ملاحظات حول كتابات تروتسكي العسكرية ج2
واذا كان الجنرالات القدامى يرفضون تعلم دروس الحرب الأهلية، فالشباب كانوا ينفرون في الغالب من تعلم دروس اخرى، وكان طموحهم يتمثل في بناء «مذهب عسکري بروليتاري» جديد كليا. وكانوا يقولون إنه ينبغي لذلك المذهب أن يتناسب مع حاجات الطبقة الثورية ويلائم ذهنيتها. عليها أن تنبذ الحرب الجامدة، الدفاعية، وتدفع باتجاه الهجوم والحركية. إن الطبقات الآفلة وحدها، التي تتقهقر في كل الساحات، يمكن أن تدعو لموقف دفاعي. كان «أسلوب الحرب البروليتاري» يفتن الضباط الخارجين من الصف. أما نصيراه الأكثر موهبة فكانا توخاتشيفسكي وفرونزي، لكن يمكن الاشارة ايضا الى فوروشيلوف وبودييني. ولدى توخاتشيفسكي، كان مذهب الحرب الهجومية يكمل منطقياً نظرية «الثورة المجلوبة من الخارج»، وبدفاع الجنرال الشاب عن هذين المذهبين، كان باقياً ضمن التراث النابوليوني. لكن لما كان يتمتع بذهن اکثر حداثة من ذهن زملائه، فقد كان يرى الحرب الهجومية في المستقبل تسيطر عليها تشكيلات ضخمة من الدبابات والعربات المصفحة المتعاونة مع القوات الجوية. (وكان كذلك يدافع عن فيالق المظليين الذين يرى ضرورة إرسالهم ما وراء خطوط العدو، في المناطق التي تكتسحها الحرب الأهلية).
ربما كانت مجادلات تروتسكي ضد هذا التيار الفكري تشكل الجزء الأكثر تثقيفا في كتاباته العسكرية. لقد رفض «الاستراتيجية البروليتارية»، مثلما كان رفض في ميدان آخر «الثقافة البروليتارية»، و «الأدب البروليتاري». كتب يقول: «إن الحرب ترتكز في ذاتها على عدد كبير من العلوم، لكن الحرب بحد ذاتها ليست علماً، إنها فن تطبيقي … تقنية … فن وحشي ودموي … وإرادة صياغة مذهب عسكري جديد بالاستعانة بالماركسية، تشبه إرادة استلهام الماركسية لخلق نظرية جديدة في فن البناء أو كتاب جديد في الطب البيطري». وغالبا ما هاجم بسخرية لاذعة أولئك الذين كانوا ينظرون الى الديالكتيك الماركسي كما لو كان حجر الفلسفة، وطالب باحترام نوع من التواصل في التجربة وفي التراث الثقافي. كان يرى في التجديدات «البروليتارية» حجابا للفظاظة والمحدودية الفكرية. ولفت باستمرار انتباه سامعيه العسكريين إلى الفقر الهمجي والفظاظة والقذارة لدى الجيش الأحمر، وهي أمور لم يكن يمكن وضع حد لها إلا بعمل مضن، وبذلك الاهتمام بالتفاصيل التي يحاول الروسي أن يتفلت منها باستمرار، ملتجئاً إلى مملكة التجريد المذهبي.
كان أنصار «المذهب البروليتاري الهجومي» قد حولوا إلى نظام تجربتهم في الحرب الاهلية، التي هيمنت خلالها المناورة السريعة. ورد تروتسكي بأن الجيش الأحمر تعلم سرعة المناورة، التي زعموا أنها الميزة الحصرية لطبقة اجتماعية تنتفض، تعلمها من الحراس البيض، مثلما استعار هؤلاء من الجيش الأحمر طرقه في الدعارة. وانتهى الحمر والبيض إلى أن يتمثل بعضهم بعضا في الميدان العسكري: «ينتهي الأعداء بعد تقاتل طويل فيما بينهم إلى أن يتعلم بعضهم من البعض الآخر أشياء كثيرة». وتروتسكي ذاته لم يصدر أمره المشهور «أيها البروليتاريون، امتطوا الجياد!» الذي كان اشارة تكوين فيلق الخيالة بقيادة بودييني، إلا في أوج هجوم دنیکين، حين كانت الحالة البيضاء، بقيادة مامونتوف، تهدد بتفتيت المؤخرات البلشفية بهجمات عميقة وسريعة خلف خطوطها.
لكن الحركية الكبيرة الخاصة بالحرب الاهلية كانت تعكس، في رأي تروتسكي، الشروط البدائية التي كانت الحرب تتم من ضمنها، على اراض واسعة جدا يتبعثر السكان على امتدادها. وقد قارن بين الحرب الأهلية الأميركية والحرب الأهلية الروسية، فرأى في الحالتين أن القوى المعادية قامت بعملياتها في مناطق قليلة السكان، ومفتقرة جدا إلى طرق المواصلات ووسائل النقل؛ وفي الحالتين، كان لسلاح الفرسان حقل عمل واسع بشكل استثنائي. فالبيض، مثلهم مثل الجنوبيين، كانوا تقليدياً فرسانا من النوع الجيد، وكان على الجيوش السوفياتية، أن تحذو حذو جيوش الشمال فتبادر إلى خلق سلاح فرسانها الخاص بها. ولم يكن ينتج عن ذلك إطلاقا أن سرعة حركة كبيرة كانت جزءا من «الأسلوب» العام للحرب الأهلية. فعلى ضفاف الشيلدت، أو السين، أو التاميز، خاض الحرب بطريقة أكثر جموداً بكثير مما في السهب، أو في المرج. وإذا كانت الحرب الأهلية اتخذت في روسيا أسلوباً نابوليونياً، فلأن مستوى تمدن البلاد كان لا يزال متدنياً جداً. وقد أوضح تروتسكي أن إرادة جعل الجيش الأحمر يتبنى مذهب الهجوم النابوليوني، كما كان ينوي توخاتشيفسكي أن يفعل، ستكون برهانا على افتقاد كلي للحس التاريخي، وستكون نوعا من الجنون. وأبرز تروتسكي التناقض المذهل بين موقف فرنسا الثورية في أوروبا وموقف روسيا الثورية. ففي بداية القرن التاسع عشر، كانت فرنسا البلد الأكثر تقدما في القارة، وهذا ما سمح لنابوليون بتبني استراتيجية هجومية، أما روسيا فكانت أحد البلدان الأكثر تخلفا في أوروبا في ميدان التقنية، وما كان يمكن للاستراتيجية النابليونية أن تلائم بأي شكل من الأشكال امكاناتها العسكرية والاجتماعية. وأشار تروتسكي إلى أن هيئة الأركان العليا الفرنسية، وفوش بوجه خاص، حاولت عبثا أن تستخدم الاستراتيجية النابوليونية، فوضع فرنسا في أوروبا في 1914- 1918، ما كان يمكن أن يسمح لها بذلك، ولم يسمح به أبدأ. وسخر تروتسكي من ذلك «المذهب البروليتاري» الجديد، الذي لم يكن غير نسخ بسيط عن الكتب الفرنسية لما قبل 1914، إذا نظرنا إليه عن كثب.
كل تحديد لـ «جوهر» الحرب عموما وللحرب البروليتارية بوجه خاص، ليس غير هذیان ما ورائي. إن نوعين من الانتقائية ضروري في ميدان النظريات العسكرية، وكان تروتسكي يتبنى صيغة لكلاوزفيتز: «في الفنون العملية، علينا ألا نترك أوراق النظرية وزهورها تنمو كثيراً، بل أن نقربها من التجربة التي هي میدانها الطبيعي». كان يهتم كثيرا بالمناهج التجريبية الخاصة بـ الامبرياليين الانجليز، الذين «يفكرون على اساس القرون والقارات»، ويعامل من دون مراعاة ورثة كلاوزفيتز الألمان. ما من مذهب «قومي» للحرب يقدم، في نظر تروتسكي، «حقيقة اخيرة» حول الحرب، ولا يمكنه أن يقدم هكذا «حقيقة». ولا تفعل أي مدرسة أكثر من عکس الشروط المؤقتة لوجود أمة من الأمم، إن المذهب الانكليزي حول توازن القوى والسيطرة على البحار، والنظرية العسكرية الحذرة لألمانيا بيسمارك، التي كانت تسير بمحاذاة العدوانية الدبلوماسية، والمذهب الهجومي الصرف للمرحلة اللاحقة من الامبريالية الألمانية التي كانت تنبذ أي حذر، مندفعة في سياق حركتها الخاصة بها، والمذهب الهجومي البونابرتي لفرنسا ما قبل 1919 (ويمكن حتى أن نضيف رد الفعل الذي استثاره والذي كان اسم ماجينو رمزه، قبل 1940)، كل هذه المذاهب لا تفعل غير عزل بعض وجوه التجربة العسكرية ولحظاتها وغير المبالغة في تلك الوجوه واللحظات. إن الفكر الماركسي لا يتلاءم مع أي دوغمائية على الصعيد العسكري. «الخائن وحده يتخلى عن الهجوم، الأحمق وحده يختصر كل استراتيجية بالهجوم».
إن دراسات تروتسکی و خطبه مرصعة أحيانا بإيحاءات واستباقات مثيرة للاهتمام، يقدمها خلال قيامه بتحليل، ولا يمكن أن نذكرها كلها ها هنا. فيما يناقش استراتيجية الحرب العالمية الثانية، قبل عشرين عاما من انفجارها، يؤكد أنها ستختلف عن الحرب العالمية الأولى إلى حد بعيد، سواء في اوروبا الغربية أو في روسيا. ففي أوروبا الغربية، ستكون حرب الخنادق أقل أهمية بكثير، أو أنها ستختفي كلياً. أما روسيا فستشهد، على العكس، حرب مواقع أكثر بكثير مما خلال الحرب الأهلية. وفي مجادلة ضد فرونزي وفوروشيلوف، أكد تروتسکى أنه إذا هاجمت روسيا في الغرب دولة رأسمالية اقوى تقنيا، ستكون مهمة الجيش الأحمر خلال المرحلة الأولى من القتال، أن يدافع عن نفسه لا أن يهاجم، لأن التعبئة في روسيا ستكون بطيئة، ولأن عملیات دفاعية ستعطي الفرصة لانجازها. سيكون من غير المفيد، بالتالي، إطلاقاً أن ترسخ في ذهن الجيش فكرة التفوق المعنوي المحتوم لدى المهاجم. «فبما أننا نتمتع بالمساحة الواسعة والعدد الكبير، فبوسعنا أن نحدد بهدوء وثقة الخط الذي ستسمح لنا عليه التعبئة، التي أصبحت ممكنة بفضل دفاعنا الباسل، بجمع قوة ضاربة كافية للانتقال إلى الهجوم المضاد». بمعنى آخر، يمكن للجيش الأحمر أن يضطر للتراجع، لكن عمق تراجعه ستحكمه حاجات التعبئة بشكل حصري.
«( إلا أنه ) إذا كنت الأول الذي يهاجم، ولم يكن هجومي مدعوماً بالتعبئة بشكل كاف، وكنت مضطراً للتراجع، حينئذ تزل بي القدم ويمكن أن يكون ذلك لا يعوض. وعلى العكس، إذا كانت خطتي تلحظ انسحاباً أولياً، وإذا كانت تلك الخطة واضحة للضباط الكبار، وإذا كان لدى هؤلاء ثقة بالمستقبل القريب، وكانوا ينقلون تلك الثقة إلى أسفل الهرم، وإذا لم يكن يلغم تلك الثقة الرأي المسبق الذي يريد بكل الوسائل آن نكون البادئين بالهجوم، حينئذ تتوفر لي الحظوظ كلها للنهوض مجددا وكسب المعركة».
وبديهي أن تروتسكي لم يكن يرى فائدة هيئة الأركان الأممية الكبرى التي تحدث عنها توخائشیفسکی. وقال: سيحين الوقت لخلق اجهزة من هذا النوع، حين تجهز جيوش حمراء اخرى بعد اندلاع ثورات أصيلة في الخارج. لكنه رأى أن من الضروري وضع قواعد الحرب الأهلية وقوانينها، التي ستتكثف فيها بعد نقاشات مسبقة تجارب الثورات والانتفاضات في البلدان المختلفة. ورسم حتى لمحة عامة عن قوانين الحرب الأهلية وقواعدها تلك.
غداة الحرب الأهلية، اهتم تروتسکی بمشكلات التربية في الجيش، وبالتعقيدات التقنية للحرب، وبعلاقاتها الأكثر فأكثر وثاقة بالسياسة. وكتب يقول : «في تكوين الضابط الأحمر الكبير، علينا أن ننمي في الوقت ذاته القدرة على القيام بتقديرات تأليفية synthetiques لدمج كل أنواع الأسلحة الحديثة، وللتفاعل فيما بينها، واكتساب توجه سليم سياسي واجتماعي … ». وفي الأكاديمية العسكرية، أوصى كبار الضباط بأن يتعلموا اللغات الأجنبية، ويخرجوا من قوقعتهم القومية، ويوسعوا آفاقهم و «يستفيدوا من التجربة العالمية للبشرية كافة».
لمراجعة الفصل السابق يرجى الدخول من خلال الرابط أدناه:
https://litci.org/arab/archives/4349