بقلم تامر خرمه
بعد ثلاثة وسبعين عاما على النكبة، لايزال الواقع السياسي يثبت يوميّا أنّه من السذاجة التمسّك بفكرة أن مشروع تحرير فلسطين يحتمل إمكانيّة واقعيّة تتجلّى من خلال فتح أيّوبيّ تقوم به الأنظمة العربيّة، أو “ثورة” بونابارتيّة تنجزها سلطة أوسلو وأجهزتها التي تلقّت تدريبا عسكريّا على يد جلاوزة واشنطن، بحيث تتقدّم جحافل الحريّة لتقرع أجراس العودة معلنة الغضب الساطع! هذه الفكرة ليست طوبويّة فحسب، بل إنّها الأفيون الأخطر على الشعب الفلسطيني.
الأنظمة العربيّة المتحالفة جذريّا مع الإمبرياليّة لا مصلحة لها على الإطلاق في محاربة الصهيونيّة، بما في ذلك الأنظمة التي تدّعي “الممانعة” كذريعة سمجة لقمع شعوبها. أمّا بالنسبة لسلطة رام الله، التي تدرّبت أجهزتها الأمنيّة على يد اليانكيز، فقد باتت حليفا استراتيجيّا للاحتلال، حيث أن مصالح البرجوازيّة الفلسطينيّة التي تعبّر عنها هذه السلطة، بل وحتّى وجودها المحض، مرتبطة جوهريّا بمصالح الاحتلال وبقائه. والتنسيق الأمني ليس هو الدليل الوحيد على ذلك.
عندما انطلقت هبّة حيّ الشيخ جرّاح، لتتطوّر بسرعة إلى مقاومة شعبيّة اندلعت في كافّة الأراضي المحتلّة، معيدة الاعتبار لوحدة الشعب والقضيّة، كان من المتوقّع جدّا تأخّر الضفّة الغربيّة في الانخراط بهذه المقاومة. السبب في ذلك واضح تماما، فأجهزة دايتون الأمنيّة خلقت أساسا للحيلولة دون وجود المقاومة على الأراضي المحتلّة، التي تلعب فيها هذه الأجهزة دور الحارس الأمين لمصالح الاحتلال. رغم هذا لم تتمكّن شرطة عبّاس من الصمود حتّى النهاية في وجه إرادة الشارع.
النكبة السلطويّة
النكبة الثانية التي ابتلى بها الشعب الفلسطيني شهدها العام 1974، عندما تبنّت منظّمة التحرير برنامج “النقاط العشر”، الذي أفضى إلى الحلّ المرحلي، أو ما يسمّى بحلّ الدولتين، والذي تلخّصت نتائجه الواقعية اليوم بإقامة سلطة أوسلو، والتنسيق الأمني مع الإحتلال. هذا التنسيق الذي مازال يؤدّي حتّى الآن إلى تصفية شباب المقاومة، والحيلولة دون تطوّر ظاهرة المقاومة الفرديّة إلى مقاومة شعبيّة عارمة، تمهّد الطريق إلى المضيّ في مشروع التحرير.
المنظّمة، التي صفّت نفسها بنفسها عبر إقامة سلطة تنسّق مع الاحتلال، لم تعد لها أيّة شرعيّة شعبيّة منذ إلغاء ميثاقها في العام 1998 خلال مؤتمر غزة، بمباركة الرئيس الأمريكي بيل كلنتون، الذي كان أفضل تعبير عن امتصاص الإمبرياليّة الأميركيّة لأزمتها الناجمة عن غزو العراق. كانت هذه الواقعة بمثابة النكبة الثالثة لشعب فلسطين. الميثاق الذي عهدته مقاومة الماضي كان ينصّ في المادّة 144 من قانون العقوبات الثوري للعام 1979 لهذه المنظّمة المنتحرة على أنّه: “يعاقب بالإعدام كل فرد يعطي للعدو وثائق أو معلومات من شأنها أن تضر الأعمال العسكرية أو أن تضر سلامة المواقع والمراكز العسكرية وسائر المؤسسات العسكرية أو يحسب أن من شأنها ذلك”. كما ورد في نصّ المادّة 148 من ذات القانون أنّه: “يعاقب بالإعدام كل من دلّ العدو على أماكن قوّات الثورة أو القوات الحليفة أو دلّ هذه القوات للسير على طريق غير صحيح”. بصراحة، ما تقترفه أجهزة دايتون في رام الله اليوم لا يمكن التعامل معه إلاّ عبر عقوبة الإعدام، بصرف النظر عن التأييد أو الرفض النظريّ لأخلاقيّة هذه العقوبة، فالمسألة مسألة وجود، وصراع بقاء بين السلطة والشعب!
اليوم باتت الخيانة وجهة نظر. هذه حقيقة من المستحيل إنكارها. تقديم معلومات للاحتلال تفيده في تنفيذ عمليّات اغتيال واعتقال المناضلين عمليّة لا يمكن اختزالها بمفردة “تنسيق”، بل هي الخيانة بكلّ ما للكلمة من معنى! لكن الكارثة الأخرى أنّه رغم إصرار سلطة أوسلو على هذه الخيانة، لاتزال الفصائل التي تعتبر نفسها مقاومة ممثّلة في كافّة مؤسّسات السلطة المنبثقة عن اتفاقيّات ومعاهدات مع الإمبرياليّة رفضتها –بالمناسبة_ هذه الفصائل ذاتها. واليوم تحوّل فدائيّ الأمس إلى شرطيّ عربيّ يمارس، بفضل التنازلات الخطيرة للإمبرياليّة الأمريكيّة، نفس الدور الذي مارسته الرجعيّات العربيّة في خدمة أمن الاحتلال.
الكارثة الأكبر أن وجود سلطة رام الله لا يقتصر على إعاقة تطوّر المقاومة الشعبيّة، وضمان أمن الاحتلال، وإعفائه من ضريبة احتلاله، بل يتجاوز ذلك إلى أبعاد لا تقلّ خطورة على الشعب الفلسطيني، على المستوى الاجتماعي. ممارسات هذه السلطة، التي لا تخدم إلاّ البرجوازيّة الكمبرادوريّة على حساب السواد الأعظم من الشعب الرازح تحت وحشيّة الاحتلال وهذه الطبقة على حدّ سواء، تجاوزت في بشاعتها ممارسات السلطات الرجعيّة العربيّة التي طالما انتقدتها منظّمة التحرير.
من هذه الممارسات، على سبيل المثال لا الحصر، قانون العمل رقم 7 لعام 2000، الذي يتيح لأصحاب العمل كافّة سبل التأويل لاضطهاد الطبقة العاملة عبر نصوصه الغامضة. ومنها أيضا مناهج السلطة الفلسطينيّة التي اعتمدت منذ بدء العام الدراسي 2000-2001، فإلى جانب سوء مخرجات التعليم نتيجة لتخلّف هذه المناهج، إخضاعها لإملاءات الجهات المانحة، التي فرضت حذف كل ما “يحرّض” على الاحتلال. ولا ننسى تكريس العقليّة الذكوريّة داخل المجتمع الفلسطيني، من خلال حماية ما يسمّى بـ “جرائم الشرف”، التي تتجلّى في أقبح صورها عبر قضيّة إسراء غريب وغيرها من القضايا. أضف إلى ذلك طريقة تعامل هذه السلطة مع أزمة كورونا، ومسألة اللقاحات منتهية الصلاحيّة التي حصلت عليها من الاحتلال! خلاصة الأمر أنّ سكّان قصور رام الله يمارسون أبشع ألوان الاستغلال بحقّ الطبقة العاملة الفلسطينيّة، والشعب الفلسطيني بشكل عام. هذا الاستغلال تجاوز في بشاعته ما يمارسه جنود الاحتلال!
العقليّة البوليسيّة التي تستند إلى حفنة من “الشيكيلات” لقاء قمعها لأيّة حالة مقاومة، سواء للاحتلال أو لرجعيّة قصور رام الله، أفضت إلى تصفية الكثير من النشطاء المناضلين في سبيل التحرّر الاجتماعي، والتقدّم الحضاري.. ليس المقصود هنا فقط الناشط نزار بنات، الذي تمّت تصفيته يوم 24 حزيران من العام الجاري على يد جلاوزة دايتون، بل المسألة تشمل أعداد لا تحصى من الأسرى المختطفين في غياهب سجون مهندس أوسلو.
المعركة ضد البرجوازيّة
النضال ضدّ سلطة محمود عبّاس يعدّ اليوم شرطا أساسيّا في سياق مشروع التحرير الوطني. هذه السلطة التي تمثّل البرجوازيّة الكمبرادوريّة تخلّت تماماّ عن مهامّ طبقتها التاريخيّة المتعلّقة بإنجاز مرحلة التحرّر الوطني والمهام الديمقراطيّة. هذه المهمّة تقع اليوم على عاتق الفئات والشرائح الاجتماعيّة الأكثر تعرّضا للاضطهاد داخل المجتمع الفلسطيني. سواء كان هذا الاضطهاد ناجم عن ممارسات الاحتلال، أو البرجوازيّة المحليّة الحامية لمصالحه.
النضال بكافة أشكاله السلميّة والعنفيّة هو الطريق الوحيد لهزيمة المشروع الصهيوني، لكن الأمر يتطلّب كخطوة أولى ملحّة تفكيك أجهزة سلطة أوسلو، على طريق تفكيك ما يسمّى بدولة “اسرائيل”، فهذه السلطة لا يمكن اعتبارها إلاّ إحدى أدوات ذات المشروع الصهيو_ إمبريالي الذي يستند _كما كان يؤكد المناضل الراحل بهجت أبو غربية_ إلى المضيّ في الاستيلاء على المزيد من الأراضي، وتهجير المزيد من السكّان. سلطة رام الله تثبت كلّ يوم أنّها العائق المباشر أمام هزيمة مشروع هرتزل. هذا النضال لن تنجز مهمّته، وفقا لمعطيات الواقع العملي، سوى الطبقات العاملة الشعبيّة، التي هي وحدها من يتحمّل عناء وجود الاحتلال، وسلطة عبّاس على حدّ سواء.
البرجوازيّة الفلسطينيّة، حتّى قبل نشوء ما يسمّى بدولة “اسرائيل”، لطالما كانت حليفة للاستعمار، فمنذ عهد الانتداب البريطاني عمدت هذه البرجوازيّة إلى التحالف معه وحماية مصالحه، فالمصالح الطبقيّة للنخبة الحاكمة في فلسطين خلال مرحلة الانتداب لم تتوافق بأي حال مع الطرح الثوري الراديكالي الذي عبّرت عنه جماهير الشعب خلال ثوراتها وانتفاضاتها. النتيجة الطبيعيّة لهذا التناقض تمثّلت في انسلاخ “الزعامات” عن الشارع الفلسطيني، الذي كانت طبقة الفلاّحين تشكّل غالبيّته العظمى (ما بين 70- 80%)، والتي كانت واعية لحقيقة أن التناقض التناحري لا يقتصر على الهجرة الصهيونيّة إلى أرض فلسطين، بل يشمل وجود المحتلّ البريطاني، الذي كانت ترى فيه تلك “الزعامات” صديقا وفيّا راعيا لمصالحها.
واليوم، تعيد البرجوازيّة اجترار مواقفها، فسلطة رام الله التي تصرّ على مسألة “التنسيق الأمني” (أيّ الخيانة)، وتمعن في اضطهاد الجماهير الكادحة عبر ممارساتها الوحشيّة، وقوانينها المنحازة لرأس المال (الذي كان له دور هام في بناء جدار الفصل العنصري)، لاتزال تستمدّ “شرعيّتها” من بركات الإمبرياليّة الأمريكيّة، الحليف الاستراتيجي لـ “اسرائيل”، والتي تتحكّم بقصور رام الله عبر حفنة من الدولارات!
زعامات الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين كانت تردّد على الدوام شعار أن الطريق إلى فلسطين لا يمرّ إلاّ عبر قصور ملوك العرب، ولكن اليوم بات محمود عبّاس أعتى هؤلاء “الملوك” في انبطاحه غير المشروط للإمبرياليّة والصهيونيّة. على هذه الجبهة أن تجيب اليوم عن التساؤل التالي: هل الطريق إلى فلسطين يمرّ عبر “المجلس التشريعي” الناتج عن اتفاقيّات أسلو؟! أم هل أن اليسار فعلا قد عاد “ليقاوم، لا ليساوم” كما أعلن الشهيد أبو علي مصطفى؟!
معضلة النضال الوطني الفلسطيني أنّه كان يستند إمّا إلى مقاومة جيفاريّة من الخارج، أو انتفاضة سلميّة يختصّ بها الداخل المحتلّ.. المنظمة الموبوءة بالعرفاتيّة، والتي تحوّلت إلى سلطة برجوازيّة التنسيق الأمني، هي المسؤولة الأولى عن هذا الخلل.. المطلوب استمرار المقاومة بكافّة أشكالها، من الداخل والخارج، دون استثمارها في أيّة تسويات مع الإمبرياليّة.. تحرير الشعب من المشروع الصهيوني يبدأ فقط من تحريره من برجوازيته الحاكمة، هذا ما كان عليه الوضع منذ عهد الاحتلال البريطاني.
الشعب الفلسطيني لا تهمّه اعترافات الدول الإمبرياليّة في حقّه بالوجود، فقد انتزع هذا الاعتراف منذ عهد خطف الطائرات، الذي قاده الشهيد وديع حدّاد.. كلّ ما يحتاج إليه شعبنا اليوم هو إعادة خلق مشروعه النضالي الذي استهدفت اتفاقيّات مدريد وأوسلو تصفيته.. التضامن الأممي مع القضيّة الفلسطينيّة لا يزال يتنامى عاما بعد عام.. ومن الضرورة بناء أوسع تحالفات أمميّة مع كافّة شعوب العالم التي تعاني اضطهاد الإمبرياليّة الغربيّة، الحليفة الاستراتيجيّة للصهيونيّة العالميّة.
على أيّة حال.. مهمّة تحرير فلسطين لا تقع على كاهل الشعب الفلسطينيّ وحده، ولا يمكن إنجازها أيضا فقط عبر الشعوب العربيّة، الرازحة تحت نير دكتاتوريّاتها.. بل هي مهمّة أمميّة ينبغي أن تنخرط فيها كافّة الشعوب المضطهدة.. الجيش الأحمر الياباني والجيش الجمهوري الإيرلندي خير مثالان عبّرا عن هذه الحقيقة.
الطريق إلى فلسطين لن يمرّ إلاّ عبر قصور رام الله والرجعيّة النفطيّة التي قرّرت بناء تحالف استراتيجيّ مع المشروع الصهيوني.. وهذا الطريق لن يكون عبر كربلاء، كما أعلن الخميني. كما أنّه لن يكون من خلال أنظمة “شبّيحة” الفاشيّة العربيّة. كما أنّه لا أمل في طوبويّة بعث عظام صلاح الدين في هذه الأنظمة المستعمرة من بحر الظلمات إلى خليج المحروقات. المقاومة الشعبيّة وحدها هي طريق الحريّة. المشروع الفلسطيني لم يكن مشروع بناء دولة قطريّة استبداديّة على غرار بقيّة الأنظمة الرجعيّة المرتبطة بالإمبرياليّة والصهيونيّة على حدّ سواء، بل هو مشروع عودة وتحرير، لا يمكن تحقيقه إلاّ عبر تفكيك الصهيونيّة، والرجعيّة السلطويّة.
ننوّه إلى أن الآراء الواردة في المواد المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن آراء ومواقف “الرابطة الأممية للعمال – الأممية الرابعة”