هزيمة في الإنتصار ج2
في هذه «الاطروحات»، التي نشرتها البرافدا قبل الأوان، في 17 كانون الأول/ ديسمبر ۱۹۱۹، كان تروتسكي يربط هذه الخطة، بشكل مميز، بالإصلاح العسكري الذي كان يلحظه: تحويل الجيش إلى نظام میلیشیات. كان يقترح استخدام اجهزة التعبئة العسكرية للتعبئة من أجل العمل المدني. ومن الغريب رؤية كيف كانت رغبته في المبادرة إلى إصلاح ديمقراطي للغاية في الجيش تتلازم مع محاولته إدخال ذلك الشكل المتطرف من العمل القسري. كان ينبغي أن يتشبع الجيش بحس المواطنية المدنية، وأن يعاد تنظیم مفارزه على أساس وحدات الإنتاج، أما العمل المدني فكان ينبغي إخضاعه للانضباط العسكري، وكان يجب أن تمد الادارة العسكرية الوحدات الصناعية باليد العاملة. كانت مفوضية الحرب ستضطلع بوظائف مفوضية العمل.
كان لينين يدعم سياسة تروتسكي كلية، فقد بقي مخلصاً لشيوعية الحرب التي كان يمكن أن تعمل، بشكل ما، لكن شرط أن تنجح التدابير التي اقترحها تروتسكي. كما أن لينين لم يعترض على تكليف مفوضية الحرب بمد العمل الصناعي باليد العاملة. كان على هذه أن تركز من الألف الى الياء مختلف القطاعات المدنية في إدارتها، وبعد سنوات الحرب الاهلية كان معظم تلك القطاعات لا يزال في طوره البدائي. لقد امتصت مفوضية الحرب خيرة الرجال، واستحوذت بالاولوية على موارد الحكومة، وكان يقودها الاداري الأكثر نفاذ بصر. كان جهازها، القدير وفائق الفعالية، العنصر الأكثر صلابة في إدارة لينين، ومرتكزها الحقيقي. وكان توجيه المفوضية نحو العمل المدني يبدو قضية سهولة ادارية.
مذ عرفت تلك الاقتراحات، أثارت سيلا من الاحتجاجات. ففي اجتماعات أعضاء الحزب والاداريين والنقابيين، قوبل تروتسکي بصياح الاستنكار، كما لو كان «أراكشييف الجديد»، كمقلد لذلك الجنرال سيء السمعة، الذي كان وزيرا للحرب في عهدي الكسندر الأول ونقولا الأول، ونظم معسكرات زراعية ساقها بالعصا. مذاك كانت عبارة أراكشيفششينا، مرادف، على الدوام، للغارات العبثية التي يقوم بها الخيال البيروقراطي – العسكري، في الميدان الاقتصادي والاجتماعي. ارتفعت صيحات احتجاج في الصحف البلشفية، وكانت تصدر عن شركاء قدامى لتروتسكي، كريازانوف ولارین، وعن بلاشفة مرموقين، كريكوف وميليونين ونوجين وغولتزمان، وآخرين أيضا. كان التعب من الحرب الاهلية ونفاد الصبر حيال مهندس النصر يمتزجان بتلك الاحتجاجات. وكما يحدث دائما في فترات الكمون، بعد التوتر وتضحيات الحرب، كان الناس يتمنون أن يكلل بالغار صانع النصر، لكنهم كانوا أكثر استعجالا ايضا ليلقوا عن كواهلهم صرامة انضباط زمن الحرب؛ وكانوا يبحثون عن أدلاء يكونون رجالا ذوي مزاج اقل احتداماً، ومواهب أقل لمعانا، لكنهم يرغبون في مواصلة العمل المشروع به بلطافة أكثر. كنت تسمع البلاشفة القدامى الذين اكتسبوا صلابة في المعارك يعلنون انهم ملوا فرائض الجيش، وأن مفوضية الحرب أبقت البلاد طويلا في وضع الارهاب وامتصت دمها، وأنهم لا يريدون تشجيع طموحات تروتسكي الجديدة.
بلغت القضية ذروتها في ۱۲ كانون الثاني/ يناير ۱۹۲۰، حين ظهر لينين وتروتسكي أمام قادة النقابات البلاشفة لحثهم على القبول بالعسكرة. وقد دافع تروتسکي عن تقريره، فقال إنه إذا كانت مفوضيته «نهبت» البلاد وفرضت انضباطا صارماً، فقد فعلت ذلك لربح الحرب. إنه لعار و«خطيئة ضد روح الثورة» أن يجري الانقلاب عليها وإثارة الطبقة العاملة ضد الجيش. كان خصومه راضين عن وضع البلاد الاقتصادي، وكانت الصحف تخفي الحالة الحقيقية. «من الضروري الاعلان جهارا وبصراحة أمام البلاد بأسرها أن وضعنا الاقتصادي اسوأ مائة مرة مما كان عليه وضعنا العسكري في أي يوم من الايام… ومثلما أطلقنا شعار: «أيها البروليتاريون، امتطوا الجياد!، علينا أن نصيح الآن: أيها البروليتاريون عودوا إلى مشاغلكم ! أيها البروليتاريون، استأنفوا الإنتاج!». كانت طاقة العمل لدى الأمة مستمرة في النقصان والتقهقر، وما كان بالإمكان إغاثتها وإعادة تكوينها وتجديدها من دون تطبيق تدابير اکراهية. وتكلم لينين بالمعنى ذاته، إلا أن المؤتمر التداولي رفض بالاجماع تقريبا مشروع القرار الذي اقترحه لينين وتروتسكي، ولم يصوت إلى جانبه إلا قائدان بلشفيان فقط من أصل أكثر من ستين. ولم يحدث في الماضي أن مني لينين أو تروتسكي بفشل مماثل.
لم تكن انتقادات تروتسكي حول رضى أخصامه غير مبررة، فمن كانوا ينتقدونه لم يكونوا يقترحون – ولم يكن بإمكانهم أن يقترحوا – أي حل عملي آخر. هم أيضا كانوا مخلصين لشيوعية الحرب، ولم يكونوا يشجبون إلا الاستنتاج الذي كان تروتسکی يستخلصه منها. كان سهلا إذا بالنسبة إليه أن يشير إلى انعدام المنطق لديهم. إلا أنه كان في اللامنطق هذا قدر من الواقعية ووساوس مشروعة. كان خصوم تروتسكي يرفضون الاعتقاد بأن دواليب الاقتصاد يمكن تسييرها بأمر من القيادة العسكرية، وكانوا مقتنعين بأنه سيء بالنسبة لدولة عمالية أن تتصرف كفرقة تجنيد اجباري تجاه طبقتها العاملة الخاصة بها.
في الفترة ذاتها، كان جيش العمل الأول ينتظم، لا بعسكرة العمل المدني بل بتحويل جيش نظامي الى قوة عمل. وقد جاءت المبادرة من مجلس الحرب الثوري للجيش الثالث، المتمركز في الأورال؛ فبعد انتصار هذا الجيش على كولتشاك، كان يبذر وقته وطاقته في الفراغ. وكان يستحيل تسريحه وارسال الناس الى بيوتهم، إذا لم يكن لشيء فلانعدام وسائل النقل. وقد اقترح مجلسه الحربي الثوري استخدام الجيش، أثناء الانتظار، لقطع الأخشاب والأعمال الزراعية ومهمات أخرى. وقد استقبل لينين وتروتسكي بالايجاب هذا الاقتراح الذي كان يعطيها فرصة لتطبيق سياستها دون الاصطدام بمقاومة. ولم تعترض النقابات إطلاق على هذا الاستخدام المنتج لفيالق عاطلة عن العمل.
كان تروتسکی يأمل استخدام هذه التجربة كنقطة انطلاق لتجنيد الشغيلة المدنيين وقيادتهم. والأمر في غاية السهولة: يكفي أن يعمد الجيش، قبل تسريح رجاله، إلى إحصاء مؤهلاتهم المهنية؛ تسجل مهنة كل جندي على سجله العسكري، ويتم توجيه كل واحد من نقطة تسريحه إلى مكان العمل حيث ثمة حاجة إليه، بصورة مباشرة. وكان تروتسكي يتطلع إلى دمج سجل الجندي العسكري بسجل العمل الخاص بالعامل، – وهو مشروع يسهل كذلك تكوين ميليشيات على أساس وحدات الانتاج. وكانت تلك فكرة بارعة، عيبها الوحيد هو أن الجندي المُسرّح، والمتلهف للعودة إلى أسرته أو للسعي وراء شروط معيشة أفضل، يمكن أن يغادر مكان العمل الذي ألحق به. وكان تروتسكي يضع مخططات لتنظيم كانتينات(*) قروية معدة لجذب الشغيلة، لكن مشاريع من هذا النوع لم تكن قابلة للتحقيق في حقبة قحط وفوضى. كان تروتسكي يبدي إبداعا وفرادة مذهلين، لكن خياله كان يعمل بشكل محموم في الفراغ؛ ولم يكن لأفكاره أي تأثير على الواقع.
بعد جیش الأورال، فصل جيشا القوقاز وأوكرانيا إلى العمل في المناجم والغابات، والحقول. كان تروتسکی يدير كل التنظيم، وكان الجنرال بونش – برویفیتش رئيس هيئة أركانه، وبیات کوف ممثله في الأورال، وستالين المفوض الأعلى لجيش العمل في اوكرانيا. واستبقى التنظيم الانضباط العسكري، وكان كل جيش عمل يبلغ بانتظام نجاحاته وإخفاقاته على «الجبهة». (كان تروتسكي أول من طبق تعابير ورموزا واستعارات عسكرية على القضايا الاقتصادية المدنية، مدخلا هكذا إلى اللغة الروسية أسلوبا جديدا وحيا، تجمد فيما بعد في نوع من التكلف البيروقراطي الذي امتد إلى حقول اخرى). كانت الآراء منقسمة، بصدد فعالية جيوش العمل، – في كل حال، ما كان يمكن أن تكون أدنى من فعالية العمل المدني في تلك الحقبة. وقد هلل البلاشفة لجيوش العمل، لا سيما بعد أن بذل تروتسكي جهده لتهدئة النقابات، والتمس من جيوش العمل أن تتعاون معها وديا.
كان يحمل الى تلك المهمة كل حماسه وذلك الاندفاع المسرحي اللذين كانا يدفعانه أحيانا إلى تضخيم أهمية ما كان يفعله وإضفاء هيبة مصطنعة على ما كان في أفضل الأحوال أساليب مؤسفة. هاكم مثلا ما كتبه في احد أوامره لجيوش العمل:
«ابذلوا في عملكم طاقة لا تكل، كما لو كنتم في زحف أو وسط معركة … القادة والمفوضون مسؤولون عن مفارزهم، في العمل كما في القتال ….. على المديريات السياسية أن تنمي الروح العمالية في الجندي وتستبقي الجندي في العامل … إن الفار من العمل محتقر وسافل بقدر ما هو كذلك الجندي الهارب من ساحة القتال. فليتعرض هذا وذاك لعقاب صارم! ابدأوا عملكم واختتموه، حيث يمكن ذلك، الأناشيد والأغنيات الاشتراكية. ليس عملكم عمل عبيد، بل مهمة عظيمة المنفعة للوطن الاشتراكي».
في 8 شباط/ فبراير، مضى إلى الأورال مع هيئة أركانه، ليقوم بتفتيشه الأول لجيوش العمل. وفي صحيفة قطاره، لننطلق، توجه لأعضاء هيئة أركانه بالتعابير التالية:
«لقد جرى تدمير التنظيم الرأسمالي القديم للعمل إلى الأبد، والتنظيم الاشتراكي الجديد بدأ يأخذ شكله. علينا أن نغدو البناة الواعين والمنزهين للاقتصاد الاشتراكي، ولن نجد إلا في هذه الطريق الخلاص والرضى. علينا أن نبدأ من الأساس … يتقدم قطارنا نحو الأورال الشمالي، حيث سنكرس كل قوانا لتنظيم العمل، الذي سيشارك فيه عمال الأورال، وفلاحو الأورال ورجال الجيش الأحمر.. يدا بيد. خبز للجياع! فحم للبرد! هذا شعار فريقنا في المرة هذه».
كان كتب لتوه هذه الكلمات حين هزته، في الليل العميق صدمة قاسية. لقد خرج قطاره عن السكة في غمرة عاصفة ثلجية عنيفة. بقي قريباً من محطة صغيرة طوال الليل والنهار اللاحقين، تحاصره أكوام ثلج متراكم. لم يأت أحد ليرى ما حدث، فالمسؤولون عن المحطة كانوا قد توقفوا عن الإشارة إلى مرور القطارات، وحتى قطار رئيس المجلس الأعلى للحرب لم يلحظه أحد. ورغم خطر المحكمة العرفية، لم يكن أحد يهتم بتخليص السكك من اكوام الثلج التي كانت تعرقلها. وكشف هذا الحادث لتروتسكي، بصورة غير متوقعة، الفراغ الذي كان ينمو حول سياسة الحكومة وخططها. كان الناس قد غاصوا في بلادة لا حدود لها؛ وقد غضب تروتسكي وفتح تحقيقا في الحال عارضاً القضية على المحكمة العسكرية، لكن ذلك لم يمنعه من التفكير بأن القمع وحده لن يكفي لعلاج لامبالاة الشعب وخدره. وزادت هواجسه قتامة خلال إقامته في الأورال، حيث أدرك تماما أن طاقة الأمة وحيويتها كانتا تنضبان عند النبع بالذات، في المزارع، في الريف.
بدأ يبحث مذاك عن العلاج ما وراء شيوعية الحرب. وحين عاد إلى موسكو، كان مقتنعاً بضرورة إعادة قدر من الحرية الاقتصادية إلى الفلاحين. كان يتخيل بتعابير واضحة ودقيقة ذلك الإصلاح الذي لا يمكن لغيره أن يخرج الأمة من الطريق المسدود. ينبغي وضع حد لمصادرة المحاصيل؛ يجب تشجيع الفلاحين على الزراعة وبيع فائض محاصيلهم بقدر من الربح. ولم يكن الحزب والحكومة يدركان خطورة الوضع، لأن الجمع الإجباري الاخير اعطى اكثر من سابقه. وقد شرح هذا الواقع بالشكل التالي: بعد رحيل الحراس البيض، أمكن تطبيق المصادرة على منطقة أوسع بكثير من ذي قبل. «لكن، في العموم، كان احتياطي الغذاء على وشك أن ينفد، وما كان يمكن لأي تحسين لنظام المصادرات أن يعالج ذلك النقص. كانت تلك الطريقة تؤدي إلى تفتيت قوة العمل، ثم إلى تخفيضها، وفي الأخير إلى تقهقر اقتصادي وسياسي».
لم تحظ حجج تروتسكي بقبول اللجنة المركزية، فلينين لم يكن مستعداً لإيقاف المصادرات، والإصلاح الذي اقترحه تروتسكي بدا له قفزة في المجهول. وقد اشار الى أن الحكومة اظهرت الكثير من العجلة في اعدادها للانتقال نحو السلام، في حين ابلغ تروتسكي ذاته اللجنة المركزية بأن بولونيا على وشك الهجوم. وبدا للينين أكثر ضمانة أن يتم التمسك بالخط السياسي الذي سبق تحديده، بدل النيل من الاحتياطي الغذائي للجيش، الذي تم تكوينه في مختلف الأحوال بفضل المصادرات. ولم يكن ذلك كل شيء، فلينين واللجنة المركزية لم يكونا أسقطا بعد أوهامها حول شیوعية الحرب؛ فهذا النظام قدم خلال الحرب خدمات جلية، وكانا يأملان أن يكون أكثر فائدة أيضا في زمن السلم. كان تروتسكي يقترح اعادة الاقتصاد إلى تقلبات السوق الحرة. وهذا ما كان يطالب به المناشفة، بالضبط. فهل كان تروتسكي متفقاً معهم؟ هل أصبح مدافعا عن الليبرالية الاقتصادية؟ وقد طرح عليه هذا النوع من الأسئلة. قيل له إن الحزب خطا خطوة إلى الأمام، باتجاه اقتصاد منظم ومراقب، بحيث لا يمكن أن يسمح لنفسه بالتقهقر إلى الوراء.
________
(*) الكانتين ملهى مجاني للجنود (م).
لمراجعة الفصل السابق يرجى الدخول من خلال الرابط أدناه:
https://litci.org/arab/archives/4379?fbclid=IwAR2l5c8OkS31KqCfxjsWcv0qU0R08Qd0WdicJnuvk9RNCoYEHHTahhCxiRk