الثلاثاء سبتمبر 26, 2023
الثلاثاء, سبتمبر 26, 2023

النبي المسلّح: الفصل الرابع عشر (102)

النظرية الماركسيةالنبي المسلّح: الفصل الرابع عشر (102)

هزيمة في الإنتصار ج3


ردت اللجنة المركزية إذاً اقتراحات تروتسکی. وسوف تنتظر البلاد مرور أكثر من سنة، بعد أن كشف فشل شیوعية الحرب نتائجه المأساوية، كي يستعيد لينين الاقتراحات ذاتها، ويضعها موضع التطبيق تحت اسم السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب). آنذاك رفعت القبعات لتلك السياسة، ولا تزال ترفع لها، کومضة عبقرية لدى لينين، كمثل خارق لدي رجل دولة على القرار الشجاع والخالي من الدوغمائية. وعلى ضوء الأحداث، يبدو أنه جرى الافراط، على الأقل، في تقدير البادرة؛ وحين أخذ تروتسكي، فيما بعد، على لينين واللجنة المركزية كونها قررا أهم تعديلات السياسة الاقتصادية، متأخرين عاما أو عامين، لم يكن الانتقاد في غير محله. والحادثة تظهر كذلك إلى أي حد لا يمكن دعم الرواية الستالينية للتاريخ التي تجعل من لينين صديق الفلاحين، ومن تروتسكي عدوهم: إن شهرة لينين كصديق للموجيك تستند قبل كل شيء إلى السياسة الاقتصادية الجديدة.

وقد لاحظ يوفي، صديق تروتسكي الحميم، في الرسالة الأخيرة التي كتبها قبل انتحاره، عام ۱۹۲۷، آن نقطة الضعف الرئيسية لدى تروتسكي هي كونه لا يثبت في حكمته، لا سيما حين تعني الحكمة الانعزال. ويمكن أن نضيف انه في تلك المناسبة، عاد تروتسكي إلى الجنون المقبول، بعد أن تلقى اللوم على حكمته، وثبت في ذلك الجنون بحماس، إلى درجة أن المجانين ذاتهم وجدوه مفرطاً. فبعد أن ردت اللجنة المركزية اقتراحات تروتسكي، تراجع عنها، ولم يستعد مشروعه في المؤتمر التاسع للحزب الذي انعقد بعد شهر واحد، في نهاية شهر آذار / مارس ۱۹۲۰، لا بل لم يلمح إلى ذلك المشروع إطلاق. وبدا على العكس كالمسؤول الرئيسي عن السياسة الاقتصادية للحكومة، وقدم عرضا متقنا للمرحلة اللاحقة من شيوعية الحرب. فهل اقتنع بأن المراجعة السياسية التي اقترحها كانت غير ملائمة؟ هل كان يعتبر من غير المناسب الدفاع عن اصلاح كان يطالب به المناشفة أيضاً؟ أكان يخشى ألا يظهر الحزب، بمجموعه، متقبلا؟ لا بد أن كل هذه الأسباب لعبت دورا في تحديد سلوكه.

واصل اقتصاد الأمة تقهقره، بينما كانت ضرورة اللجوء إلى عمل جذري أكثر إلحاحاً. ولأن الحزب رفض التخفيف من صرامة شيوعية الحرب، كان عليه أن يشددها. وقد وافق تروتسكي على تحمل ثقل ذلك المشروع ولا شعبيته. حثه المكتب السياسي على تحمل مسؤولية المواصلات، المختل تنظيمها كليا، ووعده بمساندته حتى النهاية، مهما تكن قساوة التدابير التي يمكن أن يقررها. فاحتج تروتسكي بعدم صلاحه للمهمة، لكنه قبل تكليفه مؤقتا بشؤون وزارة المواصلات، علاوة على وزارة الحرب. واستعاد بثقة متزايدة موضوعة عسكرة العمل، موضحاً للمؤتمر أن ذلك تدبير لا غنى عنه لضمان تطور موارد الأمة ودمجها في خطة اقتصادية واحدة. كانت لا تزال هنالك مسافة طويلة إلى الاقتصاد المخطط، إلا أنه لم يكن على الحزب والأمة توقع بلوغه بخطوات صغيرة حذرة. في الماضي، تقدمت روسيا دائماً بقفزات، وعليها أن تستمر على ذاك المنوال، وبالطبع لم يكن الإكراه على العمل امرأ يمكن التفكير فيه في دولة اشتراكية ناجزة؛ لكنه «سيصل إلى أعلى درجة من درجات كثافته خلال الفترة الانتقالية من الرأسمالية إلى الاشتراكية». حث تروتسكي المؤتمر على تأیید تدابیر تأديبية «ينبغي أن تتناسب صرامتها مع الطابع المأساوي لوضعنا الاقتصادي»: يدفع «الفارون من العمل» إلى الكتائب التأديبية أو يرسلون إلى معسكرات اعتقال. وطالب كذلك بعلاوات تشجيع لأفضل العمال، بغية حفز «المنافسة الاشتراكية»؛ وتكلم أخيرا على ضرورة تبني العنصر التقدمي الذي تنطوي عليه «التايلرية»، المفهوم الأميركي لإدارة العمل وتنظيمه العلمي، الذي استخدمته الرأسمالية استخداماً سيئا وكان العمال محقين إذا كرهوه، لكن الذي يمكن للاشتراكية أن تطبقه تطبيقا عقلانياً، وعليها أن تفعل ذلك. تلك كانت أفكاره الصادمة، وقد وقفت اقلية في المؤتمر ضدها وانتقدت بسخط الاتجاه التسلطي لسياسة تروتسكي. وكانت تلك الأقلية تضم «الفوضويين »، و«اليساريين – المتطرفين»، و«المركزيين – الديمقراطيين»، بقيادة اوسينسكي وسابر ونوف وبريو براجنسكي، وكلهم أناس سيتحد تروتسكي معهم في يوم من الأيام ضد ستالين. أما انذاك فكان خصمهم الرئيسي وحصل على موافقة المؤتمر.

بعد قليل، عرض تروتسکي هذه الأفكار السياسية مجددا أمام مؤتمر النقابات وفضلها. وطلب إلى النقابات أن تعلم الشغيلة الانضباط ووضع مصلحة الإنتاج فوق حاجاتهم أو متطلباتهم الشخصية. وكانت اللجنة المركزية للنقابات قد انقسمت إلى مجموعتين: إحداهما تدعم موقفه «الانتاجوي»، والأخرى، التي يقودها تومسکي، كانت تعتبر أنه لا يمكن للنقابات ألا تدعم مطالب العمال«الاستهلاكية ». أما تروتسکی فكان يرى أن على العمال أن ينتجوا، أولا، الموارد التي تسمح بالاستجابة في المستقبل لمطالبهم؛ وان عليهم أن يتذكروا أنهم لا يشتغلون لصالح الطبقات المالكة القديمة، بل للدولة العمالية. وكان معظم النقابيين البلاشفة يعرفون من خلال التجربة أن تحريضات من هذا النوع لا تؤثر في أناس جائعين. لكن بما أن الحزب تبنى سياسة تروتسكي، لم يكن بإمكانهم معارضته علنياً.

في المؤتمر، غدا المناشفة ناطقين بلسان المستائين، فهاجموا جيوش العمل، ورفضوا التسليم للحكومة بحق تجنيد العمال وحرمانهم من حق الدفاع عن مصالحهم، وأكدوا أن العمل الإجباري لا يجدي. وهتف المنشفي أبراموفيتش متعجبا: «لا يمكن بناء اقتصاد مخطط مثلما بنى الفراعنة أهرامهم». أطلق هكذا الصيغة التي سيرددها تروتسكي، بعد سنوات، في وجه ستالين. كان المناشفة يقفون على أرض صلبة، وواقع أن دورهم في الثورة كان هزيلا، وكريها أحيانا، لم يكن ينتزع شيئا من منطق حجتهم أو حقيقتها. ولم يكن يستطيع تروتسكي ذاته أن يناقضهم حين كانوا يؤكدون أنه لا يمكن إيقاف تبذير القوة الانتاجية الصناعية طالما لا يكون للفلاحين حق بيع محاصيلهم بحرية.

لم يكن رد تروتسکي على تلك الانتقادات شيئا آخر غير قطعة جميلة سفسطائية. وتكمن قيمتها التاريخية في أنها ربما تكون المحاولة الصادقة الوحيدة في التاريخ الحديث لإعطاء تبرير منطقي للعمل القسري، بما أن السادة والخفراء الحاليين لا يكلفون انفسهم عناء اعطاء شيء من ذلك. وكانت الحجة الرئيسية لتروتسكي أنه في ظل أي نظام اجتماعي، «على الإنسان أن يعمل لئلا يموت»؛ وأن العمل كان إذا ضرورة على الدوام، وأن على الشيوعيين ان يتصدوا لهذه المسألة من دون نفاق، لأنهم الأولون الذين ينظمون العمل لصالح المجتمع بكامله. وانتقل إلى الاعتراض ضمنا على معنى الاختلافات في الشكل والدرجة التي اتسم بها هذا الالتزام بالعمل في ظل مختلف الانظمة الاجتماعية. فالإنسان اشتغل كعبد وقن وحرفي وفلاح مستقل وأجير حر. لقد اتخذ الإكراه الطبيعي على العمل طابعاً ملطّفاً أو مفاقماً، وفقا لنموذج العلاقات الاجتماعية وناضل الإنسان ضد العبودية والقنانة والرأسمالية لتلطيفها. وكانت الثورة الروسية قد وعدت بالتحويل الجذري لهذا الاكراه بواسطة تنظيم عقلاني للاقتصاد، فإذا لم تتمكن من الوفاء بوعدها، بسبب الفقر الذي ورثته والخراب الناجم عن الحرب والحصار، فليس ذلك خطأها. لكن لم يكن البلاشفة بحاجة إلى طرح وعودهم بصورة مكشوفة، وهو ما بدا أن تروتسكي فعله حين أعلن للنقابات أن القسر، والتجنيد الإكراهي وعسكرة العمل لم تكن تشكل ببساطة تدابير استثنائية، وأن لدولة الشغيلة الحق في إكراه أي مواطن على إنجاز أي عمل في أي مكان تختاره:

«إننا نتوجه من الآن فصاعدا نحو نمط عمل منظم اجتماعياً وفقا لخطة اقتصادية إلزامية بالنسبة لكل البلاد وكل الشغيلة. وهذا أساس الاشتراكية بالذات … إن عسكرة العمل، حسب التعريف الأساسي الذي أعطيته لها، هي القاعدة التي لا غنى عنها لتنظيم طاقتنا على العمل … هل صحيح أن العمل الإجباري غير منتج دائما؟… ان هذه فكرة مسبقة ليبرالية، الأكثر بؤسا والأكثر إثارة للسخرية: فالقنانة ذاتها كانت منتجة … والعمل الإجباري للأقنان لم ينجم عن الإرادة السيئة للسادة الإقطاعيين. كان (في زمنه) ظاهرة تقدمية».

هو، المتمرد بامتياز، صاحب نظرية الثورة الدائمة، الذي كانت تدفعه رغبته في تبرير التدابير التي كان ينادي بها، كاد يتوصل إلى الكلام كمدافع عن أنظمة القسر والاستغلال الماضية.

خففت حرب بولونيا لبعض الوقت حدة هذا الجدال. فمرة أخرى، فرض الخطر الخارجي القبول من دون تذمر بالتدابير السياسية التي كانت لتثير في السابق استنكاراً عنيفاً. وقد بذل تروتسكي، محاطاً بفريق من التقنيين، جهدا حازماً لإعادة تسيير القطارات، وذلك في أسوأ فترة من فترات الحرب الأهلية. كانت حظيرة العربات آنذاك شبه خالية، وكان المهندسون يتوقعون بالضبط الموعد الذي لا يعود فيه قطار واحد صالح للسير في روسيا، ولم يكن ذلك الموعد يبعد أكثر من عدة اشهر من ذلك الحين. وقد وضع تروتسکی عمال السكك الحديدية ومشاغل التصليح تحت نظام القانون العرفي، فنظم بشكل منهجي ترميم سريع لعربات النقل. كان يذهب إلى مشاغل التصليح ليقول للعمال أن البلاد تدفع ثمن اهمالهم من دمها: فشلل المواصلات هو الذي شجع البولونيين على الهجوم. وقال لهم: «إن حالة الشغيلة مؤلمة من جميع النواحي. وهي أسوأ من أي وقت مضى. وأنا اخدعكم إذا قلت لكم إنها ستكون أفضل غداً. کلا، ثمة أمامنا أشهر من الصراع القاسي قبل أن نستطيع إخراج البلاد من هذا البؤس الرهيب ومن الانتهاك الكامل، قبل أن نتوقف عن وزن حصتنا من الخبز بواسطة ميزان الصيدلي». وحين أثارت نقابة عمال السكك الحديدية اعتراضات، صرف تروتسکی قادتها وعين آخرين مستعدين لتنفيذ أوامره. وكرر هذا التدبير في النقابات العمالية الاخرى للنقل. وفي بداية أيلول/ سبتمبر، أسس التسيكتران، اللجنة المركزية لشؤون النقل، التي سمحت له بالإشراف على كل قطاع النقل. وقد وفى المكتب السياسي بوعده فقدم له دعمه الكامل. فاحترام الحقوق الانتخابية وأصول التصويت في النقابات آنذاك كان بدا بفظاظة وضع يجد الناس فيه أنفسهم داخل مدينة ضربها الطاعون. وحصل تروتسكي على نتائج تخطت كل التوقعات: أعيدت سكك الحديد الى العمل قبل الموعد الذي توقعته الخطة – «عاد دم الجسم الاقتصادي يدور». وقوبل بالتهليل من جراء ذلك النجاح.

لكن ما أن انتهت حرب بولونيا حتى ظهرت المطالب والخلافات من جديد، وبالمزيد من القوة. وقد تسبب تروتسكي ذاته بالانفجار، فتحت تأثير النجاح هدد بإعادة النقابات الاخرى الى صوابها كما فعل بالنسبة لعمال النقل. هدد بـ «إقالة» قادة النقابات المنتخبين، واستبدالهم بمرشحين معينين يضعون المصلحة الاقتصادية للأمة فوق مصالح بعض فئات الشغيلة.. وفي تلك المرة، كان يتخطى الحدود، وقد فك لينين تضامنه معه وأقنع اللجنة المركزية بأن تحذو حذوه. فدعت اللجنة الحزب جهارا كي يقاوم بقوة «أشكالا من العمل معسكرة وبيروقراطية»: انتقدت بقسوة تلك «المركزية المنحطة» التي تسحق ممثلي العمال المنتخبين. ودعت الحزب كي يعيد إلى النقابات الديمقراطية البروليتارية ويجعل كل شيء تابعاً لذلك العمل. وتشكلت لجنة خاصة، كلفت بالسهر على تنفيذ قراراتها كان يرأسها زينوفييف. ومع أن تروتسكي كان عضوا فيها، إلا أن معظم الأعضاء الآخرين كانوا اخصامه. وكتدبير أخير، منعت اللجنة تروتسكي من الكلام علنا على العلاقات بين النقابات والدولة.

لمراجعة الفصل السابق يرجى الدخول من خلال الرابط أدناه:

https://litci.org/arab/archives/4416?fbclid=IwAR1clz6ODmtfrFY8B3dUwfp_7XSxGmFyZ2shTeDrp5tZYRHoSZtWciMH1Qo

Check out our other content

Check out other tags:

Most Popular Articles