هزيمة في الإنتصار ج1
مثل بطل تراجيديا كلاسيكية، وصل إلى ذروة السلطان، كان تروتسکی يترنح. كان يعمل ضد مبادئه، وبالرغم من الالتزام الأدبي الأكثر رسمية. لقد أوصلته إلى هذا الوضع الصعب الظروف، وهمّ الدفاع عن الثورة کما عنفوانه الشخصي. وفي الموقع الذي كان يشغله، كان من الصعب أن يفلت منه؛ وقد كانت إجراءاته التتمة شبه المحتومة لكل ما فعله من قبل، وخطوة واحدة كانت الآن تفصل العظمة عن الشؤم – فرفضه للمبادئ بالذات كان يمليه عليه مبدأ أيضا. إلا أنه بتصرفه كما تصرف، کان يزعزع الأرض ذاتها التي يقف عليها.
حوالى نهاية الحرب الاهلية، دشن مناهج عمل ما كان بوسع الحزب البلشفي وبوسعه هو بالذات أن يضعاها موضع التنفيذ إلا عن طريق كبح مقاومة الطبقات الاجتماعية التي صنعت الثورة أو ساندتها. فالبلاشفة كانوا قد فضحوا الديمقراطية البورجوازية كتضليل يخفي لامساواة الطبقات الاجتماعية وهيمنة البورجوازية. لكنهم كانوا قد التزموا بدعم الديمقراطية البروليتارية، ضامنين حرية التعبير والتنظيم للطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. وما من قائد بلشفي كرر هذا التعهد قدر ما كرره تروتسكي، وبالحماس ذاته الذي ابداه. والمفارقة مذهلة لا سيما أنه كان في الوقت ذاته معارضاً بحزم لتصدير الثورة على رؤوس الحراب. وكانت تلك المعارضة النتيجة المنطقية لمبدأ الديمقراطية البروليتارية. فإذا كان على الطبقة العاملة في بلد معين أن تكون سيدة نفسها، فمن العبث، لا بل الأجرام، محاولة فرض نظام اجتماعي معين عليها «من الخارج». وهذه الحجة كانت تطبق بالأولى على الطبقة العاملة الروسية: هي أيضا كان يجب أن تكون سيدة بلادها. لكن السياسة التي تصورها تروتسكي يومذاك، لم تكن تتناسب مع هذا الـ Samodeyatelnost، تقرير الطبقة العاملة الذاتي لمصيرها السياسي، الذي دافع عنه بلا ملل طوال عشرين عاما، والذي سيدافع عنه من جديد خلال سنواته السبع عشرة من النضال المكشوف ضد ستالين.
في البدء أطلق الخط السياسي الجديد بموافقة لينين. لكن مع تقدمه في هذه الطريق، وجد متحدا ضده لينين ومعظم البلاشفة الذين كانوا يذكرون بمبادئ الديمقراطية البروليتارية. مذاك، كانت أفكاره تنطبع بوضوح بطابع تلك «الاستبدالية» (تبادل الأدوار) التي فضحها في الماضي كالآفة الرئيسية في البلشفية، أو بالأحرى كالعاهة الوراثية للسياسة الثورية الروسية. ففي نظره أن الحزب، المستضيء بفهمه لا «المهام الراهنة» ولـ «رسالته التاريخية» الخاصة به، عليه أن يحل هذا الفهم وهذه الرسالة محل تمنيات أوسع الشرائح الاجتماعية التي قادها إلى الثورة، ومحل جهودها. هكذا بدأ تروتسكي يشبه کاریکاتور لينين هذا الذي رسمه في الماضي البعيد.
ما الذي كان يفسر هذا التحول الخارق؟ ما الذي كان يدفع نبي الثورة المسلح والظافر إلى مناقضة نبوءته الخاصة به؟ قبل محاولة الإجابة عن هذين السؤالين، علينا أن نرسم سريعا لوحة الوضع الاقتصادي والاجتماعي في روسيا، لأنه على هذه الأرضية بالذات، كانت الدراما تمثل مذاك.
* * *
منذ نهاية عام 1919، لم يكن تروتسكي يخصص غير القليل من الالتفات إلى القضايا العسكرية. فنهاية الحرب الأهلية لم تعد أمرأ مشكوك به، وفي النصف الثاني من العام 1920 ابتعد قليلا عن قيادة السياسة العسكرية، بسبب الاختلاف في وجهات النظر مع المكتب السياسي بصدد حرب بولونيا. لكنه كان يشغل نفسه منذ بعض الوقت مشکلات اعادة البناء الاقتصادي، بوجه خاص. وكان يتصدى لهذا الحقل الجديد بالثقة والحمية اللتين وفرهما له نجاحه في مفوضية الحرب؛ وكان يغريه أن يطبق عليه الطرائق التي ركزها واختبرها في الميدان العسكري. وفي 16 كانون الأول / ديسمبر 1919، عرض على اللجنة المركزية مجموعة من المشاريع («الأطروحات») لإعادة تحويل اقتصاد الحرب الى اقتصاد سلام، وكان التدبير الرئيسي الذي اقترحه هو عسكرة العمل. وهو لم يكتب هذه الوثيقة إلا لأعضاء اللجنة المركزية، أملا حفز نقاش في تلك الدائرة الضيقة، لكن بوخارين أخطأ فسارع إلى نشر المقال في البرافدا، فتسبب عدم الاحتراس هذا مجادلة علنية عنيفة استمرت حتى ربيع عام 1921.
كانت سنوات الحرب العالمية، والثورة، والحرب الأهلية والتدخل الأجنبي قد أدت إلى الخراب الكامل للاقتصاد الروسي، وإلى تفتيت بنيته الاجتماعية. فالبلاشفة اضطروا لأن يستخلصوا من اقتصاد مدمر وسائل القيام بالحرب الأهلية. وفي عام 1919، كان الجيش الأحمر استنفد كل مخزونات العتاد والذخيرة وتموينات أخرى، وما كان يمكن الصناعات الموضوعة تحت الرقابة السوفياتية أن تحل محلها إلا جزئيا. في الأيام العادية، كان جنوبي روسيا يقدم الفحم والحديد والفولاذ ومواد أولية أخرى لصناعات الوسط والشمال. لكن روسيا الجنوبية التي احتلها الألمان في البدء، ثم دنيكين، لم تكن تخضع لإشراف السوفييتات إلا بصورة متقطعة ولفترات قصيرة. وحين استعادها البلاشفة نهائية حوالى نهاية عام 1919، اكتشفوا أن مناجم الفحم في الدونيتز مغمورة بالمياه، والصناعات الأخرى مدمرة. ولقد شل المراكز الصناعية في سائر أنحاء البلاد حرمانها من الفحم والمواد الأولية. وحتى حوالي نهاية عام 1920، كانت مناجم الفحم تقدم أقل من عشر إنتاجها ما قبل الحرب، وكانت مصانع التعدين تقدم أقل من واحد على عشرين. أما إنتاج المواد الاستهلاكية فكان يبلغ ربع الانتاج العادي تقريبا. وفاقم الكارثة تدمير طرق المواصلات. فالسكك الحديدية والجسور تعرضت للنسف في كل أنحاء البلاد، ومنذ عام 1914 لم يتم تجديد عربات النقل، التي لم تستفد من عمليات الصيانة إلا قليلا. لقد شلت المواصلات حتما. (فلنشر عابرين إلى أن هذا هو أحد أسباب هزيمة الجيش الأحمر في بولونيا. فالسوفييتات جندت خمسة ملايين رجل، لكن أقل من 300 ألف رجل منهم شاركوا في المعارك الأخيرة من حملة بولونيا. بمقدار ما كانت الأسلحة تتقدم، كانت سكك الحديد أقل فأقل قدرة على نقل تعزيزات ومؤن إلى مسافات أطول فأطول). وكانت الزراعة منهارة هي الأخرى، فمنذ ست سنوات لم يتمكن الفلاحون من تجدید تجهيزاتهم. وخلال تقهقر الجيوش وخلال هجماتها، كانت تدوس حقولهم وتصادر جيادهم. لكن الزراعة قاومت أفضل من الصناعة، بسبب طابعها التقني البدائي. فالموجيك كان يعمل بواسطة محاريث خشبية يستطيع صنعها أو إصلاحها بنفسه.
اجتهد البلاشفة في ممارسة رقابة صارمة على تلك الموارد الضئيلة، ومن هذا الجهد ولدت شيوعية الحرب. لقد أتموا الصناعة بأسرها، وألغوا التجارة الخاصة، وأرسلوا مغاوير عمالا إلى الأرياف يصادرون التموين لصالح الجيش وسكان المدن. كانت الحكومة عاجزة عن جباية الضرائب بشكل طبيعي، إذ لم تكن في خدمتها الدوائر اللازمة. ولكي تغطي الحكومة نفقاتها، كان طبع الأوراق النقدية يتم ليل نهار، فانخفضت قيمة العملة لدرجة الاضطرار إلى دفع الرواتب والأجور عيناً. كانت وجبة الطعام الهزيلة تشكل الأجر الأساسي، وكان يقبض العامل جزءا من نتاجه، زوج أحذية هذه المجموعة من السبل والوسائل اليائسة، بدت للحزب كما لو كانت تحقيقا لبرنامجه الخاص به بسرعة غير متوقعة. فتشريك الصناعة كان تم ببطء أشد وحذر أكبر لو لم تحدث الحرب الاهلية، لكن ذلك كان، في كل حال، أحد الأهداف الرئيسية للثورة. إن مصادرة التموين، وحظر التجارة الخاصة، ودفع الأجور عيناً، وتدني قيمة العملة، وارادة الحكومة الإشراف على الموارد الاقتصادية للأمة، كل هذا كان يشبه بشكل سطحي إلغاء اقتصاد السوق ذاك الذي كان قاعدة الرأسمالية. فالاقتصاد الشيوعي المحقق كلياً، الذي كانت تتحدث عنه الكتب الماركسية، كان ينبغي أن يكون اقتصاداً طبيعياً، حيث يحل الإنتاج والتوزيع، المخططان اجتماعياً، محل الإنتاج للسوق والتوزيع الذي ينظمه المال. كان يميل البلشفي إذا إلى أن يرى في اقتصاد الحرب في 1919 – 1920 الملامح الأساسية لشيوعية محققة كليا. وكانت تثبت ذلك الرأي لديه المساواتية الصارمة التي كان حزبه ينادي بها ويمارسها، والتي كانت تضفي على شیوعية الحرب طابعاً رومانسياً وبطولياً.
وفي الواقع أن شيوعية الحرب كانت تحريفاً مأساوياً ساخراً للرؤيا الماركسية للمجتمع القادم. فهذا المجتمع كان ينبغي أن تكون قاعدته وسائل انتاج رفيعة التطور والتنظيم، وفيض خيرات وخدمات. كان عليها أن تنظم الثروات الاجتماعية التي لم تكن الرأسمالية البالغة ذروتها تنتجها إلا بصورة غير منتظمة، ولم يكن في وسعها أن تراقبها أو توزعها أو تنميها عقلانياً، كما كان عليها أن تطور تلك الثروات. كان على الشيوعية أن تلغي إلى الأبد التفاوتات الاقتصادية عبر رفع مستوى المعيشة. أما شيوعية الحرب فكانت، على العكس، نتيجة التفتت الاجتماعي، وتدمير وسائل الإنتاج وإفساد نظامها، وتدمير لا مثيل له للخيرات والخدمات. كانت تسعى لإلغاء التفاوتات، لكنها ألغتها، مضطرة، عن طريق خفض مستوى المعيشة وتعميم الفقر.
لم يكن يمكن لهذا النظام أن يعمل طويلا، فمصادرة التموين وحظر التجارة الخاصة سمحت للحكومة، مؤقتا، بالتغلب على الصعوبات الأكثر إلحاحا، لكن هذه السياسة كانت تفاقم، مع الوقت، خراب الاقتصاد و اختلال تنظيمه، وتسرعهما. بدأ الفلاح يُحجم عن اشتغال أرضه إلا بالقدر اللازم لإعالة أسرته، رافضا أن ينتج الفائض الذي كان يترصده مغاوير المصادرات، وحين يرفض الريف أن ينتج الطعام للمدينة تنهار أسس الحضارة المدينية بالذات. هكذا أقفرت المدن الروسية، فقد غادرها العمال إلى الريف هربا من المجاعة. أما الذين مكثوا فكانوا يتلاشون في المصانع، وينتجون القليل، ويسرقون في الغالب ما يصنعونه ليبادلوه بالطعام. لقد زالت السوق التقليدية القديمة، لكن ابنتها غير الشرعية، السوق السوداء، كانت تدمر البلاد عن طريق تزييف العلاقات الانسانية والحط منها، كما لو للانتقام. وكان يمكن أن يدوم ذلك سنة أخرى أو سنتين، لكنه كان سيقود بالضرورة إلى انهيار كل حكم والى التفتت الاجتماعي.
كان ذلك هو الوضع الذي انكب علیه تروتسكي في نهاية عام 1919. ولمواجهته، كان عليه أن يختار بين طريقتين. فبإمكان الحكومة أن تضع حدا لمصادرة المحاصيل وتطبق على الفلاحين نظام الضرائب، نقدا أو عيناً. وحين يدفع الفلاح ضرائبه، يسمح له بالتصرف بمحصوله كما يشاء، فيستهلكه، أو يبيعه، أو يبادله، وهو أمر يدفعه لانتاج الفائض للاستهلاك المديني. وباستئناف تحويل المحاصيل الزراعية من الريف إلى المدن، يمكن توقع إعادة تسيير الصناعة المؤممة. وفي الحقيقة أن ذلك كان يمكن أن يكون الحل الحقيقي الوحيد، لكن إصلاحا من هذا النوع كان يفترض إعادة التجارة الخاصة، وما كان يمكن لذلك إلا أن ينسف كل بناء شيوعية الحرب الذي كان يعتز به البلاشفة.
أما الطريقة الأخرى فكانت تتمثل في السعي وراء حل ضمن دوامة شيوعية الحرب. فإذا قررت الحكومة مواصلة المصادرات وتعزيز حظر التجارة الخاصة، عليها أن تزيد الضغط على الفلاحين، بإجبارهم أولا على إنتاج المزيد من الغذاء، ثم بمصادرته. ويمكن أن تعد بمكافآت خاصة للمنتجين: ألبسة، أحذية، مواد زراعية. لكنها لم تكن قادرة على فعل ذلك قبل أن يصلح العمال الجائعون المصانع المتلفة أو المنهارة ويعيدوا تسييرها، ولا قبل أن يشرعوا بإنتاج الخيرات التي كان يطالب بها الفلاحون. كانت الحكومة مضطرة إذا لاشتراط إنتاج صناعي متزايد. ولما كانت عاجزة عن تقديم ما يشجع العمال على زيادة الإنتاج، فقد كانت ستضطر لأن تفرض عليهم، کما على الفلاحين، ضغط أكثر فأكثر صرامة. وكانت تلك علامة أكيدة على الطابع الطوباوي لشيوعية الحرب، التي كانت ستستمر في تجاهل الحقائق حتى تنخرط في مأزق ولا تعود تستطيع الابقاء على نفسها إلا بتعزيز تدابير العنف دون توقف. في البدء، لم يذهب تروتسكي ما وراء السياسة المتبناة. كان يهتم بإيجاد وسيلة لاعادة تجميع الطبقة العاملة المبعثرة وردها إلى الصناعة. كان هنالك العمال الذين مضوا إلى الريف؛ واولئك الذين تركوا عملا متخصصا لصالح عمل يدوي بغية الحصول على تسهیلات تموينية؛ والمنحدرون من طبقتهم، أخيراً، الذين كانوا يكرسون أنفسهم كلياً للسوق السوداء، وقد فقدتهم الصناعة. كيف إعادتهم جميعا الى بيئتهم الطبيعية وإعادة دمجهم في جهاز الأمة الإنتاجي؟ ولما كان لا يمكن اجتذابهم بوعدهم بحياة أفضل، استنتج تروتسكي أنه ينبغي تجنيد العمال للعمل في المصانع كما يجند العساكر للعمل في الجيش.. وهكذا توصل بصورة تجريبية خالصة إلى فكرة عسكرة العمل. كانت الثورة نادت عالياً جدا بواجب العمل الذي ينبغي أن يلتزم به كل المواطنين، وأعلنت أن «من لا يعمل لن يأكل»؛ وفکر تروتسكي أن الوقت قد حان لتثبيت ذلك الواجب. ارسلت الثورة مئات الآلاف من الرجال ليموتوا في ميادين القتال، فلماذا لا يكون من حقها أن ترسل الناس إلى المشاغل والمناجم حيث ينبغي خوض معركة جديدة لأجل الحياة.
لمراجعة الفصل السابق يرجى الدخول من خلال الرابط أدناه:
https://litci.org/arab/archives/4364?fbclid=IwAR2IFXnHxcnVh3AoTOkh2asNGZ56NBwZjua5a4-UCHUmLByN52QvNmbpjqU