخدام الاستقلالية، من أجل اتباع سياسة لا تتفق مع سياسة الحزب. في أعمدة الصحافة، وفي الاجتماعات العامة، وفي النقابات، وفي التعاونيات، وفي كل مكان يصل إليه أنصار الأممية الثالثة، عليهم أن يفضحوا بشكل دائم ودون شفقة ليس فقط البرجوازية بل المتواطئين معها أيضا، الإصلاحيين بمختلف تلاوينهم.

2- على كل تنظيم يرغب في الانتساب إلى الأممية الشيوعية أن يبعد الإصلاحيين و«الوسطيين» بانتظام وبشكل دائم عن المراكز، التي تفرض ولو حدا أدنى من المسؤولية (منظمات الحزب، التحرير، الكتلة البرلمانية، التعاونيات، والمجالس البلدية)، وأن يستبدلهم بشيوعيين مجربين – دون أن تخشى أن يكون عليه، خاصة في البداية، أن يستبدل مناضلين مجربين بشغيلة متدرجين.

3- يدخل الصراع الطبقي في جميع بلدان أوربا وأمريكا تقريبا مرحلة الحرب الأهلية، ولا يمكن الشيوعيين ضمن هكذا شروط أن يثقوا بالشرعية البرجوازية، وعليهم أن يخلقوا في كل مكان بموازاة التنظيم الشرعي، جهازا سريا قادرا على تأدية واجبه في اللحظة الحاسمة تجاه الثورة. وفي جميع البلدان حيث لا يتمكن الشيوعيون من تطوير نشاطهم بأكمله بشكل شرعي، بسبب حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية، يصبح الجميع بين النشاط الشرعي والنشاط غير الشرعي ضرورة أكيدة.

4- إن واجب نشر الأفكار الشيوعية يفرض ضرورة اتباع دعاوة وتحريض منظمين ومستمرين بين الجنود، كضرورة مطلقة، وحيث تصعب الدعاوة العلنية بسبب القوانين الاستثنائية، يجب أن تتم بشكل غير شرعي، ورفض ذلك يعني خيانة الواجب الثوري وهو بالتالي لا يتناسب مع الانتماء للأممية الشيوعية.

5- هناك ضرورة للتحريض العقلاني والمنهجي في الأرياف. فالطبقة العاملة لا تستطيع أن تنتصر إذا لم تكن مدعومة على الأقل بجزء من شغيلة الأرياف (المياومين الزراعيين وفقراء الفلاحين) وإذا لم تحيّد بسياستها جزءا على الأقل من الريف المتخلف. إن النشاط الشيوعي في الأرياف يكتسب في هذه المرحلة أهمية رئيسية ويجب أن يقوم به العمال الشيوعيون الذين لهم صلة بالأرياف. إن رفض القيام بهذا العمل أو إسناده إلى أنصاف إصلاحيين مشكوك فيهم، يعني التخلي عن الثورة الاشتراكية.

6- على كل حزب يرغب في الانضمام إلى الأممية الشيوعية واجب التشهير بالاشتراكية الوطنية المعلنة كما الاشتراكية – السلمية المنافقة والزائفة. والمقصود أن يبرهن للعمال بشكل مستمر أنه دون الإطاحة الثورية للرأسمالية، فإن أي محكمة تحكيم دولية، وأي نقاش حول خفض الأسلحة، أو أية إعادة تنظيم «ديموقراطية» لعصبة الأمم لا تستطيع أن تحمي الإنسانية من الحروب الإمبريالية.

7- على جميع الأحزاب الراغبة في الانضمام إلى الأممية الشيوعية واجب الاعتراف بضرورة القطيعة التامة والنهائية مع الإصلاحية وسياسة الوسط، وعليها أن تروّج لهذه القطيعة بين أعضاء منظماتها. فالنشاط الشيوعي الحازم ليس ممكنا إلاّ لقاء هذا الثمن.

تفرض الأممية الشيوعية، بشكل إلزامي ودون نقاش، هذه القطيعة، التي يجب أن تتم في أقرب مهلة. فلا تستطيع الأممية الشيوعية أن تقبل أن يكون لإصلاحيين حقيقيين مثل توراتي، وكاوتسكي، وهيلفردينغ، ولونغه، وماكدونالد، وموديلياني وغيرهم، حق اعتبار أنفسهم أعضاء في الأممية الثالثة وأن يكونوا ممثًّلين داخلها. إن وضعا كهذا سيجعل الأممية الثالثة شبيهة إلى حد بعيد بالأممية الثانية.

8- أمّا بصدد مسألة المستعمرات والقوميات المضطهدة، فيجب أن يكون للأحزاب في البلدان حيث البرجوازية تملك مستعمرات وتضطهد أمما، خطُّ سلوك واضح وصريح بشكل خاص. ومن واجب كل حزب ينتمي إلى الأممية الثالثة أن يفضح دون شفقة مآثر إمبرياليي بلده في المستعمرات، وأن يدعم بالفعل، وليس لفظيا، كل حركة تحرر في المستعمرات، ويطالب بطرد إمبرياليي الحواضر من المستعمرات، وأن ينمي في قلب شغيلة البلد مشاعر أخوية فعلية تجاه السكان الكادحين في المستعمرات والقوميات المضطهدة، وأن يقوم بتحريض مستمر بين جنود البلد المستعمِر ضد كل اضطهاد للشعوب المستعمَرة.

9- على كل حزب يرغب في الانضمام إلى الأممية الشيوعية أن يتبع دعاوة مثابرة ومستمرة داخل النقابات والتعاونيات والمنظمات الأخرى للجماهير العمالية. وينبغي تشكيل نوى شيوعية يكسب عملها العنيد والمستمر النقابات إلى الشيوعية. إن من واجبها أن تكشف في كل لحظة خيانة الاشتراكيين – الوطنيين وتردُّد «الوسط»، ويجب أن تكون هذه النُّوى خاضعة بمجملها للحزب.

10- على كل حزب منتسب إلى الأممية الشيوعية واجب محاربة «أممية» النقابات الصفراء المؤسسة في أمستردام بقوة وصلابة. وعليه أن ينشر بحزم داخل النقابات العمالية فكرة ضرورة القطيعة مع أممية أمستردام الصفراء. فيما عليه بالمقابل أن يؤازر بكل قوته الاتحاد العالمي للنقابات الحمراء المنتسب إلى الأممية الشيوعية.

11- على الأحزاب الراغبة في الانتساب إلى الأممية الشيوعية واجب مراجعة تشكيل كتلها البرلمانية، لإقصاء العناصر المشكوك فيها وإخضاعها ليس لفظيا بل عمليا للجنة المركزية للحزب، وعليها أن تطلب من كل نائب شيوعي أن يُخضع كل نشاطه للمصالح الحقيقية للدعاوة الثورية والتحريض.

12- يجب أن تبنى الأحزاب المنتسبة إلى الأممية الشيوعية على مبدأ المركزية الديموقراطية. ففي الفترة الحالية، فترة الحرب الأهلية الضارية، لا يستطيع الحزب الشيوعي أن يقوم بمهامه إلاّ إذا كان منظما بالشكل الأكثر مركزية، إلاّ إذا كان الانضباط الحديدي المشابه للانضباط العسكري مقبولا به، وهيئته المركزية تتمتع بسلطات واسعة وتمارس سلطة مسلما بها، وتتمتع بثقة المناضلين بالإجماع.

13- على الأحزاب الشيوعية في البلدان حيث يناضل الشيوعيون بشكل علني أن تلجأ إلى تطهيرات دورية لمنظماتها، بهدف فصل العناصر المنتفعة والبرجوازية – الصغيرة.

14- على الأحزاب الراغبة في الانتساب إلى الأممية الشيوعية أن تدعم دون تحفظ كل الجمهوريات السوفياتية في نضالاتها ضد الثورة المضادة، وأن تدعو الشغيلة، دون كلل، إلى رفض نقل الذخيرة والمعدات المخصصة لأعداء الجمهوريات السوفياتية وأن تقوم بالدعاوة، سواء بشكل شرعي أو بشكل غير شرعي، بين الجنود المرسلين لقتال الجمهوريات السوفياتية.

15- على الأحزاب التي مازالت تحتفظ حتى الآن بالبرامج الاشتراكية – الديموقراطية القديمة أن تقوم بمراجعتها دون تأخير وأن تصوغ برنامجا شيوعيا جديدا ينسجم مع الشروط المميزة لبلدها ومصمما بذهنية الأممية الشيوعية، والقاعدة أن تجري المصادقة على برامج الأحزاب المنتسبة إلى الأممية الشيوعية من قبل المؤتمر العالمي أو اللجنة التنفيذية. وفي حال رفض هذه الأخيرة المصادقة لأحد الأحزاب، يحق له الاستئناف لدى مؤتمر الأممية الشيوعية.

16- جميع قرارات مؤتمرات الأممية الشيوعية، وكذلك قرارات اللجنة التنفيذية ملزمة لكل الأحزاب المنتسبة للأممية الشيوعية. وفي مرحلة الحرب الأهلية المحتدمة، على الأممية الشيوعية ولجنتها التنفيذية أن تأخذا بالاعتبار شروط النضال شديدة التنوع في مختلف البلدان، وألاّ تبنى قرارات عامة وإلزامية إلاّ في المسائل التي تكون فيها هذه القرارات ممكنة.

17- انسجاما مع كل ما سبق، على كل الأحزاب المنتمية إلى الأممية الشيوعية أن تغير تسميتها. وكل حزب راغب في الانتساب إلى الأممية الشيوعية يجب أن يحمل الاسم التالي: الحزب الشيوعي لـ… (فرع الأممية الثالثة). إن مسألة التسمية هذه ليست مجرد مسألة شكلية، بل لها أهمية سياسية كبيرة. فالأممية الشيوعية قد أعلنت الحرب دون هوادة على العالم البرجوازي القديم بأكمله وعلى الأحزاب الاشتراكية – الديموقراطية الصفراء الهرمة كافة، ومن الأهمية بمكان أن يبرز الفرق بأكثر جلاء ممكن، أمام أعين كل الشغيلة، بين الأحزاب الشيوعية والأحزاب «الاشتراكية – الديموقراطية» الهرمة أو «الاشتراكيين» الرسميين الذين باعوا راية الطبقة العاملة.

18- إن كل الأجهزة القيادية لصحافة الحزب في كل بلد مجبرة على طباعة كل الوثائق الرسمية المهمة الصادرة عن اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية.

19- إن كل الأحزاب المنتسبة إلى الأممية الشيوعية، أو تلك التي تطلب الانضمام، مجبرة على الدعوة (بأقصى سرعة ممكنة) ضمن مهلة أربعة أشهر بعد المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية، كأقصى حد، إلى مؤتمر استثنائي يبت بشأن هذه الشروط. وعلى اللجان المركزية أن تسهر على إيصال قرار المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية إلى كل المنظمات المحلية.

20- على الأحزاب التي تريد الآن الانتساب إلى الأممية الثالثة، ولكنها لم تغير بعد تكتيكها القديم بشكل جذري، أن تعمل بشكل مسبق على أن يكون ثلثا أعضاء لجنتها المركزية ومؤسساتها المركزية الأكثر أهمية من رفاق أعلنوا قبل المؤتمر الثاني دعمهم لانضمام الحزب إلى الأممية الثالثة. ويمكن القبول ببعض الاستثناءات بموافقة اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية. وتحتفظ اللجنة التنفيذية بحق الاستثناء بالنسبة لممثلي التيار الوسطي المذكورين في الفقرة السابعة.

21- إن المنتسبين إلى الحزب الذين يرفضون الشروط والموضوعات التي وضعتها الأممية الشيوعية يجب أن يُطردوا من الحزب، وينطبق الشيء على المنتدبين إلى المؤتمر الاستثنائي.

المهام الرئيسية

للأممية الشيوعية

1- تتميز اللحظة الحالية من تطور الحركة الشيوعية العالمية بواقع أن أفضل ممثلي الحركة البروليتارية في جميع البلدان الرأسمالية قد فهموا جيدا المبادئ الأساسية للأممية الشيوعية، أي، ديكتاتورية البروليتاريا وحكومة السوفيتات، ووقفوا إلى جانبها بتفان مفعم بالحماس. وما هو أكثر أهمية أيضا واقع أن أوسع الجماهير البروليتارية في المدن، والشغيلة المتقدمين في الأرياف، قد أظهروا تعاطفهم دون تحفظ مع هذه المبادئ الأساسية. وهذه خطوة كبيرة إلى الأمام.

من جهة ثانية، يمكننا ملاحظة خطأين أو نقطتي ضعف في الحركة الشيوعية العالمية التي تنمو بسرعة خارقة. إحداهما خطيرة جدا وتشكل خطرا كبيرا مباشرا على قضية تحرر البروليتاريا، وتتمثل في أن بعض الزعماء القدامى وبعض أحزاب الأممية الثانية القديمة يعلنون، بشكل غير واع تحت ضغط الجماهير، أو بشكل واع، انتسابهم المشروط أو غير المشروط إلى الأممية الثالثة، بالرغم من بقائهم، في الواقع، في كل نشاطهم العملي اليومي عند مستوى الأممية الثانية، وهم إنما يخدعون هذه الجماهير ليحافظوا على وضعهم القديم كعملاء للبرجوازية ومساعدين لها داخل الحركة العمالية. هذا الوضع لا يمكن القبول به إطلاقا. فهو يدخل بين الجماهير عنصر إفساد، ويمنع تشكّل حزب شيوعي قوي أو تطوره، ويضع الاحترام المفروض أن تحوزه الأممية الثالثة موضع تشكيك، إذ يهدد بتجدد الخيانات المماثلة لخيانات الاشتراكيين – الديموقراطيين المجريين الذين تنكروا على عجل بثياب الشيوعيين. وثمة خطأ آخر أقل أهمية بكثير، هو بالأحرى من أمراض نمو الحركة، وهو الميل «إلى اليسار»، الذي يؤدي إلى تقويم خاطئ لدور الحزب ومهمته تجاه الطبقة العاملة والجماهير، ولواجب الشيوعيين الثوريين المتمثل بالنضال في البرلمان البرجوازي والنقابات الرجعية.

من واجب الشيوعيين ألاّ يسكتوا عن نقاط الضعف في حركتهم، بل أن ينتقدوها علنا من أجل التخلص منها بشكل سريع وجذري. وللوصول إلى هذا الهدف، هناك أهمية في البداية لتحديد مضمون مفهومي ديكتاتورية البروليتاريا وسلطة السوفيتات، وذلك تبعا لتجربتنا العملية. وثانيا تحديد على أي شيء يمكن أن يقوم العمل التحضيري، المباشر والمنظم في جميع البلدان، من أجل تحقيق هذه الشعارات. وثالثا، تحديد الطرق والوسائل التي تسمح لنا بتخليص حركتنا من نقاط الضعف هذه.

أ- جوهر ديكتاتورية البروليتاريا

وسلطة السوفيتات

2- إن انتصار الاشتراكية (المرحلة الأولى من الشيوعية) على الرأسمالية يتطلب أن تنجز البروليتاريا، الطبقة الوحيدة الثورية حقا، المهام الثلاث التالية:

تقوم الأولى على إطاحة المستغِلين وبالدرجة الأولى البرجوازية، ممثلتهم الاقتصادية والسياسية الأساسية، والمقصود أن تلحق بهم هزيمة كاملة، وأن تحطم مقاومتهم، وتجعل كل محاولة من جانبهم لإحياء الرأسمال والعبودية المأجورة مستحيلة. وتقوم المهمة الثانية على جعل كل جمهور الشغيلة الذين يستغلهم الرأسمال، وليس البروليتاريا فقط، يجرون في أثر طليعة البروليتاريا الثورية وحزبها الشيوعي، وتوعيتهم وتنظيمهم وتربيتهم وجعلهم منضبطين حتى خلال النضال الشرس والقاسي ضد المستغلين – وأن يتم انتزاع الأغلبية الساحقة من السكان في جميع البلدان الرأسمالية من البرجوازية، وإعطاؤهم الثقة، عمليا، بالدور القيادي للبروليتاريا وطليعتها الثورية – وتقوم المهمة الثالثة على تحييد – أو شل قدرة – المترددين حتما بين البروليتاريا و البرجوازية، بين الديموقراطية البرجوازية وسلطة السوفيتات، ومن طبقة الملاكين الصغار الزراعيين، والصناعيين والتجار، الذين ما زالوا كثيري العدد على الرغم من أنهم يشكلون أقلية من السكان، ومن فئات المثقفين والمستخدمين.. الخ، الدائرة حول هذه الطبقة.

تتطلب كل من المهمتين الأولى والثانية أساليب عمل خاصة تجاه المستغَلين والمستغِلين. وتَنتُج الثالثة عن المهمتين الأولى والثانية ولا تتطلب سوى تطبيق ذكي، سلس ومناسب للأساليب المطبقة في المهمتين السابقتين والتي ينبغي تكييفها مع الظروف الملموسة.

3- في الظرف الحالي، الناشئ في العالم أجمع – وخاصة في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدما والأكثر قوة، واستنارة وحرية – عن النزعة العسكرية، الإمبريالية، واضطهاد المستعمرات والبلدان الضعيفة، والمذبحة الإمبريالية العالمية، و«سلم» فرساي، ليست فكرة الخضوع الهادئ من جانب أكثرية المستغَلين للرأسماليين والتطور السلمي نحو الاشتراكية، علامة رداءة برجوازية صغيرة فحسب، بل أنها أيضا تضليل وإخفاء لعبودية الإجارة. وتشويه للحقيقة أمام أعين الشغيلة. فالحقيقة أن البرجوازية الأكثر استنارة، والأكثر ديموقراطية، لا ترتد أمام مجزرة بحق ملايين العمال والفلاحين بهدف واحد وهو إنقاذ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. إن إطاحة البرجوازية عن طريق العنف ومصادرة ممتلكاتها وتحطيم جهاز دولتها البرلماني، والقضائي، والعسكري والبيروقراطي، والإداري والبلدي، الخ… وصولا إلى نفي جميع المستغِلين الأكثر خطورة وعنادا أو اعتقالهم، دون استثناء، وممارسة رقابة صارمة في أوساطهم من أجل قمع المحاولات التي لن يتوانوا عن القيام بها على أمل إعادة العبودية الرأسمالية، هذه هي الإجراءات التي بوسعها دون غيرها أن تؤمن الإخضاع الحقيقي لطبقة المستغِلين بمجملها.

من جهة ثانية إن الفكرة المألوفة لدى أحزاب الأممية الثانية الهرمة وقياداتها، بأن في وسع أغلبية الشغيلة والمستغَلين، في ظل النظام الرأسمالي، وتحت النير العبودي للبرجوازية – الذي يتخذ أشكالا شديدة التنوع، ويكون أكثر تفننا وقساوة ودون رحمة كلما كان البلد الرأسمالي أكثر تحضرا – أن تكتسب وعيا اشتراكيا كاملا، وصلابة اشتراكية في القناعات والطبع، إن هذه الفكرة، في رأينا، تضلل الشغيلة أيضا. في الواقع، ليس إلاّ بعد أن تقوم الطليعة البروليتارية، تدعمها الطبقة الثورية الوحيدة أو أغلبيتها، بإطاحة المستغِلين وتحطيمهم، وتحرير المستغَلين من عبوديتهم وتحسين ظروف معيشتهم مباشرة على حساب الرأسماليين المجردين من الملكية، بعد ذلك فقط، ولقاء الحرب الأهلية الأشد ضراوة، يمكن أن تتم تربية أوسع الجماهير المستغَلة وتعليمها وتنظيمها حول البروليتاريا، وتحت نفوذها وقيادتها، وعندها يصبح ممكنا قهر أنانيتها، وعيوبها وافتقادها للتماسك، وهي الأمور التي يرعاها نظام الملكية الخاصة، كما يمكن تحويل تلك الجماهير إلى جمعية واسعة من الشغيلة الأحرار.

* * * * *

4- إن نجاح النضال ضد الرأسمالية يتطلب ميزان قوى صحيحاً بين الحزب الشيوعي كمرشد، والبروليتاريا، الطبقة الثورية، والجماهير، أي مجمل الشغيلة والمستغَلين. إذا كان الحزب الشيوعي يشكل فعلا طليعة الطبقة الثورية ويستوعب أفضل ممثليها، وإذا كان مؤلفا من شيوعيين واعين ومتفانين، مستنيرين ومتمرسين بتجربة نضال ثوري طويلة، وإذا عرف كيف يرتبط بشكل لا فكاك منه بكامل وجود الطبقة العاملة، وعبرها بوجود كل الجماهير المستغلَة، وأن يوحي لها بالثقة التامة، فإنه الحزب الوحيد الذي سيكون قادرا على قيادة البروليتاريا في النضال النهائي، الأكثر ضراوة ضد كل قوى الرأسمالية. وليس إلاّ بقيادة حزب مماثل تستطيع البروليتاريا أن تقضي على البلادة والمقاومة لدى الأرستقراطية العمالية الصغيرة المؤلفة من قادة الحركة النقابية والتعاونية الذين أفسدتهم الرأسمالية، وأن تطور كل طاقاتها التي تفوق بما لا يقاس قوتها العددية بالنسبة إلى السكان، وذلك تبعا للبنية الاقتصادية الرأسمالية نفسها. وأخيرا لن تتمكن الجماهير، أي مجمل العمال والمستغلين المنظمين في السوفيتات، من أن تطوِّر لأول مرة في التاريخ، مبادرة عشرات الملايين من البشر الذين تخنقهم الرأسمالية وطاقتهم، إلاّ بعدما تكون قد تحررت بالفعل من نير الرأسمال والجهاز الحكومي للدولة، وبعد أن تكون قد امتلكت إمكانية التحرك بحرية. ولن تتمكن الجماهير المستغَلة سابقا من المشاركة بفعالية في كامل إ

إدارة البلد، إلّا عندما تصلح السوفيتات جهاز الدولة الوحيد، هذه المشاركة التي كانت مستحيلة، حتى في الديموقراطيات البرجوازية الأكثر استنارة وحرية، بنسبة 95 بالمائة. وفي السوفيتات يبدأ جمهور المستغَلين يتعلم، ليس في الكتب بل عبر تجربته العملية، ماهية البناء الاشتراكي وخلق انضباط اجتماعي جديد ورابطة حرة للشغيلة الأحرار.

ب- على ماذا يجب أن يقوم التحضير الفوري لديكتاتورية البروليتاريا

5- يتميز التطور الحالي للحركة الشيوعية العالمية بواقع أنه في عدد كبير من البلدان الرأسمالية لم يكتمل عمل البروليتاريا التحضيري من أجل ممارسة الديكتاتورية، وفي الغالب أنه لم يبدأ بعد بشكل منظم. هذا لا يعني أن الثورة البروليتاريا ستكون مستحيلة في المستقبل القريب، بل أنها، على العكس، أكثر الأشياء احتمالا. فالوضع السياسي والاقتصادي غنيّ بالمواد الملتهبة بشكل خارق، وبالأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى اشتعالها بشكل مباغت. هناك عامل آخر من عوامل الثورة، خارج الوضع التحضيري للبروليتاريا، وهو تحديدا الأزمة العامة التي تطول كافة الأحزاب الحاكمة والأحزاب البرجوازية. ولكن ينتج عن كل ذلك أن المهمة الحالية للأحزاب الشيوعية تقوم على الإسراع بالثورة، دون إثارتها مع ذلك بشكل مصطنع قبل تحضير كاف. وينبغي أن يتكثف تحضير البروليتاريا للثورة عبر العمل. من جهة ثانية فإن الحالات المشار إليها أعلاه في تاريخ أكثر الأحزاب الاشتراكية، تفترض السهر جيدا على ألا يبقى الاعتراف بدكتاتورية البروليتاريا مجرد اعتراف لفظي.

لهذه الأسباب، فإن المهمة الرئيسية للحزب الشيوعي، من وجهة نظر الحركة البروليتارية الأممية في الوقت الحالي، هي تجميع كل القوى الشيوعية المبعثرة، وتشكيل حزب شيوعي وحيد في كل بلد (أو تعزيز الأحزاب الموجودة سابقا وتجديدها)، من أجل مضاعفة العمل التحضيري للبروليتاريا في سبيل الاستيلاء على السلطة تحت شكل دكتاتورية البروليتاريا. إن العمل الاشتراكي المألوف لدى المجموعات والأحزاب التي تعترف بديكتاتورية البروليتاريا أبعد من أن يكون قد خضع لهذا التغيير الأساسي والتجديد الجذري الضروريين للاعتراف بهذا العمل كعمل شيوعي حقا، ومنسجم مع المهام المطلوب تأديتها عشية ديكتاتورية البروليتاريا.

* * * * *

6- إن استلام البروليتاريا السلطة السياسية، لا يوقف نضالها الطبقي ضد البرجوازية، بل على العكس، فهو يؤدي إلى اتساعه، ويجعله أكثر حدة وقساوة. إن كل التجمعات والأحزاب والمناضلين في الحركة العمالية الذين يتبنون كليا أو جزئيا وجهة النظر الإصلاحية و«الوسطية»، الخ… سيقفون بشكل حتمي، بفعل احتدام الصراع، إمّا إلى جانب البرجوازية أو إلى جانب المترددين، أو (وهو الأكثر خطورة) يقعون في عداد أصدقاء البروليتاريا العديدين، غير المرغوب فيهم. لذلك فإن الإعداد لديكتاتورية البروليتاريا يتطلب ليس فقط تعزيز النضال ضد الاتجاه الإصلاحي بل تعديل طابع هذا النضال، وهذا لا يمكن أن يقتصر على إظهار الطابع المغلوط لهذه الميول، ولكن كذلك على فضح كل مناضل في الحركة العمالية يعبّر عن هذه الميول دون كلل أو رحمة. ودون ذلك لن تستطيع البروليتاريا أن تعرف مع من تسير في نضالها النهائي ضد البرجوازية. هذا النضال هو بحيث يمكن أن يتغير في كل لحظة ويحوّل سلاح النقد – كما أظهرت التجربة – إلى نقد بالسلاح. إن افتقاد روح المثابرة، أو أي تهاون في النضال ضد كل الذين يتصرفون كإصلاحيين أو وسطيين، ستكون نتيجته نموا مباشرا لخطر إطاحة سلطة البروليتاريا على يد البرجوازية التي ستستخدم غداً من أجل الثورة المضادة، ما لا يبدو اليوم بالنسبة لقصيري النظر إلاّ «اختلافا نظريا».

* * * * *

7- من المستحيل الاقتصار على الرفض المعتاد المبدئي لكل تعاون مع البرجوازية وكل «ائتلافية». إن أبسط دفاع عن «الحرية» و«المساواة» في ظل بقاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، يمكن أن يتحول في ظروف ديكتاتورية البروليتاريا، التي لن تكون قادرة أبدا على إلغاء الملكية الخاصة كليا، دفعة واحدة، إلى «تعاون» مع البرجوازية، التي ستنسف مباشرة سلطة الطبقة العاملة، لأن ديكتاتورية البروليتاريا تعني التوطيد الحكومي والدفاع بواسطة كامل جهاز الدولة، ليس عن «الحرية» للمستغلين ليتابعوا عملهم القمعي والاستغلالي، وليس عن «المساواة» بين المالك (أي ذلك الذي يحتفظ من أجل متعته الشخصية ببعض وسائل الإنتاج التي يخلقها العمل الجماعي) والفقير. إن ما يظهر لنا قبل انتصار البروليتاريا كمجرد خلاف حول مسألة «الديموقراطية» سيصبح حتما في الغد، بعد الانتصار، مسألة ينبغي حسمها عن طريق السلاح. ودون التحويل الجذري لكل طابع النضال ضد «الوسطيين» و«المدافعين عن الديموقراطية»، فإن إعداد الجماهير حتى بشكل مسبق من أجل تحقيق ديكتاتورية البروليتاريا سيكون مستحيلا.

8- إن ديكتاتورية البروليتاريا هي الشكل الأكثر حسما والأكثر ثورية للصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية. إن نضالا مماثلا لا يمكن أن يكون ظافرا إلاّ إذا جذبت الطليعة البروليتارية الأكثر ثورية إليها الأكثرية الساحقة العمالية. لهذه الأسباب فإن الإعداد لديكتاتورية البروليتاريا يتطلب ليس فقط فضح الطابع البرجوازي للإصلاحية ولكل دفاع عن الديمقراطية يستتبع المحافظة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وليس فقط فضح ظهور اتجاهات تعبّر في الواقع عن الدفاع عن البرجوازية داخل الحركة العمالية، بل أيضا استبدال الزعماء القدامى بشيوعيين في جميع أشكال التنظيم البروليتاري، السياسية والنقابية والتعاونية والتربوية، الخ…

كلما كانت سيطرة الديموقراطية البرجوازية طويلة ووطيدة، في بلد محدد كلما نجحت البرجوازية بإيصال رجال تربّوا على يدها ومفاهيمها وأفكارها المسبقة، وهم في الغالب مباعون لها بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى المراكز المهمة في الحركة العمالية. ولا مفر من استبدال ممثلي الأرستقراطية العمالية هؤلاء، بحماس أكبر مائة مرة مما في السابق، بشغيلة قريبين من الجماهير المستغَلة، ولئن كانوا غير مجربين. إن ديكتاتورية البروليتاريا تفترض تعيين هؤلاء الشغيلة، الذين لا يمتلكون تجربة، في المراكز الأكثر أهمية في الحكومة، وبدون ذلك ستبقى سلطة الطبقة العاملة عاجزة ولن تحظى بدعم الجماهير.

* * * * *

9- إن ديكتاتورية البروليتاريا هي التحقيق الناجز لسيطرة كل الشغيلة وكل المستغَلين، الذين تضطهدهم الطبقة الرأسمالية وتخبلهم وترهبهم وتشتتهم وتخدعهم، لكن الذين تقودهم الطبقة الاجتماعية الوحيدة التي أعدها كل تاريخ الرأسمالية لهذه المهمة القيادية. لهذا يجب أن يبدأ الإعداد لديكتاتورية البروليتاريا فورا وفي كل مكان، وذلك بالوسائل التالية:

يجب تشكيل مجموعات ونوى شيوعية في كل المنظمات دون استثناء – النقابات والاتحادات الخ… – في المنظمات البروليتارية أولا ومن تم المنظمات غير البروليتارية للجماهير الكادحة المستغَلة (سواء كانت سياسية، أو نقابية، أو عسكرية، أو تعاونية، أو بعد مدرسية، أو رياضية، الخ…). ومن المفضل أن تكون هذه المجموعات والنوى علنية، أو سرية إذا اقتضى الأمر، وهذا يصبح اضطراريا في كل مرة يكون هناك تخوف من إلغاء شرعيتها وتوقيف أعضائها. إن هذه المجموعات المرتبطة بعضها بالبعض الآخر، والمرتبطة بمركز الحزب، والتي تتبادل نتائج تجاربها، والمنصرفة إلى التحريض والدعاوة والتنظيم، تتكيف مع كل مجالات الحياة الاجتماعية وكل مظاهر الجماهير الكادحة وفئاتها. ويجب أن تعمل، عن طريق نشاطها متعدد الوجوه، على تربيتها الذاتية وتربية الحزب والطبقة العاملة والجماهير.

إلاّ أن من الأهمية بمكان أن تتم عمليا بلورة طرائق عمل – في تطورها الضروري – تكون من جهة تجاه الزعماء أو الممثلين المسؤولين للمنظمات، المفسدين كليا بالأوهام الإمبريالية والبرجوازية الصغيرة (هؤلاء الزعماء يجب فضحهم دون رحمة وطردهم من الحركة العمالية)، ومن جهة أخرى تجاه الجماهير التي بانت مستعدة، خاصة بعد المجزرة الإمبريالية، للإصغاء للتعاليم حول ضرورة أن تلحق بالبروليتاريا، فهي وحدها القادرة على تخليصها من العبودية الرأسمالية. ويجدر التعاطي بصبر وحذر مع الجماهير من أجل فهم الخصوصيات البسيكولوجية لكل مهنة ولكل مجموعة داخل تلك الجماهير.

10- ثمة تجمع أو تكتل داخل الشيوعيين يجب أن يولى اهتماماً خاصاً ورقابة من قبل الحزب: وهو التكتل البرلماني، أو مجموعة أعضاء الحزب المنتخبين إلى البرلمان (أو البلديات، الخ…). فهذه المنابر هي، من جهة، ذات أهمية رئيسية بنظر الشرائح العميقة من الطبقة الكادحة المتخلفة أو المشبعة بالأوهام البرجوازية الصغيرة، وهذا هو السبب الذي يفرض على الشيوعيين أن يقوموا بعمل دعاوي، وتحريضي وتنظيمي من أعلى تلك المنابر، وأن يشرحوا للجماهير لماذا كان ضروريا في روسيا (كما سيتم ذلك عند الاقتضاء في كل البلدان) حل البرلمان البرجوازي بواسطة مؤتمر السوفيتات لعامة روسيا. ومن جهة ثانية فإن مجمل تاريخ الديموقراطية البرجوازية قد جعل من المنبر البرلماني، تحديدا في البلدان المتقدمة، حلبة أو إحدى الحلبات الرئيسية للغش المالي والسياسي والوصولية والخداع واضطهاد الشغيلة؛ لذلك فإن الحقد المتأصل الذي ينميه أفضل ممثلي البروليتاريا تجاه البرلمان إنما هو مبرر تماما. ولذلك على الأحزاب الشيوعية وكل الأحزاب المنتسبة إلى الأممية الثالثة (وبالأخص في حالة الأحزاب التي لم تنشأ عن انشقاق في الأحزاب القديمة)، أن تتخذ موقفا شديد الحزم تجاه تكتلاتها البرلمانية، أي أن تفرض التالي: خضوعها الكامل للجنة المركزية للحزب؛ وإعطاء الأفضلية لإدخال العمال الثوريين في تشكيلها، والتحليل الأكثر دقة في صحافة الحزب واجتماعاته لخطابات البرلمانيين من زاوية موقفهم الشيوعي؛ وتسمية برلمانيين للقيام بعمل دعاوي بين الجماهير والطرد الفوري لكل أولئك الذين قد يظهرون ميلا نحو الأممية الثانية، الخ…

* * * * *

11- إن إحدى العقبات الأكثر خطورة أمام الحركة العمالية الثورية في البلدان الرأسمالية المتطورة ناجمة عن واقع أنه، بفعل الممتلكات الاستعمارية وفائض قيمة الرأسمال المالي، الخ… قد نجح رأس المال في خلق أرستقراطية عمالية صغيرة مستقرة وذات نفوذ كبير نسبيا، وهي تتمتع بأفضل الشروط على صعيد الأجر، وفوق كل ذلك فهي مشربة بالروح الضيقة لأهل الحرف، وبالروح البرجوازية الصغيرة والأوهام الرأسمالية. إنها تشكل «نقطة الارتكاز» الاجتماعية الفعلية للأممية الثانية والإصلاحيين و«الوسطيين» وهي قريبة، في الوقت الحالي، من أن تصبح نقطة الارتكاز الأساسية للبرجوازية. إن أي تحضير، ولو مسبق، للبروليتاريا بهدف إطاحة البرجوازية لن يكون ممكنا دون الصراع المباشر المنظم والواسع والمعلن مع هذه الأقلية الصغيرة التي ستقدم دون شك (كما أثبتت التجربة تماما) عددا من أفرادها إلى الحرس الأبيض للبرجوازية بعد انتصار البروليتاريا. وعلى جميع الأحزاب المنتسبة إلى الأممية الثالثة، أن تجسد، مهما كان الثمن، هذا الشعار «فلننخرط أعمق فأعمق في الجماهير»؛ والمقصود بتعبير الجماهير مجموع الشغيلة والمستغلين على يد الرأسمال، وخاصة أقلهم تنظيما ووعيا وأكثرهم اضطهادا وأقلهم استعدادا للتنظيم.

لا تصبح البروليتاريا ثورية إلاّ بالقدر الذي لا تنغلق فيه في أطر النزعة الضيقة لأهل الحرف، وبالقدر الذي تتصرف فيه في مظاهر وميادين الحياة الاجتماعية كافة كقائد لكل الجماهير الكادحة والمستغلة. إن تحقيق دكتاتوريتها سيكون مستحيلا دون إعداد، وعزم على تحمل أكبر الخسائر باسم الانتصار على البرجوازية. ومن هذه الزاوية، تتخذ التجربة الروسية أهمية عملية مبدئية، فالبروليتاريا الروسية لم تستطع أن تحقق دكتاتوريتها ولم تستطع أن تكسب التعاطف والثقة الشاملين من جانب الجماهير العمالية بأكملها لو لم تبرهن عن روح تضحية ولو لم تعانِ الجوع أكثر من كل فئات هذه الجماهير في أصعب ساعات الهجوم والحروب وحصار البرجوازية العالمية.

إن الدعم الأكمل والأكثر إخلاصا من قبل الحزب الشيوعي والبروليتاريا الطليعية هو ضروري بشكل خاص تجاه كل حركة إضراب واسعة، عنيفة وكبيرة، وهو وحده القادر في ظل اضطهاد الرأسمال، على إيقاظ الجماهير فعلا وتحريكها وتنظيمها وإعطائها الثقة الكاملة والتامة بالدور القيادي للبروليتاريا الثورية. ودون هكذا تحضير تستحيل أي دكتاتورية للبروليتاريا، ولا ينبغي التسامح، داخل الأحزاب المرتبطة بالأممية الثالثة مع الأشخاص الذين بوسعهم أن يقفوا قولا وفعلا ضد الإضرابات، مثل كاوتسكي في ألمانيا وتوراتي في إيطاليا. وهذا بالطبع يتعلق أكثر بالزعماء البرلمانيين والنقابيين الذين يخونون العمال في كل لحظة بتعليم هؤلاء الإصلاحية، عن طريق الإضراب، وليس الثورة (أمثلة: جوهو في فرنسا، غومبيرز في أمريكا، ج. هـ. توماس في إنكلترا).

* * * * *

12- لقد حانت اللحظة التي أصبح من الضرورة المطلقة فيها، بالنسبة لكل حزب شيوعي، أن يوحد العمل الشرعي وغير الشرعي، المنظمة الشرعية والمنظمة السرية، وذلك في جميع البلدان، حتى الأكثر «حرية» من بينها والأكثر «شرعية» والأكثر «سلمية» بمعنى الاحتدام الأضعف للصراع الطبقي. لأن الحكومات، في البلدان الأكثر تحضرا والأكثر حرية، ذات النظام البرجوازي – الديموقراطي الأكثر «استقرارا»، على الرغم من تصريحاتها الكاذبة والوقحة، قد بدأت بالفعل بوضع اللوائح السرية السوداء بأسماء الشيوعيين، وهي تخرق في كل لحظة دستورها الخاص بدعمها إلى هذا الحد أو ذاك بشكل سري الحرس الأبيض واغتيال الشيوعيين في كل البلدان، وتعد في الظل للاعتقالات بحق الشيوعيين، وتُدخل عناصر استفزازية بينهم، الخ..

وليس إلاّ الروح البرجوازية الصغيرة، مهما كان جمال العبارات «الديموقراطية» والسلمية التي تتباهى بها، يمكنها أن تنفي هذا الواقع والنتيجة الإلزامية الناجمة عنه: التشكيل الفوري من قبل كل الأحزاب الشيوعية الشرعية لمنظمات سرية من أجل العمل غير الشرعي، منظمات تكون معدة لليوم الذي تبدأ فيه البرجوازية بملاحقة الشيوعيين. إن العمل غير الشرعي في الجيش، وفي الأسطول وفي الشرطة هو في غاية الأهمية. لقد ارتعبت كل حكومات العالم بعد الحرب الإمبريالية الكبرى من الجيش الشعبي ولجأت إلى جميع الأساليب التي يمكن تصورها لأجل تشكيل وحدات عسكرية خاصة من عناصر تم اختيارها بشكل خاص من صفوف البرجوازية ومسلحة بأكثر الأسلحة الفتاكة اتقانا.

من جهة أخرى، من الضروري أيضا في جميع الحالات، دون استثناء، عدم الاقتصار على العمل غير الشرعي، ولكن متابعة العمل الشرعي أيضا، بتخطي جميع الصعوبات في هذا السبيل وبتأسيس الصحف الشرعية والمنظمات الشرعية تحت مختلف التسميات، والإكثار من تغيير تسميتها عند اللزوم. وهذا ما تقوم به الأحزاب الشيوعية اللاشرعية في فنلندا والمجر وألمانيا وإلى حد ما في بولندا وليتوانيا الخ… وهذا ما يجب أن يقوم به «شغيلة العالم الصناعيون» (IWW) في أمريكا وما يجب أن تفعله كل الأحزاب الشيوعية الأخرى الشرعية إذا ما طاب للمدعين العامين أن يقوموا بملاحقتها لمجرد قبولها بقرارات مؤتمرات الأممية الشيوعية، الخ…

إن الضرورة المطلقة لتوحيد العمل الشرعي واللاشرعي لا تتحدد من حيث المبدأ بمجمل شروط الحقبة التي نمر بها، مرحلة عشية دكتاتورية البروليتاريا، بل بالحاجة إلى أن نظهر للبرجوازية أنه لا توجد ولا يمكن أن توجد مجالات وحقول للعمل لم يسيطر عليها الشيوعيون، ولأنه ما زالت توجد أيضا في كل مكان شرائح بروليتارية كبيرة وبنسب أكبر أيضا جماهير كادحة ومستغلة غير بروليتارية تثق بالشرعية البرجوازية الديموقراطية، ومن المهم جدا بالنسبة لنا أن نصرفها عنها.

* * * * *

13- إن وضع الصحافة العمالية في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدما تظهر بشكل صارخ كذبة الحرية والمساواة في الديموقراطية البرجوازية، وكذلك تظهر ضرورة توحيد العمل الشرعي وغير الشرعي بشكل منهجي. وسواء في ألمانيا المهزومة أو أمريكا المنتصرة فإن كل قوى الجهاز الحكومي للبرجوازية وكل دهاء ملوك الذهب تتحرك الآن من أجل تجريد العمال من صحافتهم: ملاحقات قضائية واعتقالات (أو اغتيالات يرتكبها قتلة مأجورون) للمحررين، ومصادرة الطرود البريدية ومصادرة الورق، الخ. وكل ما هو ضروري بالنسبة لجريدة يومية من مواد إعلامية موجود بأيدي وكالات تلغرافية برجوازية، والإعلانات التي بدونها لا تستطيع صحيفة كبيرة أن تغطي نفقاتها هي تحت التصرف «الحر» للرأسماليين. وخلاصة ذلك أن البرجوازية بالكذب وضغط الرأسمال والدولة البرجوازية تسلب البروليتاريا الثورية صحافَتَها.

من أجل النضال ضد هذا الواقع، على الأحزاب الشيوعية أن تخلق نمطا جديدا من الصحافة الدورية مخصصة للتوزيع بالجملة بين الشغيلة تتضمن:

أ- نشرات شرعية تتعلم، دون أن تعلن شيوعيتها ودون أن تتحدث عن ارتباطها بالحزب، أن تستفيد من أدنى الإمكانات الشرعية، كما فعل البلاشفة في ظل القيصرية بعد عام 1905.

ب- بيانات غير شرعية ولو ذات حجم صغير تظهر بشكل غير منتظم، ولكن يطبعها العمال في عدد كبير من المطابع (السرية، أو إذا كانت الحركة قد تعززت، عبر وضع اليد على المطابع) وتقدم للبروليتاريا إعلاما حرا ثوريا وشعارات ثورية.

دون معركة ثورية تكسب الجماهير من أجل حرية الصحافة الشيوعية، سيكون الإعداد لديكتاتورية البروليتاريا مستحيلا.

ج- تغيير سلوك الأحزاب المنتمية إلى الأممية الشيوعية أو الأحزاب الراغبة بذلك وبشكل جزئي تغيير تركيبها الاجتماعي

14- إن درجة إعداد البروليتاريا في البلدان الأكثر أهمية، من زاوية الاقتصاد والسياسة العالميين، لتحقيق الديكتاتورية العمالية، تتميز بأكبر قدر من الموضوعية والدقة، بواقع أن الأحزاب الأكثر تأثيرا في الأممية الثانية، كالحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني المستقل والحزب العمالي الإنكليزي المستقل والحزب الاشتراكي الأمريكي، قد خرجت من هذه الأممية الصفراء وقررت الانضمام المشروط إلى الأممية الثالثة. لقد ثبت بذلك أن الطليعة ليست وحيدة وأن أغلبية البروليتاريا الثورية بدأت بالانتقال إلى جانبنا وقد أقنعها بذلك كل مسار الأحداث. إن الجوهري الآن هو معرفة استكمال هذا الانتقال وتوطيد ما تم تحقيقه عبر التنظيم لكي يصبح ممكنا التقدم إلى الأمام على طول الخط دون أدنى تردد.

* * * * *

15- إن كل نشاط الأحزاب المذكورة أعلاه (التي يجب أن يضاف إليها الحزب الاشتراكي السويسري إذا كانت البرقية التي تعلمنا بقراره الانضمام إلى الأممية الثالثة صحيحة) يثبت (وأي نشرة صادرة عن هذه الأحزاب تؤكد ذلك بشكل أكيد) أنه لم يصبح نشاطا شيوعيا بعد، ويتجه في الغالب خلافا للمبادئ الأساسية للأممية الثالثة باعترافه بالديموقراطية البرجوازية بدل دكتاتورية البروليتاريا والسلطة السوفياتية.

لهذه الأسباب يعلن المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية أنه لا يعتبر الاعتراف الفوري بتلك الأحزاب ممكناً.

ويؤكد المؤتمر جواب اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية على المستقلين الألمان، وموافقته على الدخول في محادثات مع كل حزب يخرج من الأممية الثانية ويعبر عن رغبته في التقرب من الأممية الثالثة؛ ويمنح صوتا استشاريا لمندوبي هذه الأحزاب إلى جميع مؤتمراته واجتماعاته الموسعة؛ ويضع الشروط التالية من أجل الاتحاد الكامل بين هذه الأحزاب (والأحزاب المماثلة) والأممية الشيوعية:

أ- نشر جميع قرارات مؤتمرات الأممية الشيوعية واللجنة التنفيذية في جميع نشرات الحزب الدورية.

ب- بحث هذه القرارات في اجتماعات خاصة لكل المنظمات المحلية للحزب.

ج- الدعوة بعد هذا البحث لمؤتمر خاص للحزب من أجل إقصاء العناصر التي تستمر في العمل بروحية الأممية الثانية. ويجب أن يدعى إلى هذا المؤتمر بأقصى سرعة ممكنة خلال مهلة لا تتعدى الأربعة أشهر بعد المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية.

د- طرد جميع العناصر التي تستمر في العمل بروحية الأممية الثانية من الحزب.

هـ- انتقال كل النشرات الدورية للحزب إلى أيدي محررين شيوعيين فقط.

و- إن الأحزاب التي تريد الانتساب الآن إلى الأممية الثالثة والتي لم تعدِّل جذريا بعد من تكتيكها السابق، عليها أن تعمل مسبقا على أن يكون ثلثا أعضاء لجنتها المركزية ومؤسساتها المركزية الأكثر أهمية من الرفاق الذين أعلنوا تأييدهم العلني لانضمام الحزب إلى الأممية الثالثة، ويمكن أن تحصل بعض الاستثناءات بموافقة اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية. وتحتفظ اللجنة التنفيذية أيضا بحقها في الاستثناء بما يتعلق بممثلي الاتجاه الوسطي المشار إليه في الفقرة السابعة.

ز- إن أعضاء الحزب الذين يرفضون الشروط والموضوعات التي وضعتها الأممية الشيوعية يجب أن يطردوا من الحزب، وينطبق الشيء نفسه على المندوبين للمؤتمر الاستثنائي.

* * * * *

16- فيما يتعلق بموقف الشيوعيين الذين يشكلون الأقلية الحالية بين المناضلين المسؤولين في الأحزاب المذكورة سابقا أو المماثلة لها، يقرر المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية أنه بسبب الوتيرة السريعة للتطور الحالي للروح الثورية للجماهير فإن خروج الشيوعيين من هذه الأحزاب ليس مرغوب فيه، طالما كان بإمكانهم أن يقوموا داخلها بعمل باتجاه الاعتراف بدكتاتورية البروليتاريا والسلطة السوفياتية ونقد الانتهازيين والوسطيين الذين ما زالوا فيها.

مع ذلك، وما أن يكتسب الجناح اليساري لأي حزب وسطي قوة كافية، بإمكانه، إذا اعتبر ذلك مفيدا لتطور الشيوعية، أن يترك الحزب ككتلة ويشكل حزبا شيوعيا.

وفي الوقت نفسه، يؤيد المؤتمر الثاني للأممية الثالثة أيضا انضمام مجموعات وتنظيمات شيوعية أو متعاطفة مع الشيوعية إلى جانب حزب العمال الانكليزي على الرغم من أن هذا الأخير لم يخرج بعد من الأممية الثانية، طالما أن هذا الحزب يترك لمنظماته حريتها الحالية في النقد، والعمل والدعاوة والتحريض والتنظيم من أجل ديكتاتورية البروليتاريا والسلطة السوفياتية، وطالما حافظ على طابعه كاتحاد لكل المنظمات النقابية للطبقة العاملة. وعلى الشيوعيين أن يقوموا بكل المحاولات وصولا إلى بعض التسويات بهدف امتلاك إمكانية تأثير على أوسع جماهير الشغيلة وفضح زعمائها الانتهازيين من أعلى المنابر التي في متناول الجماهير، والإسراع بنقل السلطة السياسية من أيدي الممثلين المباشرين للبرجوازية لأيدي ممثلين عمال للطبقة العاملة، من أجل تخليص الجماهير من آخر الأوهام حول هذا الموضوع بأسرع وقت ممكن.

* * * * *

17- فيما يتعلق بالحزب الاشتراكي الإيطالي. إن المؤتمر الثاني للأممية الثالثة، إذ يعترف بأن المراجعة البرنامجية التي أقرها الحزب في مؤتمره في بولونيا العام الماضي تشكل مرحلة شديدة الأهمية في تحوله نحو الشيوعية، وأن الاقتراحات التي تقدم بها فرع تورين إلى المجلس العام للحزب، المنشورة في صحيفة الـ «أورديني نووفو» L’Ordine Nuovo في 8 أيار / مايو 1920، تنسجم مع جميع المبادئ الأساسية للأممية الثالثة، ويتمنى على الحزب الاشتراكي الإيطالي أن يبحث في مؤتمره القادم، الذي ستتم الدعوة إليه بموجب الأنظمة الداخلية للحزب والإجراءات العامة بشأن القبول في الأممية الثالثة، الاقتراحات المذكورة آنفا وكل قرارات المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية خاصة في موضوع التكتل البرلماني، والنقابات والعناصر غير الشيوعية في الحزب.

* * * * *

18- يعتبر المؤتمر الثاني للأممية الثالثة أن المفاهيم حول علاقات الحزب بالطبقة العاملة والجماهير حول المشاركة الاختيارية للأحزاب الشيوعية بالعمل البرلماني والعمل داخل النقابات الرجعية غير ملائمة. وكانت هذه المفاهيم قد دحضت بشكل واسع في القرارات الخاصة للمؤتمر الحالي، بعد أن كان قد جرى الدفاع عنها من قبل «حزب العمال الشيوعي الألماني» بشكل خاص، وبعض الشيء من قبل «الحزب الشيوعي السويسري» وصحيفة مكتب الأممية الشيوعية لأوروبا الشرقية في فيينا (كومونيسموس)، وبعض الرفاق الهولنديين وبعض التنظيمات الشيوعية في إنكلترا – من بينها «الاتحاد العمالي الاشتراكي»، الخ. وكذلك منظمة «شغيلة العالم الاشتراكيين» الأمريكية و«لجان الممثلين النقابيين للمؤسسات» الإنكليزية الخ… الخ…

بيد أن المؤتمر الثاني للأممية الثالثة يعتقد أنه من الممكن والمرغوب فيه أن تنضم إلى الأممية الثالثة كل من تلك التنظيمات التي لم تنتسب إليها رسميا بعد، لأننا في الحالة الراهنة، وخاصة إزاء «لجان الممثلين النقابيين للمؤسسات» الإنكليزية، نجد أنفسنا أمام حركة بروليتارية عميقة، تقف في الواقع على أرضية المبادئ الأساسية للأممية الشيوعية. إن المفاهيم الخاطئة حول المشاركة في العمل داخل البرلمانات البرجوازية في تنظيمات كهذه، لا تعود بشكل أساسي إلى دور العناصر ذات الأصل البرجوازي التي تُحمّل مفاهيمها، بالحقيقة، روحية برجوازية صغيرة، كما هي في الغالب مفاهيم الفوضويين، بل إلى فقدان التجربة السياسية للبروليتاريين الثوريين حقا والمرتبطين بالجماهير.

لهذه الأسباب، يتمنى المؤتمر الثاني للأممية الثالثة على كل التنظيمات والتجمعات الشيوعية في البلدان الأنجلو – ساكسونية أن تواصل، حتى في حال عدم انضمام «شغيلة العالم الصناعيين» (IWW) و«لجان الممثلين النقابيين للمؤسسات» مباشرة إلى الأممية الثالثة، سياسة علاقات أكثر ودية مع هذين التنظيمين، وتقارب معهما ومع الجماهير المتعاطفة معهما، عبر افهامهما بشكل ودي، من زاوية تجربة جميع الثورات الروسية في القرن العشرين، الطابع الخاطئ لمفاهيمهما، وتكرار محاولات الاندماج معهما في حزب شيوعي وحيد.

* * * * *

19- يلفت المؤتمر انتباه كل الرفاق، وخاصة في البلدان اللاتينية الأنجلو – ساكسونية إلى هذا الواقع: لقد حصل منذ الحرب انقسام عميق في الأفكار بين الفوضويين في العالم أجمع حول موضوع الموقف الواجب اتخاذه إزاء ديكتاتورية البروليتاريا والسلطة السوفياتية. في هذه الظروف، نلاحظ في صفوف العناصر البروليتارية التي كانت مدفوعة في الغالب إلى الفوضوية بسبب حقدها، المبرر تماما، على انتهازية الأممية الثانية وإصلاحيتها، تفهما صحيحا بشكل مميز لهذه المبادئ، يتسع بشكل متزايد، كلما أصبحت تجربة روسيا وفنلندا وهنغاريا وليتوانيا وبولندا وألمانيا، معروفة بشكل أفضل.

لهذه الأسباب يعتبر المؤتمر أن من واجب جميع الرفاق أن يدعموا بكل الوسائل انتقال جميع العناصر البروليتارية ضمن الجماهير من الفوضوية إلى الأممية الثالثة.

ويعتبر المؤتمر أن نجاح نشاط الأحزاب الشيوعية حقا يجب أن يُقوَّم في بعض جوانبه، بالقدر الذي تنجح فيه باجتذاب العناصر البروليتارية حقا ضمن الفوضوية.

قرار حول دور الحزب الشيوعي

في الثورة البروليتارية

تقف البروليتاريا العالمية على عتبة نضال حاسم، فالحقبة التي نعيشها هي حقبة عمل مباشر ضد البرجوازية. إن الساعة الحاسمة تقترب، وقريبا سيكون على الطبقة العاملة في كل البلدان حيث توجد حركة عمالية واعية أن تخوض سلسلة معارك ضارية مسلحة. الآن أكثر من أي وقت مضى تحتاج الطبقة العاملة إلى تنظيم صلب، وعليها أن تعد نفسها من الآن وصاعدا، دون كلل، لهذا النضال، دون إضاعة ساعة واحدة من الوقت الثمين.

لو كانت الطبقة العاملة تملك، خلال كومونة باريس (1871) حزبا شيوعيا متين التنظيم، ولئن قليل العدد، لكانت الانتفاضة الأولى للبروليتاريا الفرنسية البطلة أكثر قوة، ولكانت تفادت الكثير من الأغلاط والكثير من الأخطاء. إن المعارك التي سيكون على البروليتاريا أن تخوضها الآن في ظروف تاريخية مختلفة تماما، ستكون ذات نتائج أخطر بكثير منها 1871.

إن المؤتمر الثاني العالمي للأممية الشيوعية يظهر للعمال الثوريين في العالم أجمع أهمية ما يلي:

1- إن الحزب الشيوعي هو جزء من الطبقة العاملة، وهو يشكل بالطبع الجزء الأكثر تقدما ووعيا وإخلاصا ووضوح رؤية. ليس للحزب الشيوعي مصالح مختلفة عن مصالح الطبقة العاملة، ولا يختلف عن أوسع جماهير الشغيلة إلاّ في تبصره للرسالة التاريخية لمجموع الطبقة العاملة، وهو يجهد، عند كل منعطفات الدرب، للدفاع ليس عن مصالح بعض المجموعات أو بعض المهن، بل عن مصالح الطبقة العاملة بمجملها. إن الحزب الشيوعي يشكل القوة التنظيمية والسياسية، التي يقود بواسطتها الجزءُ الأكثر تقدما من الطبقة العاملة جماهير البروليتاريا وأنصاف البروليتاريا، في الطريق الصحيح.

2- طالما أن البروليتاريا لم تستول بعد على السلطة الحكومية، وطالما أنها لم ترسخ سيطرتها نهائيا بعد، ولم تحتط لكل محاولة لإعادة إحياء البرجوازية، فإن الحزب الشيوعي لن يضم في صفوفه المنظمة إلاّ أقلية عمالية. ويستطيع الحزب الشيوعي، بفعل ظروف ملائمة، إلى أن يستلم السلطة وخلال المرحلة الانتقالية، أن يمارس تأثيرا أيديولوجيا وسياسيا أكيدا على كل شرائح البروليتاريا وأنصاف البروليتاريا من السكان، ولكنه لا يستطيع أن يجمعهم منظمين في صفوفه. ولا يبدأ جميع العمال أو على الأقل معظمهم بالدخول في صفوف الحزب الشيوعي، إلاّ عندما تحرم دكتاتورية البروليتاريا البرجوازية من وسائل النشاط الأكثر فعالية مثل الصحافة والبرلمان والكنيسة والإدارة الخ… عندما تصبح هزيمة النظام البرجوازي أمرا بديهيا أمام أنظار الجميع.

3- يجب التمييز بين مفهومي الحزب والطبقة بأكبر دقة ممكنة. إن أعضاء النقابات «المسيحية» والليبرالية في ألمانيا وإنجلترا وفي بلدان أخرى ينتمون دون شك إلى الطبقة العاملة، كذلك التجمعات العمالية الضخمة إلى هذا الحد أو ذاك التي ما زالت تتبع شيدمان وغومبيرز وشركائهما. وفي شروط تاريخية مماثلة من المحتمل جدا أن تظهر تيارات رجعية عديدة داخل الطبقة العاملة. وليست مهمة الشيوعيين التكيف مع هذه العناصر المتخلفة من الطبقة العاملة، بل أن يرفعوا مجمل الطبقة العاملة إلى مستوى الطليعة الشيوعية. ويمكن أن يؤدي الالتباس بين هذين المفهومين للحزب والطبقة إلى أخطاء والتباسات شديدة الخطورة. فمن البديهي، مثلا، أنه كان على الأحزاب العمالية، على الرغم من أوهام وعقلية قسم من الطبقة العاملة خلال الحرب، أن تحارب، بأي ثمن كان، هذه الأوهام وهذه العقلية، باسم المصالح التاريخية للبروليتاريا التي تلزم حزبها بإعلان الحرب على الحرب.

وهكذا مثلا لم تتوان الأحزاب الإشتراكية في كل البلدان، في بداية الحرب الإمبريالية عام 1914 بدعمها لبرجوازياتها الخاصة، عن تبرير سلوكها بالتذرع بإرادة الطبقة العاملة. إنها تنسى بذلك، حتى لو كان الأمر على هذه الشاكلة، بأن مهمة الحزب البروليتاري هي في أن يحارب العقلية العمالية العامة وأن يدافع عن جميع المصالح التاريخية للبروليتاريا. وهكذا كان المناشفة في بداية القرن العشرين (وكانوا يسمون أنفسهم بـ «الاقتصاديين» آنذاك) يرفضون النضال العلني ضد القيصرية لأن الطبقة العاملة بمجملها، كما كانوا يقولون، لم تكن مستعدة بعد لفهم ضرورة النضال السياسي.

وهكذا كان المستقلون اليمينيون في ألمانيا يبررون دائما أنصاف إجراءاتهم قائلين إنه يجب فهم رغبات الجماهير قبل كل شيء، ولم يفهموا هم أنفسهم بأنه مقضي على الحزب أن يسير في مقدمة الجماهير وأن يدلها على الطريق.

4- إن الأممية الشيوعية مقتنعة تمام الاقتناع أن هزيمة أحزاب الأممية الثانية «الاشتراكية – الديموقراطية» القديمة، لا يمكن أن تعتبر بأي حال من الأحوال كهزيمة للأحزاب البروليتارية بشكل عام. إن عصر النضال المباشر من أجل دكتاتورية البروليتاريا يخلق حزبا بروليتاريا عالميا جديدا – الحزب الشيوعي.

5- ترفض الأممية الشيوعية رفضا قاطعا الرأي القائل بأن على البروليتاريا أن تنجز ثورتها دون أن تمتلك حزبا سياسيا. فكل نضال طبقي هو نضال سياسي. وهد ف هذا النضال الذي يتجه بشكل حتمي للتحول إلى حرب أهلية، هو استلام السلطة السياسية. لهذا لا يمكن الاستيلاء على السلطة السياسية، وتنظيمها وقيادتها إلا بواسطة هذا الحزب السياسي أو ذاك. وليس إلاّ عندما يقود البروليتاريا حزب منظم ومجرَّب، يتبع أهدافا محددة بوضوح، ويمتلك برنامج عمل قابلا للتنفيذ في السياسة الداخلية كما في السياسة الخارجية، ليس إلاّ في هذه الحالة، يمكن اعتبار استلام السلطة السياسية نقطة انطلاق لعمل مستمر لبناء شيوعي للمجتمع تقوم به البروليتاريا، لا مجرد حادثة عرضية.

إن النضال الطبقي عينه يتطلب أيضا المركزية والقيادة الواحدة للأشكال المختلفة للحركة البروليتارية (النقابات، التعاونيات، لجان المصانع، التعليم والانتخابات الخ…). والمركز المنظم والقيادي لا يمكن أن يكون إلاّ حزبا سياسيا، فإن رفض العمل على إنشائه وتوطيده والخضوع له إنما يعادل رفض القيادة الواحدة لقوى البروليتاريا العاملة على جبهات مختلفة. ويتطلب النضال الطبقي تحريضا مركزا، ينير مراحل النضال المختلفة من وجهة نظر واحدة ويجتذب في كل لحظة كل انتباه البروليتاريا إلى المهام التي تعنيها بمجملها. ولا يمكن تحقيق ذلك دون جهاز سياسي مركزي أي دون حزب سياسي.

إن دعاوة بعض النقابويين الثوريين والمنتسبين إلى الحركة الصناعية في العالم أجمع (I.W.W) ضد ضرورة حزب سياسي قائم بذاته، لم تساعد ولا تساعد – إذا أردنا الكلام بموضوعية – إلاّ البرجوازية و«الاشتراكيين الديموقراطيين» المعادين للثورة. فبدعاوتهم ضد الحزب الشيوعي الذي يريدون استبداله بنقابات أو اتحادات عمالية ذات أشكال غير واضحة المعالم وشديدة الاتساع، إنما يتقاطعون في عدد من النقاط مع انتهازيين حقيقيين.

لقد ظل المناشفة الروس خلال عدة سنوات بعد هزيمة ثورة 1905 ينشرون فكرة مؤتمر عمالي (هكذا كانوا يسمونه) من المفترض أن يحل محل حزب الطبقة العاملة الثوري؛ ويريد «العماليون الصفر» على اختلافهم في إنكلترا وأمريكا استبدال الحزب السياسي باتحادات عمالية مائعة، ويختلقون في الوقت نفسه تكتيكا سياسيا برجوازيا على الإطلاق. أمّا النقابيون الثوريون و«الصناعيون» فيريدون محاربة دكتاتورية البرجوازية، لكنهم لا يعرفون كيف يقومون بذلك، ولا يلاحظون أن طبقة عاملة دون حزب سياسي هي جسد بلا رأس. إن النقابوية الثورية و«الصناعوية» لا تشكلان خطوة إلى الأمام إلاّ بالنسبة لإيديولوجية الأممية الثانية الخاملة والمعادية للثورة. ولكنهما تشكلان خطوة إلى الوراء بالنسبة للماركسية الثورية، أي للشيوعية. إن إعلان شيوعيي «اليسار الألماني K.A.P.D» (البرنامج الذي صاغه مؤتمرهم التأسيسي في نيسلن / أبريل الماضي) بأنهم يشكلون حزبا، إنما «ليس بالمعنى الشائع لكلمة حزب» (Keine Partei überlieferten sinne)، هو تراجع أمام الرأي النقابوي و«الصناعوي» يشكِّل واقعةً رجعية.

لكن الطبقة العاملة لن تتمكن من إحراز النصر على البرجوازية عن طريق الإضراب العام، وتكتيك الأيدي المكتوفة، بل يجب أن تحقق ذلك عن طريق الانتفاضة المسلحة. ومن فهم ذلك عليه أن يفهم أيضا أن حزبا سياسيا منظما هو أمر ضروري، وأن الاتحادات العمالية المائعة لا تستطيع أن تحل محله.

يتحدث النقابيون الثوريون في الغالب عن الدور الكبير الذي يجب أن تلعبه أقلية ثورية موطدة العزم. والحال أن هذه الأقلية العازمة من الطبقة العاملة التي يطلبونها، هذه الأقلية الشيوعية، والتي تمتلك برنامجا وتريد أن تنظم النضال الجماهيري، إنما هي في الواقع الحزب الشيوعي بالذات.

6- إن البقاء على اتصال دائم بالتنظيمات البروليتارية الأشد اتساعا هو المهمة الأكثر أهمية لحزب شيوعي حقا، ومن أجل تحقيق ذلك يستطيع الشيوعيون ويجب عليهم أن يشاركوا في مجموعات تضم جماهير بروليتارية واسعة دون أن تكون مجموعات حزبية. هذه هي مثلاً حالة التنظيمات المعروفة باسم تنظيمات المصابين بالعجز في بلدان مختلفة، وجماعات «ارفعوا أيديكم عن روسيا»، والاتحادات البروليتارية للمستأجرين، الخ… ولدينا هنا المثال الروسي لمجالس العمال والفلاحين التي تعلن أنها «غريبة» عن الأحزاب (bezpartinii). وسيجري قريبا تنظيم جمعيات مماثلة في كل مدينة وكل حي عمالي وفي الأرياف أيضاً. وتشارك في هذه الجمعيات أوسع الجماهير التي تضم شغيلة متخلفين أيضا، وهي تضع على جدول أعمالها المسائل الأكثر أهمية: التموين، السكن، مسائل عسكرية، التعليم، المهمة السياسية في اللحظة الراهنة، الخ… وعلى الشيوعيين أن يمتلكوا تأثيرا داخل هذه الجمعيات، وسيكون لذلك أكثر النتائج أهمية بالنسبة للحزب.

يعتبر الشيوعيون أن مهمتهم الرئيسية داخل هذه التنظيمات هي العمل التثقيفي والتنظيمي المنهجي. ومن أجل أن يكون هذا العمل مثيرا وكي لا يتمكن أعداء البروليتاريا الثورية من السيطرة على هذه التنظيمات، يجب أن يكون للشغيلة المتقدمين وللشيوعيين حزبهم ذو النشاط المنظم الذي يعرف الدفاع عن الشيوعية في كل الظروف وأمام جميع الاحتمالات.

7- لا ينفصل الشيوعيون أبدا عن المنظمات العمالية المحايدة سياسياً، حتى لو ارتدت طابعا رجعيا واضحا (اتحادات صفراء، اتحادات مسيحية، الخ…)، فالحزب الشيوعي يواصل داخل تلك المنظمات عمله الخاص بثبات، مظهرا للعمال دون كلل أن الحياد السياسي إنما تزرعه البرجوازية وعملاؤها بينهم عن تبصر، من أجل الانحراف بالبروليتاريا عن النضال من أجل الاشتراكية.

8- إن التقسيم الكلاسيكي القديم للحركة العمالية إلى ثلاثة أشكال (أحزاب، نقابات، تعاونيات) قد مضى عليه الزمن. لقد أوجدت الثورة البروليتارية في روسيا الشكل الأساسي لديكتاتورية البروليتاريا، السوفيتات. فالتقسيم الجديد الذي ننميه في كل مكان هو التالي: 1- الحزب، 2- السوفيات، 3- النقابة.

غير أن العمل في السوفيتات كما في النقابات الصناعية التي أصبحت ثورية يجب أن تتم قيادته بثبات ومنهجية من قبل الحزب البروليتاري، أي الحزب الشيوعي.

الحزب الشيوعي، كطليعة منظمة من الطبقة العاملة، يعكس أيضا الحاجات الاقتصادية، والسياسية والروحية للطبقة العاملة بمجملها، ويجب أن يكون روح النقابات والسوفيتات وكذلك روح كل الأشكال الأخرى للتنظيم البروليتاري.

إن ظهور السوفيتات، الشكل التاريخي الرئيسي لديكتاتورية البروليتاريا، لا يضعف إطلاقا الدور القيادي للحزب الشيوعي في الثورة البروليتارية. عندما يعلن الشيوعيون الألمان «اليساريون» (أنظر بيانهم إلى البروليتاريا الألمانية في 14 نيسان / أبريل 1920 الموقّع من «حزب العمال الشيوعي الألماني») أن «على الحزب الشيوعي، هو أيضا، أن يتكيَّف أكثر فأكثر مع الفكرة السوفياتية وأن يتبلتر (Kommunistische Arbeiterzeitung N. 54)، فنحن لا نجد هنا إلاّ تعبيرا من طرف خفي عن الفكرة القائلة بوجود ذوبان الحزب الشيوعي في السوفيتات، وبإمكانية هذه الأخيرة أن تحل محله. هذه الفكرة خاطئة ومغرقة في الرجعية.

لقد أظهر لنا تاريخ الثورة الروسية، في وقت ما، أن السوفيتات قد خالفت الحزب البروليتاري ودعمت عملاء البرجوازية، وقد لاحظنا الشيء نفسه في ألمانيا، وهو ممكن أيضا في البلدان الأخرى.

من أجل أن تتمكن السوفيتات من تأدية رسالتها التاريخية، فإن وجود حزب شيوعي من القوة بحيث لا «يتكيف» مع السوفيتات، بل يمارس عليها تأثيرا حاسما ويجبرها على «عدم التكيف» مع البرجوازية والاشتراكية – الديموقراطية الرسمية، ويقودها بواسطة هذا الجناح الشيوعي، إنما هو، على العكس، أمر ضروري.

9- إن الحزب الشيوعي ليس ضروريا بالنسبة للطبقة العاملة قبل الاستيلاء على السلطة وأثناء ذلك وحسب، بل أيضا بعد ذلك. ويظهر تاريخ الحزب الشيوعي الروسي، الذي يمسك بالسلطة منذ ثلاثة أعوام، أن دور الحزب الشيوعي، بعيدا عن أن يكون تضاءل منذ استلام السلطة، قد ازداد بشكل ملحوظ.

10- يوم تستولي البروليتاريا على السلطة لا يشكل الحزب الشيوعي، مع ذلك، إلاّ أحد أجنحة طبقة الشغيلة، ولكنه الجناح الذي نظم الانتصار. خلال عشرين عاما، كما رأينا في روسيا، ومنذ سنوات متلاحقة كما رأينا في ألمانيا، يناضل الحزب الشيوعي ليس فقط ضد البرجوازية، ولكن أيضا ضد كل أولئك الاشتراكيين، الذين لا يقومون في الواقع إلاّ بالتعبير عن تأثير الأفكار البرجوازية على البروليتاريا. لقد استوعب الحزب الشيوعي المناضلين الأكثر صلابة ووضوح رؤية وتقدما من الطبقة العاملة. إن وجود تنظيمات بروليتارية مماثلة يسمح بتخطي كل الصعاب التي يصطدم بها الحزب الشيوعي غداة الانتصار. إن تنظيم جيش أحمر بروليتاري جديد، والقضاء على الآلية الحكومية البرجوازية بشكل حقيقي وخلق الملامح الأولى للجهاز الحكومي البروليتاري، والنضال ضد الاتجاهات الحرفية لدى بعض التجمعات العمالية، والوطنية الاقليمية والعقلية الضيقة، والجهود الرامية لإيجاد انضباط جديد في العمل – كلها ميادين حيث على الحزب الشيوعي، الذي يجتذب أعضاؤه بمثالهم الحي الجماهير العمالية، أن يقول كلمة الفصل.

11- لا تنتفي ضرورة حزب سياسي للبروليتاريا إلاّ باختفاء الطبقات الاجتماعية. ففي مسيرة الشيوعية نحو النصر النهائي، من الممكن أن تتغير العلاقة المميزة القائمة بين الأشكال الأساسية الثلاثة للتنظيم البروليتاري المعاصر (أحزاب، سوفيتات، نقابات، مصانع) وأن يتبلور شيئا فشيئا نموذج وحيد توليفي  (synthétique) من التنظيم العمالي، غير أن الحزب الشيوعي لن يذوب كليا داخل الطبقة العاملة إلاّ عندما تتوقف الشيوعية عن أن تكون رهان الصراع الاجتماعي، وعندما تصبح الطبقة العاملة بمجملها شيوعية.

12- ليس على المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية أن يدعم الحزب في رسالته التاريخية وحسب بل أن يحدد للبروليتاريا العالمية، على الأقل، الخطوط العريضة للحزب الذي نحتاجه.

13- ترى الأممية الشيوعية أن على الحزب الشيوعي، خاصة في مرحلة دكتاتورية البروليتاريا، أن يكون قائما على مركزية بروليتارية راسخة. ومن أجل قيادة الطبقة العاملة، بشكل فعال، خلال الحرب الأهلية الطويلة والمتواصلة، التي أصبحت وشيكة، على الحزب الشيوعي أن يقيم داخله نظام طاعة حديديا، نظام طاعة عسكريا. لقد أظهرت تجربة الحزب الشيوعي الروسي خلال ثلاث سنوات قاد أثناءها الطبقة العاملة بنجاح، عبر تقلبات الحرب الأهلية، أن انتصار الشغيلة سيكون مستحيلا دون أكثر الانضباط قوة، ودون مركزية كاملة ودون ثقة المنتسبين المطلقة بالمركز القيادي للحزب.

14- يجب أن يقوم الحزب الشيوعي على المركزية الديموقراطية. فتشكيل اللجان الفرعية عن طريق الانتخاب، وخضوع جميع اللجان الإلزامي للجنة التي تعلوها، ووجود مركز يتمتع بالصلاحيات المطلقة، ويملك سلطة لا جدال فيها خلال الفترة الفاصلة بين مؤتمرين، هذه هي المبادئ الرئيسية للمركزية الديمقراطية.

15- لقد وُضعت سلسلة من الأحزاب الشيوعية في أوربا وأمريكا خارج الشرعية بفعل الأحكام العرفية. ومن المناسب أن نتذكر أن المبدأ الانتخابي يمكن أن يتعرض في هذه الظروف لبعض الخروقات، ومن الممكن أن يكون ضروريا منح الهيئات القيادية في الحزب حق تعيين أعضاء جدد، وهذا ما حدث سابقا في روسيا. فالحزب الشيوعي لا يستطيع بالطبع أن يلجأ إلى الاستفتاء الديموقراطي كلما انطرحت مسألة خطيرة (كما أرادت مجموعة من الشيوعيين الأمريكيين)؛ عليه، على العكس، أن يمنح مركزه القيادي إمكانية وحق التقرير السريع في اللحظة المناسبة، عن كل أعضاء الحزب.

16- إن مطلب «الاستقلالية» الواسعة للمجموعات المحلية للحزب لا يمكن في هذه المرحلة إلاّ أن يضعف صفوف الحزب الشيوعي، ويقلل من قدرته على النشاط، ويشجع نمو الاتجاهات الفوضوية والبرجوازية الصغيرة المناقضة للمركزية.

17- في البلدان حيث ما زالت السلطة بيد البرجوازية أو الاشتراكية – الديموقراطية المعادية للثورة، على الأحزاب الشيوعية أن تتعلم الجمع بين العمل الشرعي والعمل السري بشكل منظم، بحيث يشرف الثاني دائما بشكل فعلي على الأول. ويجب أن تكون المجموعات البرلمانية الشيوعية كما التكتلات الشيوعية العاملة في مختلف مؤسسات الدولة خاضعة كليا للحزب الشيوعي – أكان وضع الحزب، شرعيا أو غير شرعي. إن المنتدبين الذين لا يخضعون للحزب بشكل أو بآخر يجب أن يُطردوا منه. إن الصحافة الشرعية (الصحف، والمنشورات المختلفة) يجب أن تخضع لمجمل الحزب ولجنته المركزية خضوعا تاما.

18- إن حجر الزاوية في كل نشاط تنظيمي للحزب أو للشيوعيين يجب أن يوضع عبر تنظيم نواة شيوعية في كل مكان يوجد فيه بعض البروليتاريين وأشباه البروليتاريين. يجب على الفور تنظيم نواة شيوعية في كل سوفيات، وكل نقابة، في كل تعاونية وكل مشغل وكل لجنة مستأجرين، وكل مؤسسة يوجد فيها ثلاثة أشخاص يناصرون الشيوعية. إن التنظيم الشيوعي هو الوحيد الذي يسمح لطليعة الطبقة العاملة بأن تجتذب إليها كل الطبقة العاملة. ويجب أن تخضع كل الأنوية الشيوعية الناشطة بين التنظيمات السياسية المحايدة، بشكل مطلق للحزب، سواء كان شرعيا أو سريا. ويجب أن تُنظَّم الأنوية الشيوعية ضمن تبعية متبادلة صارمة، ينبغي تحديدها بأكبر قدر من الدقة.

19- يولد الحزب الشيوعي، على الدوام تقريبا في المراكز الكبيرة، بين شغيلة الصناعة المدينية. ومن أجل ضمان الانتصار الأكثر سهولة والأسرع للطبقة العاملة لا ينبغي أن يكون الحزب الشيوعي حزبا مدينيا وحسب، بل يجب أن يمتد أيضا إلى الأرياف، وأن يتفرغ، من أجل هذه الغاية، للدعاوة بين المياومين الزراعيين الفقراء والمتوسطين ولتنظيمهم، كما على الحزب الشيوعي أن يتابع تنظيم الأنوية الشيوعية في القرى بعناية خاصة.

لا يمكن التنظيم الأممي للبروليتاريا أن يكون قويا إلاّ إذا اعتُمد هذا الشكل من تصور دور الحزب في كل البلدان حيث يعيش الشيوعيون ويناضلون. إن الأممية الشيوعية تدعو كل النقابات التي تقبل بمبادئ الأممية الثالثة للقطع مع الأممية الصفراء. وستنظم الأممية فرعا أمميا للنقابات الحمراء يقف على أرضية الشيوعية. ولن ترفض الأممية الشيوعية مؤازرة أي تنظيم عمالي محايد سياسيا يرغب بمحاربة البرجوازية، غير أن الأممية الشيوعية لن تتوقف، مع ذلك، عن أن تثبت لبروليتاريي العالم أجمع:

أ- أن الحزب الشيوعي هو السلاح الأساسي والضروري من أجل تحرر البروليتاريا، ويجب أن نمتلك الآن في كل بلد حزبا شيوعيا وليس تجمعات واتجاهات.

ب- ينبغي ألا يكون في كل بلد أكثر من حزب شيوعي واحد ووحيد.

ج- أن يكون الحزب الشيوعي قائما على مبدأ المركزية الأكثر صرامة وأن يرسي داخله، في مرحلة الحرب الأهلية، انضباطا عسكريا.

د- يجب أن يمتلك الحزب الشيوعي نواته المنظمة في كل مكان يوجد فيه بروليتاريون أو أشباه بروليتاريين وإن لم يتعدوا العشرة.

هـ- في كل منظمة غير مسيسة يجب أن توجد نواة شيوعية خاضعة تماما للحزب بكامله.

و- يجب أن يبقى الحزب على الدوام، فيما يدافع دفاعا مستميتا وبتفان مطلق عن البرنامج والتكتيك الثوريين للشيوعية، على علاقات وثيقة مع تنظيمات أوسع الجماهير العمالية، وأن يتفادى العصبوية بقدر تفادي انعدام المبادئ.

الحركة النقابية، ولجان 

المعامل والمصانع

أولاً:

1- تمثل النقابات التي أنشأتها الطبقة العاملة خلال مرحلة التطور السلمي للرأسمالية منظمات عمالية معدة للنضال من أجل رفع أجور العمال في سوق العمل وتحسين شروط العمل. كان الماركسيون الثوريون مجبرين على الاتصال بحزب البروليتاريا السياسي، الحزب الاشتراكي – الديمقراطي، بهدف خوض نضال مشترك من أجل الاشتراكية. إلا إن الأسباب نفسها التي جعلت الديمقراطية – الاشتراكية، وان باستثناءات نادرة، تقود الجهد الثوري للبروليتاريا في مصلحة البرجوازية وليس كسلاح للنضال الثوري للبروليتاريا من أجل إطاحة الرأسمالية، جعلت النقابات تظهر في الغالب، خلال الحرب، بمظهر عناصر في جهاز البرجوازية العسكرية. وساعدت هذه الأخيرة في استغلال الطبقة وبأشد حدّة ممكنة، وعلى القيام بالحرب، بالصورة الأكثر حزماً، باسم مصالح الرأسمالية. وإذا لم تضم النقابات إلا العمال المتخصصين الذين يحصلون على أفضل الأجور من أرباب العمل، ولم تعمل إلا في الحدود الحرفية الضيقة جداً، يكبلها جهاز بيروقراطي، غريب كلياً عن الجماهير التي يخدعها زعماؤها الانتهازيون، فإنها لم تقم فقط بخيانة قضية الثورة الاجتماعية بل وأيضا قضية النضال من اجل تحسين الظروف المعيشية للعمال الذين قامت بتنظيمهم. لقد أخلت ساحة النضال المهني ضد أرباب العمل واستبدلتها، مهما كلف الأمر، ببرنامج مصالحة مع الرأسماليين. ولم تكن هذه سياسة النقابات الليبرالية في إنكلترا وأمريكا والنقابات الحرة التي تدعي الاشتراكية في ألمانيا والنمسا فقط، بل سياسة الاتحادات النقابية في فرنسا ايضاً.

2- لقد دفعت الآثار الاقتصادية للحرب وفساد النظام الاقتصادي في العالم أجمع، وغلاء المعيشة الفاحش، واستغلال عمل النساء والأطفال اشد استغلال، ومسألة السكن (وقد تطورت جميعاً من سيء إلى أسوأ)، دفعت الجماهير البروليتارية في طريق النضال ضد الرأسمالية. لقد أصبح هذا النضال، بطابعه واتساعه الذي يرتسم بوضوح أكبر يوما بعد يوم، معركة ثورية كبيرة تحطم الأسس العامة للرأسمالية. إن زيادة الأجور لفئة محددة من العمال، المنتزعة من أرباب العمل لقاء نضال اقتصادي شرس، تتقلص في الغد إلى الصفر بفعل ارتفاع كلفة المعيشة. والحال إن ارتفاع الأسعار سيستمر، لأن الطبقة الرأسمالية في البلدان المنتصرة، وهي تهدم بسياستها الاستغلالية أوروبا الشرقية والوسطى، ليست في وضع تنظيم النظام الاقتصادي في العالم اجمع، بل إنها على العكس تشيع فيه الفوضى أكثر فأكثر. إن في أوسع الجماهير العمالية التي بقيت حتى الآن خارج النقابات تنضم اليها حالياً من أجل ضمان النجاح في النضال الاقتصادي. ونشهد في البلدان الرأسمالية كافة نمواً مذهلاً للنقابات التي لم تعد الآن تمثل تنظيم العناصر المتقدمة من البروليتاريا فقط بل تنظيم كل جمهور البروليتاريا. فالجماهير بدخولها إلى النقابات تسعى لأن تجعل منها سلاحها النضالي. كما يجبر التناحر الطبقي، الذي يصبح باستمرار أكثر فأكثر حدّة. النقابات على تنظيم الإضرابات التي يشعر بأثرها العالم أجمع، عبر إعاقتها لسيرورة الإنتاج والتبادل الرأسماليين. وبازدياد مطالب الجماهير العمالية بقدر ما تزيد كلفة المعيشة، التي تنهكها بشكل متزايد، تحطم هذه الجماهير بذلك كل حساب رأسمالي يمثل الأساس الأولي لاقتصاد منظم. ان النقابات التي كانت قد أصبحت خلال الحرب أجهزة استعباد الجماهير العمالية خدمة لمصالح البرجوازية، إنما تمثل الآن أجهزة تحطيم الرأسمالية.

3- غير إن البيروقراطية المهنية الهرمة والأشكال القديمة للتنظيم النقابي تقف عائقاً، بـأي حال، أمام هذا التحول في طابع النقابات. فالبيروقراطية المهنية الهرمة تسعى في كل مكان إلى أن تحفظ للنقابات طابعها كمنظمات للأرستقراطية العمالية، وتسعى للإبقاء على سريان مفعول القواعد، التي تجعل من المستحيل دخول الجماهير العمالية ذات الدخل المحدد إلى النقابات، وتجهد البيروقراطية النقابية الهرمة لأن تحل محل الحركة الإضرابية، التي تتخذ كل يوم بشكل متزايد، طابع صراع ثوري بين البرجوازية والبروليتاريا، سياسة عقود طويلة الأمد فقدت معناها الكامل أمام التغيرات الهائلة في الأسعار. إنها تسعى لتفرض على العمال سياسة الكومونات العمالية والمجالس المجتمعة للصناعة (joint industrial councils)، وإعاقة توسع الحركة الإضرابية، عن طريق الشرعية، وبمساعدة الدولة الرأسمالية. وفي اللحظات الحرجة تبذر البرجوازية الفتنة بين الجماهير العمالية المناضلة وتمنع الأعمال المعزولة لمختلف فئات العمال من الانصهار بعمل طبقي شامل، ويدعمها، بمحاولاتها هذه، عمل المنظمات النقابية القديمة، الذي يجزء الشغيلة في فرع صناعي محدد إلى مجموعات مهنية معزولة بشكل مصطنع على الرغم من ارتباطها الواحدة بالأخرى بفعل الاستغلال الرأسمالي نفسه. وهي تعتمد على التراث الأيديولوجي للأرستقراطية العمالية القديمة، علماً إن إلغاء امتيازات مختلف مجموعات البروليتاريا يضعف تلك السيطرة دون انقطاع. ويجد إلغاء الامتيازات هذا تفسيره في التفكك العام للرأسمالية وتساوي وضع مختلف عناصر الطبقة العاملة، والمساواة في حاجتها وفقدانها للأمان.

وبهذه الطريقة تستبدل البيروقراطية النقابية التيار الجارف للحركة العمالية بسَواقٍ ضعيفة، وتستبدل الأهداف الثورية العامة للحركة بطالب جزئية إصلاحية وتعيق، بوجه عام، تحول الجهود المعزولة للبروليتاريا إلى نضال ثوري موحد يتجه إلى تحطيم الرأسمالية.

4- نظراً للاتجاه الواضح لدى أوسع الجماهير العمالية للانخراط في النقابات، ونظراً للطابع الموضوعي الثوري للنضال الذي تخوضه هذه الجماهير بالرغم من البيروقراطية المهنية، من المهم أن ينضم الشيوعيين في كل البلدان إلى النقابات وان يعملوا على جعلها أجهزة واعية للنضال من أجل إطاحة النظام الرأسمالي وانتصار الشيوعية، وعليهم أن يتخذوا المبادرة في خلق نقابات في كل مكان لا توجد فيه بعد.

إن كل انسحاب طوعي من الحركة المهنية وكل محاولة لإنشاء مصطنع لنقابات لا يدفع باتجاه القيام بها الأفراط في التعسف من جانب البيروقراطية المهنية (حل الفروع المحلية الثورية النقابية من جانب المراكز الانتهازية) أو سياستها الديمقراطية الضيقة التي تحول دون دخول الجماهير الواسعة من الشغيلة قليلي المهارة إلى الهيئات النقابية، يشكل خطراً كبيراً على الحركة الشيوعية. فهو يبعد العمال عن الجمهور الأكثر تقدماً ووعياً، ويدفعهم نحو القادة الانتهازيين الذين يعملون من أجل مصالح البرجوازية… ولا يمكن التغلب على تردد الجماهير العمالية وعدم تصميمها السياسي، وعلى التأثير الذي يمتلكه عليها القادة الانتهازيين، إلا عن طريق نضال يزداد حدة، كلما تعلمت الشرائح العميقة من البروليتاريا، عبر تجربتها ودروس انتصاراتها وهزائمها، إن النظام الاقتصادي الرأسمالي لن يسمح لها ابدأ بالحصول على شروط معيشة إنسانية محتملة، وكلما تعلم الشغيلة الشيوعيين المتقدمون عبر تجربة نضالهم الاقتصادي ألّا يكونوا فقط دعاة نظريين للفكرة الشيوعية، بل قادة حازمين للعمل الاقتصادي والنقابي. ولا يمكن بغير هذه الطريقة إبعاد القادة الانتهازيين عن النقابات ووضع شيوعيين على رأسها وجعلها أجهزة للنضال الثوري من أجل الشيوعية. ولن يكون إيقاف تفتت النقابات واستبدالها بالاتحادات الصناعية، وإزاحة البيروقراطية الغربية عن الجماهير واستبدالها بجهاز مؤلف من ممثلي العمال الصناعيين (Betriebsvertreter) وعدم التخلي للمؤسسات المركزية إلا عن الوظائف الضرورية جداً، لن يكون ذلك ممكناً إلا على هذا الشكل.

5- بما أن الشيوعيين يعلقون أهمية أكبر على هدف النقابات وجوهرها مما على شكلها، فعليهم ألا يترددوا إزاء الانشقاقات التي يمكن أن تحدث داخل المنظمات النقابية، إذا كان من الضروري، لتفاديها، التخلي عن العمل الثوري والامتناع عن تنظيم الجزء الأكثر تعرضاً للاستغلال من البروليتاريا. ومع ذلك وإذا حدث وفرض نفسه أي انشقاق نفسه كضرورة مطلقة، لا ينبغي للشيوعيين أن يلجأوا إليه إلا بعد أن يتيقّنوا بأنهم سينجحون، بمشاركتهم الاقتصادية، في إقناع أوسع الجماهير العمالية بأن الانشقاق يجد مبرره في المصالح الملموسة والمباشرة للطبقة العاملة والمتفقة مع ضرورات النشاط الاقتصادي، وليس في اعتبارات يمليها هدف ثوري لا يزال بعيداً جداً وغامضاً. وفي حال أن الانشقاق أصبح محتماً ينبغي عل الشيوعيين إيلاء اهتمام كبير بأن لا يعزلهم هذا الانشقاق عن الجماهير العمالية. 

6- في كل مكان يكون حدث فيه الانشقاق بين الاتجاهات النقابية الانتهازية والثورية وحيث يوجد، في أمريكا مثلا، نقابات ذات اتجاهات ثورية، إن لم تكن شيوعية، إلى جانب النقابات الانتهازية، وجب على الشيوعيين تقديم العون للنقابات الثورية ودعمها ومساعدتها على التحرر من أوهامها النقابية والوقوف على أرضية الشيوعية، لأن هذه الأخيرة هي وحدها البوصلة الأمينة والأكيدة في كل القضايا المعقدة للنضال الاقتصادي. في كل مكان تتشكل فيه منظمات نقابية (إما على قاعدة نقابات أو خارجها) مثل الـ Shop Stewards والـ Betriebsraete (مجالس الإنتاج)، منظمات تضع النضال ضد اتجاهات البيروقراطية النقابية المضادة للثورة كهدف لها، فإن الشيوعيين ملزمون، بالطبع، بدعمها بكل إمكاناتهم، لكن العون الذي يقدم للنقابات الثورية لا يجب أن يعني خروج الشيوعيين من النقابات الانتهازية التي هي في حالة غليان سياسي وتطور نحو النضال الطبقي، بل بالعكس فإن الشيوعيين، بمحاولتهم الإسراع بهذه الثورة، ثورة كتلة النقابات التي هي على طريق النضال الثوري، سيتمكنون من لعب دور عنصر موحد، معنوياً وعملياً، للعمال المنظمين من اجل نضال مشترك يتجه نحو تحطيم النظام الرأسمالي.

7- في عصر انهيار الرأسمالية، يتحول النضال الاقتصادي للبروليتاريا إلى نضال سياسي بسرعة أكبر بكثير مما في عصر التطور السلمي للنظام الرأسمالي. فكل صراع اقتصادي هام يمكن أن يثير أمام العمال قضية الثورة. لذلك من واجب الشيوعيين أن يبرزوا أمام العمال، خلال مراحل النضال الاقتصادي كافة، إن هذا النضال لن يتوج بالنجاحات إلا عندما تهزم الطبقة العاملة الطبقة الرأسمالية في معركة مواجهة مخططة، وتكلف نفسها، بعد قيام ديكتاتوريتها، عناء التنظيم الاشتراكي للبلاد. وانطلاقاً من ذلك على الشيوعيين أن يتجهوا، قدر الإمكان، إلى تحقيق اتحاد تام بين النقابات والحزب الشيوعي، عبر إخضاعها لهذا الأخير، طليعة الثورة. وبهذا القصد على الشيوعيين أن ينظموا في كل النقابات ومجالس الإنتاج (Betriebsracte) تكتلات شيوعية ستساعدهم على الاستيلاء على الحركة النقابية وقيادتها.

ثانياً:

1- إن النضال الاقتصادي للبروليتاريا من أجل رفع الأجور والتحسين العام لشروط معيشة الجماهير يزيد كل يوم من حدة طابعه كنضال مسدود. إن الفوضى الاقتصادية التي تغزو بلداً تلو الآخر، بنسبة تتزايد باستمرار، تظهر حتى للعمال الأكثر تخلفاً، أنه لا يكفي النضال من أجل رفع الأجور وتقليص يوم العمل حتى تخسر الطبقة الرأسمالية أكثر فأكثر القدرة على تجديد الحياة الاقتصادية وعلى أن تضمن للعمال، على الأقل، الظروف المعيشية التي كانت تؤمنها لهم قبل الحرب. ويخلق الوعي المتنامي باضطراد اتجاهاً لدى الجماهير العمالية لإنشاء منظمات قادرة على خوض النضال من أجل النهضة الاقتصادية بواسطة الإشراف العمالي على الصناعة عبر مجالس الإنتاج. إن هذا الاتجاه لخلق مجالس صناعية عمالية، الذي ينتشر بين العمال في جميع البلدان، يجد أساسه في عوامل مختلفة ومتعددة (النضال ضد البيروقراطية الرجعية، الإنهاك الذي سببته الهزائم التي تكبدتها النقابات، الميول إلى خلق منظمات تشمل كل الشغيلة) ويستوحي، بالنهاية، من الجهد المبذول من أجل الإشراف على الصناعة، المهمة التاريخية الخاصة بالمجالس الصناعية العمالية. لهذا سيكون من الخطأ السعي إلى عدم تشكيل تلك المجالس العمالية إلا من العمال المناصرين لديكتاتورية البروليتاريا، فمهمة الحزب الشيوعي تقوم، على العكس، على الإفادة من الفوضى الاقتصادية من أجل تنظيم العمال ووضعهم ضمن ضرورة النضال من أجل ديكتاتورية البروليتاريا، وفي الوقت نفسه نشر فكرة النضال من أجل الرقابة العمالية، وهي فكرة يفهمها الكل الآن.

2- لا يستطيع الحزب الشيوعي أن يؤدي هذه المهمة إلا بتعزيزه للقناعة الراسخة في وعي الجماهير بأن ترميم الحياة الاقتصادية على الأساس الرأسمالي أصبح الآن مستحيلاً، وهو يعني كذلك عبودية جديدة للطبقة الرأسمالية. إن التنظيم الاقتصادي المنسجم مع مصالح الجماهير العمالية ليس ممكناً إلا إذا كانت تحكمُ الدولةَ الطبقةُ العاملة، وإذا اهتمت القبضة الحازمة لديكتاتورية البروليتاريا بإلغاء الرأسمالية وبالتنظيم الاشتراكي الجديد.

3- إن لنضال لجان المعامل والمصانع ضد الرأسمالية هدفاً مباشراً، وهو إدخال الرقابة العمالية إلى جميع فروع الصناعة. فعمال كل منشأة، بغض النظر عن مهنهم، يعانون من تخريب الرأسماليين الذين يرون، في الغالب، إن إيقاف العمل في هذه الصناعة أو تلك سيعود عليهم بالفائدة. ويُكره الجوعُ العمال على القبول بأقسى الشروط، كي يتجنب أي رأسمالي أي زيادة في التكاليف. إن النضال ضد هذا النوع من التخريب يوحد أغلب العمال بغض النظر عن أفكارهم السياسية ويجعل لجان المصانع والمعامل، التي ينتخبها جميع الشغيلة مشروع معين، منظمات جماهير البروليتاريا حقاً. لكن إفساد تنظيم الاقتصاد الرأسمالي ليس فقط نتيجة الإرادة الواعية للرأسماليين، بل إنه ايضاً وبقدر أكبر بكثير نتيجة الانحطاط الحتمي لنظامهم. لهذا، ستكون اللجان العمالية مجبرة في عملها ضد نتائج هذا الانحطاط على تخطي حدود الرقابة على المعامل والمصانع المعزولة، وستجد نفسها قريبا، إزاء مسألة الرقابة العمالية التي ينبغي ممارستها على فروع صناعية كاملة وعلى الصناعة بمجملها. مع ذلك فإن محاولات العمال لممارسة رقابتهم ليس فقط على تموين المعامل والمصانع بالمواد الأولية ولكن ايضاً على العمليات المالية للمشاريع الصناعية، سوف تؤدي، من جانب البرجوازية والحكومة الرأسمالية، اللي إجراءات عنيفة ضد الطبقة العامة، الأمر الذي يحول النضال العمالي من أجل الإشراف على الصناعة إلى نضال للاستيلاء على السلطة من قبل الطبقة العاملة

4- إن الدعاوة لصالح مجالس الصناعة يجب أن تجري على شكل يُرسِّخ في قناعة أوسع الجماهير العمالية، حتى لدى تلك التي لا تنتمي مباشرة إلى البروليتاريا الصناعية، إن مسؤولية الفوضى الاقتصادية إنما تقع على عاتق البرجوازية وأن البروليتاريا، بمطالبتها بالرقابة العمالية، تناضل من أجل تنظيم الصناعة والقضاء على المضاربة وغلاء المعيشة. ومهمة الأحزاب الشيوعية النضال من أجل الإشراف على الصناعة، مستفيدة، لتحقيق هذا الهدف، من كل الظروف المطروحة على جدول الأعمال، من النقص في الوقود وفوضى النقل، دامجة، لأجل هذا الهدف، العناصر المتفرقة من البروليتاريا، جاذبة إلى جانبها أوسع أوساط البرجوازية الصغيرة التي تتبلتر أكثر فأكثر كل يوم وتعاني أشد المعاناة من الفوضى الاقتصادية.

5- لا يمكن لمجالس الصناعة أن تحل محل النقابات. ولا تستطيع إلا أن تتنظم، خلال العمل، في فروع صناعة مختلفة، وأن تنشئ شيئاً فشيئاً جهازاً شاملاً قادراً على قيادة النضال بمجمله. لقد أصبحت النقابات، في الوقت الحاضر، تمثل هيئات نضالية ممركزة، على الرغم من أنها لا تضم جماهير عمالية بمثل الاتساع الذي يمكن أن تصل إليه مجالس الصناعة العمالية بصفتها منظمات يمكن تشكيلها في كل المنشآت العمالية. إن تقاسم كل مهمات الطبقة العاملة بين لجان الصناعة العمالية والنقابات هو نتاج التطور التاريخي للثورة الاجتماعية، فقد نظمت النقابات الجماهير العمالية بهدف النضال من أجل رفع الأجور وخفض أيام العمل وحققت ذلك على مستوى واسع، بينما تتنظم مجالس الصناعة العمالية من أجل الرقابة على الصناعة والنضال ضد الفوضى الاقتصادية. إنها تضم كل المشاريع العمالية غير إن نضالها لا يرتدي طابعاً سياسياً عاماً إلا ببطء شديد. ولن يكون من واجب الشيوعيين أن يدعموا مجالس الصناعة العمالية في اتجاهاتها الرامية لأن تصبح مجموعات صناعية نقابية، إلا بقدر ما تتوصل إلى تخطي الاتجاهات المضادة للثورة لدى بيروقراطيتها، أو تصبح أجهزة واعية للثورة.

6- تنحصر مهمة الشيوعيين بالجهود التي عليهم بذلها من أجل أن تتشبع النقابات ومجالس الصناعة العمالية بالروح ذاتها الخاصة بالتصميم الكفاحي والواعي والفهم الأفضل الوسائل النضالية، أي الروح الشيوعية. وفي الواقع على الشيوعيين من أجل الاضطلاع بهذه المهمة، أن يخضعوا النقابات والمجالس العمالية للحزب الشيوعي، وأن يخلقوا بذلك أجهزة بروليتارية جماهيرية تشكل قاعدة لحزب شيوعي مركزي قوي، يضم كل المنظمات البروليتارية ويجعلها تسير في الطريق الذي يؤدي إلى انتصار الطبقة العاملة وإلى ديكتاتورية البروليتاريا – أي الشيوعية.

7- بينما يجعل الشيوعيون من النقابات والمجالس الصناعية سلاحاً قوياً من أجل الثورة، تعد هذه المنظمات الجماهيرية نفسها للدور الكبير الذي سيقع على عاتقها عند إرساء ديكتاتورية البروليتاريا. وهذا هو واجبها بالفعل، أن تصبح القاعدة الاشتراكية للتنظيم الجديد للحياة الاقتصادية. وستقوم النقابات المنظمة بصفتها ركائز للصناعة، والمستندة إلى المجالس الصناعية العمالية التي ستمثل منظمات المعامل والمصانع، بتعليم الجماهير العمالية واجبها الصناعي، وستجعل من العمال الاكثر تقدماً مديرين مباشرين للمشاريع، وتنظم الإشراف التقني للاختصاصيين، وتدرس خطط السياسة الاقتصادية الاشتراكية وتنفذها بالاتفاق مع ممثلي السلطة العمالية.

ثالثاً:

كانت النقابات تعبر، في زمن السلم، عن اتجاهات لتشكيل اتحاد عالمي. فخلال الإضرابات، كان الرأسماليون يلجأون إلى اليد العاملة في البلدان المجاورة، وخدمات “الثعالب” الأجانب. لكن الأممية النقابية، لم تكن تملك، قبل الحرب، سوى أهمية ثانوية، وكانت تهتم بتنظيم الإعانات المالية المتبادلة، وبخدمة إحصائية تتعلق بالحياة العمالية، ولكنها لم تكن تسعى إلى توحيد الحياة العمالية، لان النقابات التي كان يقودها انتهازيون كانت تقوم بكل ما في وسعها للتملص من كل نضال ثوري أممي. والآن يسعى قادة النقابات الانتهازيون، الذين كانوا، خلال الحرب، الخدم المخلصين لبورجوازيات بلدانهم، إلى إحياء الأممية النقابية بجعل أنفسهم سلاحاً للرأسمالية الشاملة العالمية، موجهاً ضد البروليتاريا. وقد أنشأوا “مكتب عمل” مع جوهو وغومبرز ولوجيين، لدى “عصبة الأمم” التي ليست سوى تنظيم اللصوصية الرأسمالية العالمية. وهم يسعون لخنق حركة الإضراب في كل البلدان، إذ يقررون التحكيم الإلزامي لممثلي الدولة البرجوازية، ويعملون في كل مكان ليحصلوا، بفعل المساومات مع الرأسماليين، على كل أنواع الامتيازات للعمال الرأسماليين، بهدف أن يحطموا بهذه الطريقة وحدة الطبقة العاملة التي تزداد وثوقاً يوماً بعد يوم. وهكذا فإن أممية أمستردام النقابية هي البديل من أممية بروكسل الثانية المفلسة، وعلى العكس ينبغي للعمال الشيوعيين الذين يشكلون جزء من النقابات في شتى البلدان، أن ينشئوا جبهة نقابية عالمية. فلم يعد الأمر متعلقاً بإعانات مالية أثناء الإضراب. فمن الآن وصاعداً، حين يهدد خطر الطبقة العاملة في بلد ما، يجب أن تدافع عنها النقابات في البلدان الأخرى، بوصفها منظمات جماهيرية، وأن تفعل ما بوسعها من أجل منع البرجوازية في بلدها من نجدة البرجوازية التي تكون في صراع مع الطبقة العاملة. إن النضال الاقتصادي للبروليتاريا يصبح أكثر فأكثر ثورية في الدول كافة، لذا فإن على النقابات أن تستخدم بوعي كل طاقتها من أجل دعم كل عمل ثوري في بلدها كما في البلدان الأخرى، وعليها أن تتجه، لتحقيق هذا الهدف، نحو المركزية الأشد في العمل، ليس فقط في كل بلد على حدى، بل ايضاً داخل الأممية، وهي ستقوم بذلك عبر انتسابها للأممية الشيوعية، وعبر دمجها لكل العناصر المنخرطة في المعركة في جيش واحد، من أجل أن تتحرك بالتوافق فيما بينها وتتبادل المساعدة                                        

موضوعات وإضافات

حول المسألة القومية ومسألة المستعمرات

أولاً – موضوعات

1- إن الطرح المجرد والشكلي لمسألة المساواة – ومن ضمنها المساواة بين القوميات – هو طرح خاص بالديموقراطية البرجوازية، تحت شكل المساواة بين الأفراد بشكل عام؛ في الديموقراطية البرجوازية تطالب بالمساواة الشكلية أو الحقوقية للبروليتاري، المساواة بين المستغِل والمستغَل، مضللة بذلك الطبقات المضطهدة أكبر تضليل. إن فكرة المساواة التي ليست سوى انعكاس للعلاقات الناتجة عن الإنتاج من أجل التبادل، تصبح سلاحا بيد البرجوازية ضد إزالة الطبقات، هذه الإزالة التي يجري قتالها باسم المساواة المطلقة بين الشخصيات الإنسانية. أمّا فيما خص المعنى الحقيقي لمطلب المساواة، فهو لا يكمن إلاّ في إرادة إزالة الطبقات.

2- ينبغي على الحزب الشيوعي، انسجاما مع هدفه الأساسي – النضال ضد الديموقراطية البرجوازية، التي يجب فضح ريائها – وكونه المعبّر الواعي عن البروليتاريا في نضالها ضد نير البرجوازية، أن يعتبر أن ما يشكل حجر الزاوية في المسألة القومية، ليس المبادئ المجردة والشكلية بل الأمور التالية:

أ- مفهوم واضح للظروف التاريخية والاقتصادية.

ب- الفصل الدقيق لمصالح الطبقات المضطَهَدة، والشغيلة، والمستغَلين عن المفهوم العام لما يسمى بالمصالح القومية، التي تعني بالواقع مصالح الطبقات المسيطرة.

ج- الفصل بالوضوح والدقة نفسيهما بين الأمم المضطَهدة والتابعة والمحمية، والأمم المضطهِدة والمستغِلة التي تتمتع بكل الحقوق. وذلك على عكس الخداع البرجوازي والديموقراطي، الذي يخفي بعناية استعباد الأغلبية العظمى من سكان الكرة الأرضية الخاص بحقبة رأس المال المالي من الإمبريالية على يد أقلية من أغنياء البلدان الرأسمالية، عن طريق القدرة المالية والاستعمارية.

3- لقد كشفت الحرب الإمبريالية (1914-1918) أمام أمم العالم كافة وطبقاته المضطَهدة تضليل العبارات الديموقراطية والبرجوازية الرنانة – فمعاهدة فرساي التي أملتها الديمقراطيات الغربية ذائعة الصيت، لم تقم سوى بإقرار أعمال تعسف أكثر حقارة ووقاحة من أعمال اليونكرز والقيصر* في بريست – ليتوفسك. ولا تقوم عصبة الأمم وسياسة الحلفاء، بمجملها، إلاّ بتأكيد هذا الواقع وتطوير العمل الثوري للبروليتاريا في البلدان المتقدمة وللجماهير العمالية في البلدان المستعمَرة أو الخاضعة، مسرّعتين بذلك إفلاس الأوهام القومية للبرجوازية الصغيرة بصدد إمكانية تجاوز هادئ ومساومة حقيقية بين الأمم في ظل النظام الرأسمالي.

4- ينتج عما سبق أن حجر الزاوية في سياسة الأممية الشيوعية بشأن المسألة القومية ومسألة المستعمرات يجب أن يقوم على التقارب بين بروليتاريي وشغيلة كل القوميات والبلدان من أجل النضال المشترك ضد المالكين والبرجوازية، لأن هذا التقارب هو الضمانة الوحيدة لانتصارنا على الرأسمالية، وبدونه لا يمكن إزالة كل اضطهاد قومي ولا عدم المساواة.

5- إن الوضع السياسي العالمي الحالي يضع ديكتاتورية البروليتاريا على جدول الأعمال. وتتركز كل أحداث السياسة العالمية، بشكل حتمي، حول مركز ثقل واحد: صراع البرجوازية العالمية ضد جمهورية السوفيتات، التي يجب أن تجمع حولها، من جهة، الحركات السوفياتية للشغيلة المتقدمين في شتى البلدان، وحركات التحرر القومية للمستعمرات والقوميات المضطهدة من جهة ثانية، والتي تيقنت بفعل تجربة مرة أن لا خلاص لها خارج التحالف مع البروليتاريا الثورية، والسلطة السوفياتية المنتصرة على الإمبريالية العالمية.

6- لم يعد بإمكاننا، إذن، أن نقف عند حدود الاعتراف بتقارب الشغيلة في البلدان كافة، أو الدعوة إلى ذلك. لقد أصبح من الضروري، من الآن وصاعدا، تحقيق الوحدة الأشد وثوقا بين مختلف الحركات التحررية الوطنية والحركات التحررية في المستعمرات وبين روسيا السوفياتية، بإعطاء هذه الوحدة أشكالها الملائمة لدرجة تطور الحركة البروليتارية وسط بروليتاريا كل بلد، وتطور حركة التحرر الديموقراطية البرجوازية بين العمال والفلاحين في البلدان المتخلفة أو ضمن القوميات المتخلفة.

7- يبدو لنا أن المبدأ الفيدرالي هو الشكل الانتقالي نحو الوحدة الكاملة لشغيلة كل البلدان. لقد كان هذا المبدأ قد أظهر بشكل عملي انسجامه مع الهدف المقتفى، سواء أثناء العلاقات بين الجمهورية الاشتراكية الاتحادية للسوفيتات الروسية والجمهوريات السوفياتية الأخرى (في هنغاريا – وفنلندا وليتونيا في السابق، وفي أذربيجاني وأوكرانيا حاليا) أو داخل الجمهورية الروسية نفسها، تجاه القوميات التي لم تكن تملك دولة ولا وجودا مستقلا في السابق (مثال: جمهورية البشكير والتتار المستقلتان، اللتان أنشئتا في روسيا السوفياتية عام 1919 و1920).

8- تقوم مهمة الأممية الشيوعية على دراسة تجربة هذه الفيدرالية المستندة إلى الشكل السوفياتي والحركة السوفياتية (وتطورها اللاحق)، وعلى التحقيق منها. وإذ نأخذ في الاعتبار أن الفيدرالية هي الشكل الانتقالي نحو الوحدة الكاملة، ومن الضروري بالنسبة لنا أن نتجه إلى اتحاد فيدرالي أكثر فأكثر وثوقا، آخذين بالحسبان المسائل التالية:

أ- استحالة الدفاع عن الجمهوريات السوفياتية المحاطة بأعداء إمبرياليين متفوقين عليها بقوتهم العسكرية أشد تفوق، دون الاتحاد الأشد وثوقا فيما بينها.

ب- ضرورة الاتحاد الاقتصادي الوثيق بين الجمهوريات السوفياتية، الذي لا يمكن بدونه أن يتحقق ضمان بناء القوى المنتجة التي دمرتها الإمبريالية، ولا أمن ورخاء الشغيلة.

ج- الاتجاه نحو تحقيق خطة اقتصادية عالمية يشرف على تطبيقها المنتظم بروليتاريو شتى البلدان، وقد ظهر هذا الاتجاه بوضوح في ظل النظام الرأسمالي، ويجب بالتأكيد أن يستمر بالتطور ويصل إلى الكمال عن طريق النظام الاشتراكي.

9- أمّا في مجال العلاقات الاجتماعية داخل الدول المتشكلة، فلا يمكن أن تكتفي الأممية الشيوعية بالاعتراف الشكلي، الرسمي المحض ودون نتائج عملية، بالمساواة بين الأمم التي يكتفي بها الديموقراطيون البرجوازيون الذين يحملون لقب اشتراكيين.

ولا يكفي الإصرار في دعاوة الأحزاب الشيوعية وتحريضها – من على المنبر البرلماني كما من خارجه – على رفض الخروقات المستمرة لمبدأ المساواة بين القوميات ولحقوق الأقليات القومية في البلدان الرأسمالية كافة (على الرغم من « دساتيرها الديموقراطية ») بل يجب أن تُظهر أيضا، دون توقف، أن حكومة السوفيتات وحدها تستطيع تحقيق المساواة بين القوميات بتوحيدها للبروليتاريين في البداية، ومجموع الشغيلة في ما بعد في النضال ضد البرجوازية، ويجب أن تبين أيضا أن نظام السوفيتات يؤمن مساندة مباشرة، عن طريق الحزب الشيوعي، لكل الحركات الثورية في البلدان التابعة أو المهضومة حقوقها (مثال ايرلندا، والسود الأمريكيين، الخ..) وفي المستعمرات.

ودون هذا الشرط ذي الأهمية الخاصة للنضال ضد اضطهاد البلدان المستعبَدَة أو المستعمرَة، فإن الاعتراف الرسمي بحقها في الاستقلال ليس بالنسبة لنا سوى إعلان كاذب، كما نرى من جانب الأممية الثانية.

10- تلك هي الممارسات المألوفة، ليس فقط لأحزاب الوسط في الأممية الثانية بل أيضا لأولئك الذين تركوا هذه الأممية ليعترفوا بالروح الأممية قولا، وليستبدلوها، فعلا، في الدعاوة والتحريض والممارسة، بالنزعتين القومية والسلمية للبرجوازيين الصغار. وهذا ما يظهر أيضا بين الأحزاب التي تسمى بالشيوعية الآن. إن النضال ضد هذا المرض وضد الأفكار المسبقة للبرجوازية الصغيرة الأعمق رسوخا (التي تظهر بأشكال مختلفة، مثل الحقد العنصري، والعداء القومي والعداء للسامية) يكتسب أهمية أكبر كلما أصبحت أكثر راهنية مشكلةُ التحول من ديكتاتورية البروليتاريا الوطنية (التي لا توجد إلاّ في بلد واحد والتي تكون عاجزة، بالتالي، عن ممارسة أي تأثير على السياسة العالمية) إلى ديكتاتورية البروليتاريا العالمية (التي تحققها، على الأقل، عدة بلدان متقدمة والتي تكون قادرة على ممارسة تأثير حاسم على السياسة العالمية). إن القومية البرجوازية – الصغيرة، تختزل النزعة الأممية إلى الإعتراف بمبدأ المساواة بين الأمم (دون الإلحاح زيادة على الطابع اللفظي المحض لهذا الاعتراف)، ولا تمس الأنانية القومية، بينما تفترض الأممية البروليتارية التالي:

أ- إخضاع مصالح النضال البروليتاري في أحد البلدان لمصلحة هذا النضال في العالم أجمع.

ب- ارتضاء الأمم التي انتصرت على البرجوازية أعظم التضحيات القومية من أجل إطاحة الرأسمال العالمي؛ فالنضال ضد التشويهات الانتهازية والسلمية للأممية، هو إذن من أهم الواجبات المباشرة، في البلدان التي بلغت فيها الرأسمالية تطورها الكامل وحيث توجد الأحزاب العمالية التي تشكل طليعة البروليتاريا.

11- أمّا فيما خصّ الدول والبلدان الأكثر تخلفا حيث تهيمن مؤسسات إقطاعية أو بطريركية – قروية، من المناسب أخذ الأمور التالية بالاعتبار:

أ- ضرورة أن تقدم كل الأحزاب الشيوعية العون للحركات الثورية التحررية في هذه البلدان، هذا العون يجب أن يكون دعما نشطا وأن يحدد شكله الحزب الشيوعي في البلد المعني، إذا ما وجد حزب شيوعي فيه. إن واجب الدعم النشط لهذه الحركة يقع بالدرجة الأولى بشكل طبيعي على عاتق الشغيلة في الحاضرة الاستعمارية، أو في البلد الذي يكون الشعب المعني تابعا له تبعية مالية.

ب- ضرورة محاربة التأثير الرجعي والقروسطوي لرجال الدين، والإرساليات المسيحية والعناصر الأخرى.

ج- ومن الضروري أيضا محاربة الجامعتين الإسلامية والآسيوية وشتى الحركات المشابهة، التي تعمل على استخدام النضال التحرري ضد الإمبريالية الأوربية والأمريكية من أجل تعزيز قوة الإمبرياليتين التركية واليابانية، وقوة النبلاء وكبار الملاكين العقاريين، ورجال الدين، الخ…

د- من الأهمية بمكان مساندة الحركة الفلاحية في البلدان المتخلفة ضد الملاكين العقاريين، وضد بقايا الروح الإقطاعية أو تجلياتها، وينبغي العمل على إعطاء الحركة الفلاحية طابعا ثوريا وتنظيم الفلاحين والمضطهدين كافة في سوفيتات حيثما يكون ذلك ممكنا، وكذلك خلق ارتباط وثيق جدا بين البروليتاريا الشيوعية الأوربية والحركة الثورية الفلاحية في الشرق والمستعمرات والبلدان المتخلفة بشكل عام.

هـ- من الضروري أن تُحارب بعنف محاولات الحركات التحررية، التي ليست شيوعية في الواقع، ولا ثورية، لرفع راية الشيوعية؛ وعلى الأممية الشيوعية ألاّ تدعم الحركات الثورية في المستعمرات والبلدان المتخلفة إلاّ بشرط أن تكون عناصر أنقى الأحزاب الشيوعية – والشيوعية بالفعل – مجمَّعة ومُعْلَمَةً بمهامها الرئيسية، المتمثلة بمحاربة الحركة البرجوازية والديموقراطية. على الأممية الشيوعية أن تدخل في علاقات ظرفية مع الحركات الثورية في المستعمرات والبلدان المتخلفة وأن تشكل اتحادات معها أيضا دون أن تندمج بالرغم من ذلك مع هذه الحركات، وأن تحافظ دائما على طابعها المستقل كحركة بروليتارية ولئن بشكلها الجنيني.

و- من الضروري أن تُفضح دون هوادة الخديعة التي تنظمها الدول الإمبريالية – بمساندة الطبقات صاحبة الامتياز – في البلدان المضطَهدة التي تتظاهر بالدعوة لوجود دول مستقلة سياسيا ليست في الواقع سوى دول تابعة من الناحية الاقتصادية والمالية والعسكرية، ينبغي أن تفضح أمام الجماهير الكادحة في شتى البلدان وخاصة في البلدان والأمم المتخلفة. وكمثال صارخ على الخدع التي تمارسها الدول الإمبريالية المتحالفة والبرجوازية في هذا البلد أو ذاك عبر جهودها المشتركة ضد طبقة الشغيلة في البلدان التابعة، يمكننا أن نذكر قضية الصهاينة في فلسطين، إذ قامت الصهيونية بإخضاع السكان الساخطين من الشغيلة العرب للاستغلال الانكليزي وذلك تحت حجة إنشاء دولة يهودية في هذا البلد حيث عدد اليهود لا يذكر. ففي الوضع العالمي الراهن، لا خلاص للشعوب الضعيفة والمستعبدة خارج اتحاد الجمهوريات السوفياتية.

12- إن اضطهاد الدول الإمبريالية للأمم الصغيرة وللمستعمرات منذ عدة قرون، قد خلق لدى الجماهير الكادحة في البلدان المضطهَدة، ليس فقط شعورا بالحقد تجاه الأمم المضطهِدة بشكل عام بل كذلك شعورا بالريبة تجاه البروليتاريا في البلدان المضطهِدة. إن الخيانة الشائنة للقادة الرسميين للأغلبية الاشتراكية بين عامي 1914-1919، فيما كانت الاشتراكية الشوفينية تطلق اسم «الدفاع الوطني» على الدفاع عن «حقوق برجوازيتها» في استعباد المستعمرات وفرض الخوة على الدول التابعة ماليا، لم تكن إلاّ لتزيد من هذا الإرتياب المشروع تماما. إن هذه الأفكار المسبقة لا يمكن أن تزول إلاّ بعد زوال الرأسمالية والإمبريالية في البلدان المتقدمة وبعد التحول الجذري للحياة الاقتصادية في البلدان المتخلفة. وسيكون استئصالها بطيئا، لذلك من واجب البروليتاريا الواعية في شتى البلدان أن تكون حذرة بشكل خاص تجاه رواسب الشعور القومي في البلدان المضطهَدة منذ فترة طويلة وأن تنظر أيضا في بعض التنازلات المفيدة بقصد تعجيل اختفاء تلك الأفكار المسبقة وتلك الريبة. فالانتصار على الرأسمالية مرهون بإرادة التفاهم لدى البروليتاريا أولاً، ومن ثم لدى الجماهير الكادحة في جميع بلدان العالم وجميع الأمم.

ثانيا: موضوعات إضافية

1- إن التعيين الصحيح لعلاقات الأممية الشيوعية بالحركة الثورية في البلدان التي تسيطر عليها الإمبريالية الرأسمالية، خاصة في الصين، هو إحدى أهم المسائل المطروحة على المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية، فالثورة العالمية تدخل مرحلة من الضروري فيها أن تكون هناك معرفة صحيحة بهذه العلاقات. لقد أظهرت الحرب الأوربية ونتائجها بوضوح أن الجماهير في البلدان الخاضعة خارج أوربا مرتبطة بشكل مطلق بالحركة البروليتارية الأوربية، وأن هذه هي إحدى النتائج التي لا مفر منها للرأسمالية العالمية الممركزة.

2- تشكل المستعمرات أحد أهم مصادر قوة الرأسمالية الأوروبية.

فلولا امتلاك الأسواق الكبيرة ومناطق الاستثمار الكبرى في المستعمرات، لما استطاعت الدول الرأسمالية الأوربية الصمود طويلا.

فإنجلترا، قلعة الإمبريالية، تعاني من فيض في الإنتاج منذ أكثر من قرن. ولم تنجح إنكلترا في الحفاظ على نظامها الرأسمالي، بالرغم من أعبائه، لولا سيطرتها على أراض مستعمرة وأسواق إضافية لبيع منتجات فيض الإنتاج المتزايدة.

فباستعباد مئات الملايين من السكان في آسيا وأفريقيا استطاعت الإمبريالية الإنجليزية إبقاء البروليتاريا البريطانية حتى الوقت الحاضر تحت السيطرة البرجوازية.

3- إن فائض القيمة الناتج عن استغلال المستعمرات هو إحدى ركائز الرأسمالية الحديثة. وطالما أنه لم يتم إلغاء مصدر الأرباح هذا، فسيكون من الصعب على الطبقة العاملة أن تهزم الرأسمالية.

وبفضل إمكانية استغلال اليد العاملة والمصادر الطبيعية للمواد الأولية في المستعمرات أشد الاستغلال، سعت الأمم الرأسمالية الأوربية، ليس دون نجاح، إلى تفادي إفلاسها الوشيك عن طريق تلك الوسائل.

وقد نجحت الإمبريالية الأوربية في بلدانها بأن تقوم بتنازلات متزايدة باستمرار للأرستوقراطية العمالية. وبينما تسعى، من جهة، للحفاظ على مستوى منخفض جدا للظروف المعيشية للعمال في البلدان المستعبدة، فإنها لا تتوانى عن القيام بأي تضحية، وترضى بالتضحية بفائض القيمة في بلدانها، فيبقى لها فائض القيمة في المستعمرات.

4- إن إزالة القوة الاستعمارية في أوروبا بواسطة الثورة البروليتارية ستطيح الرأسمالية الأوربية، ويجب أن تسهم الثورة البروليتارية والثورة في المستعمرات، إلى حد ما، في النهاية الظافرة للنضال. لذلك يجب أن توسع الأممية الشيوعية من دائرة نشاطها، وأن تعقد علاقات مع القوى الثورية العاملة من أجل تدمير الإمبريالية في البلدان التابعة اقتصاديا وسياسيا.

5- تركز الأممية الشيوعية إرادة البروليتاريا الثورية العالمية. وتقوم مهمتها على تنظيم الطبقة العاملة في العالم أجمع من أجل إطاحة النظام الرأسمالي وإقامة الشيوعية.

إن الأممية الشيوعية هي أداة النضال، التي تقع عليها مهمة تجميع كل القوى الثورية في العالم.

لم تعر الأممية الثانية، التي تقودها مجموعة من السياسيين والمشبعة بالمفاهيم البرجوازية، أدنى اهتمام لمسألة المستعمرات. فلم يكن العالم يوجد بالنسبة لها إلاّ في حدود أوروبا، ولم تر ضرورة الحركة الثورية في القارات الأخرى. وبدل أن يقوم أعضاء الأممية الثانية بتقديم الدعم المادي والمعنوي للحركة الثورية في المستعمرات، أصبحوا هم أنفسهم امبرياليين.

6- إن الإمبريالية الأجنبية، التي ترزح بثقلها على الشعوب الشرقية، منعت هذه الأخيرة من أن تتطور اجتماعيا واقتصاديا بالتزامن مع الطبقات في أوربا وأمريكا.

وبفعل السياسة الإمبريالية التي أعاقت التطور الصناعي في المستعمرات، لم تستطع أن تبرز في هذه الأخيرة طبقة بروليتارية بالمعنى الحقيقي للكلمة، في حين أنه تم مؤخرا تدمير الحرف المحلية عبر منافسة منتجات الصناعات الممركزة في البلدان الإمبريالية.

وكانت النتيجة أن الأغلبية العظمى من الشعب وجدت نفسها مبعدة إلى الريف ومجبرة على الانصراف هناك إلى العمل الزراعي وإنتاج المواد الأولية المعدة للتصدير.

وكانت النتيجة تركزا سريعا للملكية الزراعية سواء بأيدي كبار الملاكين العقاريين أو الرأسمال المالي أو الدولة. وهكذا نشأت كتلة ضخمة من الفلاحين الذين لا يملكون أرضا، فيما بقيت الكتلة الكبرى من السكان غارقة في الجهل.

كانت نتيجة هذه السياسة أن الروح الثورية التي ظهرت في بعض تلك البلدان لم تجد تعبيرا عنها إلاّ داخل الطبقة المتوسطة المثقفة.

إن السيطرة الأجنبية تعيق التطور الحر للقوى الاقتصادية. لذا فإن تدميرها هو الخطوة الأولى للثورة في المستعمرات، ولذا فإن الدعم المقدم لتدمير السيطرة الأجنبية في المستعمرات ليس في الواقع دعما مقدما للحركة القومية للبرجوازية المحلية، بل لفتح الطريق أمام البروليتاريا المضطهَدة نفسها.

7- هناك حركتان في البلدان المضطهَدة، تتباعدان يوما بعد يوم، بشكل متزايد: الأولى هي الحركة البرجوازية الديمقراطية القومية التي تحمل برنامج استقلال سياسي ونظام برجوازي؛ والأخرى هي حركة الفلاحين والعمال الأميين والفقراء من أجل تحررهم من شتى أنواع الاستغلال.

تحاول الأولى أن تقود الثانية وقد نجحت غالبا في ذلك إلى حدما. ولكن على الأممية الشيوعية والأحزاب المنتسبة لها أن تحارب هذا الاتجاه وتسعى لتطوير الشعور الطبقي المستقل بين الجماهير العمالية في المستعمرات.

إن إحدى كبرى المهام لتحقيق هذا الهدف هي تشكيل أحزاب شيوعية تنظم العمال والفلاحين وتقودهم إلى الثورة وإلى بناء الجمهورية السوفياتية.

8- لا تقتصر قوى حركة التحرر في المستعمرات على الحلقة الضيقة للقومية البرجوازية الديموقراطية. ففي أغلب المستعمرات، وُجدت حركة اشتراكية – ثورية أو أحزاب شيوعية على ارتباط وثيق بالجماهير العمالية. وينبغي أن تخدم علاقات الأممية الشيوعية بالحركة الثورية في المستعمرات هذه الأحزاب أو المجموعات، لأنها تشكل طليعة الطبقة العاملة. ولئن كانت ضعيفة اليوم، فإنها مع ذلك تمثل إرادة الجماهير، والجماهير ستتبعها في الطريق الثوري. ويجب أن تعمل الأحزاب الشيوعية في مختلف البلدان الإمبريالية بالارتباط مع الأحزاب البروليتارية في المستعمرات وأن تقدم لها الدعم المادي والمعنوي.

9- لا يمكن للثورة في المستعمرات أن تكون، في مرحلتها الأولى، ثورة شيوعية، ولكن إذا كانت القيادة، منذ بداية الثورة، بين أيدي طليعة شيوعية، فلن تُضلَّل الجماهير ولن تنفك تكبر تجربتها الثورية في مختلف المراحل.

وبالتأكيد سيكون خطأ فادحا أن يتم اللجوء إلى تطبيق المبادئ الشيوعية فورا على المسألة الزراعية في البلدان الشرقية. ينبغي أن يكون للثورة، في مرحلتها الأولى، برنامجا يتضمن إصلاحات ذات طابع برجوازي صغير، كتوزيع الأراضي. غير أنه لا يترتب على ذلك بالضرورة أن تترك قيادة الثورة للديمقراطية البرجوازية. بل على العكس ينبغي على الحزب البروليتاري أن يطوِّر دعاوة قوية ومنهجية لصالح السوفيتات، وأن ينظم سوفيتات الفلاحين والعمال. يجب على هذه السوفيتات أن تعمل بتعاون وثيق مع الجمهوريات السوفياتية في البلدان الرأسمالية المتقدمة من أجل الوصول إلى الانتصار النهائي على الرأسمالية في العالم أجمع.

وهكذا، فبقيادة البروليتاريا الواعية في البلدان الرأسمالية المتطورة، ستصل الجماهير في البلدان المتخلفة إلى الشيوعية دون المرور بمختلف مراحل التطور الرأسمالي.

(*) لقب إمبراطور ألمانيا، غليوم الثاني (المعرّبة).

موضوعات حول المسألة الزراعية

1- إن البروليتاريا الصناعية في المدن، بقيادة الحزب الشيوعي، هي وحدها القادرة على تحرير الجماهير الكادحة في الأرياف من نير الرأسماليين والملاكين العقاريين ومن الفوضى الاقتصادية والحروب الإمبريالية، التي ستتجدد حتما إذا ما استمر النظام الرأسمالي. ولا يمكن أن تتحرر الجماهير الكادحة في الأرياف، إلاّ شرط أن تناصر البروليتاريا الشيوعية وأن تدعمها دون تحفظ في نضالها الثوري من أجل إطاحة نظام الاضطهاد، نظام كبار الملاكين العقاريين والبرجوازية.

من جهة أخرى، لا تستطيع البروليتاريا الصناعية أن تنجز رسالتها التاريخية العالمية، وهي تحرر الإنسانية من نير الرأسمالية والحروب، إذا ما انغلقت ضمن حدود مصالحها الخاصة والنقابية، وإذا ما ركنت إلى المساعي والجهود الرامية إلى تحسين وضعها البرجوازي المرضي جدا في بعض الأحيان. هكذا تسير الأمور في عدد من البلدان المتقدمة حيث توجد «أرستقراطية عمالية»، سند أحزاب الأممية الثانية، المسماة اشتراكية، بيد أنها في الواقع العدو اللدود للاشتراكية، الخائنة لمبدئها، وهي برجوازية شوفينية وعميلة للرأسماليين في أوساط الشغيلة. ولا تستطيع البروليتاريا أبدا أن تكون قوة ثورية نشطة، وطبقة تعمل لمصلحة الاشتراكية، إذا لم تتصرف كطليعة للشعب الكادح الذي يتعرض للاستغلال، وإذا لم تسلك سلوك قائد الجيش الذي تقع على عاتقه مهمة قيادة الهجوم للإطباق على المستغِلين، ولكن هذا الهجوم لن ينجح إذا لم تشارك الأرياف في الصراع الطبقي، وإذا لم ينضم جمهور الفلاحين الكادحين إلى الحزب الشيوعي البروليتاري في المدن وإذا لم يقم هذا الأخير بتكوين هذا الجمهور.

2- إن جمهور الفلاحين الكادحين المستغَل والذي يجب على بروليتاريا المدن أن تقوده إلى المعركة أو على الأقل أن تكسبه إلى قضيتها، ممثل في جميع البلدان الرأسمالية بـ:

أ- البروليتاريا الريفية المؤلفة من المياومين أو خدم المزرعة المستأجرين لمدة سنة، أو لأجل، أو يوميا، والذين يكسبون معيشتهم عن طريق العمل المأجور في مختلف المشاريع الرأسمالية للاقتصاد الزراعي والصناعي. وتقوم المهمة الأساسية للأحزاب الشيوعية في جميع البلدان على تنظيم هذه البروليتاريا في فئة متميِّزة ومستقلة عن بقية مجموعات سكان الأرياف (من وجهة النظر السياسية، والعسكرية، والمهنية، والتعاونية، الخ..)، والقيام بدعوة واسعة في هذا الوسط، الذي تسعى إلى جلبه في اتجاه السلطة السوفياتية وديكتاتورية البروليتاريا.

ب- أنصاف البروليتاريين أو الفلاحين الذين يعملون بصفتهم عمالا مستأجرين في مختلف المشاريع الزراعية أو الصناعية أو الرأسمالية أو الزارعين لقطعة الأرض التي يملكونها أو المستأجرة، والتي لا تعود عليهم إلاّ بالحد الأدنى الضروري لتأمين معيشة عائلاتهم. إن هذه الفئة من الشغيلة الزراعيين كبيرة العدد في البلدان الرأسمالية. ويسعى ممثلو البرجوازية و«الاشتراكيون» الصفر في الأممية الثانية إلى تمويه الشروط المعيشية الحقيقية لهؤلاء الشغيلة وخاصة وضعهم الاقتصادي، تارة بخداع مقصود للعمال وتارة بفعل عماهم الخاص (أي الشغيلة)، المتأتي من الأفكار الروتينية البرجوازية؛ فيخلطون، بطيبة خاطر، هذه المجموعة مع جمهور «الفلاحين» الواسع. وتمارس هذه المناورة، البرجوازية للغاية، بشكل خاص في ألمانيا وفرنسا وأمريكا، وفي بعض البلدان الأخرى، بهدف خداع العمال. وبالتنظيم الجيد لعمل الحزب الشيوعي، يمكن هذه المجموعة أن تصبح سندا أمينا للشيوعية، لأن وضع أنصاف – البروليتاريين هؤلاء غير ثابت، ولأن الانضمام إلى الحزب الشيوعي يعود عليهم بمكاسب ضخمة ومباشرة.

وفي بعض البلدان، لا يوجد تمييز واضح بين هاتين الفئتين، فمن الجائز، إذن، تبعا للظروف، منحهما تنظيما مشتركا.

ج- صغار الملاكين، وصغار المزارعين الذين يملكون أو يستأجرون قطعا صغيرة من الأراضي، ويستطيعون تلبية حاجات منازلهم وعائلاتهم دون استئجار شغيلة مأجورين، ولدى هذه الفئة من الريفيين الكثير لتكسبه من انتصار البروليتاريا، ويمنح انتصار الطبقة العامل، في الحال، كل ممثل لهذه الفئة المنافع والمكاسب التالية:

– عدم دفع بدل الإيجار وإلغاء المزارَعَة (وهذا ما سيحصل في فرنسا، وإيطاليا، الخ…) اللذين ما زال يستوفيهما حتى الوقت الحاضر كبار الملاكين العقاريين.

– إزالة الديون الرهنية.

– انعتاق من الاضطهاد الاقتصادي الذي يمارسه كبار الملاكين العقاريين، والذي يظهر بأشكال متنوعة (حق استخدام الغابات والأحراج والأراضي البور الخ…).

– مساعدة زراعية خاصة ومالية فورية من السلطة البروليتارية، ولا سيما المساعدة بالأدوات الزراعية؛ ومنح المباني الموجودة على أرض الملكيات الرأسمالية الواسعة التي صادرتها البروليتاريا والتحويل الفوري من قبل الحكومة البروليتارية لكل التعاونيات الريفية والشركات الزراعية، التي لم تكن مُجْزية في ظل النظام الرأسمالي، إلاّ لصالح الفلاحين الأغنياء والميسورين، إلى منظمات اقتصادية هدفها أن تساعد، بالدرجة الأولى، السكان الفقراء، أي البروليتاريين وأنصاف – البروليتاريين والفلاحين الفقراء.

ينبغي أن يفهم الحزب الشيوعي أيضا أنه خلال مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية، أي خلال ديكتاتورية البروليتاريا، ستُظهر هذه الفئة من السكان الريفيين، ترددا ظاهرا إلى هذا الحد أو ذاك، ونوعا من الميل إلى حرية التجارة والملكية الخاصة، لأن العديد ممن يشكلون هذه الفئة المشتغلين، ولئن بقدر ضئيل، في تجارة السلع ذات الضرورة الأولية، قد أُفسدوا بفعل المضاربة وعادات الملكية لديهم. ولكن مع ذلك، إذا حققت الحكومة البروليتارية بصدد هذه المسألة سياسة صارمة وصلبة، وإذا سحقت البروليتاريا المنتصرة دون رحمة كبار الملاكين العقاريين والفلاحين الميسورين، فإن هذا التردد لن يدوم طويلا ولن يستطيع تغيير هذا الواقع الثابت المتمثل في أن الفئة المعنية تتعاطف بالنهاية مع الثورة البروليتارية.

3- تشكل هذه الفئات الثلاث، مأخوذة بمجملها، أغلبية السكان في البلدان الرأسمالية كافة. لذلك يمكن أن يعتبر أي انقلاب بروليتاري، في المدن كما في الأرياف، أمرا محسوما ولا جدال فيه، لكن الرأي المواجه يتمتع مع ذلك بتأييد كبير في المجتمع الحالي. وهذه هي الأسباب: إنه لا يستطيع الاستمرار إلاّ بفعل الكثير من الأعمال الخادعة المستندة إلى العلم:

أ- الإحصاء البرجوازي الذي يسعى بمختلف الوسائل التي يملكها إلى حجب الهوة العميقة التي تفصل هذه الطبقات الريفية عن مستغليها، الملاكين العقاريين والرأسماليين، والتي تفصل أنصاف البروليتاريين والفلاحين الفقراء عن الفلاحين الميسورين.

ب- يحافظ هذا الرأي على استمرارية بفعل رعونة أبطال الأممية الثانية الصفراء و«الأرستقراطية العمالية» المفسدة بالامتيازات الإمبريالية، والتقاعس عن القيام بدعاوة بروليتارية وثورية قوية وبعمل تنظيمي جيد بين الفلاحين الفقراء. كان الانتهازيون ولا يزالون يستخدمون جهودهم كافة، من أجل تخيل مختلف أنواع الاتفاق العملي والنظري مع البرجوازية، ومن ضمنها الفلاحون الأغنياء والميسورون، وهم لا يفكرون إطلاقا بإطاحة الحكومة البرجوازية والبرجوازية نفسها ثوريا.

ج- أخيرا، يحافظ الرأي المعني على استمراريته حتى الآن بفعل فكرة مسبقة راسخة، لا تتزعزع إذا جاز القول، لأنها تتحد بشكل وثيق مع كل الأفكار المسبقة الأخرى حول البرلمانية والبرجوازية الديموقراطية. وتقوم هذه الفكرة المسبقة على عدم فهم حقيقة أثبتتها الماركسية النظرية كليا، وأثبتتها تجربة الثورة البروليتارية الروسية بشكل كاف، هي أن الفئات الثلاث من السكان الريفيين التي تحدثنا عنها، المبلدة والمشتتة والمضطهدة والمحكوم عليها، حتى في البلدان الأكثر تحضرا، بأن تعيش حياة شبه همجية، لها، بالتالي، مصلحة اقتصادية، واجتماعية وفكرية بانتصار الاشتراكية. لكنها لا تستطيع، مع ذلك، أن تدعم البروليتاريا الثورية دعما حازما إلاّ بعد استلام السلطة السياسية، وبعد أن تحاكم البروليتاريا كبار الملاكين العقاريين والرأسماليين، ملزمة بذلك الجماهير الريفية بأن ترى فيها قائدا ومدافعا منظما، قادرا بما فيه الكفاية على قيادتها وإظهار الطريق الصحيح لها.

4- «الفلاحون المتوسطون»، وهم من وجهة النظر الاقتصادية ملاكون ريفيون صغار يملكون أو يستأجرون لأجل محدد، هم أيضا، قطع أرض قليلة الأهمية بالطبع لكنها تتيح لهم مع ذلك في ظل النظام الرأسمالي، ليس فقط إعالة عائلاتهم وتعهد ملكياتهم الزراعية الصغيرة بحالة جيدة، بل تحقيق فائض من الأرباح أيضا، يمكن أن يتحول، على الأقل في غضون سنوات من المحصول الجيد، إلى ادخار هام نسبيا. وغالبا ما يستخدم هؤلاء الفلاحون عمالا (عاملين أو ثلاثة لكل مشروع، مثلا) هم بحاجة إليهم في شتى أنواع الأعمال. يمكننا أن نذكر هنا المثال الملموس لـ «الفلاحين المتوسطين» في بلد رأسمالي متقدم هو ألمانيا. فقد كان يوجد في ألمانيا، تبعا لتعداد 1907، فئة من الملاكين الريفيين، يملك كل واحد منهم خمسة إلى عشرة هكتارات في الملكيات التي يصل عدد العمال المستخدمين فيها إلى حوالي ثلث الرقم الكلي للشغيلة في الحقول تقريبا(1). وفي فرنسا، حيث المزروعات الخاصة أكثر تطورا كالكرمة، وحيث تتطلب الأرض جهدا أكبر وعناية أكبر، فمن المحتمل أن تستخدم الملكيات الريفية من هذه الفئة عددا أكبر من الشغيلة المأجورين.

لا يمكن للبروليتاريا الثورية، في مستقبلها الأقرب، وعلى امتداد المرحلة الأولى من دكتاتوريتها، أن تضع لنفسها مهمة كسب تلك الفئة الريفية، وعليها أن تكتفي بتحييدها في الصراع الذي يدور بين البروليتاريا والبرجوازية. إن ميل هذه الشريحة من السكان تارة نحو حزب سياسي، وتارة نحو حزب سياسي آخر، أمر لا مفر منه، وربما كانت في بداية الحقبة الجديدة، وفي البلدان الرأسمالية للغاية ميالة إلى البرجوازية، وهو ميل طبيعي جدا، بما أن روح الملكية الخاصة تلعب دورا مهيمنا لديها. وستحسُّن البروليتاريا المنتصرة الوضع الاقتصادي لهذه الشريحة من السكان فورا، بإلغائها نظام التأجير والديون الرهنية، وبإدخالها استخدام الآلات واستعمال الكهرباء في الزراعة. إلاّ أنه لا يجب أن تلغي السلطة البروليتارية في مختلف البلدان الرأسمالية، على الفور وكليا، الحق بالملكية الخاصة، بل يجب أن تحرر هذه الطبقة من شتى الالتزامات والضرائب التي يخضعها لها الملاكون العقاريون. إن السلطة السوفياتية ستؤمن للفلاحين الفقراء ومتوسطي الحال امتلاك الأراضي، حتى أنها ستسعى لزيادة مساحتها، بتمليك الفلاحين الأراضي التي كانوا يستأجرونها في السابق (إلغاء المزارعة).

ستؤمن جميع هذه الإجراءات، يليها نضال دون رحمة ضد البرجوازية، النجاح الكامل لسياسة التحييد. ولا يجب أن تنتقل السلطة البروليتارية إلى الزراعة الجماعية إلاّ بأكبر حذر، تدريجيا، وبواسطة العديد من الأمثلة ودون أدنى إجراء إكراهي إزاء الفلاحين «المتوسطين».

5- إن الفلاحين الأغنياء والميسورين هم المقاولون الرأسماليون في الزراعة، وهم يزرعون أراضيهم، عادة، بمعونة الشغيلة المأجورين، ولا يرتبطون بطبقة الفلاحين إلاّ بتطورهم الفكري الضيق جداً. وحياتهم الريفية والعمل الشخصي الذين يقومون به بشكل مشترك يستخدمونهم. هذه الشريحة من السكان الريفيين كبيرة العدد وتشكل في الوقت نفسه الخصم الأعند للبروليتاريا الثورية. ولهذا يجب أن يتركز كل العمل السياسي للأحزاب الشيوعية في الأرياف على النضال ضد هذا العنصر من أجل تحرير أغلبية السكان الريفيين الكادحين والمستغَلين من التأثير الفكري والسياسي، المؤذي جدا، هؤلاء المستغِلين الريفيين.

ومن المحتمل جدا أن تلجأ هذه العناصر، ما أن تنتصر البروليتاريا في المدن، إلى أعمال تخريب وأعمال مسلحة معادية للثورة بشكل ظاهر. لهذا سيتوجب على البروليتاريا الثورية أن تشرع فورا بالإعداد الفكري والتنظيمي لكل القوى التي ستحتاج إليها من أجل نزع سلاح هذه العناصر وإطلاق رصاصة الرحمة عليها، في حين تطيح النظام الرأسمالي والصناعي. ومن أجل ذلك سيكون على البروليتاريا الثورية في المدن أن تسلح حلفاءها الريفيين وتنظم سوفيتات في كل القرى، لا يُقبل داخلها أيُّ مستغِل، ويكون البروليتاريون وأنصاف البروليتاريين مدعوين إلى لعب الدور المهيمن فيها. وحتى في هذه الحالة، لا يجب أن تتضمن المهمة المباشرة للبروليتاريا المنتصرة مصادرة الملكيات الفلاحية الكبرى، لأن الشروط المادية وإلى حد ما، التقنية والاجتماعية، الضرورية من أجل تشريك الملكيات الكبرى لا تكون، حتى في هذه اللحظة، قد تحققت بعد. كل شيء يحمل على الاعتقاد، بأنه في عدد من الحالات الفردية ستتم مصادرة أراض مستأجرة أو شديدة الضرورة للفلاحين الفقراء في الجوار. وسيُمنح هؤلاء أيضا حق الاستخدام المجاني، مع بعض الشروط رغم ذلك، لجزء من المعدات الزراعية للملاكين الريفيين الأغنياء أو الميسورين. ولكن على السلطة البروليتارية، كقاعدة عامة، أن تترك للفلاحين الأغنياء أو الميسورين أراضيهم وألاّ تستولي عليها إلاّ في حالة معارضة واضحة لسياسة سلطة الشغيلة وتعليماتها. هذا السلوك ضروري، إذ بينت تجربة الثورة البروليتارية الروسية حيث يطول النضال ضد الفلاحين الأغنياء والميسورين في شروط معقدة جداً، أن هذه العناصر من السكان الريفيين التي وًجهت إليها ضربات أليمة بسبب كل محاولات المقاومة من جانبها، حتى الأضعف منها، هي مع ذلك قادرة على القيام بإخلاص بالأعمال التي تكلفها بها الدولة البروليتارية، وتبدأ حتى، ولو ببطء شديد، تتشبّع باحترام السلطة التي تدافع عن كل شغيل وتسحق دون شفقة كل غني عاطل عن العمل.

إن الشروط الخاصة التي أدّت إلى تعقيد نضال البروليتاريا الروسية المنتصرة على البرجوازية ضد الفلاحين الأغنياء وإلى تأخيره، نجمت فقط عن واقع أنه بعد حدث 25 تشرين الأول / أكتوبر 1917، مرت الثورة الروسية بمرحلة «ديموقراطية» – أي بالواقع، مرحلة برجوازية ديمقراطية – من نضال الفلاحين ضد الملاكين العقاريين. وتعود هذه الشروط الخاصة أيضا إلى الضعف العددي لبروليتاريا المدن ووضعها المتخلف وأخيرا إلى مساحة البلد الشاسعة وخراب طرق مواصلاته. لكن البلدان المتقدمة في أوربا وأمريكا تجهل كل أسباب التأخير هذه، لذلك يتوجب على البروليتاريا الثورية فيها أن تحطم مقاومة الفلاحين الأغنياء والميسورين، بحزم أكبر وبسرعة أكبر، وبتصميم أقوى ونجاح أكبر بكثير، وأن تحرمهم من كل إمكانية معارضة في المستقبل. إن هذا الانتصار لجماهير البروليتاريين وأنصاف البروليتاريين والفلاحين، لا غنى عنه إطلاقا، وطالما لم يتم إحرازه، فإن السلطة السوفياتية لا يمكن أن تعتبر نفسها سلطة مستقرة وصلبة.

6- يجب على البروليتاريا الثورية أن تصادر في الحال ودون تحفظ كل الأراضي العائدة إلى كبار الملاكين العقاريين، أي كل الأشخاص الذين يستغلون منهجيا، في البلدان الرأسمالية، الشغيلة المأجورين والفلاحين الفقراء وحتى، في أغلب الأحيان، الفلاحين المتوسطين في المنطقة، سواء بطريقة مباشرة أو بواسطة مستأجري المزارع، وكل الملاكين الذين لا يشاركون أبدا بالعمل الجسدي – وهم في أغلب الحالات يتحدرون من الأعيان الإقطاعيين (نبلاء روسيا وألمانيا والمجر، ونبلاء فرنسا الذين عادوا إلى الحكم واللوردات الإنجليز وقدامى مالكي العبيد في أمريكا) وكبار أقطاب المال أو، أخيرا، أولئك المتحدرين من هاتين الفئتين من المستغلين والخاملين.

وينبغي على الأحزاب الشيوعية أن تعارض بقوة فكرة التعويض على كبار الملاكين العقاريين الذين صودرت ملكياتهم، وأن تناضل ضد كل دعاوة بهذا المعنى، ولا يجب أن تنسى الأحزاب الشيوعية أن دفع مثل هذا التعويض سيكون خيانة للاشتراكية وضريبة جديدة تُفرض على الجماهير المستغلة، الرازحة تحت عبء الحرب، التي ضاعفت من عدد أصحاب الملايين وزادت ثرواتهم.

ترى الأممية الشيوعية أنه سيكون من المستحسن والعملي ألاّ تُمس الملكيات الزراعية الكبيرة في البلدان الرأسمالية المتقدمة وأن يتم استثمارها بالطريقة نفسها التي يتم فيها استثمار «الملكيات السوفياتية» في روسيا. (2)

وفيما يتعلق بزراعة الأراضي التي انتزعتها البروليتاريا المنتصرة من كبار الملاكين العقاريين في روسيا، فقد كانت حتى الآن موزعة بين الفلاحين، لأن البلاد المتخلفة جدا من الناحية الاقتصادية. وفي حالات نادرة جدا أبقت الحكومة البروليتارية الروسية تحت سيطرتها الملكيات الريفية المسماة «سوفياتية» والتي تستغلها الدولة البروليتارية نفسها، محوّلة العمال المأجورين السابقين إلى «مندوبي عمل» أو أعضاء سوفيتات.

إن الحفاظ على الأملاك الكبيرة يخدم بشكل أفضل مصالح العناصر الثورية من السكان وبشكل خاص المزارعين الذين لا يمتلكون أي قطعة أرض وأنصاف البروليتاريين وصغار الملاكين الذين يعيشون من عملهم في المشاريع الكبرى. فضلا عن ذلك فإن تأميم الملكيات الكبرى يجعل من السكان المدينيين أقل تبعية إزاء الأرياف من ناحية التموين.

أمّا حيث ما زالت توجد مخلّفات للنظام الإقطاعي أو حيث تولّد امتيازات الملاكين العقاريين أشكالا خاصة من الاستغلال، وحيث ما زلنا نشهد «الرق» و«المزارعة»، فمن الضروري تسليم الفلاحين جزءا من أراضي الملكيات الكبرى.

وفي البلدان حيث عدد الملكيات الكبرى غير ذي أهمية، وحيث يطالب المزارعون الصغار بالحصول على أراض، فإن توزيع الملكيات الكبرى حصصا ربما كان الوسيلة الأكثر ضمانا من أجل كسب الفلاحين إلى الثورة، فيما لن تعود المحافظة على هذه الأملاك الكبيرة بالفائدة على المدن من ناحية التموين.

إن المهمة الأولى للبروليتاريا والأكثر أهمية هي أن تضمن لنفسها انتصارا دائما. ولا ينبغي أن تخشى من أي انخفاض في الإنتاج، إذا كان هذا ضروريا من أجل نجاح الثورة. ولن يكون من الممكن ضمان الوجود الدائم للسلطة البروليتارية إلاّ بالحفاظ على حياد طبقة الفلاحين المتوسطة وضمان مساندة أغلبية بروليتاريي الأرياف إن لم يكن كاملهم.

وكلما تم توزيع أراضي كبار الملاكين العقاريين، يجب أن تقدم مصالح البروليتاريا الزراعية على سواها.

ويجب أن تصادر جميع المعدات الزراعية والتقنية لكبار الملاكين العقاريين والريفيين وأن تُسلّم للدولة، بشرط أن يستطيع الفلاحون الصغار، بعد أن يتم توزيع هذه المعدات بعدد كاف على ملكيات الدولة الريفية الكبرى، الاستفادة منها مجانا، وطبقا للأنظمة التي تضعها السلطة البروليتارية بهذا الشأن.

وإذا كان من الضروري بشكل مطلق، في بداية الثورة البروليتارية، أن تتم مصادرة الملكيات العقارية الكبيرة مباشرة وكذلك طرد مالكيها زعماء الثورة المضادة ومضطهدي كل السكان الريفيين دون رحمة، أو اعتقالهم – ينبغي أن تتجه السلطة البروليتارية، بشكل منهجي، كلما تعزز موقعها في المدن والأرياف، إلى استخدام قوى من هذه الطبقة، تملك تجربة قيّمة من المعارف والإمكانات التنظيمية، من أجل خلق زراعة سوفياتية واسعة بمساندتها وتحت إشراف شيوعيين سبق اختبارهم.

7- لن تنتصر الاشتراكية على الرأسمالية بشكل ناجز، ولن تتوطد أبدا، إلاّ عندما تكون السلطة الحكومية البروليتارية قد قمعت كل مقاومة من جانب المستغلين وأمنت سلطتها ونظمت الصناعة بمجملها على قاعدة إنتاج جماعي جديد وعلى أساس تقني جديد (استخدام شامل للطاقة الكهربائية في جميع فروع الزراعة والاقتصاد الريفي). إن إعادة التنظيم هذه تستطيع وحدها إعطاء المدن إمكانية منح الأرياف المتخلفة مساعدة تقنية واجتماعية قادرة على إحداث نمو هائل لإنتاجية العمل الزراعي والريفي وإلزام الفلاحين الصغار عن طريق القدوة بأن ينتقلوا بشكل تدريجي وبما يخدم مصلحتهم الخاصة إلى زراعة جماعية ممكْننة.

إن إمكانية النضال الظافر من أجل القضية الاشتراكية، تتطلب، من جانب الأحزاب الشيوعية، تحديدا في الأرياف، جهدا لتثير لدى البروليتاريا الصناعية الشعور بضرورة تقديم التضحيات، التي يجب أن ترتضيها من أجل إطاحة البرجوازية وتوطيد السلطة البروليتارية. وهو أمر ضروري على الإطلاق لأن دكتاتورية البروليتاريا، تعني أن البروليتاريا تعرف كيفية تنظيم الشغيلة المستَغلين وقيادتهم، وأن تكون طليعتها مستعدة دائما من أجل الوصول إلى هذا الهدف لبذل أقصى الجهود البطولية والتضحيات. فضلا عن ذلك، تفترض الاشتراكية من أجل إحراز الانتصار الناجز أن ترى الجماهير الكادحة الأكثر تعرضا للاستغلال في الأرياف، ما أن ينتصر العمال، أن وضعها قد تحسن على الفور تقريبا على حساب المستغِلين. وإذا لم يكن الأمر كذلك فإن البروليتاريا الصناعية لن تتمكن من الاعتماد على دعم الأرياف ولن تتمكن، انطلاقا من هذا الواقع، من تأمين التموين للمدن.

8- إن الصعوبات الجمة التي يطرحها تنظيم الشغيلة الريفيين وإعداده للنضال الثوري، هذا الجمهور الذي أرهقه النظام الرأسمالي وشتته واستعبده كما في القرون الوسطى تقريبا، تتطلب من جانب الأحزاب الشيوعية، إيلاء اهتمام كبير لحركة الإضراب الريفية، وتقديم الدعم الأقوى لإضرابات جماهير البروليتاريين وأنصاف – البروليتاريين لتطويرها بقوة. إن تجربة الثورات الروسية عام 1905 و1917، التي أثبتتها تجربة الثورة الألمانية والثورات في البلدان الأخرى المتقدمة واستكملتها، برهنت على أن حركة الإضراب وحدها، المتصاعدة دون توقف (مع مشاركة «الفلاحين الصغار» في بعض الظروف) يمكنها أن تخرج القرى من سباتها، وتوقظ الوعي الطبقي لدى الفلاحين والشعور بضرورة منظمة طبقية للجماهير الريفية المستغَلة، وتظهر لسكان الريف بوضوح الأهمية العملية لاتحادهم مع شغيلة المدن. من وجهة النظر هذه، يتخذ إنشاء نقابات عمالية زراعية وتعاون الشيوعيين في منظمات العمال الزراعيين وعمال الأحراج أهمية عظمى؛ وينبغي على الشيوعيين أن يدعموا بشكل خاص المنظمات المشكلة من السكان الزراعيين المرتبطين بقوة بالحركة العمالية الثورية، ويجب أن تتم دعاوة قوية بين الفلاحين البروليتاريين.

إن مؤتمر الأممية الشيوعية يفضح ويدين بشدة الاشتراكيين الغادرين والخونة الذين نجدهم، للأسف، ليس داخل الأممية الثانية الصفراء وحسب، بل أيضا وسط الأحزاب الثلاثة الأوربية الأكثر أهمية، التي خرجت من هذه الأممية. إن المؤتمر يصم بالعار الاشتراكيين الذين لا يستطيعون فقط أن ينظروا بعين اللامبالاة لحركة الإضراب الريفية بل يقاومونها أيضا (مثل كارل كاوتسكي)، خوفا من أن تؤدي إلى انخفاض التموين. إن كل البرامج وكل التصريحات الأكثر احتفالية لا قيمة لها إطلاقا إذا لم يكن من الممكن أن يثبت الشيوعيون والقادة العمال عمليا أنهم يعرفون كيف يضعون تطور الثورة البروليتارية وانتصارها فوق كل شيء، وكيف يرتضون لأنفسهم أكبر التضحيات، لأنه لا حلول أخرى ولا وسائل أخرى لقهر المجاعة والفوضى الاقتصادية، ولتجنب حروب إمبريالية جديدة.

9- على الأحزاب الشيوعية أن تفعل كل ما في وسعها من أجل الشروع بأسرع وقت ممكن في تنظيم السوفيتات في الأرياف. وبالدرجة الأولى السوفيتات التي تمثل الشغيلة المأجورين وأنصاف البروليتاريين. ولن تتمكن السوفيتات من الاضطلاع بمهمتها ولن تصبح من القوة بحيث تخضع لتأثيرها «صغار الفلاحين» (وتجندهم بعد ذلك) إلاّ بالتعاون الوثيق مع حركة الإضراب الجماهيرية، ومع الطبقة الأكثر اضطهادا. أمّا إذا لم تكن حركة الإضراب متطورة بشكل كاف، وإذا كانت قدرة التنظيم لدى البروليتاريا الريفية ضعيفة جدا، سواء بسبب اضطهاد الملاكين العقاريين والفلاحين الأغنياء، أو لعدم كفاية الدعم الذي يقدمه العمال الصناعيون ونقاباتهم، فسيتطلب إنشاء السوفيتات في الأرياف إعدادا طويلا، وينبغي أن يتم ذلك عبر خلق بؤر شيوعية، ودعاوة نشطة، بعبارات واضحة وصريحة، بصدد التطلعات الشيوعية التي سيجري شرحها بالكثير من الأمثال التي توضح مختلف طرق الاستغلال والاضطهاد، وأخيرا بواسطة جولات دعاوية منهجية يقوم بها الشغيلة الصناعيون في الأرياف.

الحزب الشيوعي والبرلمانية

1- العصر الجديد والبرلمانية الجديدة

في عصر الأممية الأولى، كان موقف الأحزاب الاشتراكية حيال المسألة البرلمانية يقوم، في الأصل، على استخدام البرلمانات البرجوازية من اجل التحريض. فكانت المشاركة في العمل البرلماني تطرح من وجهة نظر تطور الوعي الطبقي، أي استيقاظ عداء الطبقات البروليتارية تجاه الطبقات الحاكمة. هذا الموقف قد تبدل، ليس بتأثير إحدى النظريات، بل بتأثير التقدم السياسي. لقد اكتسبت الرأسمالية ومعها الدول البرلمانية استقراراً مستديماً بفعل تنامي القوى المنتجة غير المنقطع، وتوسع مجال الاستغلال الرأسمالي.

من هنا، برز تكييف التكتيك البرلماني للأحزاب الاشتراكية مع العمل التشريعي “العضوي” للبرلمانات البرجوازية، الأهمية المتزايدة باستمرار للنضال من أجل إدخال الإصلاحات ضمن أطر الرأسمالية، وهيمنة برنامج الحد الأدنى للأحزاب الاشتراكية وتحول برنامج الحد الأقصى إلى برنامج معد للنقاشات حول “هدف نهائي” بعيد. على هذه القاعدة تطورت الوصولية البرلمانية، وتطور الفساد والخيانة، الواضحة أو المموهة، لمصالح الطبقة العاملة الأساسية.

لا يتحدد موقف الأممية الثالثة من المسألة البرلمانية انطلاقاً من نظرية جديدة، بل انطلاقاً من تحول دور البرلمانية نفسها. ففي العصر السابق كان البرلمان، أداة الرأسمالية النامية، قد عمل، بمعنى من المعاني، لصالح التقدم التاريخي. أما في الظروف الحالية، التي تتميز بجموح الإمبريالية، فقد أصبح البرلمان أداة الكذب والغش وأعمال العنف والدمار وأعمال اللصوصية. لقد فقدت الإصلاحات البرلمانية، المجردة من الثبات والاستقرار، والمتصورة من دون خطة شاملة، كل أهمية عملية بالنسبة للجماهير الكادحة.

لقد فقدت البرلمانية استقرارها مثلها مثل المجتمع البرجوازي بأكمله، فيما يخلق الانتقال من المرحلة العضوية إلى المرحلة الحرجة قاعدة جديدة لتكتيك البروليتاريا في الحقل البرلماني. هكذا كان الحزب العمال الروسي (الحزب البلشفي) قد حدد أسس البرلمانية الثورية في المرحلة السابقة، بعد أن فقدت روسيا توازنها السياسي والاجتماعي منذ عام 1905 ودخلت منذ ذلك الحين في مرحلة من الاضطرابات والتقلبات.

وعندما يشير بعض الاشتراكيين، التواقين إلى الشيوعية، إلى إن ساعة الثورة لم تحن بعد في بلدانهم، ويرفضون الانفصال عن الانتهازيين البرلمانيين، فانهم يعملون، بالحقيقة، وفق تصور واع أو غير واع، للمرحلة التي ندخلها، المعتبرة مرحلة استقرار نسبي للمجتمع الإمبريالي، ويظنون، لهذا السبب، بأن التعاون مع أمثال توراتي ولونجي يمكن أن يقدم على هذه القاعدة نتائج عملية في النضال من أجل الإصلاحات.

ينبغي أن تتخذ الشيوعية الدراسة النظرية لعصرنا كنقطة انطلاق (أوج الرأسمالية، اتجاهات الإمبريالية نحو نفي نفسها بنفسها وتدميرها الذاتي وتفاقم الحرب الأهلية المستمر، الخ…). ويمكن أن تأخذ العلاقات السياسية والتجمعات أشكالا مختلفة من بلد لآخر، ولكن جوهر الأشياء يبقى هو نفسه في كل مكان: يتعلق الأمر، بالنسبة لنا بالإعداد الفوري السياسي والتقني للانتفاضة البروليتارية، التي يجب أن تحطم السلطة البرجوازية وتقيم السلطة البروليتارية الجديدة.

بالنسبة للشيوعيين، لا يمكن للبرلمان أن يكون بأي حال من الأحوال، في المرحلة الراهنة، مسرحاً للنضال من أجل الإصلاحات وتحسين وضع الطبقة العاملة، كما حصل في بعض الأحيان في المرحلة السابقة. لقد خرج مركز ثقل الحياة السياسية من البرلمان كلياً ونهائياً. من جهة ثانية فإن البرجوازية مجبرة، بحكم علاقاتها مع الجماهير الكادحة، وأيضا تبعاً للعلاقات المعقدة القائمة داخل الطبقات البرجوازية، على جعل البرلمان بمختلف الأشكال، يصادق على بعض أعمالها، هذا البرلمان الذي تتصارع الكتل فيه على السلطة، وتستعرض قواها وتظهر نقاط ضعفها وتعرض نفسها للشبهات، إلخ…

لذا فإن الواجب التاريخي المباشر للطبقة العاملة هو أن تنزع هذه الأجهزة من الطبقات الحاكمة وتحطمها وتدمرها وتستبدلها بالأجهزة الجديدة للسلطة البروليتارية. يضاف إلى ذلك، إن هيئة الأركان الثورية للطبقة العاملة مهتمة جداً بأن يكون لها في المؤسسات البرلمانية للبرجوازية كشافة يسهلون عملها التدميري. إننا نرى بوضوح من الآن وصاعداً الفرق الأساسي بين تكتيك الشيوعيين الآتين إلى البرلمان لأهداف ثورية وبين تكتيك البرلمانية – الاشتراكية الذي يبدأ من الاعتراف بالاستقرار النسبي للنظام واستمراريته غير المحدودة. إن البرلمانية – الاشتراكية تضع لنفسها مهمة الحصول على الإصلاحات بأي ثمن كان. وهي مهتمة بأن تدرج الجماهير كل مكسب في حساب البرلمانية – الاشتراكية (توراتي، لونجي، وشركاؤها).

لقد استبدلت البرلمانية الهرمة القائمة على التكيف ببرلمانية جديدة، تشكل إحدى الوسائل للقضاء على البرلمانية بشكل عام. لكن تراث التكتيك البرلماني القديم المحبط يقرب بعض العناصر الثورية من المعادين للبرلمانية من حيث المبدأ (عمال العالم الصناعيين، النقابويين الثوريين، وحزب العمال الشيوعي الألماني).

ونظراً لهذا الوضع، فإن المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية توصل إلى النتائج التالية:

2- الشيوعية. النضال من أجل ديكتاتورية البروليتاريا و”من أجل استخدام” البرلمان البرجوازي

-أ-

1- لقد أصبحت النزعة البرلمانية الحكومية الشكل “الديمقراطي” لسيطرة البرجوازية، التي تتطلب في مرحلة معينة من تطورها خرافة تمثيل شعبي يعبر ظاهرياً عن “إرادة الشعب” وليس إرادة الطبقات، ولكنه يشكل في الواقع أداة إكراه واضطهاد بين يدي الرأسمال السائد.

2- إن البرلمانية هي شكل محدد للدولة. لهذا فإنها لا تناسب المجتمع الشيوعي بأي شكل من الأشكال، الذي لا يعرف لا الطبقات، ولا الصراع الطبقي ولا السلطة الحكومية بأي نوع من أنواعها.

3- إن البرلمانية لا يمكن مان تكون أيضاً شكل الحكومة “البروليتارية” في المرحلة الانتقالية من دكتاتورية البرجوازية إلى ديكتاتورية البروليتاريا. وفي اللحظة الأخطر من الصراع الطبقي عندما يتحول هذا الأخير إلى حرب أهلية، يجب على البروليتاريا حتماً أن تبني تنظيمها  الحكومي الخاص، باعتباره تنظيماً نضالياً لا يقبل فيه ممثلو الطبقات المسيطرة القديمة، وستكون كل خرافة حول الإرادة الشعبية، خلال هذه المرحلة، مضرة بالنسبة للبروليتاريا. فهذه الأخيرة لا حاجة لها أبدأ إلى الفصل البرلماني بين السلطات، الذي لا يمكن أن يكون إلا وبالاً عليها. إن جمهورية السوفيتات هي شكل ديكتاتورية البروليتاريا. 

4- إن البرلمانات البرجوازية التي تشكل أحد الأجهزة الأساسية للآلة الحكومية للبرجوازية لا يمكن أن تستولي عليها البروليتاريا مثلما لا يمكنها أن تستولي على الدولة البرجوازية بشكل عام. وتقوم مهمة البروليتاريا على نسف الآلة الحكومية للبرجوازية وتدميرها، ومن ضمنها المؤسسات البرلمانية، سواء كانت مؤسسات الجمهوريات أو مؤسسات الملكيات الدستورية.

5- وينطبق الشيء نفسه على المؤسسات البرجوازية البلدية أو القروية التي من الخطأ نظرياً اعتبارها متعارضة مع الأجهزة الحكومية، فهي بالحقيقة تشكل جزءاً من الآلة الحكومية للبرجوازية، ويجب أن تدمرها البروليتاريا الثورية وتستبدلها بسوفيتات النواب العمال.

6- ترفض الشيوعية أن ترى في البرلمانية أحد أشكال مجتمع المستقبل، وترفض أن ترى فيها شكل ديكتاتورية طبقة البروليتاريا، وتنفي إمكانية الاستيلاء المتمادي على البرلمانات. إنها تضع إزالة البرلمانية كهدف لها. ومن الآن وصاعداً لا يمكن أن يكون وارداً إلا استخدام المؤسسات الحكومية البرجوازية بهدف تدميرها. بهذا المعنى وبهذه المعنى فقط يمكن أن تطرح المسألة.

-ب-

7- إن كل صراع طبقي هو صراع سياسي، إلا أنه في نهاية الامر، صراع من اجل السلطة. وكل إضراب يشمل البلد بأكمله، يصبح تهديداً للدولة ويكتسب من هنا بالذات طابعاً سياسياً. فالعمل من أجل إطاحة البرجوازية وتحطيم الدولة البرجوازية هو دعم لنضال سياسي. وأن ننشئ لأنفسنا جهازاً حكومياً وجهاز إكراه بروليتارياً، طبقياً، ضد البرجوازية العاصية، هو أن نستولي على السلطة السياسية، مهما كان هذا الجهاز.

8- لا يقتصر الصراع السياسي إذن أبداً على مسألة موقف من البرلمانية، بل يطول كل النضال الطبقي للبروليتاريا، إذ أن هذا النضال يكف عن أن يكون نضالاً محلياً او جزئياً ويتجه لإطاحة النظام الرأسمالي بشكل عام.

9- إن الطريقة الأساسية لنضال البروليتاريا ضد البرجوازية، أي ضد سلطتها الحكومية، هي قبل كل شيء طريقة النشاطات الجماهيرية. وتقوم المنظمات الجماهيرية البروليتارية (النقابات والأحزاب والسوفيتات) بتنظيم هذه النشاطات وقيادتها، تحت الإشراف العام للحزب الشيوعي، الموحد وبشكل متين، والمنضبط والممركز. إن الحرب الأهلية هي حرب. وعلى البروليتاريا في هذه الحرب أن تمتلك كوادر سياسية جيدة وهيئة أركان سياسية جيدة تقود شتى العمليات في جميع ميادين النشاط.

10- يشكل نضال الجماهير نظاما كاملاً من النشاطات المتنامية باستمرار التي تتأجج بفعل شكلها بالذات، وتقود منطقياً إلى الانتفاضة ضد الدولة الرأسمالية. في هذا النضال الجماهيري، المدعو لأن يصبح حرباً أهلية، ينبغي على الحزب القائد للبروليتاريا، كقاعدة عامة، أن يعزز جميع مواقعه الشرعية، ويجعل منها نقاط ارتكاز ثانوية لنشاطه الثوري، ويخضعها لخطة الحملة الرئيسية. أي النضال الجماهيري.

11- إن منبر البرلمان البرجوازي هو أحد نقاط الارتكاز الثانوية، ولا يمكن التذرع بالصفة البرجوازية للمؤسسة نفسها للوقوف ضد النشاط البرلماني. فالحزب الشيوعي يدخل هذه المؤسسة ليس للقيام بنشاط عضوي، بل من أجل تقويض الآلة الحكومية والبرلمان من الداخل (مثلاً: نشاط ليبكنخت في ألمانيا، والبلاشفة في دوما القيصر وفي “الكونفرنس الديمقراطي” وفي “البرلمان الأولي” لكرنسكي وفي الجبهة التأسيسية والبلديات، وأخيراً في عمل الشيوعيين البلغار).

12- هذا العمل البرلماني الذي يقوم بشكل خاص على العمل البرلماني لأهداف تحريضية ثورية، ولإحباط مناورات الخصم، وتجميع الجماهير حول بعض الأفكار، هذه الجماهير التي تنظر إلى المنبر البرلماني خاصة في البلدان المتخلفة، بكثير من الأوهام الديمقراطية، يجب أن يخضع كلياً لأهداف نضال الجماهير خارج البرلمان، ومهمات هذا النضال.
إن للمشاركة في الحملات الانتخابية والدعاوة الثورية من أعلى المنبر البرلماني دلالة خاصة من أجل الكسب السياسي لأوساط الطبقة العاملة، التي بقيت حتى الآن، كما الجماهير الكادحة الريفية، بعيدة عن الحركة الثورية وعن السياسة.

13- على الشيوعيين، إذا حازوا الأغلبية في البلديات:

أ‌) أن يشكلوا معارضة ثورية للسلطة المركزية للبرجوازية.

ب) أن يعملوا بمختلف الوسائل لتقديم خدمة للجزء الأكثر فقراً من السكان (إجراءات اقتصادية، إنشاء أو محاولة إنشاء ميليشيا شعبية مسلحة، الخ…)

ج) أن يكشفوا، في كل مناسبة، العوائق التي تضعها الدولة البرجوازية بوجه أي إصلاح جذري.

   د) أن يطوروا دعاوة ثورية حازمة، على هذا الأساس، دون الخوف من النزاع مع السلطة البرجوازية.

   هـ) أن يستبدلوا البلديات في بعض الظروف، بسوفيتات للنواب العمال، وينبغي أن يندرج كل نشاط يقوم به الشيوعيون في البلديات بالنشاط العام لتقويض النظام الرأسمالي.

14- ينبغي أن تجري الحملة الإنتخابية ليس باتجاه الحصول على الحد الأقصى من المقاعد البرلمانية، بل باتجاه تعبئة الجماهير تحت شعارات الثورة البروليتارية. ولا يجب أن ينحصر النضال الانتخابي بقيادات الحزب فقط، بل ينبغي أن يشارك فيها مجموع الأعضاء، ويجب أن تستخدم كل حركة جماهيرية (إضرابات، تظاهرات اضطرابات في الجيش وفي الأسطول، الخ…) فيقام اتصال وثيق بهذه الحركة، ويصار إلى استثارة نشاط المنظمات البروليتارية باستمرار.

 15- باستيفاء هذه الشروط وتلك المشار إليها في توجيه خاص، يدخل العمل البرلماني في تعارض كامل مع “الحرتقة” السياسية المثيرة للاشمئزاز للأحزاب الاشتراكية في البلدان كافة، التي يذهب نوابها إلى البرلمان بهدف دعم هذه المؤسسة “الديمقراطية”، وفي أحسن الأحوال، من أجل “الاستيلاء عليها” لكن الحزب الشيوعي لا يمكن أن يقبل إلا بالاستخدام الثوري فقط للبرلمانية، على طريق ليبكنخت وهوغلند والبلاشفة.

                                            في البرلمان

-ج-

16- ليست “معاداة البرلمانية” مبدئياً، المتصورة كرفض مطلق وقاطع للمشاركة في الانتخابات وللعمل البرلماني الثوري، إلا عقيدة طفولية وسطحية لا تصمد أمام النقد، وهي في بعض الأحيان نتاج قرف صحي من بعض السياسيين البرلمانيين، ولكنها لا تلحظ فضلاً عن ذلك، إمكانية البرلمانية الثورية. ويحصل أن يرتكز هذا الرأي كذلك على مفهوم خاطئ كليا لدور الحزب باعتباره ليس الطليعة العمالية الممركزة والمنظمة من أجل المعركة، بل نظاماً غير ممركز لمجموعات لا تملك ارتباطاً قوياً فيما بينها.

17- من جهة أخرى، لا تنبع ضرورة المشاركة الفعلية في انتخابات وجمعيات برلمانية معينة من الاعتراف المبدئي بالعمل الثوري في البرلمان. فكل شيء يتعلق هنا بسلسلة من الشروط الخاصة. إن خروج الشيوعيين من البرلمان يمكن أن يصبح ضرورياً في لحظة معينة، كما كانت الحال عندما انسحب البلاشفة من البرلمان الأولي لكيرنسكي، بقصد نسفه، وجعله عاجزاً دفعة واحدة، ومواجهته بسوفييتات بتروغراد بشكل واضح، عشية الوقوف على رأس الانتفاضة. وكانت هذه الحال عندما نقل البلاشفة مركز ثقل الأحداث السياسية إلى المؤتمر الثالث للسوفيتات. وفي بعض الظروف قد تفرض مقاطعة الانتخابات نفسها أو التدمير المباشر للدولة البرجوازية والزمرة البرجوازية عن طريق القوة، أو يمكن أن تتطابق أيضاً المشاركة مع مقاطعة البرلمان نفسه، إلخ…

18- إن الحزب الشيوعي، معترفاً على هذا الشكل، كقاعدة عامة بضرورة المشاركة في الانتخابات البرلمانية والبلدية وبالعمل في البرلمان والبلديات، يجب أن يحسم المسألة تبعاً للحالة الملموسة، مستوحياً الخصائص المميزة للوضع. إن مقاطعة الانتخابات أو البرلمان، وكذلك الخروج من البرلمان أمران مقبولان بهما خاصة حين توجد شروط تسمح بالانتقال المباشر إلى النضال المسلح من أجل استلام السلطة.

19- من الضروري أن يراعى باستمرار الطابع الثانوي نسبياً لهذه المسألة. فيما أن مركز الثقل هو النضال خارج البرلمان من أجل السلطة السياسية، من المسلم به إن المسألة العامة لديكتاتورية البروليتاريا والنضال الجماهيري من أجل هذه الديكتاتورية لا يمكن أن تقارن بالمسألة الخاصة لاستخدام البرلمانية.

20- لهذا السبب، تؤكد الأممية الشيوعية، بشكل قاطع، أنها تعتبر كل انشقاق أو محاولة انشقاق مفتعلة داخل الحزب الشيوعي بسبب هذه المسألة وبسببها فقط خطأ خطيراً بحق الحركة العمالية. ويدعو المؤتمر كل أنصار النضال الجماهيري من أجل دكتاتورية البروليتاريا اللي تحقيق الوحدة الكاملة بين العناصر الشيوعية، تحت قيادة حزب ممركز على جميع منظمات الطبقة العاملة، على الرغم من التباين الآراء المحتمل فيما يتعلق باستخدام البرلمانات البرجوازية.

3- التكتيك الثوري

تفرض الإجراءات التالية نفسها من اجل ضمانة التطبيق الفعلي للتكتيك الثوري في البرلمان:

1- يتأكد الحزب الشيوعي بأكمله ولجنته المركزية، منذ المرحلة التحضيرية التي تسبق الانتخابات، من إخلاص أعضاء المجموعة البرلمانية الشيوعية وقيمتهم الشيوعية، وله الحق الذي لا يناقش فيه بأن يطعن في أي مرشح تعينه احدى منظمات الحزب، إذا لم يكن لديه الاقتناع بأن هذا المرشح سينفذ سياسة شيوعية فعلاً.

وينبغي على الأحزاب الشيوعية أن تمتنع عن العادة الاشتراكية – الديمقراطية الهرمة، عادة الانتخاب الحصري لبرلمانيين “مجربين” ومحامين، بشكل خاص. فالمتبع أن يتم اختيار المرشحين من بين العمال: ولا يجب أن يخشى تعيين أعضاء بسيطين دون كبير تجربة برلمانية.

وعلى الأحزاب الشيوعية أن ترفض باحتقار لا رحمة فيه الوصوليين الذين يأتون إليها بهدف وحيد وهو الدخول إلى البرلمان، وعلى اللجان المركزية ألا تصادق إلا على ترشيحات الأشخاص الذين قدموا، طوال سنوات عديدة، البراهين الثابتة على إخلاصهم للطبقة العاملة.

2- ما أن تنتهي الانتخابات، تقوم اللجنة المركزية حصراً بتنظيم المجموعة البرلمانية، سواء كان الحزب شرعياً أو غير شرعي. وينبغي أن تصادق اللجنة المركزية على اختيار رئيس مكتب المجموعة البرلمانية وأعضاءه. وسيكون للجنة المركزية ممثل دائم يتمتع بحق الفيتو. وفي كل المسائل الهامة، يجب أن تلتزم المجموعة البرلمانية بطلب التوجيهات المسبقة من اللجنة المركزية.

ويحق للجنة المركزية -ومن واجبها- أن تعيّن خطباء المجموعة المدعوين للمداخلة حول مسائل هامة أو تطعن فيهم، وان تفرض إخضاع الموضوعات والنصوص الكاملة لخطبهم، إلخ… لموافقتها. وأن يوقع كل مرشح مسجل على اللائحة الشيوعية تعهداً رسمياً بأن يتخلى عن نيابته عند أول يعاز من اللجنة المركزية، كي يكون الحزب قادراً دائماً على استبداله.

3- وفي البلدان التي نجح فيها إصلاحيون أو أنصاف – إصلاحيين، بل مجرد وصوليين في دخول المجموعة البرلمانية الشيوعية (وهذه هي الحال في عدد من البلدان)، على الأحزاب الشيوعية أن تقوم بتطهير جذري لهذه المجموعات، مستوحية المبدأ القائل أن مجموعة برلمانية قليلة العدد ولكن شيوعية حقاً تخدم بشكل أفضل بكثير مصالح الطبقة العاملة، من مجموعة كبيرة العدد دون سياسة شيوعية حازمة.

4- ينبغي أن يلتزم كل نائب شيوعي، بناء على قرار اللجنة المركزية، بأن يجمع بين العمل الشرعي والعمل غير الشرعي. وفي البلدان التي لا زال النواب الشيوعيون يتمتعون فيها، بموجب القوانين البرجوازية، بنوع من الحصانة البرلمانية، يجب أن تخدم هذه الحصانة تنظيم الحزب ودعاوته غير الشرعية.

5- إن النواب الشيوعيين ملزمون بإخضاع مجمل نشاطهم البرلماني لعمل الحزب خارج البرلمان. أما التقدم بمشاريع قوانين ذات هدف برهاني محض، ليس بهدف أن تتبناه الأغلبية البرجوازية. ولكن من أجل الدعاوة والتحريض والتنظيم، فيجب أن يحصل تبعاً لتوجيهات الحزب ولجنته المركزية.

6- يتوجب على النائب الشيوعي، في المظاهرات والنشاطات الثورية، أن يقف على رأس الجماهير البروليتارية في مكان ظاهر كلياً، بالصف الأول.

7- يتوجب على النواب الشيوعيين أن يلتزموا، بكل الوسائل، بإقامة (تحت إشراف الحزب) علاقات مراسلة وعلاقات أخرى مع العمال والفلاحين والشغيلة الثوريين من جميع الفئات، دون أن يقلدوا، بأي حال من الأحوال النواب الاشتراكيين الذين يعملون على إقامة علاقات عمل مع ناخبيهم، وأن يكونوا دائماً بتصرف المنظمات الشيوعية من أجل العمل الدعاوي في البلاد.

8- يلتزم كل نائب شيوعي في البرلمان بأن يتذكر بأنه ليس “مشترعاً” يبحث عن لغة مشتركة مع المشترعين الآخرين، بل محرض حزبي مرسل إلى العدو من أجل تنفيذ قرارات الحزب. والنائب الشيوعي مسؤول ليس أمام جمهور الناخبين المجهول، بل أمام الحزب الشيوعي سواء كان شرعياً أو غير شرعي.

9- على النواب الشيوعيين أن يتحدثوا في البرلمان لغة يفهمها العامل والفلاح والغسالة والراعي، وبشكل يمكن الحزب من نشر خطبهم ببيانات يوزعها في أقصى أرجاء البلاد.

10- على العمال الشيوعيين في عداد النواب، حتى لو كانوا في بداية تجربتهم البرلمانية، أن يعتلوا دون خوف منصة البرلمانات البورجوازية ولا يتركوا مكانهم لخطباء أكثر “تجربة”. وعند الضرورة، يكتفي النواب العمال ببساطة بقراءة خطبهم، المعدة للنشر في الصحافة أو بواسطة البيانات.

11- على النواب الشيوعيين أن يستخدموا المنبر البرلماني ليس من أجل فضح البرجوازية وخدمها الرسميين وحسب، بل الاشتراكيين – الوطنيين أيضاً والإصلاحيين، والسياسيين الوسطيين المراوغين، وبوجه عام، أخصام الشيوعية، وكذلك بهدف نشر أفكار الأممية الثالثة على نطاق واسع.

12- يتوجب على النواب، حتى لو كانوا نائباً واحداً أو اثنين، أن يتحدّوا الرأسمالية بكل مواقفهم ولا ينسوا أبداً إن من يستحق أن يحمل اسم الشيوعية، هو من يظهر كعدو للمجتمع البرجوازي، وخدامه الاشتراكيين الوطنيين بالأفعال وليس بالأقوال.

 بيان المؤتمر

العالم الرأسمالي والأممية الشيوعية

1- العلاقات الدولية بعد معاهدة فرساي

تتذكر برجوازية العالم أجمع الأيام الغابرة بمرارة وحسرة، فكل أسس السياسة العالمية أو الداخلية قد تزعزعت أو اهتزت. والغد عاصف بالنسبة لعالم المستغِلين. لقد استكملت الحرب الإمبريالية تدمير نظام الأحلاف والضمانات المتبادلة القديم، الذي كان يرتكز عليه التوازن العالمي والسلم المسلّح. ولم ينتج عن سلم فرساي أي توازن جديد.

لقد رُميت روسيا أولاً، ومن ثم النمسا – المجر وألمانيا خارج الحلبة. وأصبحت هذه الدول، صاحبة المقام الأول بالذات، ضحية النهب وعرضة للتجزئة بعد أن احتلت الصدارة بين قراصنة الإمبريالية العالمية. وانفتح أمام امبريالية الدول الحليفة المنتصرة حقل غير محدود للاستغلال الاستعماري، بدءا من الراين، شاملا كل أوروبا الوسطى والشرقية وصولا إلى المحيط الهادي. هل يمكن أن تقارن الكونغو، وسوريا ومصر والمكسيك مع سهوب روسيا وغاباتها وجبالها، ومع القوى العمالية والعمال المتخصصين في ألمانيا ؟ لقد كان البرنامج الكولونيالي الجديد للمنتصرين بسيطا جدا: إطاحة الجمهورية البروليتارية في روسيا، ونهب موادنا الأولية، والاستئثار باليد العاملة الألمانية والفحم الألماني، وفرض دور الخفير على المقاول الألماني، وحيازة السلع التي تم الحصول عليها على هذا الشكل وكذلك عائدات المشاريع. وقد استعادت الدول الحليفة المنتصرة مشروع «تنظيم أوربا» الذي وضعته الإمبريالية الألمانية أثناء حقبة انتصاراتها العسكرية. إن حكومات الدول الحليفة عندما تضع أوغاد الإمبراطورية الألمانية في قفص الإتهام فإنما تعتبرهم أندادا لها. لكن ثمة مغلوبين حتى في معسكر الغالبين.

فالبرجوازية الفرنسية وقد أسكرتها الشوفينية وأسكرتها انتصاراتها ترى نفسها سيدة أوروبا. والواقع أن فرنسا لم تكن يوما، من مختلف النواحي، في تبعية أشد عبودية تجاه أخصامها الأكثر قوة، إنجلترا وأمريكا، مما هي عليه الآن. فهي تفرض على بلجيكا برنامجا اقتصاديا وعسكريا، وتحوّل حليفتها الضعيفة إلى مقاطعة ملحقة. لكنها تلعب إزاء إنجلترا، وعلى نطاق واسع، دور بلجيكا. وحاليا يترك الإمبرياليون الإنجليز للمرابين الفرنسيين مهمة الاقتصاص في الحدود القارية المرسومة لهم، ملقين بذلك على فرنسا سخط الشغيلة في أوروبا وفي إنجلترا نفسها. إن جبروت فرنسا المدمّاة والمهدمة ليس إلاّ ظاهريا ومزيفا، فعاجلا أو آجلا سيضطر الاشتراكيون الوطنيون الفرنسيون إلى ملاحظة ذلك. أمّا إيطاليا فقد خسرت أكثر أيضا من وزنها في العلاقات الدولية، والبرجوازية الإيطالية إذ تفتقر إلى الفحم، وتفتقر إلى الخبز، وتفتقر إلى المواد الأولية، وقد اختل توازنها اختلالا كليا بفعل الحرب، ليست قادرة، بالرغم من كل سوء نيتها، على ممارسة النهب وأعمال العنف التي تعتبرها من حقها، حتى في زوايا المستعمرات التي تخلّت لها عنها إنجلترا بطيبة خاطر.

واليابان التي تفترسها التناقضات الملازمة للنظام الرأسمالي في مجتمع لا يزال إقطاعيا، هي على أعتاب إحدى الأزمات الثورية الأشد عمقا. وقد شلّت هذه الأزمة اندفاع اليابان الإمبريالي، على الرغم من ظروف ملائمة لها في السياسة الدولية.

ولا يبقى على الصعيد العالمي سوى قوتين عظميين فقط، بريطانيا العظمى والولايات المتحدة.

لقد تخلصت الإمبريالية الإنجليزية من خصمها الأسيوي، القيصرية، ومن المنافسة الألمانية الخطيرة، وبلغ سلطان بريطانيا العظمى على البحار أوجه، فهي تحيط القارات بسلسلة من الشعوب الخاضعة لها. وقد وضعت يدها على فنلندا واستونيا وليتونيا، وانتزعت من السويد والنرويج بقايا استقلالهما، وحوّلت بحر البلطيق إلى خليج في نطاق المياه البريطانية، ولا يقاومها أحد في بحر الشمال. وبامتلاكها للكاب ومصر والهند وإيران وأفغانستان جعلت من المحيط الهندي بحرا داخليا يخضع كليا لسيطرتها، وكونها سيدة المحيطات، فإنها تسيطر على القارات. وكسيدة للعالم لا تجد حدودا لسلطانها إلاّ جمهورية الدولار الأمريكية وجمهورية السوفيتات الروسية.

أجبرت الحرب الولايات المتحدة على التخلي كليا عن نزعتها المحافظة الإقليمية. واستبدلت، بعد اتساع ازدهارها، برنامج رأسماليتها الوطنية – «أمريكا للأمريكيين» (نظرية مونرو) – ببرنامج الإمبريالية «العالم أجمع للأمريكيين». وإذا لم تعد تكتفي باستغلال الحرب عن طريق التجارة والصناعة، وعمليات البورصة فإنها تسعى إلى مصادر جديدة للثروة غير تلك التي امتصتها من الدم الأوروبي عندما كانت محايدة. لقد دخلت أمريكا في الحرب ولعبت دورا حاسما في هزيمة ألمانيا وتدخلت في حل جميع قضايا السياسة الأوروبية والعالمية.

لقد حاولت الولايات المتحدة، تحت راية عصبة الأمم، أن تنقل التجربة التي كانت قامت بها في بلادها إلى الجانب الآخر من المحيط، تجربة التجمع الفيدرالي لشعوب كبيرة تنتمي إلى أعراق مختلفة، وأرادت أن تربط إلى عربتها المنتصرة شعوب أوربا وشعوب الأجزاء الأخرى من العالم عبر إخضاعها لحكومة واشنطن. إن عصبة الأمم ليست بالنهاية سوى شركة تتمتع باحتكار عالمي تحت اسم: «يانكي وشركاه».

لقد نزل رئيس الولايات المتحدة، أحد أكبر أنبياء الأفكار المبتذلة، من سينائه لأجل الاستيلاء على أوربا، حاملا معه بنوده الأربعة عشر. لكن رجال البورصة والوزراء ورجال الأعمال البرجوازيين لم ينخدعوا للحظة حول المعنى الحقيقي للوحي الجديد. بالمقابل، أصيب «الاشتراكيون» الأوربيون، الذين فعلت فيهم خميرة كاوتسكي فعلها، بنشوة دينية وراحوا يرقصون كالملك داود وهم يواكبون سفينة ويلسون المقدسة.

وعندما لزم حل مسائل عملية، رأى الرسول الأمريكي بوضوح أنه على الرغم من الارتفاع الهائل لسعر الدولار، فإن بريطانيا العظمى ما زالت تهيمن على جميع الطرق البحرية التي تصل بين الأمم وتفصل فيما بينها، لأن إنكلترا تمتلك الأسطول الأقوى والكابل الأطول، ولها تجربة عريقة في القرصنة الدولية. بالإضافة إلى ذلك اصطدم ويلسون بالجمهورية السوفياتية وبالشيوعية. وأحس المسيح الأمريكي بجرح عميق، فتنصل من عصبة الأمم التي جعلتها إنكلترا إحدى مستشارياتها الديبلوماسية، وأدار ظهره لأوروبا.

مع ذلك، فمن السذاجة الاعتقاد أن الإمبريالية الأمريكية ستنطوي على نفسها بمجرد ما تلقت أول ضربة من إنجلترا. هل هذا يعني القول إنها ستتقيد من جديد بنظرية مونرو؟ كلا. ستستمر في إخضاع القارة الأمريكية بشكل أكثر عنفا، محوّلة بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية إلى مستعمرات. فالولايات المتحدة تستعد، ممثلة بحزبيها القياديين، الديموقراطي والجمهوري، لتضليل عصبة الأمم التي أنشأتها إنجلترا، وتشكيل عصبة خاصة بها حيث تلعب أمريكا الشمالية دور مركز عالمي. ومن أجل أن تحرز النجاح، فإنها تنوي أن تجعل من أسطولها، خلال السنوات الثلاث أو الخمس القادمة، أداة صراع أقوى من الأسطول البريطاني، وهذا ما يجبر إنجلترا الإمبريالية على طرح السؤال التالي: نكون أو لا نكون؟.

ويضاف إلى هذه المنافسة المستعرة بين هذين الجبارين في مجال الإنشاءات البحرية صراع ليس أقل ضراوة على امتلاك النفط.

أمّا فرنسا التي كانت تنوي أن تلعب دور الحكم بين إنجلترا والولايات المتحدة، فقد وجدت نفسها تدور في فلك بريطانيا العظمى، مثل كوكب تابع من الدرجة الثانية. وتشكل عصبة الأمم بالنسبة لها عبئا لا يحتمل، وهي تسعى للتخلص منه بتسعير العداء بين إنكلترا والولايات المتحدة.

وهكذا تعمل أقوى الدول العظمى على تحضير مبارزة عالمية جديدة.

لقد جلب برنامج تحرير الأمم الصغيرة، الذي وضع في الصدارة أثناء الحرب، الهزيمة الكاملة والاستعباد المطلق لشعوب البلقان، المهزومة أو المنتصرة، وأدى إلى بلقنة جزء هام من أوربا. إن المصالح الإمبريالية للدول المنتصرة قد دفعتها لسلخ بعض الدول الصغيرة التي تمثل قوميات متمايزة عن الدول الكبرى التي هزمتها. ولا يتعلق الأمر هنا بما يسمى بمبدأ القوميات: فالإمبريالية تقوم على تحطيم الأطر القومية حتى بالنسبة للدول العظمى. وليست الدول البرجوازية الصغرى المنشأة حديثا سوى فُضالة الإمبريالية. وإذ تنشئ الإمبريالية سلسلة كاملة من الأمم الصغيرة المضطهدة علنا أو المحمية رسميا ولكنها في الواقع ملحقة بها كي تجد فيها سندا مؤقتا (النمسا، والمجر، وبولونيا، ويوغوسلافيا، وبوهيميا، وفنلندا وليتونيا وليتونيا وليستونيا، وأرمينيا وجورجيا، الخ…) وإذ تسيطر عليها عن طريق البنوك وسكك الحديد واحتكار الفحم، إنما تحكم عليها بمعاناة صعوبات اقتصادية وقومية لا تحتمل، وصراعات دائمة وشجارات دامية.

وأي سخرية بشعة في التاريخ! فبعد أن كانت إعادة بناء بولندا جزءا من برنامج الديموقراطية الثورية ومن أولى تجليات البروليتاريا العالمية، تولت الإمبريالية تحقيق ذلك بقصد إعاقة الثورة! وبولندا «الديموقراطية»، التي مات المبشرون بها على متاريس أوربا بكاملها، هي في هذه اللحظة أداة قذرة ودامية بين أيدي قطاع الطرق الأنجلو – فرنسيين الذين يهاجمون أول جمهورية بروليتارية عرفها التاريخ.

وإلى جانب بولندا، تقدم تشيكوسلوفاكيا «الديموقراطية»، المباعة للرأسمال الفرنسي، حرسا أبيضا ضد روسيا السوفياتية وضد المجر السوفياتية.

إن المحاولة البطولية التي قامت بها البروليتاريا المجرية للتخلص من الفوضى السياسية والاقتصادية في أوربا الوسطى وولوج طريق الفدرالية السوفياتية، – التي هي فعلا طريق الخلاص الوحيدة –، قد خنقتها الرجعية الرأسمالية المتحدة، في وقت كانت فيه بروليتاريا الدول الأوربية العظمى، وقد خدعتها الأحزاب التي تقودها، عاجزة عن تأدية واجبها نحو المجر الاشتراكية ونحو نفسها بالذات.

لقد تمت إطاحة حكومة بودابست السوفياتية بمساعدة اشتراكيين خونة، الذين بعد أن استمروا في الحكم ثلاث سنوات ونصفاً، ألقي بهم أرضا الأوغاد المسعورون المعادون للثورة، الذين فاقت جريمتهم الدامية جرائم كولتشاك ودينيكين ورانغل وبقية عملاء الدول الحليفة…

لكن المجر السوفياتية على الرغم من هزيمتها إلى حين، لا تزال تنير شغيلة أوروبا الوسطى، كمنارة ساطعة.

لم يكن الشعب التركي يريد الخضوع للسلام المخجل الذي فرضه عليه طغاة لندن. وكي تُجبر إنكلترا تركيا على تنفيذ المعاهدة قامت بتسليح اليونان وأطلقتها ضدها. وهكذا قضي على شبه الجزيرة البلقانية وآسيا الصغرى وعلى الأتراك واليونانيين بخراب كامل ومجازر متبادلة.

وقد سُجلت أرمينيا في برنامج صراع الحلفاء ضد تركيا، وبلجيكا في برنامج الصراع ضد ألمانيا، والصرب في الصراع ضد النمسا – المجر. وبعد إنشاء أرمينيا دون حدود معينة – ودون إمكانية استمرار – رفض ويلسون الانتداب على أرمينيا الذي اقترحته عليه «عصبة الأمم»: لأن أرض أرمينيا لا تحتوي لا على نفط ولا على بلاتين. إن أرمينيا «المحررة» عزلاء أكثر من أي وقت مضى.

ويكاد يكون لكل من الدول «القومية» المنشأة حديثا انضماميتها(3)، أي دملتها الوطنية الكامنة.

في الوقت نفسه، بلغ النضال الوطني في المناطق التي يسيطر عليها المنتصرون ذروة احتدامه. فالبرجوازية الإنجليزية التي أرادت وضع شعوب العالم بأكمله تحت وصايتها، عاجزة عن حل المسألة الإيرلندية حلاً مرضيا، وهي التي تقع في جوارها مباشرة.

أمّا المسألة الوطنية في المستعمرات فتحبل بمخاطر أكبر أيضا، فالانتفاضات تهز مصر والهند وإيران، فيما ينقل البروليتاريون المتقدمون في أوروبا وأمريكا إلى شغيلة المستعمرات شعار الاتحاد السوفياتي.

إن أوروبا الرسمية والحكومية، والوطنية، والمتحضرة، والبرجوازية، – كما خرجت من الحرب ومن سلم فرساي، – توحي ببيت للمجانين. فالدول الصغرى المصطنعة، والمجزأة، والمختنقة من الناحية الاقتصادية ضمن الحدود التي رُسمت لها يأخذ بعضها بخناق بعض وتتخاصم لانتزاع مرافئ ومقاطعات ومدن صغيرة، ودونما سبب. وتطلب حماية الدول الأقوى التي يزداد تناحرها يوما بعد يوم. فإيطاليا تقف موقفا عدائيا من فرنسا، وهي على استعداد لمساندة ألمانيا ضدها إذا ما وجدت هذه الأخيرة نفسها قادرة على النهوض. ويسمم فرنسا الحسد الذي تحمله إزاء إنجلترا، وهي مستعدة لأن تشعل النار في زوايا أوروبا الأربع كي تحصِّل إيراداتها. وبمساندة فرنسا، تبقي إنجلترا أوروبا في حالة فوضى وعجز، مما يطلق يديها كي تقوم بعملياتها الدولية الموجهة ضد أمريكا. أمّأ الولايات المتحدة فتترك اليابان تتورط في سيبيريا الشرقية كي تضمن لأسطولها، في هذه الأثناء، التفوق على أسطول بريطانيا العظمى قبل عام 1925، إلاّ إذا قررت إنجلترا أن تتبارى معها قبل هذا التاريخ.

وكي تكتمل هذه اللوحة كما يجب، فإن وسيط الوحي العسكري للبرجوازية الفرنسية، المارشال فوش، يخطرنا بأن الحرب القادمة ستنطلق من حيث وقفت الحرب السابقة: سنشهد أولا ظهور الطائرات والدبابات، البندقية الأوتوماتيكية والرشاشات بدل البندقية النقالة، والقنبلة بدل الحربة.

يا عمال وفلاحي أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا وأستراليا ! لقد ضحيتم بعشرة ملايين نسمة وعشرين مليون جريح ومشوه. الآن تعرفون على الأقل ماذا نلتم لقاء هذا الثمن!

2- الوضع الاقتصادي

في الوقت نفسه يستمر دمار الإنسانية.

لقد دمرت الحرب، بشكل آلي، الروابط الاقتصادية التي كان تطورها يشكل أحد أهم إنجازات الرأسمالية العالمية. فانفصلت إنجلترا وفرنسا وإيطاليا انفصالا كليا عن أوروبا الوسطى والشرق الأوسط منذ عام 1914، وعن روسيا منذ عام 1917.

وعلى امتداد عدة سنوات من حرب دمّرت ما أنجزته عدة أجيال، سُخّر العمل البشري بشكل أساسي، وبعد تقليصه إلى حده الأدنى، لتحويل احتياطي المواد الأولية إلى سلع، هذه المواد التي كانت في المتناول منذ وقت طويل، والتي تحوّلت إلى أسلحة وأدوات دمار بشكل خاص.

أمّا في المجالات الاقتصادية، حيث يدخل الإنسان في صراع مباشر مع الطبيعة الشحيحة والجامدة، مستخرجا من أحشائها الوقود والمواد الأولية، فقد استحال العمل تدريجيا إلى عدم.إن انتصار الحلفاء وسلام فيرساي لم يوقفا التدمير الاقتصادي والانحطاط العام، بل غيّرا طرقه وأشكاله وحسب. فحصار روسيا السوفياتية والحرب الأهلية التي افتعلت على طول حدودها الخصبة سببت وما زالت تسبب أضرارا هائلة برخاء البشرية جمعاء. فلو جرى دعم روسيا من الناحية التقنية، وإنْ بقدر متواضع جدا، – والأممية تؤكد ذلك أمام العالم كله، – لاستطاعت، بفضل الأشكال السوفياتية للاقتصاد، أن تقدم لأوروبا ضعفي أو ثلاثة أضعاف ما كانت تقدمه روسيا القيصرية في السابق من منتجات غذائية. بدلا من ذلك تكره الإمبريالية الأنجلو – فرنسية جمهورية الشغيلة على استخدام كل طاقتها وجميع مواردها من أجل الدفاع عن نفسها. ومن أجل حرمان العمال الروس من الوقود، تحتفظ إنجلترا بين مخالبها بمنطقة باكو التي بقي نفطها بسبب ذلك دون استخدام تقريبا، لأنها لم تنجح في استيراد أكثر من قسم ضئيل منه. أمّا حوض الدون العظيم، الغني بالفحم الحجري، فقد دمّرته العصابات البيضاء المأجورة للحلفاء، في كل مرة نجحت فيها في القيام بهجوم على ذلك القطاع. وانصرف المهندسون والنقابون الفرنسيون أكثر من مرة إلى تدمير جسورنا وسككنا الحديدية، بينما لم تكف اليابان حتى الآن عن نهب سيبيريا الشرقية وتدميرها.

إن العلم الصناعي الألماني والإنتاجية المرتفعة جدا لليد العاملة الألمانية، هذان العاملان اللذان يتخذان أهمية قصوى في عملية إحياء الحياة الاقتصادية الأوربية، تشلهما بنود سلام فرساي أكثر مما شلتهما الحرب. ويجد الحلفاء أنفسهم أمام مأزق: فمن أجل فرض دفع التعويضات يجب توفير مجالات العمل، ومن أجل توفير هذه الأخيرة يجب تأمين المعيشة. وأن يتاح لألمانيا المهدمة والمجزأة والمستنزفة أن تجدد حياتها، إنما يعني تمكينها من الانتفاض محتجة. إن فوش خائف من ثأر ألمانيا، وهذا الخوف ينضح من كل ما يقوم به، مثلا في الشكل الذي تُشد به، أكثر فأكثر كل يوم، الملزمة العسكرية التي ينبغي أن تمنع ألمانيا من النهوض.

الجميع يفتقر إلى شيء ما، الجميع في عوز. وليست موازنة ألمانيا فقط هي الوحيدة التي تؤشر إلى ديون، بل أيضا موازنة فرنسا وإنجلترا. فالدين الفرنسي يبلغ 300 مليار فرنك، حيث أن ثلثيه على الأقل، حسب تأكيد السناتور الرجعي غودان دو فيلان، هما نتاج جميع أنواع الاختلاس والإسراف والفوضى.

فرنسا بحاجة إلى الذهب، فرنسا بحاجة إلى الفحم. ويرجع البرجوازي الفرنسي إلى القبور التي لا تحصى للجنود الذين قتلوا أثناء الحرب، للمطالبة بفوائد رساميله. على ألمانيا أن تدفع: أليس عند الجنرال فوش عدد كافٍ من السنغاليين من أجل احتلال المدن الألمانية ؟ على روسيا أن تدفع! ومن أجل أن تقنعنا الحكومة الفرنسية بذلك فإنها تنفق من أجل تخريب روسيا المليارات المنتزعة من دافعي الضرائب لأجل إعادة بناء المحافظات الفرنسية.

إن الوفاق المالي الدولي الذي كان من المفترض أن يخفف عبء الضرائب الفرنسية، لم يحصل: فقد ظهرت الولايات المتحدة غير مستعدة كثيرا لتقديم هدية مقدارها عشرة مليارات من الجنيهات الإسترلينية إلى أوروبا.

ويستمر إصدار العملة الورقية، بالغاً كل يوم رقما أضخم. وفي روسيا، حيث يوجد تنظيم اقتصادي موحد وتوزيع منظم للمواد الغذائية، وحيث يتجه الأجر النقدي أكثر فأكثر لأن يُستبدل بالدفع العيني، ليس الإصدار المستمر للعملة الورقية والهبوط السريع في قيمتها، سوى تأكيد لانحطاط النظام المالي والتجاري القديم. لكن الكمية المتزايدة من سندات الخزينة في السوق هي في البلدان الرأسمالية علامة اضطراب اقتصادي عميق وإفلاس وشيك.

وتسافر الكونفرنسات التي يدعو إليها الحلفاء من مكان إلى آخر، باحثة عن الوحي على هذا الشاطئ أو ذاك تبعا للموضة. كل واحد يطالب بفوائد الدم الذي جرى إهراقه أثناء الحرب، تعويضا متناسبا مع عدد قتلاه. ويكرر هذا الشكل من البورصة النقالة، كل أسبوعين، السؤال نفسه، وهو إذا ما كان يجب أن تنال فرنسا 50 أو 55 % من تعويض ليست ألمانيا قادرة على دفعه أصلا. لقد أُعدت هذه الاجتماعات بشكل جيد لتتويج «تنظيم» أوروبا الشهير والذي طاب لهم امتداحه كثيرا.

لقد أدت الحرب إلى تطور في الرأسمالية. فالعصر المنهجي لفائض القيمة الذي كان في السابق المورد الوحيد لدخل أصحاب المشاريع، يبدو حاليا عملا تافها بالنسبة للسادة البرجوازيين، الذين اعتادوا زيادة حصصهم إلى الضعفين أو العشرة أضعاف في مدى عدة أيام عن طريق المضاربات البارعة القائمة على اللصوصية الدولية.

وقد طرحت البرجوازية بضعة أوهام كانت تزعجها، وكسبت سطوة كانت تفتقر إليها حتى الآن. عوّدتها الحرب، كما لو أن ذلك من أكثر الأفعال عادية، تجويع بلدان بأسرها عن طريق الحصار، وقصف المدن والقرى المسالمة وحرقها، وتلويث الينابيع والأنهر بزرع جراثيم الكوليرا فيها، ونقل الديناميت في الحقائب الديبلوماسية، ولإصدار الأوراق المصرفية المزيّفة التي تقلِّد أوراق العدو، واللجوء إلى الإفساد والتجسس والتهريب بنسب لم تكن معروفة قبل الآن. واستمرت أساليب العمل نفسها المطبّقة في الحرب معمولا بها في العالم التجاري بعد اتفاق السلام. وتجري العمليات التجارية التي تتسم ببعض الأهمية تحت إشراف الدولة. وقد أصبحت هذه الأخيرة أشبه بجمعية من الأشقياء المسلحين حتى العظم. فيما يضيق مجال الإنتاج العالمي كل يوم ويصبح الاستيلاء على الإنتاج بالتالي أكثر سعارا وكُلْفته أغلى فأغلى.

المنع: هذه هي آخر كلمة للسياسة الرأسمالية، الشعار الذي يحل محل الحماية والتبادل الحر! إن العدوان الذي كانت المجر ضحيته من قبل الأوغاد الرومانيين الذين نهبوا منها كل شيء، وقع تحت أيديهم دون تمييز بين عربات القطارات والحلي، هذا العدوان هو ما يميز الفلسفة الاقتصادية للويد – جورج وميللران.

ولا تعرف البرجوازية، في سياستها الاقتصادية الداخلية، بأي شيء تتشبث؛ هل بنظام تأمين وتنظيم وإشراف من قبل الدولة قد يكون من أشد سياساتها فعالية، أم بالاحتجاجات التي تدوّي ضد استيلاء الدولة على الشؤون الاقتصادية من جهة أخرى؟ فالبرلمان الفرنسي يبحث عن مساومة تسمح له بحصر إدارة جميع السكك الحديدية داخل الجمهورية في يد واحدة دون أن يضر مع ذلك بمصالح الرأسماليين المساهمين في شركات السكك الحديدية الخاصة. وفي الوقت نفسه تقوم الصحافة الرأسمالية بحملة مسعورة ضد «الدولنة» (l’étatisme) التي تشكل الخطوة الأولى في تدخل الدولة، وكابحا للمبادرة الحرّة. وقد وقعت سكك الحديد الأمريكية التي كانت الدولة تشرف عليها أثناء الحرب والتي دُمرت، في وضع أكثر صعوبة عندما أزيل عنها إشراف الدولة. بيد أن الحزب الجمهوري يعِدُ في برنامجه بتحرير الحياة الاقتصادية من التدخل الحكومي. ويناضل زعيم النقابات الأمريكية صموئيل غومبيرز، هذا الحارس الشرس للرأسمال، ضد تأميم سكك الحديد الذي يقترحه السذج والانتهازيون الإصلاحيون على فرنسا كترياق عالمي. والواقع أن التدخل الفوضوي للدولة لا يمكن أن يحصل إلا لدعم نشاط المضاربين التخريبي، ولإتمام إدخال الفوضى الأعم في الاقتصاد الرأسمالي، في اللحظة التي يعيش فيها هذا الأخير حقبة انحطاطه. فأن تنتزع من التروستات وسائل الإنتاج والنقل لتُسلم إلى «الأمة» أي الدولة البرجوازية، أي أقوى تروستات الرأسماليين وأكثرها شرهاً، إن هذا ليس محوا للبلبلة، بل جعلها قانونا عاما.

وليس انخفاض الأسعار وارتفاع قيمة العملة سوى مؤشرين خادعين، لا يمكنهما أن يخفيا الخراب الوشيك. وعبثا تنخفض الأسعار، فذلك لا يعني حصول زيادة في المواد الأولية، ولا أن العمل أصبح أكثر إنتاجية.

وبعد محنة الحرب الدامية، لم يعد الجمهور العمالي قادرا على العمل بالنشاط نفسه والشروط نفسها. إن تدمير القيم، التي تطلّب خلقها عدة سنوات، خلال بضع ساعات، والمضاربة الوقحة برهانات تبلغ عدة مليارات من قبل زمرة مالية، وإلى جانب ذلك أكوام عظام الموتى والخراب – تلك الدروس التي قدمها التاريخ لم يكن من شأنها أن تعزز لدى الطبقة العاملة نظام الطاعة الآلي الملازم للعمل المأجور. ويحدثنا الاقتصاديون البرجوازيون وواضعو الروايات المسلسلة عن «موجة كسل» تجتاح أوربا، حسب رأيهم، وتهدد مستقبلها الاقتصادي. ويسعى الإداريون لكسب الوقت عن طريق منح العمال المهرة عدداً من الامتيازات، لكنهم يضيعون جهدهم سدى. فمن أجل إعادة تجديد إنتاج العمل وتطويره، من الضروري أن تثق الطبقة العاملة بأن كل ضربة مطرقة ستؤدي إلى تحسين وضعها وتسهيل تثقيفها وتقريبها من سلام عالمي. والحال أن تلك الثقة لا يمكن أن تقدمها لها سوى ثورة اجتماعية.

وينشر ارتفاع أسعار المأكولات الاستياء والتمرد في جميع البلدان. ولا تجد برجوازيات فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبقية البلدان سوى مسكنات تواجه بها ويلات غلاء المعيشة وموجة الإضرابات المهددة. وكي تكون الدولة قادرة على أن تدفع للمزارعين ولو جزءا من تكاليف الإنتاج، فإنها تدخل، مثقلة بالديون، في مضاربات مشبوهة وتسرق نفسها بنفسها من أجل تأجيل ساعة وفاء الدين. وإذا صحّ أن بعض فئات العمال يعيش حاليا في شروط أفضل حتى من قبل الحرب، فإن ذلك لا يعني شيئا بالواقع فيما يتعلق بالحالة الاقتصادية للبلدان الرأسمالية. ويتم الحصول على نتائج مؤقتة بالاعتماد على الغد من أجل الاكتتاب بقروض مشعوذين؛ فسيحمل الغد البؤس وكل أنواع الآفات.

وماذا نقول عن الولايات المتحدة؟ «أمريكا أمل الإنسانية»: يقول ميللران. يردد هذا البورجوازي الفرنسي حكمة تورغو، وهو يأمل تأجيل ديونه، هو الذي لا يؤجل ديون أحد. لكن الولايات المتحدة ليست قادرة على إنقاذ أوروبا من المأزق الذي تتخبط فيه. فقد استنفذت خلال السنوات الست الأخيرة مخزونها من المواد الأولية. فيما قلّص تكيف الرأسمالية الأمريكية مع متطلبات الحرب قاعدتها الصناعية. وكف الأوربيون عن الهجرة إلى أمريكا. وأفقدت موجة من العودة إلى الوطن الصناعة الأمريكية آلاف الألمانيين والإيطاليين والبولنديين والصربيين والتشيكيين الذين كان يدعوهم إلى أوروبا إمّا الاستنفار أو سراب وطن مستعاد. إن جمهورية ما وراء الأطلنطي ترزح تحت وطأة الافتقار إلى المواد الأولية واليد العاملة، الأمر الذي تدخل بسببه البروليتاريا الأمريكية مرحلة جديدة من النضال الثوري. فأمريكا تصبح أوروبية بشكل سريع.

ولم يفلت المحايدون من نتائج الحرب والحصار. وأشبه بسائل محتجز في أوعية متصلة، يتجه اقتصاد الدول الرأسمالية المرتبطة فيما بينها بشكل وثيق إلى اتخاذ مستوى واحد، مستوى البؤس والمجاعة والتلف، أكانت هذه الدول كبرى أو صغرى، محاربة أو محايدة، منتصرة أو مهزومة.

فسويسرا تعيش كفاف يومها، وكل احتمال يهدد بطرحها خارج كل توازن. وفي اسكندنافيا لا يمكن أن يحل مشكلة التموين التصدير الواسع للذهب. كما تضطر إلى طلب الفحم من إنجلترا بكميات ضئيلة وذلك بعد تملّق شديد. وبرغم المجاعة في أوروبا يتعرض صيد السمك في النرويج لأزمة مذهلة.
ولا يمكن لإسبانيا التي جلبت منها فرنسا رجالا وخيولا وأطعمة، أن تتخلص من صعوبات جمة على الصعيد التمويني، تؤدي بدورها إلى اضطرابات عنيفة وتظاهرات من جانب الجماهير التي يجبرها الجوع على النزول إلى الشارع.

تعتمد البرجوازية اعتمادا قويا على الأرياف. ويؤكد اقتصاديوها أن رخاء الفلاحين ازداد ازديادا هائلا. إن هذا وهم. فصحيح أن الفلاحين الذين يحملون منتجاتهم إلى السوق قد جمعوا ثروة إلى هذا الحد أو ذاك، في كل مكان أثناء الحرب. باعوا منتجاتهم بأسعار عالية، ودفعوا ديونهم، التي ترتبت عليهم عندما كان سعر العملة مرتفعا، بعملة بخسة الثمن. لكن استثماراتهم سقطت، أثناء الحرب، في الفوضى وانخفض مردودها. وكانوا بحاجة إلى أدوات مصنّعة، وقد تضاعفت سعر تلك الأدوات بقدر ما قلّت قيمة النقود. وأصبحت متطلبات مصلحة الضرائب هائلة، تهدد بابتلاع الفلاح مع منتجاته وأراضيه. هكذا، بعد فترة انتعاش مؤقت من الرخاء، وقع فلاحو الطبقة الصغيرة أكثر فأكثر في صعوبات مستعصية. وازداد استياؤهم من نتائج الحرب. إن الفلاح، ممثلا بجيش دائم، يعد قدرا غير قليل من المفاجآت المزعجة للبرجوازية.

إن ترميم أوروبا اقتصاديا، الذي يتحدث عنه الوزراء الذين يحكمونها، ليس سوى كذبة. فأوروبا تتهدم ومعها يتهدم العالم أجمع.

فما من خلاص على أسس الرأسمالية. ولا يمكن سياسة الإمبريالية أن تزيل العوز، فهي لا تستطيع إلاّ جعله أكثر إيلاما بتشجيعها تبديد المدخرات الباقية.

أمّا مسألة الوقود والمواد الأولية فمسألة دولية لا يمكن أن تحل إلاّ على أساس إنتاج مخطط وجماعي واشتراكي.

يجب إلغاء ديون الدولة. يجب تحرير العمل وثماره من الجزية الضخمة التي يدفعها للطغمة المالية العالمية. يجب إطاحة الطغمة المالية. يجب إسقاط الحواجز الحكومية التي تجزئ الاقتصاد العالمي. يجب استبدال المجلس الاقتصادي الأعلى لإمبرياليي الدول الحليفة بالمجلس الاقتصادي الأعلى للبروليتاريا العالمية من أجل الاستثمار الممركز لجميع موارد البشرية.

يجب القضاء على الإمبريالية من أجل أن يستطيع الجنس البشري الاستمرار في البقاء.

3- النظام البرجوازي بعد الحرب

تتركز كل طاقات الطبقات الثرية حول المسألتين التاليتين: البقاء في السلطة إبّان الصراع الدولي وعدم السماح للبروليتاريا بأن تصبح سيدة البلاد. وفقا لهذا البرنامج، اختفت المجموعات السياسية البرجوازية القديمة في روسيا، حيث أصبحت راية الحزب الدستوري الديمقراطي (الكاديت)، خلال الفترة الحاسمة من الصراع راية جميع الأغنياء المنتصبين ضد ثورة العمال والفلاحين، لكن أيضا في البلدان صاحبة الثقافة السياسية الأعرق والجذور الأعمق، واختفت معها البرامج السابقة التي كانت تُفرق مختلف الأجنحة البرجوازية، دون أن تترك أي أثر تقريبا. وذلك قبل الهجوم المعلن الذي قامت به البروليتاريا الثورية بوقت طويل.

إن لويد جورج يجعل من نفسه المبشر باتحاد المحافظين والوحدويين والليبراليين في سبيل النضال المشترك ضد خطر سيطرة الطبقة العاملة. ويضع هذا الديماغوجي العجوز الكنيسة المقدسة في أساس نظامه، مقارنا إياها بمحطة كهرباء مركزية تزود جميع أحزاب الطبقات الثرية بتيار متساو. وفي فرنسا تبدو الفترة الصاخبة لمعاداة الاكليركية، والتي ما زالت قريبة العهد، وكأنها رؤيا من عالم آخر: فالراديكاليون والملكيون والكاثوليك يشكلون حاليا كتلة للنظام الوطني ضد البروليتاريا التي ترفع رأسها. وتمد الحكومة الفرنسية يدها إلى جميع القوى الرجعية، مقدمة دعمها لعضو عصابة المائة السود، رانغل، وتعيد علاقاتها الديبلوماسية مع الفاتيكان.

ويمسك المحايد المقتنع بحياده، المشايع للألمان، جيوليتي، بدفة الدول الإيطالية بصفته القائد العام للمتدخلين والمحايدين والاكليريكيين والماتزينيين: وهو مستعد لأن يتحايل في المسائل الثانوية الخاصة بالسياسة الداخلية والخارجية كي يصد بحيوية أقوى هجوم البروليتاريين الثوريين في المدن والقرى. وتعتبر حكومة جيوليتي نفسها، بحق، الورقة الأخيرة للبرجوازية الإيطالية.

وتتجه سياسة جميع الحكومات الألمانية والأحزاب الحكومية، بعد هزيمة عائلة هوهنزولرن، بالاتفاق مع الطبقات الحاكمة للبلدان المتحالفة، إلى إقامة أرضية مشتركة من الحقد ضد البلشفية، أي ضد الثورة البروليتارية.

وبينما يخنق شايلوك(4) الأنجلو – فرنسي الشعب الألماني بوحشية متزايدة، تطلب البرجوازية الألمانية من العدو، دون تمييز بين أحزابها، أن يحلّ العقدة التي تخنقها بالقدر الذي يسمح لها فقط بذبح طليعة البروليتاريا الألمانية بيدها. وهذا بالإجمال ما تدور حوله دائما الاجتماعات الدورية التي تعقد، والاتفاقات التي توقع بشأن نزع الأسلحة وتسليم الآليات الحربية.

وفي أمريكا لم يعد ثمة فرق بين جمهوريين وديموقراطيين. وقد أظهرت هاتان المنظمتان السياسيتان القويتان للمستغِلين والمكيفتان وفق الدائرة الضيقة للمصالح الأمريكية، أظهرتا بوضوح تام كم كانتا مجردتين من الحزم عندما دخلت البرجوازية الأمريكية ميدان اللصوصية العالمية.

لم يحدث أبدا أن برهنت دسائس القادة وعصاباتهم – في المعارضة كما في الوزارات – عن مثل هذه الصفاقة، وأن تحركت بمثل هذه العلنية. بيد أن كل القادة وزمرتهم الأحزاب البرجوازية في كل البلدان، يشكلون جبهة موحدة ضد البروليتاريا الثورية.

وبينما يستمر أغبياء الاشتراكية – الديموقراطية بمواجهة أعمال عنف الطريق الديكتاتوري بطريق الديموقراطية، تداس آخر آثار الديموقراطية بالأقدام وتعدم في جميع دول العالم.

وبعد حرب كانت مجالس الممثلين خلالها، رغم أنها لا تتمتع بالسلطة، تستخدم من أجل تغطية نشاط العصابات الحاكمة الإمبريالية بصرخاتها الوطنية، سقطت البرلمانات في انحطاط كامل. فجميع المسائل الجدية تُحل خارج البرلمانات، ولا يغيّر بطابع الأمر شيئا التوسيع الوهمي للصلاحيات البرلمانية الذي يعلنه بأبهة مشعوذو الإمبريالية في إيطاليا وبقية البلدان. وكأسياد فعليين للموقف، ومتحكمين بمصير الدولة، فإن اللورد روتشيلد، واللورد فير، ومورغان وروكفببر، وشنايدر ولوثور، وهوغوستينز وفيليكس دوتش، وريزيللو وآنيللي، – ملوك الذهب والفحم والنفط والمعادن – يتحركون خلف الكواليس مرسلين صغار موظفيهم إلى البرلمانات من أجل تصريف أعمالهم.

أمّا البرلمان الفرنسي الذي ما زال يتسلى بأصول قراءة مشاريع القوانين التافهة ثلاث مرات، البرلمان الفرنسي الذي تحط من شأنه أكثر من غيره الخطابية المفرطة والكذب والصفاقة التي يبيع نفسه بها، فهو يكتشف فجأة أن الأربع مليارات التي خصصها للترميم في الأقاليم المخربة من فرنسا قد أنفقها كليمنصو لأهداف مختلفة كليا، وبشكل رئيسي لمواصلة أعمال التخريب الجارية في المقاطعات الروسية.

والأغلبية الساحقة من نواب البرلمان الإنكليزي، المزعوم أنه كلي القدرة، لا تعرف عن النوايا الفعلية للويد جورج ولكرسن، فيما يتعلق بروسيا السوفياتية وحتى بفرنسا، أكثر مما تعرف عنها النسوة العجائز في قرى البنغال.

أمّا البرلمان في الولايات المتحدة فيشكل جوقة طيّعة أو أنه يتململ أحيانا تحت عصا الرئيس. وهذا البرلمان ليس سوى خادم للآلة الانتخابية التي تشكل جهازا سياسيا للتروستات – وبقدر أوسع بكثير، بعد الحرب، مما كان الأمر عليه في السابق.

والبرلمانية الألمانية المتأخرة، طِرْحُ الثورة البرجوازية التي ليست هي نفسها سوى طرْحُ التاريخ، كانت منذ طفولتها عرضة لجميع الأمراض التي تصيب الكلاب الهرمة. إن رايخ جمهورية إيبرت «الأكثر ديمقراطية في العالم» يبقى عاجزا ليس أمام العصا التي يلوح بها المارشال فوش وحسب، بل أيضا أمام دسائس رجال بورصته، وأمثال ستين لديه، كما أمام المؤامرات العسكرية لزمرة من الضباط. فالديمقراطية البرلمانية الألمانية ليست سوى فراغ بين ديكتاتوريتين.

لقد حدثت تغيرات عميقة في تكوين البرجوازية نفسه، أثناء الحرب. فبوجه الإفقار الشامل للعالم بأجمعه، قفز تمركز الرساميل قفزة كبيرة إلى الأمام، وبرزت بيوت تجارية إلى الصدارة كانت قد بقيت في الظل سابقا. إن الصلابة والتوازن والميل إلى المساومات «العقلانية»، والحفاظ على بعض اللياقة في الاستغلال كما في استعمال المنتجات – كل هذا جرفه سيل الإمبريالية.

إنهم أثرياء جدد تصدروا الواجهة: ممونو جيوش، مضاربون من الدرجة الدنيا، محدثو نعمة، أغنياء مشبوهون، نهابون، مجرمون سابقون يغطيهم الماس، أوغاد دون إيمان ولا شريعة، شرهون إلى الترف، مستعدون لأقصى الفظائع من أجل إعاقة الثورة البروليتارية التي لا يمكن أن تعدهم إلاّ بأنشوطة.

إن النظام الحالي، كونه نظام سيطرة الأغنياء، ينتصب بوجه الجماهير بكل صلافته. وفي أمريكا وفرنسا وإنجلترا، اتخذ الترف بعد الحرب طابعا جنونيا. وباريس المزدحمة بطفيليي الوطنية الدولية، تشبه حسب اعتراف «الزمن»، بابل عشية كارثة.

حسب رغبة هذه البرجوازية، تنتظم السياسة والعدالة والصحافة والفن والكنيسة. كل الكوابح وكل المبادئ طُرحت جانبا. ولا يتوانى ولسون وكليمنصو وميللران ولويد جورج وتشرشل عن القيام بأوقح الخدائع وأفحش الأكاذيب، وعندما يفاجأون أثناء قيامهم بالأعمال الساقطة، يتابعون بهدوء مآثرهم التي يجب أن تقودهم إلى محكمة الجنايات. ولم تعد القواعد الكلاسيكية للانحراف السياسي التي صاغها العجوز مكيافللي سوى حِكَم ساذجة لغبي ريفي، بالمقارنة مع المبادئ التي يسير عليها حكام اليوم البرجوازيين. لقد راحت المحاكم التي كانت في السابق تغطي جوهرها البرجوازي برداء ديموقراطي برّاق، تهين البروليتاريا علنا وتقوم بعمل استفزازي معادٍ للثورة. ودون تردد، يطلق قضاة الجمهورية الثالثة قاتل جوريس وتشجع محاكم ألمانيا، التي كانت قد أُعلنت جمهورية اشتراكية، قتلة ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ وكثير من بقية شهداء البروليتاريا. إن محاكم الديموقراطيات البرجوازية تعمل على جعل كل جرائم الإرهاب الأبيض، جرائم قانونية بشكل رسمي.

إن الصحافة البرجوازية تبيع نفسها علنا، وتحمل دمغة البيع على جبينها مثل الماركة التجارية. فالصحف القيادية للبرجوازية العالمية هي فبارك أكاذيب ضخمة وافتراءات وسجون روحية.

إن استعدادات البرجوازية ومشاعرها عرضة للصعود والهبوط العصبي كأسعار أسواقها. وطوال الأشهر الأولى التي تلت الحرب، اصطكّت أسنان البرجوازية العالمية، وخاصة الفرنسية أمام الشيوعية المتهدّدة. وجعلت من الخطر المحدق فكرة مرتبطة بالجرائم الدامية التي ارتكبتها، لكنها عرفت كيف تصد الهجوم الأول. لقد قدّمت لها الأحزاب الاشتراكية ونقابات الأممية الثانية، المرتبطة بها بسلاسل مسؤولية مشتركة، خدمة أخيرة، إذ أدارت ظهرها لأولى الضربات التي سددها غضب الشغيلة. ونالت البرجوازية قسطا من الراحة لقاء غرق الأممية الثانية بالكامل. وقد تطلب الأمر عددا من التصويتات المعادية للثورة حصل عليها كليمنصو في الانتخابات البرلمانية، وبضعة أشهر في التوازن غير المستقر، وفشل إضراب أيار / مايو، حتى استطاعت البرجوازية الفرنسية أن تنظر بأمان إلى صلابة نظامها الراسخة. وبلغت غطرسة هذه الطبقة المستوى الذي كانت قد بلغته مخاوفها في السابق.

لقد أصبح التهديد الحجة الوحيدة للبرجوازية، فهي لا تؤمن بالأقوال وتطالب بالأفعال: اعتقلوا، فرقوا التظاهرات، صادروا، ارموا بالرصاص! ويعمل الوزراء والبرلمانيون البرجوازيون على خداع البرجوازية بالتظاهر بأنهم رجال من فولاذ. فينصح لويد جورج، بخشونة، الوزراء الألمان بإعدام «الكومونيين» لديهم، كما حصل في فرنسا عام 1871. ويمكن موظفا من الدرجة الثالثة أن يعتمد على التصفيق الصاخب للمجلس إذا عرف كيف يضع في نهاية تقرير تافه بضع تهديدات موجهة إلى العمال.

وبينما تتحول الإدارة إلى منظمة وقحة أكثر فأكثر، معدة لممارسة قمع دموي إزاء الطبقات الكادحة، تعمل منظمات أخرى معادية للثورة، مشكلة تحت إشرافها، وموضوعة تحت تصرفها، على منع الإضرابات بالقوة، والقيام بالاستفزازات و الإدلاء بشهادات كاذبة وتدمير المنظمات الثورية والاستيلاء عن المؤسسات الشيوعية، وارتكاب المجازر والحرائق، واغتيال الأسر الثورية، واتخاذ إجراءات أخرى من النوع نفسه في سبيل الدفاع عن الملكية الخاصة والديموقراطية.

ويشكل أبناء كبار الملاكين وكبار البرجوازيين، والبرجوازيون الصغار الذين لا يعرفون من يهاجمون، وبشكل عام العناصر الفاقدة لهويتها الطبقية، وبالدرجة الأولى المذكورون آنفا من مختلف فئات الروس المهاجرين، كوادر احتياط لا تنضب للجيوش غير النظامية المعادية للثورة، وعلى رأسهم ضباط نشأوا في مدرسة الحرب الإمبريالية.

ويشكل العشرين ألف ضابط من جيش هوهنزولرن، خاصة بعد انتفاضة كاب – لوتفيتز، نواة ثورة مضادة صلبة، لا تقوى الديموقراطية الألمانية على التخلص منها مباشرة، إذا لم تقم مطرقة ديكتاتورية البروليتاريا بتحطيمها. وتكتمل هذه المنظمة الممركزة من إرهابيي النظام السابق بفصائل الأنصار المشكلة من قبل كبار الجلادين البروسيين.

وفي الولايات المتحدة، تشكل الاتحادات مثل عصبة الأمن الوطني (Nacional Security League)، وفرسان الحرية (Knigths Of Liberty) طليعة الرأسمال، وتعمل على ضفافها عصابات اللصوص الممثلة بـ وكالات التحري (Detective Agencies) للتجسس الخاص.

وفي فرنسا ليست العصبة المدنية شيئا آخر سوى منظمة متقنة من «الثعالب»، بينما جرى حل اتحاد العمل، على الرغم من كونه إصلاحيا.

أمّا مافيا الضباط البيض في هنغاريا، التي ما زالت تحتفظ بوجود سري مع أن حكومتهم المؤلفة من الجلادين المعادين للثورة تستمر تبعاً لرغبة إنكلترا، فقد أظهرت أمام بروليتاريا العالم بأسره، كيف تمارس هذه الحضارة وهذه الإنسانية اللتين يتبناهما ويلسون ولويد جورج، بعد أن لعنا سلطة السوفيات وأعمال العنف الثوري.

وتجهد الحكومات «الديمقراطية» في فنلندا وجورجيا وليتونيا واستونيا من أجل الوصول إلى مستوى كمال مثالها الهنغاري. وفي برشلونة، لدى الشرطة عصابات من المجرمين تأتمر بأوامرها، وكذلك الحال في كل مكان.

وحتى في بلد مهزوم ومهدم كبلغاريا، يجتمع الضباط الذين لا عمل لهم في جمعيات سرية مستعدة لدى أول إشارة للبرهنة عن وطنيتها على حساب العمال البلغاريين.

هكذا يوضع برنامج التوفيق بين المصالح المتناقضة والتعاون الطبقي والإصلاحية البرلمانية والتشريك التدريجي والاتفاق المتبادل داخل كل أمة، موضع التنفيذ في النظام البرجوازي لما بعد الحرب. إن كل هذا لا يمثل سوى تهريج مشؤوم. وقد رفضت البرجوازية نهائيا توفيق مصالحها الخاصة مع مصالح البروليتاريا عن طريق إصلاحات بسيطة. وهي تفسد أولئك الذين ينالون الصدقات من الطبقة العاملة، وتُخضع البروليتاريا لقاعدة لا تلين، عن طريق الحديد والنار.

ما من مسألة هامة تقرّر بغالبية الأصوات، ولم يبق من المبدأ الديموقراطي سوى ذكرى في أدمغة الإصلاحيين الضبابية. وتصر البرجوازية كل يوم، بشكل متزايد، على تجنيد ما يشكل العصب الأساسي للحكومات، أي أفواج الجنود. ولم تعد البرجوازية تضيع وقتها في «عدّ الإجاصات على الشجرة» فهي تعدّ البنادق والرشاشات والمدافع التي ستكون بمتناولها عندما تحين الساعة التي لا تعود فيها مسألة السلطة والملكية تحتمل أي تأجيل.

من يأتي ليحدثنا عن التعاون أو الوساطة؟ إن ما ينبغي لخلاصنا هو دمار البرجوازية، والثورة البروليتارية وحدها هي التي تستطيع أن تحدث هذا الدمار.

4– روسيا السوفياتية

تتلاطم الشوفينية والجشع والنزاع في رقصة جامحة، فيما يبقى المبدأ الشيوعي وحده، في مواجهة العالم، حيويا وخلاقا. ورغم أن السلطة السوفياتية قد قامت، كبداية، في بلد متخلف خربته الحرب، ومحاط بأعداء أقوياء، فقد أظهرت أنها تتمتع ليس بصلابة نادرة فحسب، بل أيضا بنشاط مذهل. لقد برهنت بالفعل عن قوة الشيوعية الكامنة. ويشكل تطور السلطة السوفياتية وتوطّدها نقطة الذروة في تاريخ العالم منذ إنشاء الأممية الشيوعية.

حتى الآن، كانت دائما القدرة على تشكيل جيش هي المقياس لكل نشاط اقتصادي أو سياسي. وقوة الجيش أو ضعفه هما المؤشر الذي يخدم في تقدير قوة الدولة أو ضعفها من الناحية الاقتصادية. لقد خلقت سلطة السوفيتات، على دوي المدافع، قوة عسكرية من الدرجة الأولى، وبفضلها تغلبت بتفوق لا جدال فيه ليس على أبطال روسيا القديمة الملكية والبرجوازية وحسب، وعلى جيوش كولتشاك ودينكين ويدونتش وفرانجل وآخرين، بل أيضا على الجيوش الوطنية للجمهوريات «الديمقراطية» التي دخلت الحرب وفقا لرغبة الإمبريالية العالمية (فنلندا، واستونيا، وليتونيا، وبولندا).

من الناحية الاقتصادية، فإن صمود روسيا السوفياتية هذه السنوات الثلاث الأولى، هو معجزة كبيرة، بل إنها قامت بأفضل من ذلك، لقد تطورت بما أنها إذ امتلكت طاقة انتزاع أدوات الاستغلال من بين أيدي البرجوازية، جعلت منها أدوات إنتاج صناعي ووضعتها في العمل بشكل منهجي. ولم يمنعها ضجيج المدفعية على طول الجبهة التي تحيط بروسيا من جميع الجوانب من اتخاذ إجراءات في سبيل إعادة تنظيم الحياة الاقتصادية والثقافية المزعزعة.

إن احتكار الدولة الاشتراكية للمواد الغذائية الأساسية، والنضال الذي لا يرحم ضد المضاربين، هما وحدهما اللذان أنقذا المدن الروسية من مجاعة قاتلة، وأتاحا إمكانية التموين للجيش الأحمر. أمّا جمع المصانع والمشاغل وسكك الحديد والطرق البحرية تحت رقابة الدولة فهو وحده الذي سمح بجعل الإنتاج منتظما وبتنظيم النقل. ويؤدي تمركز الصناعة والنقل بين أيدي الحكومة إلى تبسيط الأساليب التقنية، بخلق أنماط واحدة لمختلف القطع، أنماط تستخدم كنموذج لكل إنتاج لاحق. فالاشتراكية وحدها تجعل من الممكن التقدير الدقيق لكمية المسامير الكبيرة للقاطرات والعربات والسفن البخارية الواجب إنتاجها وإصلاحها.

ويمكن كذلك توقّع الإنتاج الإجمالي الضروري لقطع الآلات المطابقة للنموذج دوريا، الأمر الذي يمثل مكاسب جمة لزيادة وتيرة الإنتاج.

ولم تعد تواجه التقدم الاقتصادي والتنظيم العملي للصناعة وتطبيق نظام تايلور مطهرا من جميع الميول إلى الاستغلال الفظ «Sweating»، أية عوائق إلاّ تلك التي يعمل على إثارتها الامبرياليون الأجانب.

وبينما تشكل مصالح القوميات، التي تصطدم بمطامع الامبرياليين، مصدرا دائما للنزاعات العالمية والتمردات والحروب، أظهرت روسيا السوفياتية أن حكومة عمالية هي القادرة على التوفيق بين الحاجات الوطنية والحاجات الاقتصادية، مطهّرة الأولى من كل شوفينية والثانية من كل امبريالية. وتهدف الاشتراكية إلى ربط جميع الأقاليم وجميع المقاطعات وجميع القوميات بوحدة النظام الاقتصادي نفسه. إن المركزية الاقتصادية لن تقبل بعد الآن باستغلال طبقة لأخرى وأمة لأخرى، وكونها، انطلاقا من هذا بالذات، في مصلحة الجميع على السواء، فإنها لا تشلّ أي شكل من التطور الحر للاقتصاد الوطني.

إن مثال روسيا السوفياتية يسمح لشعوب أوربا الوسطى وجنوب شرق البلقان والممتلكات الاستعمارية لبريطانيا العظمى، وجميع الأمم والشعوب الصغرى المضطهدة، وللشعب المصري والايرلندي والبلغاري، بإدراك أن تضامن جميع قوميات العالم ليس ممكن التحقيق إلاّ باتحاد جمهوريات سوفياتية.

لقد جعلت الثورة من روسيا القوة البروليتارية الأولى. منذ ثلاث سنوات على وجودها، لم تتوقف حدودها عن التغير. وبعد أن أصبحت أكثر ضيقا بسبب هجوم الإمبريالية العالمية، كانت تسترجع اتساعها عندما تخف وطأة الهجوم. أصبح النضال من أجل السوفيتات نضالا ضد الرأسمالية العالمية، وغدت مسألة روسيا السوفيتات المحك لجميع المنظمات العمالية. فالخيانة الثانية الدنيئة للاشتراكية – الديموقراطية الألمانية، بعد خيانة الرابع من آب / أغسطس عام 1914، تمثلت، بعد اشتراكها في الحكومة، بطلب نجدة الإمبريالية الغربية، بدل التحالف مع ثورة الشرق. ولو أن ألمانيا السوفياتية تحالفت مع روسيا السوفياتية، لكانتا، وحدهما فقط، أقوى من كل الدول الرأسمالية مجتمعة.
لقد جعلت الأممية الشيوعية من قضية روسيا السوفياتية قضيتها. ولن تعيد البروليتاريا العالمية سيفها إلى الغمد إلاّ عندما تكون روسيا السوفياتية قد أصبحت إحدى حلقات اتحاد جمهوريات سوفياتية تشمل العالم.

5- الثورة البروليتارية والأممية الشيوعية

إن الحرب الأهلية على جدول الأعمال في العالم أجمع، وشعارها: «السلطة للسوفيتات».

لقد جعلت الرأسمالية من البروليتاريا الأكثرية الساحقة من الانسانية. وأخرجت الإمبريالية الجماهير من بلادتها ودفعتها إلى الحركة الثورية. والذي نعنيه الآن بكلمة «جمهور» ليس هو ما كنّا نعنيه بها منذ بضع سنوات. فما كان جمهورا في عصر الإمبريالية، في عصر البرلمانية والنقابية، أصبح النخبة في أيامنا. إن ملايين الرجال وعشرات الملايين منهم الذين عاشوا حتى الآن خارج كل سياسة يتحولون إلى جمهور ثوري. لقد أيقظت الحرب العالم كله، وأيقضت الحس السياسي لدى أكثر الأوساط تخلفا، لقد أعطتهم الأوهام والآمال وخيبتها جميعا. انضباط نقابي ضيق، وبالإجمال، بلادة البروليتاريين الأكثر وعيا، من جهة، وخمول الجماهير الذي لا شفاء منه من جهة أخرى – هذه السمات المميزة للأشكال القديمة من الحركة العمالية قد سقطت في النسيان إلى الأبد. ودخل ملايين من المتطوعين الجدد على الخط. فيما تسهم النساء، اللواتي فقدن أزواجهن وآباءهن، وكان عليهن أن يعملن مكانهم، مساهمة واسعة في الحركة الثورية. واستقبل عمال الجيل الجديد الذين اعتادوا دوي الحرب ووميضها منذ الطفولة، استقبلوا الثورة وكأنها عنصر طبيعي بالنسبة لهم. يمر النضال في مراحل مختلفة تبعا للبلد. لكن هذه المعركة هي المعركة الأخيرة. ويحدث أنَّ تدفق الموجات الثورية على صرح منظمة بالية يهب تلك المنظمة حياة جديدة. هنا وهناك على سطح الأمواج، تطفو رايات قديمة وشعارات نصف ممحوّة. الأدمغة مليئة بالاضطراب والظلمات والأفكار المسبقة والأوهام. لكن الحركة الثورية بمجملها تمتلك طابعا ثوريا بالعمق. لا يمكن إضعافه أو إيقافه، إنه يمتد، ويترسّخ ويتطهر ويلفظ كل ما مرّ عليه الزمن. ولن يتوقف ما لم تصل البروليتاريا العالمية إلى السلطة.

إن الإضراب هو الوسيلة الأكثر اعتيادا لدى الحركة الثورية. والذي يتسبب به في الغالب، وبشكل لا يقهر، هو ارتفاع أسعار المواد الغذائية ذات الضرورة الأولية. وغالبا ما ينبثق الإضراب عن نزاعات إقليمية. وهو صرخة احتجاج من الجماهير التي عيل صبرها من تآمر الاشتراكيين البرلماني، ويعبر عن التضامن بين المستغَلين في البلد الواحد أو في بلدان مختلفة. وشعاراته ذات طابع اقتصادي وسياسي في آن. وغالبا ما تختلط فيه شعارات الثورة الاجتماعية مع نتف إصلاحية. وهو يغضب البرجوازية لأنه يغتنم كل فرصة ليعبر عن تعاطفه مع روسيا السوفياتية، ولا تخدعه هواجس المستغلين. هذا الإضراب المشوَّش ليس في الواقع سوى استعراض للقوى الثورية، واستنفار للبروليتاريا الثورية كي تحمل السلاح.

إن التبعية الوثيقة التي تربط كل البلدان الواحد بالآخر والتي تظهر بشكل كارثي أثناء الحرب، تعطي أهمية خاصة لفروع العمل التي تربط بين البلدان، وتضع عمال سكك الحديد في الصدارة، وعمال النقل عموما؛ لقد أتيحت الفرصة لبروليتاريا النقل لتظهر جانبا من قوتها بمقاطعة هنغاريا البيضاء وبولندا البيضاء. واكتسب الإضراب والمقاطعة، وهما أسلوبان كانت الطبقة العاملة تطبقهما في بداية نضالها النقابي، أي عندما لم تكن قد بدأت بعد باستخدام البرلمانية، اكتسبا في أيامنا الأهمية نفسها والدلالة نفسها الخطيرتين كما عند إعداد المدفعية قبل الهجوم الأخير.

إن العجز الذي يجد المرء نفسه إزاءه قد صغر أمام الاندفاعة العمياء للأحداث التاريخية. لا يُكره مجموعات جديدة فقط من العمال والعاملات على دخول صفوف المنظمات النقابية، بل أيضا المستخدمين والموظفين والمثقفين البرجوازيين الصغار. وقبل أن يفرض مسار الثورة البروليتارية إنشاء سوفيتات تحلق فوق كل التنظيمات العمالية الهرمة، يتجمع الشغيلة في نقابات ويتحملون في هذه الأثناء التركيبة القديمة لها في النقابات وبرنامجها الرسمي ونخبتها القيادية، لكنهم في الوقت نفسه يحملون إلى هذه المنظمات العمالية الطاقة الثورية المتنامية للجماهير، التي لم تكن قد تكشفت بعد.

إن الفئات الدنيا، البروليتاريين في الريف والعمال اليدويين، ترفع رأسها. وفي إيطاليا وألمانيا والبلدان الأخرى، نشهد نموا رائعا لحركة العمال الزراعيين الثورية وتقاربهم مع بروليتاريا المدن.

وينظر الفلاحون الفقراء بعين الاستحسان إلى الاشتراكية. وإذا كانت دسائس الإصلاحيين البرلمانية، التي تسعى إلى استغلال الأفكار المسبقة حول الملكية لدى الموجيك، بقيت دون جدوى، فإن حركة البروليتاريا الثورية حقا ونضالها العنيد ضد المضطهدين، يولدان بصيص أمل في قلب الشغيل الأكثر تواضعا، والأشد إرهاقا، والأكثر بؤسا.

إن هوة البؤس البشري والجهل لا قرار لها. وكل شريحة نهضت للتوّ تترك وراءها شريحة أخرى تكاد تحاول أن تنهض. لكن ليس للطليعة أن تنتظر جمهور المؤخرة الكثيف كي تبدأ المعركة. فإن مهمة إيقاظ الفئات الأكثر تخلفا وحثها وتربيتها، ستتولاها البروليتاريا عندما تكون قد وصلت إلى السلطة.

لقد استيقظ شغيلة المستعمرات والبلدان شبه المستعمرة. وفي المساحات اللامتناهية للهند ومصر وإيران، حيث يتمدد أفعوان الإمبريالية الأمريكية ذو الرؤوس السبعة، في هذا البحر البشري الذي لا قرار له، يتم عمل مستتر، غير منقطع، يثير أمواجا ترتعد لها أسهم البورصة والأفئدة في «السيتي».

وفي حركة الشعوب المستعمرة، يختلط العنصر الاجتماعي بجميع أشكاله مع العنصر الوطني، لكن كليهما موجهان ضد الإمبريالية، وبدءا بالمحاولات الأولى، وصولا إلى الأشكال المتقنة، يتواصل طريق النضال في المستعمرات والبلدان المتخلفة بخطى حثيثة، تحت ضغط الإمبريالية وبقيادة البروليتاريا الثورية.

إن التقارب المثمر الذي يجري بين الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية التي توحدها السلالة المشتركة للسيطرة الانكليزية والسيطرة الأجنبية عموما، كما أن التطهير الداخلي للحركة، والتضاؤل المستمر في نفوذ رجال الدين والرجعية الشوفينية، والنضال الذي يقوم به السكان المحليون في آن واحد ضد الغزاة وضد ملاكيهم الإقطاعيين، كهنة ومرابين، كل ذلك يجعل من جيش الانتفاضة المتعاظم في المستعمرات قوة تاريخية من الطراز الأول، واحتياطيا لا ينضب للبروليتاريا العالمية.

المنبوذون ينهضون، ويتجه فكرهم الذي يستيقظ نحو روسيا السوفييتات، نحو المتاريس المقامة في شوارع مدن ألمانيا، نحو النضال المستميت للعمال المضربين في إنكلترا، نحو الأممية الشيوعية.

إن الاشتراكية التي تدافع عن الوضع المتميز لبعض الأمم على حساب الأخرى، دفاعا مباشرا أو غير مباشر، وتتكيف مع العبودية الاستعمارية وتقبل اختلافا في الحقوق بين البشر من أعراق وألوان مختلفة، وتساعد البرجوازية في الحواضر في الإبقاء على سيطرتها على المستعمرات، بدل تشجيع الانتفاضة المسلحة لتلك المستعمرات؛ إن الاشتراكية الانجليزية التي لا تدعم بكل قوتها انتفاضة إيرلندا ومصر والهند ضد سلطة الأغنياء اللندنية – تلك «الاشتراكية»، بعيدا عن أن تطمح لتمثيل البروليتاريا وتكسب ثقتها، تستحق، إن لم يكن الرصاص، فوصمة العار على الأقل.

والحال فإن البروليتاريا في جهودها الرامية إلى تحقيق الثورة العالمية، تصطدم ليس فقط بخطوط الأسلاك الشائكة نصف المدمرة التي ما زالت تنتصب بين البلدان منذ الحرب، بل على الأخص بأنانية المنظمات الحزبية والنقابية الهرمة، ونزعتها المحافظة وعماها، هذه المنظمات التي عاشت على حساب البروليتاريا في الحقبة السابقة.

إن الخيانة التي أصبحت الاشتراكية – الديموقراطية العالمية معتادة عليها، ليس لها نظير في تاريخ النضال ضد العبودية. وتظهر أكثر آثارها فظاعة في ألمانيا، فهزيمة الإمبريالية الألمانية كانت في الوقت نفسه هزيمة للنظام الاقتصادي الرأسمالي. وباستثناء البروليتاريا، لم تكن توجد أية طبقة تستطيع أن تطمح إلى سلطة الدولة. وكان تحسين التقنية وعدد الطبقة العاملة الألمانية ومستواها الثقافي ضمانات أكيدة لنجاح الثورة الاجتماعية. وللأسف اعترضت الاشتراكية – الديموقراطية الألمانية الطريق. وبفعل مناورات معقدة اختلطت فيها الحيلة بالغباء، شلت طاقة البروليتاريا، من أجل حرفها عن الاستيلاء على السلطة، التي كانت هدفها الطبيعي والضروري.

لقد اجتهدت الاشتراكية – الديموقراطية، خلال عشرات السنين، لكسب ثقة العمال، كي تضع كل نفوذها، فيما بعد، في خدمة المستغِلين، في اللحظة الحاسمة التي كان مصير المجتمع البرجوازي خلالها في خطر.

إن خيانة الليبرالية وإفلاس الديموقراطية البرجوازية حادثتان تافهتان بالمقارنة مع خيانة الأحزاب الاشتراكية البشعة. ويشحب دور الكنيسة نفسها، تلك المحطة الكهربائية المركزية للنزعة المحافظة، كما حددها لويد جورج، أمام دور الأممية الثانية المعادي للاشتراكية.

لقد أرادت الاشتراكية تبرير خيانتها للثورة، خلال الحرب، بصيغة الدفاع الوطني، وهي تغطي سياستها المعادية للثورة، بعد اتفاق السلام، بصيغة الديموقراطية. دفاع وطني وديموقراطية، هاتان هما الصيغتان الرسميتان لاستسلام البروليتاريا أمام إرادة البرجوازية.

لكن الانهيار لا يقف عند هذا الحد. فالاشتراكية – الديموقراطية، إذ تواصل سياستها في الدفاع عن النظام الرأسمالي، مجبرة على أن تدوس بالأقدام «الدفاع الوطني» و«الديموقراطية»، سائرة في ركب البرجوازية. فيقبّل شيدمان وأيبرت أيدي الإمبريالية الفرنسية التي يطالبان دعمها ضد الثورة السوفياتية. ويجسد نوسكه الإرهاب الأبيض والثورة المضادة البرجوازية.

أمّا ألبرت توماس فتحول إلى سمسار لعصبة الأمم، هذه الوكالة الشائنة للامبريالية، وأصبح فاندرفلد، الصورة المعبّرة عن هشاشة الأممية الثانية التي كان زعيما لها، وزيرا للملك، وزيميلاً لدولاكروا رجل الدين، ومدافعا عن رجال الدين الكاثوليك البلجيكيين، ومحاميا للفظاعات الرأسمالية المرتكبة ضد زنوج الكونغو.

وهندرسون الذي يقلد كبار رجال البرجوازية، والذي يمثل على التوالي دور وزير الملك وممثل المعارضة العمالية لجلالته، وتوم شو الذي يطالب الحكومة السوفياتية ببراهين لا تدحض حول كيف أن حكومة لندن مؤلفة من نصابين ولصوص وحانثين باليمين، من هم أولئك السادة جميعا، إن لم يكونوا الأعداء اللدودين للطبقة العاملة ؟

رينير وسيتز، نيمتس وتوزار، ترولسترا وبرانتينغ، دزاينسكي وتشكيدزه، كل منهم يعبر عن لغة برجوازيته الصغيرة غير الشريفة، يعبر عن إفلاس الأممية الثانية.

وأخيرا كال كاوتسكي المنظر السابق للأممية الثانية والماركسي السابق، يصبح المستشار المتلعثم، المعتمد رسميا لدى الصحافة الصفراء في جميع البلدان.

إن العناصر الأكثر مرونة ضمن الاشتراكية الهرمة، تحت تأثير اندفاع الجماهير ودون أن تغيّر من طبيعتها أو من أسلوبها ولونها، تنفصل أو تستعد للانفصال عن الأممية الثانية، المتقهقرة كما هي دائما أمام كل تحرك جماهيري وثوري، وحتى أمام كل بداية جدية للتحرك.

ومن أجل تعيين الممثلين في هذا الحفل التنكري، وكشفهم في الوقت نفسه، يكفي القول بأن الحزب الاشتراكي البولندي الذي يتزعمه دازينسكي وشفيعه بيلسودسكي، حزب الصلافة البرجوازية والتعصب الشوفيني، يعلن انسحابه من الأممية الثانية.

وتبقى، في الواقع، النخبة البرلمانية القيادية للحزب الاشتراكي الفرنسي التي تقترع الآن ضد الموازنة وضد معاهدة فرساي، إحدى دعائم الجمهورية البرجوازية. ومن وقت لآخر، تذهب معارضتها إلى مدى أبعد. وذلك بالضبط كي لا تتزعزع نصف – الثقة التي تمنحها إياها أكثر أوساط البروليتاريا محافظة.

وفي القضايا الأساسية للصراع الطبقي، تستمر الاشتراكية البرلمانية الفرنسية في خداع إرادة الطبقة العاملة، بالإيحاء لها أن اللحظة الراهنة ليست مناسبة للاستيلاء على السلطة، لأن فرنسا مفقرة جدا، كما كانت بالأمس غير مهيأة بسبب الحرب، وكما كان الازدهار الاقتصادي عشية الحرب هو العائق، وقبله الأزمة الصناعية. وإلى جانب الاشتراكية البرلمانية وعلى المستوى نفسه تقف النقابية الثرثارة والمراوغة، نقابية جوهو وشركاه.

إن إنشاء حزب شيوعي قوي ومفعم بروح الوحدة – الإنضباط في فرنسا، هو مسألة حياة أو موت بالنسبة للبروليتاريا الفرنسية.

يتلقى الجيل الجديد من العمال الألمان تربيته من الإضرابات والانتفاضات ويستمد قوته منها. وستكلفه تجربته عددا متزايدا من الضحايا بقدر ما يستمر الحزب الاشتراكي المستقل بالخضوع لتأثير المحافظين والاشتراكيين – الديموقراطيين والروتينيين الذين يتذكرون الاشتراكية – الديموقراطية من عهد بيبل، والذين لا يفهمون شيئا عن الطابع الثوري للمرحلة، ويرتجفون أمام الحرب الأهلية والإرهاب الثوري، وينجرفون مع تيار الأحداث بانتظار المعجزة التي يجب أن تأتي لإنقادهم من عجزهم. لكن حزب روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت يعلّم العمال الألمان تحت نار المعركة، أين يوجد الطريق الصحيح.

أمّا داخل الحركة العمالية الانكليزية، فيسيطر الروتين على الحركة، بحيث أن إنكلترا لم تشعر بعد بالحاجة إلى نقل البندقية من كتف إلى آخر: فزعماء الحزب العمالي البريطاني يصرّون على البقاء ضمن أطر الأممية الثانية.

وبينما جعل مجرى أحداث السنوات الأخيرة الجماهير الكادحة قادرة على استيعاب البرنامج الثوري على أحسن ما يكون، إذ زعزع استقرار الحياة الاقتصادية في إنكلترا المحافظة، فإن الآلية الرسمية للأمة البرجوازية بسلطتها الملكية ومجلس لورداتها ومجلس عمومها وكنيستها ونقاباتها وحزبها العمالي وجورج الخامس وأسقف كنتربري وهندرسون بقيت دون أن تمسّ، كابحا تلقائيا قويا ضد التطور وليس إلاّ الحزب الشيوعي، المتحرر من الروتين ومن الروح العصبوية والمرتبط ارتباطا حميما بالمنظمات العمالية الكبرى، من يستطيع مجابهة هذه النخبة الرسمية بالعنصر البروليتاري.

وفي إيطاليا، حيث تعترف البرجوازية صراحة بأن مصير البلاد من الآن وصاعدا بين أيدي الحزب الاشتراكي، تعمل سياسة الجناح اليميني المتمثل بتوراتي على إعادة سيل الثورة البروليتارية إلى مجرى الإصلاحات البرلمانية. وهذا ما يكمن الآن في التخريب الداخلي، أكثر من أي شيء آخر.

يا بروليتاريي إيطاليا، فكروا بالمجر التي دخل مثالها في التاريخ من أجل أن يُذكر، مع الأسف، بأنه في النضال من أجل السلطة كما أثناء ممارستها، على البروليتاريا أن تبقى جريئة وتلفظ جميع العناصر المترددة وتقتصّ دون رحمة من جميع محاولات الخيانة.

في الولايات المتحدة، وفي بقية بلدان القارة الأمريكية، تدشّن الكوارث العسكرية التي تتبعها أزمة اقتصادية مخيفة فصلا جديدا من فصول الحركة العمالية. إن تصفية الدجل والوقاحة الويلسونية، هي بالتالي تصفية لهذه الاشتراكية الأمريكية، التي تشكل مزيجا من الأوهام السلمية والنشاط المركنتيلي، والتي تشكل نقابية غومبرز وشركاه تتويجا لها. إن الاتحاد الوثيق بين الأحزاب العمالية الثورية والمنظمات البروليتارية في القارة الأمريكية، وشبه جزيرة ألاسكا، ورأس هورن، في فرع أمريكي متراص للأممية، بوجه الإمبريالية الجبارة والمتهدّدة، إمبريالية الولايات المتحدة، هذه هي المشكلة التي يجب أن تُحل في النضال ضد كل القوى التي يعبئها الدولار للدفاع عن نفسه.

لقد كان للاشتراكيين الحكوميين وشركائهم في جميع البلدان، الكثير من الأسباب ليتهموا الشيوعيين بأنهم استفزوا بتكتيكهم المتصلب نشاط الثورة المضادة، التي يساهمون برصّ صفوفها. هذه التهمة السياسية ليست شيئا آخر سوى طبعة جديدة متأخرة لشكاوى الليبرالية. وقد كانت هذه الأخيرة، بالتحديد، تؤكد أن النضال العفوي للبروليتاريا يدفع بأصحاب الامتيازات إلى معسكر الرجعية. إنها حقيقة لا جدال فيها. فلو أن الطبقة العاملة لم تكن تهاجم أسس السيطرة البرجوازية، لما كانت هذه الأخيرة احتاجت إلى أعمال القمع، بل إن فكرة الثورة المضادة لم تكن لتوجد لو لم يعرف التاريخ الثورة. وإذا كانت انتفاضات البروليتاريا تقود حتما إلى اتحاد البرجوازية للدفاع والهجوم المضاد، فإن هذا لا يبرهن إلاّ على شيء واحد، وهو أن الثورة هي صراع بين طبقتين لا يمكن التوفيق بينهما، ولا يمكن إلاّ أن يؤدي إلى الانتصار النهائي لإحداهما على الأخرى.

إن الشيوعية تستنكر بازدراء السياسة التي تقوم على إبقاء الجماهير في حالة ركود، بتخويفها من هراوة الثورة المضادة.

إن الأممية الشيوعية تواجه عدم تماسك العالم الرأسمالي وفوضاه، هذا العالم الذي تهدد جهوده الأخيرة بابتلاع كل الحضارة الإنسانية، بالنضال المركّب للبروليتاريا العالمية، من أجل تدمير الملكية الخاصة كأداة للإنتاج، ومن أجل إعادة بناء اقتصاد وطني وعالمي على أساس خطة اقتصادية واحدة، يضعها ويحققها مجتمع المنتجين المتضامن. والأممية الشيوعية إذ تجمع ملايين الشغيلة في جميع أنحاء العالم تحت راية ديكتاتورية البروليتاريا والنظام السوفياتي للدولة، تناضل بعناد من أجل تنظيم عناصرها وتطهيرها.

إن الأممية الشيوعية هي حزب انتفاضة البروليتاريا العالمية الثورية. وهي تلفظ جميع المنظمات والأحزاب، التي تعمل بشكل علني أو مقّنع على تنويم البروليتاريا وإحباطها وتحطيم أعصابها، بحثّها على الانحناء أمام الأصناف التي تتباهى بها ديكتاتورية البرجوازية: الشرعية، والديموقراطية والدفاع الوطني، الخ…

لا يمكن الأممية الشيوعية أن تقبل بعد الآن في صفوفها المنظمات التي على الرغم من إدخالها مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا في برنامجها، تصرّ على ممارسة سياسة تجهد للبحث عن حل سلمي للأزمة التاريخية. فالاعتراف بالنظام السوفياتي لا يعني حلاّ للمسألة. إن التنظيم السوفياتي لا يحمل فضيلة عجائبية. فهذه الفضيلة الثورية تكمن في البروليتاريا بالذات. وينبغي ألاّ تتردد البروليتاريا في أن تنتفض لتستلم السلطة، وعندها فقط سيُظهر التنظيم السوفياتي ميزاته وسيبقى بالنسبة لها السلاح الأكثر فعالية.

إن الأممية الشيوعية تطالب بطرد جميع القادة المرتبطين بشكل مباشر أو غير مباشر بتعاون سياسي مع البرجوازية، من صفوف الحركة العمالية. إن من نحتاج إليهم هم القادة الذين لا يكنّون للمجتمع البرجوازي إلاّ الحقد القاتل والذين ينظمون البروليتاريا من أجل نضال لا رحمة فيه، والمستعدون لقيادة جيش المتمردين إلى المعركة، والذين لا يتوقفون في منتصف الطريق مهما حصل، ولا يخافون اللجوء إلى إجراءات قمع لا رحمة فيها ضد جميع أولئك الذين سيحاولون التصدي لهم بالقوة.

إن الأممية الشيوعية هي الحزب العالمي لانتفاضة البروليتاريا وديكتاتوريتها. وبالنسبة لها ليس هناك أهداف سوى أهداف البروليتاريا ولا مشاكل سوى مشاكل البروليتاريا. إن ادعاءات الشّلل الصغيرة التي تريد كل منها إنقاذ الطبقة العاملة على طريقتها الخاصة، غريبة عن روح الأممية الشيوعية ومتعارضة معها، فهذه الأخيرة لا تملك الترياق العالمي، الدواء الذي لا يخطئ لجميع الأوجاع؛ إنما تستخلص الدرس من تجربة الطبقة العاملة في الماضي وفي الحاضر، وتستخدم هذه التجربة من أجل إصلاح أخطائها وسهواتها؛ وتستخلص منها خطة شاملة، وهي لا تعترف ولا تقرّ إلاّ بالصيغ الثورية التي هي صيغ العمل الجماهيري.

تنظيم مهني، إضراب اقتصادي وسياسي، مقاطعة، انتخابات برلمانية وبلدية، منبر برلماني، دعاوة شرعية وغير شرعية، منظمات سرية في الجيش، عمل تعاوني، متاريس، من كل ذلك لا ترفض الأممية الشيوعية أي شكل تنظيمي أو نضالي ينشأ في مجرى الحركة العمالية، لكنها كذلك، لا تكرّس أيّا منها كترياق عالمي.

ليس نظام السوفيتات مبدأ مجرداً يريد الشيوعيون أن يجابهوا به النظام البرلماني فحسب، فإن السوفيتات هي جهاز سلطة بروليتارية يجب أن يحل محل البرلمانية، بعد النضال وأثناء هذا النضال فقط. وفي الوقت نفسه الذي تناضل فيه الأممية الشيوعية النضال الأكثر تصميما ضد إصلاحية النقابات، وضد وصولية البرلمانات وغباوتها، فإنها لا تنسى أن تدين تزمّت أولئك الذين يدعون البروليتاريين إلى ترك صفوف المنظمات النقابية التي تضم ملايين الأعضاء، وإدارة ظهورهم للمؤسسات البرلمانية والنيابية؛ فالشيوعيون لا يهملون بأي شكل من الأشكال الجماهير التي يخدعها الإصلاحيون و«الوطنيون» ويبيعونها، لكنهم يقبلون النضال معها داخل المنظمات الجماهيرية والمؤسسات نفسها التي أنشأها المجتمع البرجوازي، بحيث يتمكنون من إطاحة هذا المجتمع بشكل سريع وأكيد.

وبينما وجدت الأجهزة التنظيمية الطبقية ووسائل النضال الشرعية بصورة شبه حصرية، بينما وجدت نفسها، تحت قيادة الأممية الثانية، خاضعة كليا لرقابة البرجوازية وقيادتها في نهاية المطاف، وبينما كان العملاء الإصلاحيون قد لجموا الطبقة الثورية، فإن الأممية الشيوعية، على العكس تماما تنتزع من أيدي البرجوازية كل الأعنة التي كانت قد استولت عليها، وتأخذ على عاتقها تنظيم الحركة العمالية، وتجمعها تحت قيادة ثورية، وبمساعدة هذه الحركة تحدد للبروليتاريا هدفا واحدا: استلام السلطة من أجل تدمير الدولة البرجوازية وبناء المجتمع الشيوعي.

وينبغي على الشيوعي، في مجرى نشاطه، أكان محرضا على إضراب احتجاج أو قياديا في منظمة سرية، أو أمين سر نقابة، أو داعية في الاحتفالات الجماهيرية أو نائبا في البرلمان، رائدا للتعاون، أو جنديا وراء المتارس، أن يبقى أمينا، أي خاضعا لانضباط الحزب، مناضلا لا يكل، عدوا لدودا للمجتمع الرأسمالي ولقواعده الاقتصادية وأشكاله الإدارية وكذبه الديموقراطي ودينه وأخلاقه؛ ينبغي أن يكون المدافع المتفاني عن الثورة البروليتارية وبطل المجتمع الجديد، الذي لا يكل ولا يملّ.

أيها العمال، أيتها العاملات!

لا يوجد على الأرض سوى راية واحدة تستحق النضال والموت في ظلها، إنها راية الأممية الشيوعية.

الإمضاء:

روسيا: ن. لينين، ج. زينوفييف، ن. بوخارين، ل. تروتسكي.

ألمانيا: ب. ليفي، أ. ماير، ي. فالتشر، ر. فولفستين.

فرنسا: روزمير، جاك سادول، هنري غيلبو.

انكترا: توم كلش، غالاشر، أ. سيلفا، بانكيرست، ماس لين.

أمريكا (الولايات المتحدة): فلين، أ. فرانيا، أ. بيلان، ج. ريد.

إيطاليا: د.م. سيراتي، ن. بومباسي، غراسيادي، أ. بورديغا.

النروج: فرايز، شافلو، أ. مادسن.

السويد: ك. دالستروم، ساميلسون، فينبرغ.

الدانمارك: أو. جورجينس، م. نيلسون.

هولندا: فينكوب، جانسن، فان لوف.

بلجيكا: فان أوفرسترايتن.

اسبانيا: بيستانا.

سويسرا: هيرنزوغ، أ. هامبرت – دروز.

المجر: راكوفسكي، أ. رودينيانسكي، فارغا.

غاليسيا: لفيتسكي.

بولونيا: و. مارشلفسكي.

لاتفي: ستوتشكا، كراستين.

ليتوانيا: ميتزكفيتش – كابوسكا.

تشيكوسلوفاكيا: فانيك، غالا، زابوتوتسكي.

إستونيا: ر. فاكمان، ج. بوغلمان.

فنلندا: ا. راكيا، ليتونمياكي، ك. مانيير.

بلغاريا: كاباكتشيف، ماكسيموف، شابلين.

يوغوسلافيا: ميلكيتش.

جورجيا: م. تزاكيا.

أرمينيا: نازاريتيان.

تركيا: نيتشاد.

إيران: سلطان – زاده.

الهند: أتشاريا، شفيك.

الهند – الهولندية: مارنيغ.

الصين: لاوو – سيو – sتشيو.

كوريا: باك دجينشون، هيم هولين.

(١) هذه بعض الأرقام الدقيقة: ألمانيا: ملكيات ريفية من 5 إلى 10 هكتارات، تستخدم عمالا مستأجرين – 652,798 (من أصل 5,736,082)، عمالا مأجورين – 487,764، عمالا متزوجين – 2,003,633. النمسا (تعداد عام 1910) – 383,351 ملكيات ريفية، منها 126,136 تستخدم شغيلة مستأجرين؛ عمالا مأجورين – 146,044، عمال متزوجون 1,265,969. يبلغ العدد الكلي للمزارع في النمسا 2,856,349.

(2) سيكون من المستحسن تشجيع إنشاء مزارع تديرها جماعات (الكومونات)

(3) بالأجنبية irrédentisme وتعريبها انضمامية وهي نظرية سياسية نادى بها الوطنيون الإيطاليون بعد عام 1870، غايتها ضم المناطق التي يسكنها أبناء جنسهم ولغتهم، والخاضعة لدول أجنبية (المُعرّبة)

(4) شخصية في المسرح الشكسبيري ترمز إلى اليهودي الجشع (المُعرّبة)

                المؤتمر الثالث

موضوعات حول الوضع العالمي ومهمة الأممية الشيوعية


أولا: جوهر المسألة

1- تميزت الحركة الثورية في نهاية الحرب الإمبريالية ومنذ تلك الحرب باتساع لا سابقة له في التاريخ. في آذار / مارس 1917، أطيحت القيصرية. وفي أيار / مايو 1917، نضال إضرابي عاصف في انجلترا. وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1917، البروليتاريا الروسية تستولي على سلطة الدولة. وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1918 سقوط الحاكمين الملكيين في ألمانيا والنمسا – المجرية. حركة الإضراب تسيطر على سلسلة من البلدان الأوروبية، وتتطور، بشكل خاص في مجرى السنوات التالية: ففي آذار / مارس 1919، أقيمت الجمهورية السوفياتية في المجر. وفي نهاية السنة نفسها تقريبا، اهتزت الولايات المتحدة بفعل الإضرابات الضخمة لعمال المعادن، والمناجم والسكك الحديدية. وفي ألمانيا، بعد معارك كانون الثاني / يناير وآذار / مارس 1919، بلغت الحركة أوْجها، غداة عصيان كاب في آذار / مارس 1920. وفي فرنسا بلغ التوتر الداخلي أشده في شهر أيار / مايو 1920. وفي إيطاليا، كانت حركة البروليتاريا الصناعية والريفية تتنامى دون توقف، وأدت في أيلول / سبتمبر 1920 إلى مصادرة المصانع والمعامل والملكيات العقارية على يد العمال. وحملت البروليتاريا التشيكية، في كانون الأول / ديسمبر 1920 سلاح الإضراب العام السياسي. وفي آذار / مارس 1921، وقع عصيان العمال في ألمانيا الوسطى وإضراب عمال المناجم في إنجلترا.

وبلغت الحركة أبعادا كبيرة جدا، واحتداما أكثر عنفا في البلدان التي كانت في حالة حرب بالأمس، وخاصة في البلدان المهزومة، غير أنها امتدت أيضا إلى البلدان المحايدة. وفي آسيا وإفريقيا كانت تستثير أو تعزِّز السخط الثوري لدى العديد من الجماهير المستعمَرة.

ومع ذلك لم تنجح هذه الموجة العاتية بأن تطيح الرأسمالية العالمية، ولا حتى الرأسمالية الأوروبية.

2- خلال العام الذي انقضى بين المؤتمر الثاني والمؤتمر الثالث للأممية الشيوعية، قامت الطبقة العاملة بسلسلة انتفاضات ونضالات انتهت جزئيا إلى الهزيمة (تقدم الجيش الأحمر نحو فرصوفيا في آب / أغسطس 1920، تحرك البروليتاريا الإيطالية في أيلول / سبتمبر 1920، انتفاضة العمال الألمان في آذار / مارس 1921).

تميّزت المرحلة الأولى من الحركة الثورية، بعد الحرب، بعنفها البدائي، وغموض الأهداف والأساليب المعبّر جدا، والذعر الشديد الذي استولى على الطبقات الحاكمة؛ وقد بدا أنها انتهت إلى حد بعيد. وقد تعزَّز شعور البرجوازية بقوتها وبالصلابة الخارجية لأجهزة دولتها. وتضاءل الخوف من الشيوعية ولئن لم يختف كليا. وراح يتباهى قادة البرجوازية بقوة آلية دولتهم، وينتقلون في كل البلدان إلى الهجوم ضد الجماهير العمالية، سواء على الجبهة الاقتصادية أو على الجبهة السياسية.

3- نظرا لهذا الوضع، فالأممية الشيوعية تطرح على نفسها وعلى الطبقة العاملة الأسئلة التالية: إلى أي حد تتناسب حقا العلاقات المتبادلة الجديدة بين البرجوازية والبروليتاريا مع ميزان القوى الأعمق القائم بينهما؟ هل أن البرجوازية قادرة فعلا على إعادة التوازن الذي حطمته الحرب؟ هل هناك أسباب للافتراض أنه بعد حقبة من الاضطرابات السياسية والصراعات الطبقية، أتت حقبة جديدة طويلة من تجدّد الرأسمالية وتوسعها؟ ألا تترتب على ذلك ضرورة مراجعة برنامج الأممية الشيوعية، أو تكتيكها؟

ثانيا: الحرب، ازدهار المضاربات والأزمة. البلدان الأوروبية

4- شكل العقدان اللذان سبقا الحرب حقبة نمو رأسمالي قوي بشكل مميز. وتميزت فترات الازدهار بطول أمدها واتساعها، فيما تميزت فترات الركود أو الأزمة، على العكس، بقصرها. عموما، كان النبع قد ارتفع فجأة؛ واغتنت الأمم الرأسمالية.

وإذ طوّق أسياد مصائر البشر السوق العالمي بتروستاتهم وكارتيلاتهم واتحاداتهم، فقد تنبهوا إلى أن التطور المسعور للإنتاج سوف يصطدم بحدود القدرة الشرائية للسوق الرأسمالية العالمية، وحاولوا الخروج من هذا الوضع عبر أساليب عنفية، وجاءت الأزمة الدموية للحرب العالمية لتحل محل فترة طويلة من الركود الاقتصادي المتهدِّد، وبالنتيجة السابقة نفسها، أي تدمير قوى إنتاج ضخمة.

بيد أن الحرب قد جمعت ما بين القدرة التدميرية القصوى لطرائقها والمدة الطويلة بشكل غير متوقع لاستخدام تلك الطرائق. وكانت النتيجة أنها لم تدمّر فقط الإنتاج «الفائض»، بالمعنى الاقتصادي، بل أضعفت كذلك الآلية الأساسية للإنتاج في أوروبا، وزعزعتها وخربتها. وساهمت في الوقت نفسه بالتطور الرأسمالي الكبير في الولايات المتحدة والنمو المحموم في اليابان. لقد انتقل مركز ثقل الاقتصاد العالمي من أوروبا إلى أميركا.

5- لقد بدت مرحلة إيقاف المجزرة التي امتدت أربع سنوات، مرحلة تسريح الجيوش والانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلم، والتي تترافق بشكل حتمي مع أزمة اقتصادية نتيجة الإنهاك وفوضى الحرب، بدت أمام أعين البرجوازية –ولديها الحق في ذلك- كمرحلة حبلى بأكبر المخاطر. والحقيقة أنه في السنتين اللتين تلتا الحرب، أصبحت البلدان التي خربتها هذه الحرب حلبة لتحركات بروليتارية ضخمة.

وشكّل واقع أن ما حدث بعد عدة أشهر من انتهاء الحرب لم يكن الأزمة المحتومة بل انتعاشا اقتصاديا، أحد الأسباب الرئيسية في أن البرجوازية حافظت مع ذلك على موقعها المسيطر. امتدت هذه المرحلة حوالي عام ونصف وشغّلت الصناعة العمال المسرّحين بمجملهم تقريبا. ومع أن الأجور لم تستطع عموما أن تبلغ أسعار السلع الاستهلاكية إلاّ أنها ارتفعت بشكل كافٍ لخلق سراب مكاسب اقتصادية.

إن نتيجة هذا الازدهار الاقتصادي بين عامي  1919- 1920، الذي لطّف المرحلة الأكثر حدّة لتصفية الحرب، كانت بالضبط تجدُّد ثقة البرجوازية بنفسها، وقد طرح مسألة قدوم حقبة عضوية جديدة من التطور الرأسمالي.

مع ذلك، فإن الانتعاش بين عامي 1919 – 1920 لم يشر في الحقيقة إلى بداية إحياء الاقتصاد الرأسمالي بعد الحرب، بل إلى استمرار الوضع المصطنع للصناعة والتجارة الذي خلقته الحرب، والذي أمكنه أن يزعزع الاقتصاد الرأسمالي.

6- اندلعت الحرب الإمبريالية في مرحلة كانت فيها الأزمة الصناعية والتجارية، التي ولدت في أميركا (1913) قد بدأت باجتياح أوروبا.

لقد انقطع التطور الطبيعي للدورة الصناعية بفعل الحرب التي أصبحت هي نفسها العامل الاقتصادي الأقوى. وخلقت الحرب سوقا غير محدود إلى هذا الحد أو ذاك للفروع الأساسية في الصناعة، في مأمن من كل منافسة. لم يكن يحصل المشتري الكبير أبدا على ما يكفيه مما يجري توفيره له. وتحول إنتاج وسائل الإنتاج إلى إنتاج وسائل التدمير، وأصبح ملايين الأفراد، الذين لا ينتجون، ولا يقومون إلاّ بالتدمير، يحصلون على السلع الاستهلاكية الشخصية لقاء أسعار ترتفع باستمرار. وكانت هذه بالذات سيرورة التدمير، ولكن بموجب التناقضات المخيفة للمجتمع الرأسمالي اتخذ هذا الخراب شكل الثراء. وأصدرت الدولة قروضا فوق قروض، وإصدارات مالية فوق إصدارات مالية، وانتقلت الميزانيات التي كانت تبلغ في السابق الملايين إلى مليارات. وتم تخريب الآلات والمباني ولم يجر استبدالها. وأهملت زراعة الأرض. وتوقفت الإنشاءات الأساسية في المدن والسكك الحديدية. فيما كان يزداد في الوقت نفسه عدد سندات الدولة، وسندات الائتمان وسندات الخزينة وإصدار النقود دون توقف. وتضخم الرأسمال الإسمي بالقدر الذي كان فيه الرأسمال الإنتاجي يدمّر. وتحول نظام الإقراض، وهي وسيلة لتبادل البضائع، إلى وسيلة لتداول الثروات الوطنية، بما فيها الثروات التي من المفترض أن تخلقها الأجيال القادمة.

وخوفا من أزمة كان يمكن أن تكون كارثة، تصرفت الدولة الرأسمالية بعد الحرب على الشاكلة نفسها التي تصرفت بها أثناءها: إصدارات مالية جديدة، اقتراضات جديدة، تنظيم أسعار مبيع السلع الأكثر أهمية وأسعار شرائها، ضمان الأرباح، مواد غذائية بأسعار مخفضة، ومخصصات عديدة إضافة إلى المعاشات والأجور ـ بالإضافة إلى كل ذلك رقابة عسكرية ودكتاتورية ضباط.

7- وفي الوقت نفسه، كشف توقف الأعمال الحربية وإعادة العلاقات الدولية، الطلب الكبير على السلع الأكثر تنوعا، على امتداد الكرة الأرضية. لقد تركت الحرب كميات ضخمة من المنتجات، ومبالغ ضخمة من الأموال، تجمعت بين أيدي المورّدين والمضاربين الذين كانوا يستخدموها حيث يكون الربح أكبر ظرفيا. وأدى ذلك إلى نشاط تجاري محموم، في حين أنه مع الارتفاع المذهل في الأسعار وأرباح الأسهم الخيالية، لم تقترب الصناعة في أي من الفروع الأساسية من مستواها قبل الحرب.

8- ولقاء التدمير الاقتصادي للنظام الاقتصادي، نمو الرأسمال الإسمي، وانخفاض الأسعار، والمضاربة، فإن الحكومة البرجوازية ـ بدل أن تضمد الجروح الاقتصادية – نجحت بالاتفاق مع الاتحادات المصرفية وتروستات الصناعة في إبعاد بداية الأزمة الاقتصادية، في الوقت الذي كانت تنتهي فيه الأزمة السياسية لتسريح الجيش وأول امتحان لذيول الحرب.

وبحصولها بذلك على استراحة طويلة، ظنت البرجوازية أن خطر الأزمة قد استبعد إلى وقت غير محدد. واستحوذ تفاؤل كبير على العقول، وبدا أن حاجات إعادة البناء سوف تفتح حقبة من الازدهار الصناعي والتجاري، وبشكل خاص حقبة مضاربات موفّقة. لقد كان عام 1920 عام الآمال المخيبة.

بشكل مالي بالبداية، ومن ثم بشكلٍ تجاري وأخيرا تحت شكل صناعي، وقعت الأزمة في آذار / مارس 1920 في اليابان، وفي نيسان / أبريل في الولايات المتحدة (كان انخفاض طفيف في الأسعار بدأ في كانون الثاني / يناير)، وانتقلت الأزمة إلى إنجلترا، وفرنسا وإيطاليا، في شهر نيسان / أبريل ذاته، وإلى بلدان أوروبا المحايدة، وظهرت بشكل خفيف في ألمانيا، وانتشرت في النصف الثاني من العام 1920 في العالم الرأسمالي بأكمله.

9- انطلاقا من ذلك، فإن أزمة عام 1920، لم تكن حقبة من حقبات الدورة «الطبيعية» الصناعية. وهذا أساسي لفهم الوضع العالمي، بل كانت ردة فعل أكثر عمقا على الازدهار الصوري في زمن الحرب، وفي السنتين التاليتين، ازدهار قائم على التدمير والإنهاك.

كان التناوب العادي للأزمات وفترات الازدهار يتواصل في السابق وفقا لمنحنى النمو الصناعي وعلى العكس، ففي السنوات السبع الأخيرة، بدل أن ترتفع القوى المنتجة في أوروبا، انخفضت بشكل عنيف.

لابد أن يظهر تدمير أسس الاقتصاد بالذات، في البداية، في مجمل البنية الفوقية. ومن أجل الوصول إلى انسجام داخلي معين، سيتوجب على الاقتصاد الأوروبي في السنوات القليلة القادمة أن يتقلص وينخفض. وسيهبط منحنى القوى المنتجة من ارتفاعه الصوري الحالي. ولا يمكن لفترات الازدهار في هذه الحالة إلاّ أن تكون قصيرة الأمد وستتخذ بشكل خاص طابع المضاربة. وستكون الأزمات طويلة ومضنية. إن الأزمة الحالية في أوروبا هي أزمة نقص إنتاج. وهي ردة فعل البؤس على الجهود المبذولة من أجل الإنتاج، والاتجار والعيش على منوال الحياة في الحقبة الرأسمالية السابقة.

10- وفي أوروبا، فإن إنجلترا هي البلد الأقوى اقتصاديا والذي عانى أقل من غيره من الحرب؛ لا يمكننا مع ذلك الحديث، حتى بالنسبة لهذا البلد، عن إعادة التوازن الرأسمالي بعد الحرب. لا شك أن إنجلترا، بفضل تنظيمها العالمي وموقعها كمنتصرة، أحرزت بعد الحرب بعض النجاحات التجارية والمالية، وحسّنت ميزانها التجاري، ورفعت سعر الجنيه الاسترليني، وحصلت على فائض في العائدات بالنسبة للمصاريف في الميزانية؛ ولكن إنجلترا تقهقرت على الصعيد الصناعي منذ الحرب، فمردود العمل والعائدات الوطنية منخفضة بشكل لا يقارن عما كانت عليه قبل الحرب. والوضع الصناعي الأكثر أهمية، أي وضع صناعة الفحم، يتفاقم بشكل متزايد، مفاقما وضع الفروع الأخرى. وحركات الإضراب المتواصلة لم تكن السبب في خراب الاقتصاد الإنجليزي، بل نتيجة هذا الخراب.

11- لقد دُمرت فرنسا وبلجيكا وإيطاليا بفعل الحرب بشكل لا يمكن تعويضه، ومحاولة إحياء الاقتصاد الفرنسي على حساب ألمانيا هو عمل لصوصية حقيقي يصحبه اضطهاد دبلوماسي يميل، دون أن ينقذ فرنسا، إلى إنهاك ألمانيا بشكل نهائي (عن طريق نهب الفحم، والآلات، والماشية، والذهب). وهذا الإجراء يوجه ضربة جدية لاقتصاد أوروبا القارية بمجملها. ففرنسا تكسب أقل بكثير مما تخسر ألمانيا، وتسير نحو الخراب الاقتصادي، على الرغم من أن فلاحيها قاموا بفعل جهود خارقة، بإصلاح جزء كبير من المزروعات، وأن بعض فروع الصناعة (مثلا صناعة المواد الكيميائية) قد تطورت بشكل ملحوظ خلال الحرب. فقد بلغت ديون الدولة ومصاريفها (المتأتية من النزعة العسكرية) أرقاما خيالية في نهاية مرحلة الازدهار الأولى، وهبط سعر الصرف الفرنسي بمقدار 60 بالمائة. وتعيق الخسائر الضخمة بالأرواح البشرية التي سببتها الحرب إحياء الاقتصاد الفرنسي، وهي خسائر من المستحيل تعويضها، بسبب النمو البطيء للسكان في فرنسا. وينطبق الشيء نفسه، إلى هذا الحد أو ذاك، على اقتصاد كل من بلجيكا وإيطاليا.

12- إن الطابع الوهمي لمرحلة الازدهار جليّ بشكل خاص في ألمانيا. ففي مدة من الزمن ارتفعت فيها الأسعار خلال عام ونصف بمعدل ستة أضعاف استمر إنتاج البلاد بالانخفاض بسرعة كبيرة. إن المشاركة الظافرة ظاهريا من جانب ألمانيا، في التهريب التجاري العالمي لما قبل الحرب، تم دفع ثمنها بسعر مضاعف: تبذير الرأسمال الأساسي للأمة (عن طريق تحطيم جهاز الإنتاج، والنقل والائتمان)، والانخفاض المتلاحق لمستوى معيشة الطبقة العاملة. وقد عبّرت أرباح المستوردين عن نفسها بخسارة دون تعويض من زاوية اقتصاد الدولة. فتحت شكل التصدير، يجري بيع ألمانيا بالذات بسعر بخس. والسادة الرأسماليون يضمنون لأنفسهم حصة متزايدة باستمرار من الثروة الوطنية، التي تتناقص، من جهتها، دون توقف. لقد أصبح العمال الألمان حمالي أوروبا.

13- وكما يقوم الاستقلال السياسي الصوري للبلدان الصغيرة المحايدة على التضاد القائم بين الدول الكبرى، فإن ازدهارها الاقتصادي يخضع للسوق العالمي، الذي كان قد حدّد طابعه الأساسي قبل الحرب كل من إنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا. حققت برجوازية البلدان الصغيرة المحايدة في أوروبا خلال الحرب أرباحا هائلة لكن دمار البلدان الأوروبية التي شاركت في الحرب وخرابها حمل الخراب الاقتصادي للبلدان الصغيرة المحايدة. فارتفعت ديونها، وانخفضت أسعار عملتها. لقد وجهت لها الأزمة الضربة تلو الأخرى.

ثالثا: الولايات المتحدة، اليابان
البلدان المستعمَرة وروسيا السوفياتية

14- يمثل تطور الولايات المتحدة خلال الحرب، بمعنى من المعاني، نقيض تطور أوروبا. فقد كانت مشاركة الولايات المتحدة بالحرب مشاركة مموّنين. ولم تشعر الولايات المتحدة أبدا بالآثار التدميرية للحرب. وكان التأثير التدميري غير المباشر للحرب على النقليات والاقتصاد الريفي، الخ.، أضعف بكثير في هذا البلد منه في إنجلترا ـ دون الحديث عن فرنسا وألمانيا. ومن جهة ثانية استغلت الولايات المتحدة بشكل كامل انعدام المنافسة الأوروبية أو على الأقل ضعفها الحاد، ودَفعت صناعاتها الأكثر أهمية إلى درجة من التطور غير المنتظر (النفط، الإنشاءات البحرية، السيارات، الفحم)، وليس النفط الأميركي وحده ولا الزُّروع(1) الأميركية، بل أيضا الفحم هو ما يبقي غالبية البلدان الأوروبية في حالة تبعية.

وإذا كانت أميركا تصدر، إلى حين اندلاع الحرب، المنتجات الزراعية والمواد الأولية (تشكل ثلثي حجم الصادرات الكلية) فهي في الوقت الحاضر تصدِّر بشكل خاص، وعلى العكس، المنتجات الصناعية (60 بالمائة من الصادرات). وإذا كانت أميركا حتى الحرب مدينة، فإنها أصبحت في الوقت الحاضر دائنة للعالم أجمع. فنصف احتياطي الذهب العالمي ما زال يتدفق إليها. وانتقل الدور الحاسم في السوق من الجنيه الاسترليني إلى الدولار.

15- مع ذلك، فإن الرأسمال الأميركي قد خرج هو أيضا عن التوازن. فالازدهار الخارق للصناعة الأميركية قد تحدد حصرا بجملة شروط عالمية: إلغاء المنافسة الأوروبية، وبشكل خاص الطلب في سوق الأسلحة في أوروبا. وإذا لم تستطع أوروبا المدمَّرة أن تعود بعد الحرب إلى موقعها كمنافسة لأميركا أي إلى موقعها في السوق العالمي ما قبل الحرب، فإنها لا تستطيع من جهة ثانية كسوق لأميركا، أن تحصل من الآن وصاعدا إلاّ على جزء لا قيمة له من أهميتها السابقة. فقد أصبحت الولايات المتحدة بلدا مصدّرا بدرجة أكبر بكثير مما كانت عليه قبل الحرب. إن الجهاز الإنتاجي فائق التطور لا يمكن أن يستخدم بشكل كامل خلال الحرب بسبب افتقاد الأسواق. وهكذا أصبحت بعض الصناعات صناعات موسمية لا يمكن أن تؤمن العمل للعمال إلاّ لجزء من السنة. إن الأزمة في الولايات المتحدة هي بداية دمار اقتصادي عميق ومستديم بنتيجة انهيار أوروبا. وهنا تكمن نتيجة تدمير تقسيم العمل العالمي.

16- لقد أفادت اليابان أيضا من الحرب من أجل توسيع موقعها في السوق العالمي. إن تطورها أكثر محدودية بما لا يقارن مع الولايات المتحدة، ويتخذ في سلسلة من الفروع طابعا مصطنعا محضا. وإذا كانت قواها المنتجة كافية من أجل السيطرة على سوق خال من المنافسين، إلاّ أنها تبدو مع ذلك غير كافية من أجل الحفاظ على هذا السوق في الصراع مع البلدان الرأسمالية الأقوى، وقد نتج عن ذلك أزمة حادة كانت بالتحديد بداية الأزمات الأخرى كافة.

17- وأفادت البلدان الساحلية المصدِّرة للمواد الأولية، ومن ضمنها البلدان المستعمَرة (أميركا الجنوبية، كندا، أستراليا، الهند، ومصر، الخ)، كل بدورها، من توقف المواصلات الدولية من أجل تطوير صناعتها المحلية. لقد امتدت الأزمة العالمية إلى هذه البلدان أيضا. إن تطور الصناعة الوطنية في هذه البلدان يصبح بدوره مصدرا لصعوبات تجارية جديدة لإنجلترا وأوروبا بأكملها.

18- وفي مجال إنتاج التجارة والتسليف، ليس ثمة سبب للتأكيد ـ ليس فقط في أوروبا بل على الصعيد العالمي – بأن هناك أي إعادة لتوازن مستقر بعد الحرب.

فالانهيار الاقتصادي يستمر في أوروبا، ولكن تدمير أسس الاقتصاد الأوروبي لن يظهر خلال السنوات القادمة إلاّ بشكل خفيف.

السوق العالمي في فوضى. أوروبا بحاجة للمنتجات الأميركية، غير أنها لا تستطيع أن تعطي أميركا أي مقابل. أوروبا مصابة بفقر الدم، وأميركا مصابة بنمو زائد. ويشكل انخفاض قيمة العملة في البلدان الأوروبية (الذي يصل إلى نسبة 99 بالمائة) عائقا أمام التجارة العالمية يكاد يمكن تجاوزه. إن التقلبات الدائمة وغير المتوقعة للعملة تحوِّل الإنتاج الرأسمالي إلى مضاربة لا كابح لها. ولا يمكن إعادة سعر الذهب إلى ما كان عليه في أوروبا إلاّ عن طريق رفع الصادرات وخفض الواردات. وأوروبا المهدّمة غير قادرة على هذا التحول. وأميركا بدورها تقاوم الواردات الأوروبية المصطنعة (الإغراق) عن طريق رفع التعرفات الجمركية.

وتبقى أوروبا مستشفى للأمراض العقلية. فأغلبية الدول تصدر قوانين تحظر الاستيراد والتصدير، وتضاعف تعرفات الحماية لديها. إنكلترا تطبق حقوق الحظر على الصادرات الألمانية ومجمل الحياة الاقتصادية الألمانية رهن بعصابة من المضاربين في الدول الحليفة وخاصة فرنسا. وأراضي النمسا – المجرية تقسمها عشرات الخطوط الجمركية. وربطة خيوط معاهدات السلم تصبح أكثر تداخلا وتعقيدا يوما بعد يوم.

19- لقد ساهم اختفاء روسيا السوفياتية كسوق للمنتجات الصناعية وكمموِّن بالمواد الخام في الإخلال بتوازن السوق العالمي. وعودتها في المرحلة القادمة إلى السوق العالمي لن تحمل إليه تحولات كبيرة. كان الجهاز الرأسمالي لروسيا، من ناحية وسائل الإنتاج، في تبعية كاملة للصناعة العالمية، وتعززت أيضا هذه التبعية تجاه الدول الحليفة خلال الحرب، فيما كانت صناعة روسيا الداخلية مستنفرة بشكل كامل. لقد قطع الحصار هذه الروابط الحيوية بضربة واحدة. وليس واردا أن يتمكن هذا البلد، الذي أنهكته ثلاث سنوات من الحرب الأهلية ودمرته، من تنظيم الفروع الصناعية الجديدة لديه، التي بدونها كانت الفروع القديمة تدمرت حتما بفعل استنزاف معداتها الأساسية. يضاف إلى ذلك واقع استيعاب الجيش الأحمر لعشرات الآلاف من أفضل العمال، إلى حد بعيد أكثرهم اختصاصا. ضمن هذه الشروط التاريخية، لم يكن أي نظام آخر ليستطيع، وهو مطوّق بالحصار، ومعرّض لحروب لا تتوقف، ويحمل إرثا رهيبا من الدمار، أن يحافظ على الحياة الاقتصادية ويخلق إدارة ممركزة. ولكن لا يمكننا أن نشك بأنه تم دفع ثمن النضال ضد الإمبريالية العالمية بالاستنزاف المتواصل للقوى المنتجة في روسيا في فروع أساسية عديدة من الاقتصاد ولم يحصل إلاّ في الوقت الحاضر، بعد فك الحصار، وإحياء بعض الأشكال الأكثر طبيعية للعلاقات بين المدينة والريف، إن توفرت للسلطة السوفياتية إمكانية قيادة ممركزة ثابتة وصلبة لا تلين لأجل إنهاض البلد.

رابعا: احتدام التعارضات الاجتماعية

20- إن الحرب التي أنتجت تدميرا للقوى المنتجة لا سابقة له في التاريخ، لم توقف سيرورة التمايز الاجتماعي؛ بل على العكس حصل تقدم مخيف على صعيد بلترة شرائح متوسطة واسعة، بما فيها الطبقة الوسطى (المستخدمين، والموظفين) في البلدان التي عانت أكثر من غيرها من الحرب. لقد أصبحت المسألة ستينز Stinnes مسألة أساسية في الحياة الاقتصادية الألمانية.

لقد كان ارتفاع أسعار السلع الملازم للانخفاض الكارثي للصرف في كل البلدان الأوروبية التي شاركت في الحرب يشهد في الواقع على توزيع جديد للدخل الوطني على حساب الطبقة العاملة والمستخدمين والموظفين وأصحاب الريع الضئيل، وبشكل عام على حساب جميع فئات الأفراد الذين يحصلون على ريع محدد إلى هذا الحد أو ذاك.

على هذه الشاكلة عادت أوروبا لناحية مواردها المادية عشرات السنوات إلى الوراء وبعيدا عن أن يتوقف مجرى احتدام التعارضات الاجتماعية، الذي لم يعد ممكنا مقارنته من الآن وصاعدا بما كان عليه بالسابق، راح يتفاقم بسرعة مذهلة. هذه الواقعة الرئيسية كافية لتحطيم كل أمل مبني على تطور متواصل وسلمي للقوى الديمقراطية. إن التمايز المتنامي -«الستنزة»(2)، من جهة، ومن جهة أخرى البلترة والإفقار-، القائم على الدمار الاقتصادي، يحدد الطابع المتوتر والحاسم والقاسي للصراع الطبقي.

إن الطابع الحالي للأزمة يشكل إدامة، من هذه الزاوية، لعمل الحرب ولاندفاع المضاربة الذي تبع تلك الحرب.

21- أدى ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية، بخلقه لوهم الثراء العام للريف، إلى ازدياد فعلي في دخول الفلاحين الأغنياء وثرواتهم. فلقد استطاع الفلاحون في الواقع أن يدفعوا ديونهم التي ترتبت عليهم حين كان لا يزال سعر العملة عاديا، بواسطة أوراق مالية هابطة القيمة كانوا قد راكموها بكميات كبيرة. على الرغم من الارتفاع الكبير بسعر الأرض وعلى الرغم من سوء الاستخدام الوقح لاحتكار وسائل المعيشة، وأخيرا على الرغم من إثراء كبار الملاكين العقاريين والفلاحين الميسورين، فإن تراجع الاقتصاد الريفي في أوروبا لا جدال فيه: وهو تراجع متعدد الوجوه يعبر عن نفسه بتوسيع أشكال الاقتصاد الزراعي، وتحويل الأراضي الصالحة للزراعة إلى حقول، وإبادة الماشية، وتطبيق نظام الأراضي المرتاحة. ومن أسباب هذا التراجع أيضا نقص الأدوات المصنوعة وغلاؤها وارتفاع أسعارها. وأخيرا الخفض المنظم ـ في أوروبا الوسطى والشرقية – للإنتاج، الذي جاء كردة فعل على محاولات سلطة الدولة وضع يدها على الإشراف على المنتجات الزراعية. ويخلق الفلاحون الميسورون، وإلى حد ما الفلاحون المتوسطون، منظمات سياسية واقتصادية من أجل حماية أنفسهم من هجمات البرجوازية ومن أجل أن يفرضوا على الدولة ـ كثمن للدعم الذي يقدمونه بمواجهة البروليتاريا – سياسة تعرفات وضرائب أحادية الجانب ولصالح الفلاحين حصرا، سياسة تعيق تجديد الرأسمالية. بذلك ينشأ تعارض بين البرجوازية المدينية والبرجوازية القروية، مما يضعف قوة الطبقة البرجوازية بمجملها. فيما يتبلتر، في الوقت نفسه، جزء كبير من الفلاحين الفقراء، وتتحول القرية إلى جيش من الساخطين، ويتنامى الوعي الطبقي لطبقة البروليتاريا الريفية.

من جهة ثانية، سبّب الإفقار العام في أوروبا، الذي جعلها عاجزة عن شراء الكمية الضرورية من الزروع الأميركية، أزمة كبيرة في الاقتصاد الريفي لما وراء الأطلسي. ونلاحظ تفاقم وضع الفلاح والمزارع الصغير ليس فقط في أوروبا بل أيضا في الولايات المتحدة وكندا والأرجنتين وأستراليا وجنوب إفريقيا.

22- لقد تفاقم وضع الموظفين والمستخدمين بشكل عام، بفعل انخفاض القدرة الشرائية للعملة، بحدة أكبر من وضع البروليتاريا. واختلّت شروط المعيشة للموظفين الصغار والمتوسطين اختلالا كليا، بحيث أصبحت هذه العناصر خميرة سخط سياسي، يقوّض صلابة آلية الدولة، التي يخدمها هؤلاء. إن «الفئة المغلقة المتوسطة الجديدة» التي تمثل بالنسبة للإصلاحيين مركز القوى المحافظة، تصبح بالأحرى خلال مرحلة الانتقال عاملا ثوريا.

23- لقد فقدت أوروبا الرأسمالية أخيرا موقعها الاقتصادي المهيمن في العالم. من جهة ثانية، كان توازنها الطبقي النسبي يقوم على هذه الهيمنة الواسعة. وكل الجهود التي قامت بها البلدان الأوروبية (إنجلترا وإلى حد ما فرنسا) من أجل إعادة الوضع الداخلي إلى ما كان عليه، لم تكن إلاّ لتزيد من فوضى الحيرة والتقلب.

24- فيما كان تركّز الملكية في أوروبا ينجز على قاعدة الدمار وصل هذا التركّز والتضاد الطبقي في الولايات المتحدة إلى درجة قصوى على قاعدة إثراء رأسمالي محموم. إن التحولات المفاجئة للوضع بفعل التقلب العام بالسوق العالمي، أعطت الصراع الطبقي على الأرض الأميركية طابعا متوترا للغاية وثوريا. ولا بد أن يلي بلوغ الرأسمالية ذروة لا مثيل لها في التاريخ بلوغ النضال الثوري ذروته.

25- كانت هجرة العمال والفلاحين إلى ما وراء المحيط تخدم دائما كصمام أمان للنظام الرأسمالي في أوروبا وكانت تزداد خلال فترات الركود المتواصلة وبعد هزيمة الحركات الثورية. غير أن أميركا وأستراليا تعيقان الآن الهجرة ودائما بشكل متزايد. إن صمام الأمان الخاص بالهجرة لم يعد يشتغل.

26- خلق التطور النشط للرأسمالية في الشرق، وخاصة في الهند والصين، أسسا اجتماعية جديدة للنضال الثوري وعزّزت البرجوازية في هذه البلدان روابطها بالرأسمال الأجنبي وأصبحت على هذه الشاكلة أداته الأساسية للسيطرة. إن صراعها مع الإمبريالية الأجنبية، صراع المنافس الأشد ضعفا، يتخذ أساسا طابعا نصف وهمي، فتطور البروليتاريا المحلية يشلُّ الميول الثورية الوطنية للبرجوازية الرأسمالية. ولكن، وفي الوقت نفسه، تجد الصفوف الواسعة للفلاحين، في شخص الطليعة الشيوعية الواعية، قادة ثوريين حقيقيين.

إن اجتماع الاضطهاد القومي العسكري بواسطة الإمبريالية الأجنبية، والاستغلال الرأسمالي بواسطة البرجوازية المحلية والبرجوازية الأجنبية، وكذلك بقايا العبودية الإقطاعية، كل ذلك يخلق الشروط التي تستطيع البروليتاريا الناشئة أن تتطور بفعلها سريعا، وتقف على رأس حركة فلاحية واسعة.

لقد أصبحت الآن الحركة الشعبية الثورية في الهند والمستعمرات الأخرى جزءا لا يتجزأ من الثورة العالمية للشغيلة، تماما كما هو الحال مع انتفاض البروليتاريا في البلدان الرأسمالية في العالم القديم أو في العالم الجديد.

خامسا: العلاقات الدولية

27- يحدد الوضع العام للاقتصاد العالمي وقبل كل شيء خراب أوروبا مرحلة طويلة من صعوبات اقتصادية كبيرة، وهزات وأزمات جزئية وعامة، الخ. وتتولى العلاقات الدولية، كما توطدت كنتيجة للحرب ومعاهدة فرساي، جعل الوضع أمام جدار مسدود.

لقد ولدت الإمبريالية تعبيرا عن حاجات القوى المنتجة التي تنزع إلى إلغاء حدود الدول القومية وخلق أرض أوروبية وعالمية اقتصادية واحدة؛ وكانت نتيجة الصراع بين الامبرياليات المتعادية إتاحة حدود جديدة وجمارك جديدة وجيوش جديدة في أوروبا الوسطى والشرقية. لقد أعيدت أوروبا، بالمعنى الاقتصادي والعملي إلى القرون الوسطى.

وعلى أرض مستنزفة ومهدمة، تتم المحافظة حاليا على جيش أكبر مرة ونصفا مما كان عليه عام 1914، أي في ذروة «السلم المسلح».

28- يمكن أن نقسم السياسة القيادية لفرنسا في القارة الأوروبية إلى قسمين: أحدهما يشهد على الغضب الأعمى للمرابي المستعد لخنق المستدين المفلس، والثاني يتمثل بجشع الصناعة الكبيرة النهّابة بغية خلق الشروط الملائمة لإمبريالية صناعية، قادرة على الحلول محل الإمبريالية المالية المفلسة، وذلك عن طريق أحواض السار والروهر وسيليزيا العليا.

غير أن هذه الجهود تتعارض مع مصالح إنكلترا. فمهمة هذه الأخيرة تقوم على فصل الفحم الألماني عن الركاز (3) الفرنسي، اللذين يشكل الجمع بينهما شرطا ضروريا لإحياء أوروبا من جديد.

29- تبدو الإمبراطورية البريطانية حاليا في ذروة قوتها. فقد حافظت على ممتلكاتها القديمة واحتلت أخرى جديدة. ولكن اللحظة الحالية تحديدا تُظهر أن الموقع المهيمن لإنجلترا يتناقض مع انحطاطها الاقتصادي الفعلي. وقد سُحقت ألمانيا، برأسماليتها الأكثر تطورا بما لا يقارن لناحية التقنية والتنظيم، بواسطة القوة العسكرية. ولكن يقف بمواجهة إنجلترا خصم منتصر وأكثر تهديدا من ألمانيا، تمثله الولايات المتحدة، سيدة الأميركيتين اقتصاديا. إن مردود العمل في الصناعات في الولايات المتحدة، بفعل تنظيم أفضل وتقنية أفضل، أعلى بما لا يقارن مما هو عليه في إنكلترا. فالولايات المتحدة تنتج 65 إلى 70 بالمائة من النفط المستهلك في العالم أجمع، الذي يتوقف عليه استخدام السيارات والجرارات، والأسطول والطيران. إن الموقع العريق في القدم وشبه الاحتكاري لإنجلترا في سوق الفحم قد تحطّم نهائيا، واحتلت أميركا المركز الأول. فصادراتها إلى أوروبا تتزايد بشكل مهدِّد، وأسطولها التجاري يضاهي تقريبا الأسطول الإنجليزي، وهي لم تعد تريد الإذعان لاحتكار إنجلترا العالمي. وعلى الصعيد الصناعي، تنتقل بريطانيا العظمى إلى موقع الدفاع، وتحت حجة محاربة المنافسة الألمانية «الخبيثة» تتسلح بإجراءات حماية بمواجهة الولايات المتحدة. وأخيرا في حين توقف عن التطور أسطول إنجلترا العسكري، الذي يضم عددا كبيرا من الوحدات القديمة، استعادت حكومة هاردينغ برنامج حكومة ويلسون فيما يختص بالإنشاءات البحرية، التي ستمنح أميركا، خلال السنتين أو الثلاث سنوات القادمة، الهيمنة على البحار.

إن الوضع هو على الصورة التالية: إمّا أن تُدفع إنجلترا إلى موقع ثانوي وعلى الرغم من انتصارها على ألمانيا، تصبح قوة من الدرجة الثانية، وإمّا ـ وهو ما باتت ترى نفسها مجبرة عليه – أن تجند فعلا، في مستقبل قريب جدا، كل القوى التي اكتسبتها في الماضي في صراع مستميت مع الولايات المتحدة.

وضمن هذا المنظور تحافظ إنجلترا على تحالفها مع اليابان وتسعى، لقاء تنازلات تتزايد باستمرار، لكسب دعم فرنسا أو على الأقل حيادها.

إن تنامي دور هذه الأخيرة الدولي ـ في حدود القارة – خلال العام الجاري لا يعود إلى ضعف اعترى فرنسا، بل إلى الضعف الدولي لإنجلترا.

إن استسلام ألمانيا في أيار / مايو الماضي في مسألة تعويضات الحرب، يشير إلى الانتصار الظرفي لإنجلترا في كل مكان، ويؤكد الانهيار الاقتصادي اللاحق لأوروبا الوسطى، دون استبعاد احتلال فرنسا لأحواض الروهر وسيليزيا العليا، في مستقبل قريب.

30- إن العداء بين اليابان والولايات المتحدة، الذي كان مستقرا ظرفيا بسبب مشاركتهما في الحرب ضد ألمانيا، ينمّي اتجاهاته علنا في هذه المرحلة، فقد اقتربت اليابان من شواطئ الولايات المتحدة بعد أن استولت على جزر ذات أهمية استراتيجية كبيرة في المحيط الهادي.

لقد أيقظت الأزمة الصناعية التي تطورت بسرعة في اليابان، مسألة الهجرة من جديد؛ فاليابان بلد ذو كثافة سكانية، وفقير بالموارد الطبيعية، مجبر على تصدير السلع أو الأشخاص. وفي الحالة الأولى كما في الثانية يصطدم بالولايات المتحدة، في كاليفورنيا وفي الصين وعلى جزيرة جاب.

تنفق اليابان أكثر من نصف ميزانيتها على الجيش وعلى الأسطول. وتلعب اليابان في البحر، بسبب النزاع بين إنكلترا وأميركا الدور الذي تلعبه فرنسا على الأرض في الحرب مع ألمانيا. وتستفيد اليابان حاليا من العداء بين بريطانيا العظمى وأميركا، غير أن الصراع النهائي بين هذين العملاقين على السيطرة على العالم، سيتقرر في النهاية على حسابها.

31- لقد كانت المجزرة الأخيرة أوروبية بأسبابها وبالمشتركين بها. وكان محور الصراع هو العداء بين إنكلترا وألمانيا، وقد وسّع تدخل الولايات المتحدة أُطُرَه، دون أن يحوله عن اتجاهه الأساسي؛ لقد تم حل النزاع الأوروبي على مستوى العالم أجمع. إن الحرب التي أنهت على طريقتها الخلاف بين إنجلترا وألمانيا، ليس فقط لم تحل مسألة العلاقات بين الولايات المتحدة وإنجلترا بل، على العكس، فقد وضعتها من جديد في الواجهة، بكل أبعادها، باعتبارها مسألة أساسية في السياسة الدولية. كما طرحت مسألة من الدرجة الثانية، وهي مسألة العلاقات بين الولايات المتحدة واليابان. وبهذا المعنى كانت الحرب الأخيرة مقدمة أوربية للحرب العالمية حقا التي ستقرر السيطرة الإمبريالية المطلقة.

32- ولكن هذا ليس إلاّ محورا من محاور السياسة الدولية. وهناك محور آخر أيضا: فاتحاد السوفيتات الروسية والأممية الثالثة قد ولدتها نتائج الحرب الأخيرة. وتجمع القوى الثورية العالمية موجه كليا ضد كل التجمعات الإمبريالية.

إن للحفاظ على التحالف بين إنجلترا وفرنسا أو على العكس، فرط هذا التحالف، الثمن نفسه من وجهة نظر مصالح البروليتاريا ومن وجهة نظر السلام، وسواء تجدّد أو لم يتجدد التحالف الإنجليزي – الياباني، وسواء دخلت الولايات المتحدة (أو رفضت الدخول) إلى عصبة الأمم، فالبروليتاريا لن تجد ضمانة كبرى للسلام في التجمع العابر والجشع وغير الموثوق به بين الدول الرأسمالية، الذي تتعهده سياستها المتطورة باستمرار حول التضاد الإنجليزي – الأميركي، فيما تعدّ لانفجار دموي.

إن إبرام بعض الدول الرأسمالية معاهدات سلمية واتفاقات تجارية مع روسيا السوفياتية هو أبعد من أن يعني أن البرجوازية العالمية قد تخلت عن هدف تدمير الجمهورية السوفياتية. إننا لا نستطيع أن نرى في ذلك إلاّ تحولا ربما كان عابرا لأشكال وأساليب الصراع. وربما دلّ الانقلاب الياباني في الشرق الأقصى على بداية مرحلة جديدة من التدخل المسلح.

ومن الواضح بشكل مطلق، أنه كلما تباطأت الحركة البروليتارية الثورية العالمية كلما دفعت تناقضات الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي البرجوازية كي تحاول مجددا إيجاد حل بقوة السلاح على المستوى العالمي. وهذا يعني أن «إعادة التوازن الرأسمالي» سترتكز بعد الحرب الجديدة على إنهاك اقتصادي وانكفاء للحضارة بحيث تبدو لدى المقارنة مع الوضع الحالي أوروبا، ذروة الرخاء.

33- وعلى الرغم من أن تجربة الحرب الأخيرة قد أثبتت بيقين مرعب أن «الحرب هي حساب خادع» – حقيقة تشمل كل نزعة سلمية، سواء كانت اشتراكية أو برجوازية – فإن الإعداد لحرب جديدة، الإعداد الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي والتقني، يستمر بخطوات حثيثة في العالم الرأسمالي بأكمله. إن النزعة السلمية الإنسانية المعادية للثورة قد أصبحت قوة داعمة للنزعة العسكرية.

إن الاشتراكيين – الديمقراطيين بمختلف تلاوينهم ونقابويي أمستردام يوحون للبروليتاريا العالمية بالقناعة بضرورة التكيف مع القواعد الاقتصادية والحق الدولي للدول كما جرى إقرارها بنتيجة الحرب، ويبدون بذلك كمعاونين باهرين للبرجوازية الإمبريالية في الإعداد لمجزرة جديدة تهدد بتدمير الحضارة الإنسانية نهائيا.

سادسا: الطبقة العاملة بعد الحرب

34- تتلخص بالواقع مسألة إحياء الرأسمالية على الأسس المذكورة أعلاه، على الشكل التالي: هل الطبقة العاملة مستعدة، وضمن شروط جديدة أصعب بما لا يقارن مما في السابق، لتقديم التضحيات اللازمة من أجل ضمان شروط استعبادها الخاص، الأكثر قساوة وتضييقا مما كان عليه قبل الحرب؟

من أجل ترميم الاقتصاد الرأسمالي، عبر استبدال جهاز الإنتاج المهدم خلال الحرب، هناك ضرورة لتأسيس قوى جديدة لرأس المال. ولن يكون ذلك ممكنا إلاّ إذا كانت البروليتاريا مستعدة للعمل أكثر وبشروط معيشية متدنية جدا. هذا ما يطلبه الرأسماليون، وهذا ما يشير عليها به قادة الأممية الصفراء الخونة: دعم ترميم الرأسمالية في البداية ومن ثم النضال من أجل تحسين وضع العمال. ولكن البروليتاريا الأوروبية غير مستعدة للتضحية، وتطالب بتحسين شروطها المعيشية، الأمر الذي يتعارض تعارضا مطلقا حاليا مع الإمكانات الموضوعية للرأسمالية. من هنا الإضرابات والانتفاضات المتواصلة واستحالة إحياء الاقتصاد الأوروبي. إن إعادة سعر الصرف إلى ما كان عليه، بالنسبة للعديد من الدول الأوروبية (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، النمسا، المجر، بولندا، البلقان) هو قبل كل شيء التخلص من الأعباء التي تتخطى إمكاناتها، أي أن تعلن إفلاسها. ويعني كذلك إعطاء دفعة قوية لصراع الطبقات من أجل توزيع جديد للعائد الوطني. إن إعادة سعر الصرف إلى ما كان عليه، تعني مستقبلا خفض مصاريف الدولة على حساب الجماهير (رفض تثبيت الحدّ الأدنى للأجور، وأسعار السلع الاستهلاكية الأساسية) ومنع وصول السلع الضرورية الرخيصة الآتية من الخارج، وإنعاش التصدير بخفض تكاليف الإنتاج، أي، مرة أخرى، تعزيز استغلال الجمهور العمالي بالدرجة الأولى. إن كلّ إجراء جدّي، يتجه إلى إعادة التوازن الرأسمالي سيزعزع التوازن المختل أصلا بين الطبقات أكثر مما هو مزعزع وسيعطي النضال الثوري اندفاعة جديدة. وبالتالي تصبح مسألة معرفة ما إذا كان بالإمكان إحياء الرأسمالية من جديد، مسألة صراع بين القوى الحية: القوى الطبقية والحزبية. ومن بين الطبقتين الأساسيتين، البرجوازية والبروليتاريا، إذا تخلت إحداهما، أي الأخيرة، عن النضال الثوري، فإن الثانية، أي البرجوازية، ستجد بلا ريب بنهاية الأمر، توازنا رأسماليا جديدا ـ توازن تفكك مادي ومعنوي – بواسطة أزمات جديدة وحروب جديدة، وإفقار مستمر لبلدان بأكملها، وموت عشرات الملايين من الشغيلة.

غير أن الوضع الحالي للبروليتاريا العالمية لا يقدّم أبدا أسبابا لتوقع هذا التوازن.

35- لقد فقدت العناصر الاجتماعية المتمثلة بالاستقرار والنزعة المحافظة والتقاليد جزءا كبيرا من تأثيرها على عقول الجماهير الكادحة. وإذا كانت الاشتراكية – الديمقراطية والنقابات لا تزال تحتفظ ببعض التأثير على جزء هام من البروليتاريا بفضل إرث الجهاز التنظيمي وإرث الماضي، فإن هذا التأثير ضعيف كليا. فالحرب لم تغير عقلية البروليتاريا وحسب بل وتشكيلها. وهذه التغييرات تتعارض كليا مع التنظيم التدريجي لما قبل الحرب.

وفي أغلب البلدان لا زالت تسيطر في قمة البروليتاريا بيروقراطية عمالية متطورة جدا، وموحدة بشكل وثيق، تعدُّ طرائقها وأساليبها الخاصة للسيطرة. وترتبط بآلاف الروابط بمؤسسات الدولة الرأسمالية وأجهزتها.

تأتي بعد ذلك مجموعة من العمال، الأفضل موقعا في الإنتاج، الذين يشتغلون أو يسعون لشغل مراكز إدارية، والذين يشكلون الدعامة الأكثر ضمانة للبيروقراطية العمالية.

ومن ثم الجيل القديم من الاشتراكيين الديمقراطيين، والعمال النقابيين المتخصصين بأغلبيتهم، المرتبطين بمنظمتهم بعقود من النضال، والذين لا يستطيعون أن يقرروا القطع معها، على الرغم من خياناتها وإفلاسها. مع ذلك، وفي فروع عديدة للإنتاج يختلط العمال المتخصصون بالعمال غير المتخصصين، وخاصة النساء منهم.

وهناك أيضا ملايين العمال الذين تعلموا الحرب، وتعودوا استخدام السلاح وهم مستعدون، بغالبيتهم، لأن يستخدموه ضد العدو الطبقي لكن بشرط إعداد جدي مسبق وقيادة صلبة وهما أمران ضروريان لإحراز الانتصارات.

وكذلك ملايين العمال الجدد، والعاملات بشكل خاص، الذين جذبوا إلى الصناعة أثناء الحرب وحملوا إلى البروليتاريا ليس فقط أفكارهم المسبقة البرجوازية الصغيرة، بل أيضا تطلعاتهم المتلهفة إلى شروط معيشية أفضل.

وأخيرا هناك ملايين العمال والعاملات الشباب الذين تربوا أثناء العاصفة الثورية، وهم أكثر تقبلا للخطاب الشيوعي ويشتعلون رغبة بالتحرك.

وهناك بالدرجة الأخيرة جيش ضخم من العاطلين عن العمل وهم بغالبيتهم مقتلعون من جذورهم الطبقية أو شبه مقتلعين، وتعكس تقلبات هذا الجيش، بالشكل الأكثر عمقا، مسار انحطاط الاقتصاد الرأسمالي، وتضع النظام البرجوازي تحت تهديدها المستمر.

لم تنجذب هذه العناصر بعد الحرب على اختلاف أصولها وسماتها إلى الحركة في آن واحد وبالطريقة نفسها. من هنا تعثر النضال الثوري وتقلبه وتقدمه وتراجعه. غير أن الجمهور البروليتاري، بأغلبيته العظمى، يرص صفوفه بسرعة على أنقاض كل الأوهام القديمة، وعدم استقرار الحياة اليومية المخيف، وأمام كل قوة الرأسمال الممركَز، وأمام الأساليب اللصوصية للدولة المعسكرة. ويبحث هذا الجمهور الذي يضم عدة ملايين من الأشخاص عن قيادة حازمة وواضحة، وبرنامج عمل واضح، ويخلق بذلك بالذات قاعدة الدور الحاسم المدعو للعبه الحزب الشيوعي المتماسك والممركز.

36- لقد تفاقم وضع الطبقة العاملة بالتأكيد خلال الحرب وازدهر وضع بعض المجموعات العمالية، ونجحت بعض العائلات التي استطاع عدد من أفرادها العمل في المصانع خلال الحرب أن تحافظ على مستوى معيشتها أو ترفع منه. ولكن بشكل عام، لم تزدد الأجور بالتناسب مع غلاء المعيشة.

في أوروبا الشرقية حُكم على الطبقة العاملة بعوز يتزايد باستمرار. أمّا في البلدان القارية المتحالفة، فكان انخفاض مستوى المعيشة أقل عنفا في هذه السنوات الأخيرة. ففي إنكلترا أوقفت الطبقة العاملة سيرورة تدهور شروط معيشتها عن طريق نضال نشط خلال المرحلة الأخيرة من الحرب.

وتحسّن وضع بعض شرائح الطبقة العاملة في الولايات المتحدة، فيما حافظت بعض الشرائح على وضعها القديم أو تعرضت لانخفاض بمستوى معيشتها.

لقد انقضّت الأزمة على البروليتاريا في العالم أجمع بقوة مخيفة. وتخطى انخفاض الأجور انخفاض الأسعار، وأصبح عدد العاطلين عن العمل وأنصاف العاطلين عن العمل ضخما، بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ. إن التحولات المتلاحقة في شروط المعيشة الفردية تؤثر بشكل سلبي جدا على مردود العمل ولكنها تستبعد إمكانية إقامة التوازن الطبقي على الأرضية الأساسية، أي أرضية الإنتاج. إن عدم استقرار الشروط المعيشية، الذي يعكس الضعف العام للظروف الاقتصادية الوطنية والعالمية، يشكل في الوقت الحاضر العامل الأكثر ثورية.

سابعا: الآفاق والمهمات

37- لم تسبب الحرب مباشرة الثورة البروليتارية. وقد اعتبرت البرجوازية ذلك ـ مع بعض الحق في الظاهر- أحد أكبر انتصاراتها.

ليس إلاّ صاحب العقلية البرجوازية الصغيرة قصير النظر من يمكنه أن يرى إفلاس برنامج الأممية الشيوعية في واقع أن البروليتاريا الأوروبية لم تطح البرجوازية خلال الحرب أو بعدها مباشرة. فتطور الأممية الشيوعية في الثورة البروليتارية لا يفترض تحديدا دوغمائيا لتاريخ معين على روزنامة الثورة، ولا ضرورة قيام الثورة آليا في التاريخ المحدد. لقد كانت الثورة وستبقى نضالا لقوى حيّة على الأسس التاريخية المعطاة. إن تحطيم التوازن الرأسمالي بواسطة الحرب على الصعيد العالمي قد خلق الشروط الملائمة للقوى الأساسية للثورة، للبروليتاريا. وجهود الأممية الشيوعية كانت ولا تزال موجهة نحو استغلال هذا الوضع استغلالا تاما.

إن التعارضات بين الأممية الشيوعية والاشتراكيين الديمقراطيين من المجموعتين لا تقوم على أننا قد حددنا تاريخا معينا للثورة، فيما لم يقم الاشتراكيون الديمقراطيون وزنا للطوباوية و«النزعة الانقلابية»؛ فهذه التعارضات تكمن في أن الاشتراكيين الديمقراطيين يتحركون ضد التطور الثوري الفعلي، بدعمهم لإعادة توازن الدولة البرجوازية بكل قواهم سواء كانوا في الحكومة، أو في المعارضة، فيما يستغل الشيوعيون الفرص كافة، وبكل الطرق والأساليب من أجل إطاحة الدولة البرجوازية وسحقها بواسطة دكتاتورية البروليتاريا.

لقد أظهرت البروليتاريا في شتى البلدان خلال عامين ونصف انقضيا على الحرب، الكثير من الطاقة والاستعداد للنضال وروح التضحية بحيث كان أمكنها أن تضطلع بمهمتها إلى حد بعيد وتنجز ثورة ظافرة، لو أنها وجدت على رأسها حزبا شيوعيا أمميا حقا، حسن الإعداد وممركزا بقوة. غير أن ظروفا تاريخية عديدة وتأثيرات الماضي وضعت على رأس البروليتاريا الأوروبية، خلال الحرب ومنذ ذلك الحين، منظمة الأممية الثانية التي أصبحت وستبقى أداة سياسية لا تقدر بثمن بين يدي البرجوازية.

38- كانت السلطة في ألمانيا، نحو نهاية عام 1918 وبداية عام 1919 بين يدي الطبقة العاملة. لقد حرّك الاشتراكيون – الديمقراطيون والنقابات كل تأثيرهم التقليدي وكل جهازهم من أجل إعادة السلطة إلى البرجوازية.

وفي إيطاليا، نمت حركة البروليتاريا الثورية المندفعة، بشكل متزايد خلال الثمانية عشر شهرا الماضية وليس غير فقدان الحزم لدى حزب اشتراكي برجوازي – صغير، والسياسة الخيانية للكتلة البرلمانية والانتهازية الجبانة للمنظمات النقابية، هو ما سمح للبرجوازية بتجديد جهازها وتعبئة حرسها الأبيض، والانتقال إلى الهجوم ضد البروليتاريا المحبطة ظرفيا بسبب إفلاس أجهزتها القيادية الهرمة.

لقد تحطمت حركة الإضراب القوية، باستمرار، في السنوات الأخيرة، في إنكلترا بمواجهة القوة المسلحة للدولة، التي كانت تقوم بتخويف قادة النقابات. فلو بقي هؤلاء القادة أوفياء لقضية الطبقة العاملة، لكان من الممكن، مع ذلك، وعلى الرغم من كل أخطائهم، وضع آلية النقابات في خدمة المعارك الثورية. لقد ظهرت خلال أزمة «الحلف الثلاثي» الأخيرة إمكانية تصادم ثوري مع البرجوازية، غير أن العقلية المحافظة للقادة النقابيين وجبنهم وخيانتهم قد منعت هذا التصادم. ولو كان جهاز النقابات الإنكليزي يعمل لمصلحة الاشتراكية فقط بمعدل نصف العمل الذي يقوم به الآن لمصلحة رأس المال، لاستولت البروليتاريا على السلطة بأقصى التضحيات ولكان بإمكانها أن تأخذ على عاتقها مهمة إعادة تنظيم البلد بشكل منهجي.

وينطبق ما ذكرناه، إلى هذا الحد أو ذاك، على كل البلدان الرأسمالية.

39- مما لا ريب فيه أن نضال البروليتاريا الثوري من أجل السلطة، يُبدي في الظرف الحالي، وعلى المستوى العالمي، بعض التراجع، وبعض التباطؤ. ولكن، في واقع الأمر، لم يكن من الممكن أن نتوقع تطورا غير منقطع للهجمة الثورية لما بعد الحرب بمقدار ما لم تؤد دفعة واحدة إلى النصر ـ فللتطور السياسي دوراته أيضا، وطلعاته ونزلاته. والعدو لا يظل سلبيا، فهو يقاتل أيضا، فإذا لم يكلل هجوم البروليتاريا بالنجاح، فإن البرجوازية تنتقل عند أول فرصة إلى الهجوم المضاد. إن خسارة البروليتاريا لبعض المواقع التي سبق أن احتلتها دون صعوبة، تنشر بعض الإحباط في صفوفها. ولكن إذا كان مما لا ريب فيه، في العصر الذي نعيشه، أن منحنى التطور الرأسمالي هابط بشكل عام، مع مؤشرات صعود عابرة، فإن منحنى الثورة صاعد مع بعض الانحناءات.

إن الشرط الذي لا بد منه لإحياء الرأسمالية هو تكثيف الاستغلال، وخسارة ملايين البشر إلى ما دون الحد الأدنى (Existenzminimum) للشروط المتوسطة للمعيشة، وعدم الاستقرار الدائم للبروليتاريا، الأمر الذي يشكّل عاملا ثابتا للإضراب والتمرد. وتحت ضغط هذه الأسباب وفي المعارك التي تولدها ينمو عزم الجماهير على إطاحة المجتمع الرأسمالي.

40- إن المهمة الرئيسية للحزب الشيوعي خلال الأزمة التي نجتازها هي قيادة المعارك الدفاعية للبروليتاريا وتوسيعها وتعميقها وجمعها وتحويلها ـ تبعا لسيرورة التطور- إلى معارك سياسية من أجل الهدف النهائي. ولكن إذا تطورت الأحداث ببطء أكبر، وتبعت الأزمة الاقتصادية الحالية مرحلة صعود في عدد كبير إلى هذا الحد أو ذاك من البلدان، فلا يمكن تفسير ذلك باعتباره مجيئا لمرحلة «تنظيم». فطالما بقيت الرأسمالية، لا مفر من تقلبات في التطور. وهذه التقلبات سترافق الرأسمالية في احتضارها كما رافقتها في شبابها ونضوجها.

وفي حال أدى هجوم رأس المال في الأزمة الحالية إلى دفع البروليتاريا إلى الوراء، فهي ستنتقل إلى الهجوم ما أن يظهر بعض التحسن في الوضع. وإن هجومها الاقتصادي الذي ستقوم به حتما في هذه الحالة الأخيرة، تحت شعار الرد على كل مخادعات زمن الحرب، وضد كل النهب وكل الإهانات التي مورست خلال الأزمة، سيكون له، لهذا السبب بالذات، الميل نفسه، الذي يتخذه النضال الدفاعي الحالي، للتحول إلى حرب أهلية مفتوحة.

41- سواء تبعت الحركة الثورية خلال المرحلة المقبلة مجرى أكثر تسارعا أو أكثر بطئا، فعلى الحزب الشيوعي، في الحالتين، أن يصبح حزب فعل. عليه أن يقود الجماهير المقاتلة، ويصوغ بحزم ووضوح شعارات قتالية، ويفضح الشعارات الملتبسة للاشتراكية – الديمقراطية، المرتكزة دائما على المساومات. 

وينبغي أن يسعى الحزب الشيوعي، خلال كل خيارات المعركة، لكي يعزز نقاط استناده الجديد عبر وسائل تنظيمية، وأن يدرّب الجماهير على المناورات القتالية النشطة ويسلحها بأساليب وطرائق جديدة ترتكز على الاصطدام المباشر والمفتوح بقوات العدو. وإذ يستغل الحزب الشيوعي كل استراحة من أجل استيعاب تجربة المرحلة السابقة من النضال، عليه أن يبذل جهده من أجل تعميق الصراعات الطبقية وتوسيعها والربط فيما بينها على الصعيدين الوطني والعالمي، ضمن فكرة الهدف والنشاط العملي، بشكل يمكن معه تحطيم كل مقاومة، في المستويات العليا للبروليتاريا، تعترض طريق الدكتاتورية والثورة الاجتماعية.

موضوعة حول التكتيك

1 – تعيين المسائل

«لقد تأسست الجمعية الأممية الجديدة للشغيلة من أجل تنظيم الأعمال المشتركة للبروليتاريين في مختلف البلدان، أعمال هدفها المشترك هو: إطاحة الرأسمالية، إقامة دكتاتورية البروليتاريا وجمهورية سوفيتات عالمية، بهدف إلغاء الطبقات بشكل كامل وتحقيق الاشتراكية، الدرجة الأولى من المجتمع الشيوعي».

إن هذا التحديد لأهداف الأممية الشيوعية، الوارد في أنظمتها الداخلية، يعيّن بوضوح كل مسائل التكتيك التي ينبغي حلها.

والمقصود هو التكتيك الذي يجب أن نستخدمه في نضالنا من أجل دكتاتورية البروليتاريا. والمقصود هو الوسائل المفروض استخدامها من أجل كسب جزء كبير من الطبقة العاملة إلى مبادئ الأممية الشيوعية والوسائل التي ينبغي استخدامها من أجل تنظيم العناصر الحاسمة اجتماعيا داخل البروليتاريا في النضال من أجل تحقيق الشيوعية. والمقصود هو العلاقات مع الشرائح البرجوازية الصغيرة المبلترة، والوسائل والطرق التي من المفروض استخدامها من أجل تقويض أجهزة السلطة البرجوازية بأقصى سرعة ممكنة، وتحويلها إلى ركام وخوض النضال العالمي النهائي من أجل الدكتاتورية.

إن مسألة الدكتاتورية نفسها، باعتبارها الطريق الوحيد الذي يقود إلى النصر، مسألة لا نقاش فيها. فقد أظهر تطور الثورة العالمية بوضوح أنه ليس هناك إلاّ خيار واحد متوفر في الوضع التاريخي الحالي: إمّا دكتاتورية رأسمالية أو دكتاتورية بروليتارية.

إن المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية يستأنف فحص مسائل التكتيك ضمن ظروف جديدة، بما أن الوضع الموضوعي قد اتخذ في عدد كبير من البلدان حدّة ثورية، وتشكّل عدد كبير من الأحزاب الشيوعية، التي لا تمتلك مع ذلك في أي مكان القيادة الفعلية للجزء الأكبر من الطبقة العاملة، في النضال الثوري الحقيقي.

2 – عشية معارك جديدة

إن الثورة العالمية، أي تدمير الرأسمالية، وتجميع الطاقات الثورية للبروليتاريا وتنظيم البروليتاريا كقوة هجومية ومنتصرة تتطلب مرحلة طويلة من المعارك الثورية.

إن الحدّة المتنوعة للتضادات واختلاف البنية الاجتماعية والعقبات الواجب تخطيها تبعا للبلدان، والدرجة العالية لتنظيم البرجوازية في البلدان ذات التطور الرأسمالي الرفيع في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، كانت أسبابا كافية كيلا تؤدي الحرب العالمية مباشرة إلى انتصار الثورة العالمية. كان الشيوعيون على حق إذن بأن يعلنوا، حتى الحرب، بأن المرحلة الإمبريالية ستقود إلى حقبة الثورة الاجتماعية، أي إلى سلسلة طويلة من الحروب الأهلية داخل دول رأسمالية عديدة ومن الحروب بين دول رأسمالية من جهة، والدول البروليتارية والشعوب المستعمَرة المستغَلة، من جهة ثانية.

ليست الثورة العالمية سيرورة تتطور تبعا لخط مستقيم؛ إنها الانحلال البطيء للرأسمالية والتقويض الثوري اليومي اللذان يكثفان من وقت لآخر ويتركزان في أزمات حادة.

لقد طال مسار الثورة العالمية أكثر لأن منظمات قوية وأحزابا عمالية، أي الأحزاب والنقابات الاشتراكية – الديمقراطية، التي شكلتها البروليتاريا من أجل قيادة نضالها ضد البرجوازية، تحولت خلال الحرب إلى أدوات تأثير معادية للثورة، وأدوات لشل البروليتاريا، وبقيت كذلك بعد نهاية الحرب. هذا ما سمح للبرجوازية العالمية بتخطي أزمة تسريح الجيوش بسهولة؛ وهذا ما سمح لها خلال مرحلة الازدهار الظاهري لعامي 1919 – 1920، بأن توقظ لدى البروليتاريا أملا جديدا بتحسين وضعها في إطار الرأسمالية، كان السبب الأساسي وراء فشل انتفاضات 1919 وتباطؤ الحركات الثورية خلال عامي 1919- 1920.

إن الأزمة الاقتصادية العالمية، التي ظهرت في منتصف عام 1920 وتمتد اليوم إلى العالم أجمع، مضاعِفَة البطالة في كل مكان، تُثبت للبروليتاريا العالمية أن البرجوازية ليست قادرة على إعادة تعمير العالم. ويُظهر احتدام التضادات السياسية العالمية، وحملة فرنسا الضارية على ألمانيا، والتنافس الإنكليزي – الأميركي والأميركي – الياباني، مع سباق التسلح الذي ينتج عنه، أن العالم الرأسمالي المحتضر يترنح من جديد باتجاه الحرب العالمية. إن عصبة الأمم، التروست العالمي للدول المنتصرة من أجل استغلال المنافسين المهزومين والشعوب المستعمَرة، مشلولة في الوقت الحاضر بفعل المنافسة الأميركية. والوهم الذي حَرّفَت به الاشتراكية – الديمقراطية العالمية والبيروقراطية النقابية الجماهير العمالية عن النضال الثوري، وهْمُ أنها تستطيع، بتخليها عن الاستيلاء على السلطة بواسطة النضال الثوري، أن تمتلك تدريجيا وسلميا السلطة الاقتصادية وحق إدارة نفسها بنفسها، هذا الوهم هو في طريقه إلى الزوال.

إن مهازل التشريك في ألمانيا، التي سعت حكومة شيدمان – نوسكه بواسطتها إلى إمساك البروليتاريا عن القيام بالهجوم الحاسم، تُقارب نهايتها. والعبارات حول التشريك أفسحت المجال أمام نظام ستينز الحقيقي، أي إخضاع الصناعة الألمانية إلى طاغية رأسمالي وزمرته. وتشكل هجمة الحكومة البروسية تحت قيادة الاشتراكي – الديمقراطي سيفيرنغ ضد عمال المناجم في ألمانيا الوسطى مدخلا للهجمة الشاملة للبرجوازية الألمانية بهدف خفض أجور البروليتاريا الألمانية.

في إنكلترا، ذهبت كل خطط التشريك أدراج الرياح. فبدل تحقيق مشاريع التشريك التي وضعتها لجنة سانكي، تدعم الحكومة إقفال المصانع بوجه عمال المناجم الإنجليز، عن طريق تجنيد الفرق لأجل ذلك.

ولم تتوصل الحكومة إلى تأجيل إفلاسها الاقتصادي إلاّ بحملة نهب في ألمانيا. وهي لا تفكر بأي إعادة بناء منهجية للاقتصاد الوطني. وحتى إعادة بناء البقاع المدمرة في شمال فرنسا، بالمقدار الذي يتم تنفيذها فيه، لا تخدم إلاّ في إغناء رأسماليي القطاع الخاص.

وفي إيطاليا بادرت البرجوازية إلى الهجوم على الطبقة العاملة بمساعدة العصابات الفاشية البيضاء.

لقد اضطرت الديمقراطية – البرجوازية في كل مكان إلى نزع القناع عن وجهها، وبشكل أكمل في الدول الديمقراطية الهرمة مما في الدول الجديدة المنبثقة عن الانهيار الإمبريالي. الحرس الأبيض، تعسف الحكومة الدكتاتوري ضد عمال المناجم المضربين، الفاشيون والـ Guardaregia في إيطاليا والـ Pinkertons، طرد النواب الاشتراكيين من البرلمانات، وقانون لنش (4) في الولايات المتحدة، الإرهاب الأبيض في بولندا ويوغوسلافيا ورومانيا وليتونيا وأستونيا، إضفاء الشرعية على الإرهاب الأبيض في فنلندا والمجر ودول البلقان، «القوانين المناهضة للشيوعية» في سويسرا وفرنسا الخ… في كل مكان تسعى البرجوازية لتحميل الطبقة العاملة آثار الفوضى الاقتصادية المتنامية، وتمديد يوم العمل وخفض الأجور. في كل مكان تبحث البرجوازية عن مساعدين بين قادة الاشتراكية – الديمقراطية وأممية أمستردام النقابية. والحال أن هؤلاء الأخيرين يمكن أن يؤخروا نهوض الجماهير العمالية من أجل معركة جديدة، واقتراب موجات ثورية جديدة، ولكنهم لا يستطيعون أن يمنعوها.

لقد رأينا البروليتاريا الألمانية تعد نفسها للهجوم المضاد؛ ورأينا عمال المناجم الإنجليز، على الرغم من خيانة قادة النقابات، يصمدون ببطولة خلال أسابيع طويلة من النضال ضد الرأسمال المنجمي. ونرى كيف أن إرادة القتال تتنامى في الصفوف المتقدمة للبروليتاريا الإيطالية بعد التجربة التي عاشتها بفعل السياسة المترددة لمجموعة سيراتي، إرادة القتال التي يعبر عنها تشكيل الحزب الشيوعي الإيطالي. ونرى في فرنسا، بعد الانشقاق وانفصال الاشتراكيين – الوطنيين والوسطيين، كيف بدأ الحزب الاشتراكي ينتقل من التحريض والدعاوة للشيوعية إلى التظاهرات الجماهيرية ضد الشهوات الجشعة للإمبريالية الفرنسية. وفي تشيكوسلوفاكيا شهدنا إضراب كانون الأول / ديسمبر السياسي، الذي اجتذب مليون عامل على الرغم من افتقاده الكامل لقيادة موحدة، وأدى، كنتيجة لذلك، إلى تشكيل حزب شيوعي تشيكي، حزب للجماهير. وفي شباط / فبراير حصل في بولندا إضراب عمال السكك الحديدية، الذي قاده الحزب الشيوعي، وأدى إلى إضراب عام، وشهدنا التفكك التدريجي للحزب الاشتراكي البولندي، الاشتراكي – الوطني.

ما يجب أن ننتظره ليس تراجع الثورة العالمية، ولا انحسار موجاتها، بل على العكس: في الظروف القائمة يبدو الاحتدام الفوري للتناحرات الاجتماعية والصراعات الاجتماعية هو الأكثر احتمالا.

3 – المهمة الراهنة الأكثر أهمية

اكتساب التأثير المهيمن على الجزء الأكبر من الطبقة العاملة، وإدخال الأجزاء الحاسمة من هذه الطبقة في المعركة، هذه هي المسألة الأكثر أهمية بالنسبة للأممية الشيوعية.
لأنه عبثا نجد أنفسنا إزاء وضع اقتصادي وسياسي ثوري موضوعيا يمكن أن تنفجر فيه فجأة الأزمة الثورية الأكثر حدة (على أثر إضراب كبير، أو تمرد في البلدان المستعمَرة، أو حرب جديدة أو حتى أزمة برلمانية كبيرة، الخ…) فإن العدد الأكبر من العمال لم يتأثر بالشيوعية بعد، خاصة في البلدان حيث ولّدت السلطة القوية بشكل مميز للرأسمالية المالية شرائح واسعة من العمال الذين أفسدتهم الإمبريالية (مثلا في إنجلترا أو الولايات المتحدة) وحيث الدعاوة الثورية الحقيقية بين الجماهير ما زالت في بدايتها.

إن ما وضعته الأممية الشيوعية منذ اليوم الأول لتأسيسها كهدف لها، بشكل واضح ودون التباس، ليس تشكيل شلل شيوعية صغيرة تسعى لممارسة تأثيرها على الجماهير العمالية عبر التحريض والدعاوة فقط، بل الانخراط في نضال الجماهير العمالية، وقيادة هذا النضال في الاتجاه الشيوعي وتشكيل أحزاب شيوعية ثورية كبيرة في سيرورة المعركة.

وقد رفضت الأممية الشيوعية سابقا خلال السنة الأولى من وجودها الاتجاهات العصبوية إذ أشارت على الأحزاب المنتسبة، وإن كانت أحزابا صغيرة بأن تتعاون مع النقابات، وأن تشارك في القضاء على بيروقراطيتها الرجعية من داخلها بالذات وأن تحولها إلى منظمات ثورية للجماهير البروليتارية وإلى أدوات للمعركة. وأشارت الأممية الشيوعية على الأحزاب الشيوعية، منذ السنة الأولى لوجودها ألاّ تنغلق في حلقات دعاوية، بل أن تستخدم في تربية البروليتاريا وتنظيمها كل الإمكانات التي يجبر دستور الدولة البرجوازية هذه الأخيرة على تركها مفتوحة: حرية الصحافة، حرية الاجتماع والتجمع، والمؤسسات البرلمانية البرجوازية كافة، مهما كانت مدعاة للرثاء، من أجل جعلها أسلحة، ومنابر وساحات عرض للشيوعية. وقد رفضت الأممية الشيوعية علنا في مؤتمرها الثاني كل الاتجاهات العصبوية.

إن التجارب النضالية التي خاضتها الأحزاب الشيوعية خلال هذين العامين تؤكد بمجملها وجهة نظر الأممية الشيوعية. فقد قادت هذه الأخيرة، بسياستها، العمال الثوريين في عدد كبير من البلدان إلى الانفصال ليس فقط عن الإصلاحيين المعلنين، بل أيضا عن الوسطيين. فقد شكّل الوسطيون منذ ذلك الحين الأممية 2 ½ المتحالفة علنا مع جماعات شيدمان وجوهو وهندرسون على أرضية أممية أمستردام النقابية، وبان ميدان المعركة مذاك أكثر وضوحا بكثير أمام الجماهير البروليتارية مما يسهّل المعارك اللاحقة.

وتحولت الحركة الشيوعية الألمانية من مجرد اتجاه سياسي، وهو ما كانت عليه خلال معارك كانون الثاني / يناير وآذار / مارس 1919، إلى حزب جماهيري ثوري كبير، بفعل تكتيك الأممية الشيوعية (عمل ثوري في النقابات، رسالة مفتوحة، الخ…) واستطاعت هذه الحركة أن تمتلك تأثيرا في النقابات بشكل أجبر البيروقراطية النقابية، خوفا من التأثير الثوري لعملها النقابي، على طرد العديد من الشيوعيين من النقابات واتهامهم بالانشقاقية.

ونجح الشيوعيون في تشيكوسلوفاكيا بكسب أغلبية العمال المنظمين إلى قضيتهم.

وفي بولندا، لم يعرف الحزب الشيوعي أن يدخل في علاقات مع الجماهير فحسب، بفضل حفره داخل النقابات، بل أصبح دليلها في النضال، على الرغم من الاضطهاد المخيف الذي يفرض على المنظمات الشيوعية وجودا سريا على الإطلاق.

وفي فرنسا، كسب الشيوعيون الأغلبية داخل الحزب الاشتراكي.

وتُنجَزُ في إنجلترا عملية تمتين المجموعات الشيوعية على أرضية التوجيهات التكتيكية للأممية الشيوعية، ويجبر التأثير المتنامي للشيوعيين الاشتراكيين – الخونة على محاولة جعل دخول الشيوعيين إلى حزب العمال مستحيلا.

أمّا المجموعات ال