الثلاثاء يوليو 23, 2024
الثلاثاء, يوليو 23, 2024

السلفادور.. من هو نجيب بوكيلة؟

أميركا اللاتينيةالسلفادور.. من هو نجيب بوكيلة؟

✍🏾 دانيال سوجاستي

 كما كان متوقعا، في 4 شباط، تمت إعادة انتخاب نجيب بوكيلة رئيسا للسلفادور. وكان المرشح الرئاسي قد حصل، في ذروة شعبيته، على 85% من الأصوات. كما فاز حزب النظام، “الأفكار الجديدة”، بـ 54 مقعدا من أصل 60 مقعدا في الجمعية التشريعية.
من جهتها، تلقت المعارضة البرجوازية المتشرذمة ضربة حقيقية. وقد حصل التحالف الجمهوري الوطني، الذي كان يمثل في السابق الجناح اليميني التقليدي، والذي حكم البلاد بين عامي 1989 و2009، على مقعدين. كما تلقت جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني، التي حكمت البلاد من عام 2009 إلى عام 2019، ما يمكن وصفه بالعقوبة الانتخابية، إذ أنها لم تحصل على أي مقاعد في الكونغرس.
لذا فإن بوكيلة، الذي يطلق على نفسه لقب “أروع دكتاتور في العالم”، يستطيع أن يستمر في الحكم حتى عام 2028 بتفوق برلماني. وهذه بلا شك أخبار سيئة بالنسبة للحركة الجماهيرية واليسار السلفادوري وأميركا اللاتينية. إن فهم صيرورة ما حدث وديناميكياته أمر ضروري.
في 3 آذار، تم ٱجراء الانتخابات البلدية بعد تخفيض عدد المقاعد من 262 إلى 44 مقعدا، وكان الأمر عبارة عن مناورة تهدف إلى تركيز المزيد من السيطرة والسلطة الإقليمية. وقد أعلن بوكيلة، الذي تقدم مرة أخرى على المحكمة الانتخابية نفسها، عن فوز ساحق كان يفترض أن تناله فيه “الأفكار الجديدة” وأحزابه التابعة في 43 بلدية من أصل 44 بلدية في البلاد.
كان بوكيلة قادرا على الترشح للرئاسة مجددا رغم وجود ستة مواد في الدستور السلفادوري تحظر إعادة الانتخاب بشكل متتالي. ومن خلال حكم مثير للجدل أصدرته الغرفة الدستورية، وهي هيئة يسيطر عليها بوكيلة نفسه، أتيح له الترشح بشرط إقالته من منصبه قبل ستة أشهر من ذلك.
صحيح أنه في سياق تصلب نظامه، سيطرت الدولة على صيرورة الانتخابات، وبحسب المندّدين، كانت العملية الانتخابية متخمة بالتزوير. لقد حولت هذه الحكومة النظام الديمقراطي البرجوازي، بمحدوديته، إلى نظام دكتاتوري بونابرتي، رغم أنها حافظت رسميا على الانتخابات، فمنذ عام 2019، عززت سلسلة من المناورات لتغيير وإخضاع النظام القضائي والبرلمان والقوات المسلحة بشكل نهائي. والآن، أصبحت هذه المؤسسات ذات طابع بونابرتي. وهذه العملية تشبه ما حدث في تركيا، والمجر، وكذلك ما ينوي الرئيس الأرجنتيني خافيير مايلي فعله، كما حاول بولسونارو القيام بذات الشيء في البرازيل.
من الواضح أيضا أن بوكيلة، على الرغم من إجراءاته القمعية وانجرافه الديكتاتوري منذ العام 2019، لايزال يتمتع بقدر كبير من الدعم الشعبي، أو على الأقل بهامش جيد من التسامح لدى قطاعات واسعة من الجماهير.
إن شعبية “نموذج” بوكيلة القمعي، المتمثل في “عدم التسامح مطلقا” تجاه العصابات، تتجاوز حدود دول أمريكا الوسطى. ومن غير المستغرب أن يشيد به كبار المدافعين عن اليمين المتطرف في العالم، ويقدمونه كمثال لما ينبغي فعله فيما يتعلق بالإجرام و”الحفاظ على النظام” في بلدانهم. بوكيلة، رئيس الألفية، له بالغ الأثر في العديد من البلدان، فرئيس الإكوادور، دانييل نوبوا، أعلن عن إنشاء سجنين ضخمين. وقام العديد من الساسة في البيرو، وتشيلي، والأرجنتين، من بين بلدان أخرى، بحملات انتخابية على أساس التأكيد على أنهم سوف يسيرون على خطى بوكيلة. كما قام ترامب بدعمه وتشجيعه. ومن رؤساء الدول أو الوزراء المعجبون به أيضا: رئيس الأرجنتين خافيير مايلي ورئيسة الأمن الوطني الأرجنتيني باتريسيا بولريتش ورئيس باراجواي سانتياغو بينيا، وعائلة بولسونارو في البرازيل.

لكن دعمه لا يتوقف على اليمين المتطرف فحسب، بل يحظى أيضا بدعم الحكومات “التقدمية”، مثل شيومارا كاسترو في هندوراس، وبرناردو أريفالو في غواتيمالا.

في سياق الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وحالة عدم اليقين العامة، وارتفاع معدلات التضخم، والبطالة، وانعدام الأمن في الشوارع، ليس غريبا أن نسمع عبارات مثل: “نحن في حاجة إلى بوكيلة”.
بالنسبة للجمهور غير السلفادوري، قد يكون من المفيد معالجة بعض الأسئلة: من هو نجيب بوكيلة؟  وكيف نفسر صعوده إلى السلطة؟ وما هي التناقضات التي سيواجهها خلال ولايته الثانية؟

الابن البرجوازي الذي اندمج في جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني

ولد بوكيلة عام 1981 في “مهد من ذهب”. وهو نجل رجل الأعمال الثري والمؤثر أرماندو بوكيلة قطان من أصل فلسطيني. ويمتلك شركات لصناعات النسيج، وأخرى تجارية، وصيدلانية، وإعلانية بالإضافة إلى مؤسسات صحفية.
قطان بنى ثروته عبر الارتباط بالدولة، إذ تمتع من خلال ذلك بسلسلة من الامتيازات، مثل الإعفاءات الضريبية على استيراد الآلات والمواد الخام، والتي منحتها السلطات المحلية المختلفة في السبعينيات.
درس نجيب في المدرسة الأمريكية، وتخرج منها عام 1999، وهي مدرسة ثنائية اللغة مخصصة للأثرياء فقط، حيث بدأ في إنشاء علاقات مع الأسماء القوية المتواجدة حاليا في النظام.
قبل دخوله عالم السياسة، شغل نجيب بوكيلة مناصب إدارية في شركات والده، خاصة في وكالات الإعلان وشركة لتصنيع جوازات السفر. وكان أيضا رئيسا لشركة توزيع ياماها موتورز في البلاد.
إحدى الحقائق التي قد تكون مفاجئة الآن هي أنه كان يتعامل مع جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني لفترة طويلة، والتي تعتبر القوة اليسارية الرئيسية في البلاد. وقد أصبح فيما بعد أحد مرشحيها. لمدة 12 عاما، كانت شركات الدعاية التابعة لعائلته مسؤولة عن الدعاية السياسية للجبهة. وفي عام 2004، ومن خلال اتصالات والده، تم تعيين الشاب بوكيلة لتنفيذ الحملة الإعلانية للترشح الرئاسي لشفيق حنضل، المعروف أيضا باسم “القائد سيمون”. وحنضل هو زعيم تاريخي للحزب الشيوعي السلفادوري وجبهة فارابوندو مارتي.
في عام 2011، انتسب بوكيلة إلى جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني. وتم انتخابه عمدة لمدينة نويفو كوسكاتلان (2012-2015). وفي الفترة التالية، تم انتخابه عمدة للعاصمة سان سلفادور (2015-2018)، نيابة عن الائتلاف الذي تقوده الجبهة.
مع ذلك، في عام 2017، بعد عدة صراعات داخلية، طُرد بوكيلة من الحزب من قبل محكمة الأخلاقيات للجبهة. ومن الجدير بالذكر أن السياسي الطموح، بصفته عمدة بلدية العاصمة، سعى في كثير من الأحيان إلى تسليط الضوء على نفسه، وإلى الاستقلال السياسي، حتى أنه انتقد قادة حزبه.
التحالف الجمهوري القومي المحافظ، الذي حكم البلاد لمدة عشرين عاما، وكذلك جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني، التي فعلت الشيء نفسه لمدة عشر سنوات، فقدا مصداقيتهما إلى حد كبير في أعين الجماهير. وفي الوقت الذي تم فيه اعتبار بوكيلة المرشح الرئاسي للجبهة عام 2017، شعر على ما يبدو بالثقل، وشق طريقه عبر استجواب رئيسي الجبهة السابقين، موريسيو فونيس وسلفادور سانشيز سيرين، الذي كان يشغل المنصب آنذاك.
في تشرين الأول 2017، وفي سياق صعود اليمين العالمي بتشجيع من رئاسة ترامب، أعلن بوكيلة عن تشكيل حركة أفكار جديدة بخطاب “مناهض للنظام”. لإخراج الأحزاب التقليدية “من حيث هي” و”تغيير النظام السياسي الذي سئمنا منه جميعا”، إضافة إلى شعارات أخرى. ونظرا لأنه لم يتمكن من المنافسة من خلال أفكار جديدة، فقد سجل ترشيحه لحزب التحالف من أجل الوحدة الوطنية، وهو حزب صغير ومثير للجدل من اليمين التقليدي.

رئيسا عام 2019

في شباط 2019، تم انتخابه رئيسا بنسبة 53% من الأصوات، ما ألغى الحاجة إلى إجراء جولة ثانية. وقد حصل التحالف الجمهوري الوطني على 32% من الأصوات، فيما حصلت جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني على 14.4% فقط من أصوات الناخبين. وشكلت هذه النتيجة انفراجا تاريخيا في الوضع السياسي منذ توقيع اتفاقات السلام في عام 1992.
في أيار 2019، بدأ بتسمية وزرائه المستقبليين بشكل غير تقليدي عبر حسابه على تويتر، مدعيا أنه يبحث عن أشخاص ليس لديهم “ماض مظلم” ويتجنب “إعادة تدوير موظفي الخدمة المدنية”. وعلى الرغم من سخريته، إلا أن صورة “مكافحة الفساد” التي كان ينوي إظهارها باتت ناصعة.
بدأ حكومته بالإعلان عن التقارب مع الولايات المتحدة. ومن بين تدابير أخرى، أنهى سكرتاريا العمل الاجتماعي، وغيرها من المشاريع الرمزية لجبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني، عن طريق خفض ميزانيات دعم النساء والشباب والمجالات الأخرى المرتبطة بالرعاية الاجتماعية. وعبر تويتر، قام بطرد نحو 3000 مسؤول حكومي سابق، من بينهم أقارب الرئيس السابق وأعضاء في قيادة الجبهة، بينما قام بتعيين أخيه غير الشقيق وعمه في مناصب مهمة.

الاتجاه السياسي والملف الشخصي الذي يميزه الآن أصبحا واضحين في عام 2020

في 9 شباط 2020، اقتحم بوكيلة جلسة الجمعية التشريعية محاطا بأفراد عسكريين. وكان البرلمانيون قد رفضوا الحصول على قرض بقيمة 109 ملايين دولار لتعزيز الشرطة ومكافحة العصابات، فجلس بوكيلة على كرسي رئيس الجمعية، وصلى، ودعا إلى “انتفاضة شعبية”. ونددت المعارضة بالمحاولة واصفة إياها بالترهيب، كما وصفت هذا الموقف بأنه “انقلاب ذاتي”. ولم يكن قد سبق للجيش وأن دخل البرلمان حتى خلال فترة الديكتاتورية السابقة. وقد أظهرت استطلاعات الرأي اللاحقة أن شعبية بوكيلة قد تنامت.
في الانتخابات التشريعية التي جرت في شباط 2021، حصل حزب الأفكار الجديدة أخيرا على الأغلبية في المجلس التشريعي. وفي أيار، تحالف مع ثلاثة أحزاب محافظة أخرى للسيطرة على ثلثي الهيئة التشريعية للفترة 2021 – 2024. وتم تقليص المعارضة إلى 20 نائبا من أصل 60 مقعدا.

“الحرب على العصابات”

عام 2019، أعلن بوكيلة عن “خطة السيطرة على المناطق”، وهي خطة قمعية واسعة النطاق. وبعد فترة وجيزة، وفقا له، انخفض معدل جرائم القتل العمد في السلفادور من 52 جريمة قتل لكل 100 ألف شخص في عام 2018 – وهو الأعلى في العالم في ذلك الوقت – إلى 36 في عام 2019.
العام الأول بعد توليه السلطة، شهد اتفاقا بين الحكومة والعصابات. هذه الجماعات الإجرامية، بالغة القوة الاقتصادية والعسكرية، كانت بمثابة الطاعون بالنسبة للسكان. مدفوعات الابتزاز كانت تمثل 3% من الناتج المحلي الإجمالي، أما التكلفة السنوية للعنف فقد بلغت 16%، وهو رقم هائل.
في آذار 2022، تم خرق ذلك الاتفاق، وعانت البلاد من موجة جرائم قتل وعنف في الشوارع. كان يوم 26 آذار هو اليوم الأكثر دموية في تاريخ السلفادور منذ نهاية الحرب الأهلية، إذ شهد وقوع 62 جريمة قتل.
في 27 آذار، وافقت الجمعية التشريعية التي تسيطر عليها الحكومة، بطلب من بوكيلة، على حالة الطوارئ، والتي أفضت إلى إلغاء سلسلة من الحريات الديمقراطية والفردية، ومنح صلاحيات تقديرية للقوى القمعية. وقد تم تمديد حالة الطوارئ 23 مرة. بعد ذلك أعلن بوكيلة رسميا “الحرب على العصابات” المعروفة باسم “الماراس“، ولاسيما مارا سالفاتروتشا، ومارا باريو 18، ومارا ماو ماو.
في نيسان 2020، سمح بوكيلة باستخدام “القوة المميتة”. وشرع الكونجرس في تعديل القانون الجنائي والإجرائي، ليفضي تجريم أعضاء العصابات إلى أحكام تصل إلى 20 سنة في السجن، ومن 40 إلى 45 سنة لزعمائها.
خلال العامين الماضيين، تزايدت سمات النظام الدكتاتورية. ومن الناحية العملية، تم استبدال عنف العصابات بعنف الدولة الدائم والغادر. أي، بعبارة أخرى، فرض بوكيلة إرهاب الدولة.
تحت شعار “الحرب على العصابات”، سجن أكثر من 75 ألف شخص زعمت عضويتهم  فيها، وكلهم تقريبا سجنوا دون اتخاذ الإجراءات القانونية السليمة، ودون منحهم حق الحريات الفردية الأساسية. عناصر الشرطة والجيش يتجولون في الشوارع مستعرضين سلطتهم ومسيئين لاستخدامها. ومع ذلك، يتباهى بوكيلة بأن “هامش الخطأ” في الاعتقالات يبلغ 1%. واليوم، تشهد السلفادور أعلى معدل لسجن الأشخاص في العالم.
العديد من منظمات حقوق الإنسان، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، نددت بالانتهاكات التي تم اقترافها خلال العمل بقانون الطوارئ.
هذه المنظمات وثقت عمليات تعذيب واعتقالات تعسفية – إحداها لصبي مصاب بمتلازمة داون – بالإضافة إلى نحو من 220 حالة يشتبه بوفاتها أثناء الاحتجاز. ويفيد محامو السجناء وأقاربهم بأنه ليس لديهم أي اتصال بهم، وأنهم يخضعون لمحاكمات سرية.
قبل عام، تم افتتاح مركز احتجاز الإرهاب في السلفادور، وهو سجن ضخم شديد الحراسة، يشكل محط فخر لبوكيلة، حيث يضم عددا كبيرا، ولكن غير معروف، من “الإرهابيين” المزعومين.
ضوء الشمس لا يدخل إلى المكان. السجناء يغادرون زنازينهم لمدة 30 دقيقة فقط في اليوم مقيدين بالأغلال. كما لا يمكنهم استقبال الزوار أو المكالمات الهاتفية. يوجد مرحاضان في كل مبنى للزنازين. والأحكام تصل إلى 700 سنة. وتلجأ دعاية الديكتاتورية باستمرار إلى بث صور تثير إعجاب البعض، إذ تظهر مئات السجناء الجالسين وأيديهم على رؤوسهم الحليقة، كعلامة على الخضوع للنظام القائم.
الهجمة الديكتاتورية شاملة. وكما استنكر قسم منصة الطبقة العاملة في الرابطة الأممية للعمال في البلاد: “… إن دور الجيش في الحياة اليومية أصبح حاضرا أكثر فأكثر، واضطهاد وتجريم المعارضين حقيقي، ويتضمن سجن العشرات من القادة الاجتماعيين والنقابيين والشعبيين، حتى أن هناك من فقدوا حياتهم على يد الدولة” .
في البداية، أظهرت “الحرب على العصابات” نتائج إيجابية. تزعم الحكومة، دون السماح بالوصول إلى التفاصيل أو التحقق الدقيق، أن معدل جرائم القتل انخفض من 38 جريمة قتل لكل 100 ألف نسمة في عام 2019 إلى 2.4 في عام 2023. وباعتبار السلفادور إحدى أكثر الدول عنفا في العالم، بات هناك تحسنا مؤقتا في شعور السكان بالأمان، وهذا أساس شعبية بوكيلة.
في ذات الوقت، تحاول الديكتاتورية تغيير صورة السلفادور عبر استضافة الأحداث الكبرى، مثل ملكة جمال الكون، أو مباراة ودية بين منتخبها الوطني وإنتر ميامي، الذي يلعب فيه ليونيل ميسي. في الواقع، تم تصوير ميسي وهو يصافح الدكتاتور، وقد  ازداد تدفق السياح الدوليين بنسبة 40٪.
لكن «الحرب على العصابات» تثير عدة تساؤلات: ما هو النطاق الحقيقي لهذه السياسة الأمنية التي أصبحت واجهة عرض الحكومة؟ وإلى متى سيستمر “شهر العسل” الواضح لقطاعات واسعة من الجماهير مع بوكيلة؟

سياسة مصيرها الفشل

بعيدا عن الخطاب المحافظ، فقد أظهرت التجربة في العديد من البلدان أن السياسات “الخشنة” ضد الجرائم العادية أو المنظمة، والتي تعتمد فقط على العمليات البوليسية أو العسكرية الاستعراضية، واعتقال الآلاف، وما إلى ذلك، ستفشل عاجلا أم آجلا.
إن قمع حقوق الإنسان، ومصادرة الضمانات الفردية، والسجن الجماعي قد تؤدي إلى تحسين المناخ الناجم عن انعدام الأمن في المناطق الحضرية في البداية، لكن هذا لا يكفي لحل جذور المشكلة.
سبب ذلك هو أن الجريمة والعصابات المنظمة، في هذه الحالة المعروفة باسم “ماراس”، هي نتاج البؤس والبطالة والوحشية والانعدام التام لآفاق حياة أفضل، خاصة بالنسبة للشباب.
إن الـ “ماراس” والعصابات، التي تبتز وترهب الطبقة العاملة، هي نتيجة للنسيج الاجتماعي المتدهور،  والناجم عن إفقار ملايين الناس في ظل الرأسمالية الخارجية المفروضة في بلداننا. هذه هي الأرض الخصبة لتكتل شرائح كبيرة من المجتمع، والتي تتغذى عليها كارتيلات وعصابات تهريب المخدرات والأسلحة، والاختطاف، والاتجار بالبشر، والابتزاز وغيرها. وفي كثير من الحالات، يشعر الشباب الذين تجندهم العصابات أنه ليس لديهم ما يخسرونه. بل على العكس، فإنهم يخاطرون بحياتهم متوهمين القدرة على تحسينها وانتشال أسرهم.
العدد المروع للمهاجرين هو دليل على التحلل الاجتماعي في البلاد. وفقا لبيانات الأمم المتحدة، يوجد من شعب السلفادور 1,599,058 مهاجرا، أي ما يمثل 25.41% من سكانها ، 88% منهم يتوجهون إلى الولايات المتحدة. بين أيار وتشرين الأول 2023، كانت الولايات المتحدة تحتجز 98 مهاجرا من السلفادور يوميا. العمل من الخارج يتيح للسلفادوريين إرسال حوالات مالية تتراوح قيمتها بين 300 و500 دولار، وهي لا غنى عنها للعديد من الأسر.
أضف إلى هذه المعضلة التاريخية: التضخم، والبطالة، والاقتلاع الداخلي الناجم عن النزعة الاستخراجية، والاقتلاع الخارجي المتمثل في الهجرة، وخيبة الأمل المبررة للجماهير من مؤسسات الديمقراطية البرجوازية، وكذلك خيانة جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني وغيرها من الأحزاب اليسارية المزعومة..  عندها، لن يكون من الصعب أن نفهم، أولا، قوة الـ “ماراس”، وثانيا، أن قطاعات واسعة من الجماهير تتعاطف مع “اليد الحديدية” لبوكيلة. «إنهم جميعا متشابهون»، وغياب البديل المنظم المتجذر في الطبقة العاملة يفتح المجال للتشكيك ولدعم «منقذي الوطن» المفترضين.
شعبية بوكيلة لن تدوم إلى الأبد. وقد تنهار بالسرعة التي تنامت بها عندما تتجاوز توقعات المجتمع أمن الشوارع، الذي ما هو إلا مجرد ستار دخان. وسوف يعود ثقل الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية إلى الظهور بقوة. بوكيلة، كغيره من حكام أمريكا اللاتينية، يجلس على بركان نائم.
الاستطلاعات تبين أن المشاكل التي كانت منتشرة في عام 2019 تتعلق بانعدام الأمن وجرائم العصابات. لكن في عام 2023، كانت الاهتمامات الرئيسية هي الاقتصاد (70%)، والبطالة، وارتفاع تكاليف المعيشة. كما وجدت دراسة استقصائية، أجراها المعهد الجامعي للرأي العام التابع لجامعة أمريكا الوسطى خوسيه سيميون كانياس، أن الجريمة (4.6٪) وحالة الطوارئ (1٪) يعتبران بالفعل مشاكل ثانوية. هذا يؤكد أن مزاج الجماهير قد يتغير.
وفقا لصندوق النقد الدولي، حققت السلفادور عام 2023 نموا اقتصاديا بنسبة 2.2%، وهو الأدنى في أمريكا الوسطى. ويبلغ عدد سكان البلاد 6.3 مليون نسمة، يعيش نحو 900 ألف شخص منهم في حالة “طوارئ غذائية”، والبلاد باتت على حافة المجاعة.
يبلغ معدل الفقر 29%، والفقر المدقع 9% في أوساط السكان المحليين. وفي عام 2023، كشف تقرير رسمي صادر عن وزارة الصحة وفاة 213 شخصا بسبب سوء التغذية، المتراوح بين الحاد والمعتدل، خلال السنوات الأربع الماضية.
تكلفة المعيشة تتآكل بسبب انخفاض الأجور، إذ لا يغطي  الحد الأدنى للأجور، 300 دولار، تكاليف الغذاء الأساسية التي تبلغ 450 دولارا أو أكثر. المال لا يكفي، وهذا لمن لديه راتب. ووفقا للأمم المتحدة، يؤثر العمل غير الرسمي على نحو 70% من أبناء الطبقة العاملة. ويفتقر الملايين إلى الراتب الثابت والضمان والمزايا الاجتماعية. وفي القطاع الرسمي الهزيل، لا يستطيع 60% من المساهمين في معاشات التقاعد السلفادوري إكمال دفع معاشاتهم التقاعدية.
وفقا للمسح الأسري الأخير (المسح الأسري متعدد الأغراض لعام 2022)، الذي أجراه بنك الإحتياطي المركزي، فإن 38% من السلفادوريين في سن العمل لا يبحثون عن عمل أو أنهم عاطلون عن العمل، في حين وصل معدل البطالة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 سنة إلى 11.8%.
لا يفسر هذا السياق الدرامي تجنيد الشباب على يد العصابات فحسب، بل من الواضح أنه دون حل المشاكل الهيكلية والتاريخية للاقتصاد والمجتمع السلفادوري، لن تكون هناك “يد من حديد” أو “مسيح” من شأنه أن يجلب أياما أفضل للطبقة العاملة.
إن الأساس الذي يقوم عليه ظهور وانتشار العصابات وغيرها من أشكال الجريمة المنظمة هو الرأسمالية الخارجية والتابعة، كما هو الحال في السلفادور.
من المستحيل إنهاء هذا الطاعون بجرة قلم أو بقمع الدولة وحده. التاريخ يقدم عدة أمثلة لفشل “نموذج” بوكيلة، أو نموذج اليمين المتطرف البرازيلي “قاطع الطريق اللطيف هو قاطع طريق ميت”، الذي فشل أيضا في المكسيك والبرازيل. وبإلهام من حرب الدولة ضد تهريب المخدرات في كولومبيا، قامت وحدات شرطة السلام في البرازيل بعسكرة الأحياء الفقيرة في ريو دي جانيرو عام 2008؛  قتل الشباب السود والفقراء، وفرض حصار الدولة على السكان. في البداية، انخفض عدد جرائم القتل، ولكن على المدى المتوسط، وفي غياب أي حل للمشاكل الاجتماعية الخطيرة، اكتسب العنف في المناطق الحضرية وتصرفات زمر الاتجار القديمة والجديدة قوة أكبر.
بوكيلة سجن 2٪ من السكان في أقل من عامين. قد يؤتي هذا ثماره في مجال التسويق الانتخابي، لكنها سياسة ذات حدود واضحة. دون مكافحة إفقار المجتمع، يجدر بنا أن نتساءل إلى أي مدى ينوي الذهاب؟  وكم عدد الأشخاص الآخرين الذين سيضعهم في السجن؟ بل كم عدد الذين ستقتلهم الدولة؟ لا يوجد ما يكفي من السجون لإخفاء الشرور الاجتماعية الناتجة عن النظام الرأسمالي الاستغلالي، غير العادل، والفاسد المجرد من الإنسانية.
منصة الطبقة العاملة (القسم السلفادوري للرابطة الأممية للعمال – الأممية الرابعة) كانت قد صرحت في بيان لها أن: “بوكيلة يمثل طبقة برجوازية مهتمة بنهب واستنفاد موارد الدولة، وليس لديها أدنى اهتمام بتحسين نوعية الحياة ومكافحة الفقر الذي يعاني منه العديد من السلفادوريين”. لا يمكن للطبقة العاملة أن تثق به وبسياسته القمعية، الدكتاتورية تجاه الفقراء، والخاضعة للإمبريالية.
المعارضة ليست بديلا أيضا: “كل من التحالف الجمهوري الوطني وجبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني مذنبان بما يحدث اليوم من تفكيك الديمقراطية على يد النظام الديكتاتوري، وهما أسلاف التفريخ الذي أنتج بوكيلة اليوم” .

على الطبقة العاملة أن تعتمد فقط على قوتها وتنظيمها وأساليبها

الوضع ليس سهلا. لا توجد بدائل سياسية حقيقية منبثقة عن الطبقة العاملة والاشتراكية والثورية.  استبدال وجوه الأحزاب التقليدية سيؤدي إلى ظهور تجارب شنيعة مثل تجربة بوكيلة. لقد جرب الناس خيارات مختلفة خلال الأربعين سنة الماضية، ولم يشهدوا حلا لمشاكلهم. في الوقت الحاضر، لا يوجد بديل للشعب السلفادوري. لهذا السبب فإن بروز خيار من قبل العمال والشعب أمر ضروري؛ يجب ألا ينسوا أن العامل وحده هو الذي ينقذ العامل، وأن الشعب وحده هو من ينقذ الشعب، وأننا يجب أن نثق فقط في نقاط قوتنا؛ ولا بد أن نبني أداتنا السياسية الخاصة.
في السلفادور، حيث تسود الدكتاتورية، من الضروري الجمع بين المهام الديمقراطية، بدءاً بشعار “تسقط دكتاتورية بوكيلة!” والحاجة للتعبئة العمالية (العمال والفلاحون) والشعبية الحالية أو المحتملة، وأن لا نتوقف عند هذا الحد، بل علينا التقدم حتى التغلب على هذا النظام. يجب أن نستمر حتى تستولي الطبقة العاملة على السلطة، وتشرع في بناء الاشتراكية، على المستويين الوطني والأممي. ويجب أن تكون هذه هي الرؤية الإستراتيجية لكل نضال، حتى عندما يبدو أنه نضال “لمرة واحدة”.
النضال ضد الدكتاتورية، والفساد، والقمع، وقوانين الطوارئ، وانتهاكات الجيش والشرطة، وتزوير الانتخابات، والجوع، والبطالة، والتحلل الاجتماعي الذي تتغذى عليه العصابات، والذي يدفع إلى الهجرة، يجب أن يكون في خدمة سياسة طبقية، ذات منظور ثوري، موجهة ضد الرأسمالية الخارجية، المعتمدة على الإمبريالية، والسائدة في السلفادور وأمريكا اللاتينية. لذا، نحتاج إلى بناء وتعزيز الحزب التروتسكي الثوري، الذي هو شرط لا غنى عنه. دعونا نبني تلك الأداة.



ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس بيان شمس

Check out our other content

Check out other tags:

Most Popular Articles